وذكر لي صاحب الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن الحسن الشافعي غير مرة، قال: ذكر لي الشيخ الصالح الصدوق المعمَّر أبو القاسم ابن عمير المزّي " وكان من الأخيار " إنه رأى فيما يرى النائم رايات كثيرة، قال وسمعت نوبة تضرب، فعجبت من ذلك فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: الليلة قطِّب يحيى النووي ﵀، فاستيقضت من منامي ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قبل ذلك، واتفق إني دخلت المدينة " يعني في حاجة " فذكرت ذلك الشخص، فقال: هو شيخ دار الحديث الأشرفية، وهو الآن جالس فيها بميعادها، فاستدللت عليها ودخلتها، فوجدته جالسًا فيها وحوله جماعة، فوقع بصره علي، فنهض إلى جهتي وترك الجماعة، ومشى إلى طرف أبواب إيوانها ولم يتركني أكلمه، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحدًا، ثم رجع إلى موضعه ولم يزد على ذلك، ولم أكن رأيته قبلها ولم أجتمع به بعدها.
قلت: ونحوه قول العثماني قاضي صفد في " طبقاته ": وأهل الكشف يقولون: إنه لم يمت حتى قُطِّب. وكذا قال التقي الحسني " كما سيأتي ": وناهيك به أنه قطب الوقت، انتهى.
وقال لي شيخنا القاضي محمد بن عبد القادر الأنصاري: لو أدرك القشيريُّ صاحب " الرسالة " شيخكم وشيخه " يعني أبا عثمان المغربي " لما قدّم عليهما في ذكره لمشائخه " يعني الرسالة " أحدًا، لما جمع فيهما من العلم والعمل، والزهد والورع، والنطق بالحكمة، وغير ذلك.
قلت: ولشدة ورعه كان يشبّه به من يرام الغاية في وصفه، ففي ترجمة الشرف محمود بن محمد بن أحمد بن صالح الصرخدي: إنه اشتهر بالورع حتى كان يشبّة بالنووي، انتهى.
وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشف: أبو عبد الرحيم محمد الأخميمي " قدس الله روحه ": كان الشيخ سالكًا منهاج الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا أعلم أحدًا في عصره سالكًا على منهاجهم غيره.
قلت: ونقل التاج السبكي في " التوشيح " عن والده: أنه قال: ما اجتمع بعد التابعين الجموع الذي اجتمع بالنووي، ولا التيسير الذي يسّر له.
وحكى الإمام اليافعي في آخر الحكاية الثانية والثمانين بعد الأربعمائة من " روض الرياحين " فيما بلغه: إن الشيخ خطف سارق عمامته وهرب، فتبعه الشيخ، وصار يعدو خلفه ويقول له: ملّكتك إياها، قلت: قبلت قبلت، والسارق ما عنده خبر من ذلك، انتهى.
وقال لي بعض الصالحين الكبار: إنه حين ولد كتب من الصادقين. وذكر شيخنا العارف، القدوة المسلك، وليّ الله أبو الحسن المقيم. بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال: كنت مريضًا بمرض يسمى النَّقرس، في رجلي، فعادني الشيخ، فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر، قال: فكان كلما تكلم يذهب الألم قليلًا قليلًا، حتى زال الألم جميعه، فعرفت أن زواله ببركته.
وقال لي جماعة بنوى: انه سألوه يومًا أن لا ينساهم في عرصات القيامة فقال لهم: إن كان لي ثمَّ جاه والله لأدخلت الجنة واحدًا ممن أعرفه ورائي.
وقال لي المحدِّث أبو العباس بن فروخ كان الشيخ قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدَّت إليه الرحال.
المرتبة الأولى: العلم.
والثانية: الزهد.
والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قلت: وقال الذهبي في " سير النبلاء ": كان يؤثر عنه كرامات وأحوال. وقال التقي محمد بن الحسن اللخمي: إنه ظهرت له الكرامات الكثيرة: من سماع الهاتف، ومن انتفاع الباب المقفل بالأقفال ورده كما كان، وانشقاق الحائط في الليل وخروج شخص له منه حسن الصورة، وكلامه معه في مصالح الدارين، واجتماعه بالأولياء الأخفياء وكاشفته هو للواحد بأحوال لا يعلمها إلا الله ثم صاحبها، وإعلامه بموته وهو بدمشق.
ومن قوة نفسه ملازمته لحيّة عظيمة في بيته بالرواحية، ويراها كلَّ قليل تخرج إليه ويضع لها لبابًا تأكله، حتى أن بعضهم رآها في غفلة وهو يطعمها اللباب فقال له: يا سيدي ما هذه؟ وخاف، فقال: هذه خلق، من خلق الله لا تضر ولا تنفع، أسألك بالله أن تكتم ما رأيت، ولا تحدث به أحدًا.
وأحواله كثيرة لا يسعها هذا المحل فرحمه الله، لقد كان من الدين بمكان الرأس من الجسد، ظهر له العلم فشمَّر إليه، ونظر إلى الخيرات فأفرغت عليه، إذا تكلم افتتح كلامه بالحمد لله والثناء عليه، وإذا ذكر النبي ﷺ رفع صوته بالصلاة عليه، انتهى.
1 / 26