قلت: وعرضه في سنة خمسين، فقد قرأت بخط العز القاضي أبي عمرو ابن جماعة: وقفت على ورقة بخط الحافظ عفيف الدين أبي السيادة المطري، أنه شاهد على نسخة صاحبه الفقيه الإمام بدر الدين ابن الصائغ الدمشقي الشافعي من كتاب " التنبيه " ما مثاله: الحمد لله كما هو أهله، عرض عليَّ الفقيه أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي من أول كتاب " التنبيه " في الفقه هذا وإلى آخر، مواضع امتحنت بها حفظه دلت على ذلك، وأذنت بتكراره عليَّ جميعه وتحصيله وحرصه على العلم، وفقني الله وإياه له وللعمل به، وذلك في مجلس واحد لسبع مضين من شهر ربيع الأول سنة خمسين وستمائة. كتبه محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، حامدًا مسلمًا مستغفرًا. وابن رزين هذا هو قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله، كان ممن أخذ عن ابن الصلاح، ودرّس بالشامية الحسامية، وأمَّ بدار الحديث الأشرفية، ثم ولي قضاء مصر، وكان كبير القدر حميد الذكر، مات بعد الشيخ بأربع سنين، في شهر رجب سنة ثمانين، قال شيخنا في " رفع الإصر " في ترجمته: روى عنه الدمياطي والبدر ابن جماعة، ومن قبلهما الشيخ محيي الدين النووي، انتهى كلام شيخنا. وأخص من هذا أن الشيخ نقل عن ابن رزين في " الأصول والضوابط " انتهى.
ثم حفظت ربع العبادات من " المذهّب " في باقي السنة.
قلت: وأدرج الذهبي في " تاريخ الإسلام " في كلام ابن العطار هنا ما لم أره في النسخة التي وقفت عليها: إنه قال: وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لمّا قرأت في " التنبيه ": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج، أعتقد أن هذا قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني، انتهى كلام الذهبي. والظاهر أن الحياء يمنعه السؤال عن ذلك، انتهى.
قال: وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الكمال إسحاق المغربي، ولازمته، فأعجب بي لما رأي من ملازمتي للاشتغال وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة، وجعلني معيد الدرس بحلقته لأكثر الجماعة.
سفره للحج
فلما كانت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، ارتحلنا من أول رجب، فحصلت الإقامة بالمدينة النبوية نحوًا من شهر ونصف شهر، وكانت الوقفة تلك السنة يوم الجمعة.
وحكى لي والده أنه من حين توجهنا من نوى أخذت الشيخ حمَّى، فلم تفارقه إلى يوم عرفة، وهو صابر لم يتأوه قط.
قلت: وكانت هذه حجة الإسلام، وفي كلام كمال الدَّميري " كما سيأتي " أنه حج مرة أخرى، ويستأنس له بقول العماد ابن كثير في تاريخه: أنه حج في مدة إقامته بدمشق، انتهى.
فلما تم الحج " يعني حجة الإسلام " ووصلنا إلى نوى ورجع هو إلى دمشق، صبّ الله عليه العلم صبّا.
قلت: لاحت عليه " كما قال الذهبي في سير النبلاء " أمارات النجابة والفهم، انتهى كلام الذهبي، وحفظ في النحو مقدمة الجرجاني، وفي الأصول: " المنتخب "، انتهى.
اشتغاله بالعلم
ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفي آثار شيخه المذكور بالعبادة، من الصلاة وصيام الدهر، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته، لا سيما بعد وفاة شيخه، فإنه زاد في الاشتغال بالعلم والعمل، بحيث ذكر الشيخ لي أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على المشائخ، شرحًا وتصحيحًا: درسين في " الوسيط "، وثالثًا في " المهذّب "، ودرسًا في " الجمع بين الصحيحين "، وخامسًا في " صحيح مسلم "، ودرسًا في " اللُّمع " لابن جني في النحو، ودرسًا في " إصلاح المنطق " لابن السِّكِّيت في اللغة، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه، تارة في " اللَّمع " لأبي إسحاق، وتارة في " المنتخب " للفخر الرازي، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مُشكِل وإيضاح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي، وأعانني عليه.
قال: وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت " القانون "، وعزمت على الاشتغال فيه، فأظلم علي قلبي، وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري من أين دخل عليّ الداخل؟ فألهمني الله أن الاشتغال بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي ورجع إليّ حالي، وعدت لما كنت عليه أولًا.
1 / 3