وكان الرشيد نهى عن الكلام، وأمر بحبس المتكلمين، حمله على ذلك قوم لم يعرفوه، والمرء عدو ما جهله. وحكي أنه اجتمع عند الرشيد رجلان من المتكلمين ، فتكلما في مسألة، فقال لبعض الفقهاء: «احكم بينهما» فقال:
«هذا أمر لا يعنيني، وأنا لا أحكم في أمر لا يعنينى، فأمر له بصلة وقال هذا جزاء من لا يشتغل بما لا يعنيه». وحكى أنه اجتمع عنده رجلان يتكلمان في مسألة من الكلام، فبعث بهما الى الكسائي لينظر ما بينهما، فلما دخلا عليه وتكلما، وبلغا الى موضع لا يعرفه قال: «هما زنديقان يقتلان».
ومن هذه الطبقة: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم، وكان من أفصح الناس، وأفقههم، وأورعهم، حكي أنه كان يخطئ عليا عليه السلام في كثير من أفعاله، ويصوب معاوية في بعض أفعاله. قال القاضي: «ويجرى منه حيف عظيم على أمير المؤمنين»، وكان بعض أصحابه يعتذر له فيقول: بلى بمناظرة هشام بن الحكم «1» فنقلوا هذا، ونقلوا هذا والله أعلم. وله تفسير عجيب، وكان جليل القدر، يكاتبه السلطان، قيل كان يصلي ومعه في مسجده، بالبصرة ثمانون شيخا، وهو أحد من له الرئاسة، ولأبى الهذيل معه مناظرات، وكان أبو علي «2» لا يذكر أحدا فى تفسيره الا «الأصم»، واذا ذكره قال: «لو أخذ في فقهه ولغته، لكان خيرا له، وأخذ عنه ابن علية.
ومن هذه الطبقة أبو شمر الحنفى، وكان يخالف في شيء من الارجاء، وكان يناظر وهو لا يتحرك منه شيء، ويرى كثرة التحركات عيبا. فكلمه النظام، فى مجلس الحسن بن أيوب الهاشمي أمير البصرة، فضغطه الكلام، فحل حبوته وتحرك في مجلسه، وما زال يزحف حتى قبض على يد النظام، فتبين الأمير ومن حضر انقطاعه، فترك الأمير القول بالارجاء. قال الجاحظ: «وكان أبو شهر يكلم متبعيه، فلما كلمه النظام أخرجه عن طبعه».
Page 52