وقد بين أمير المؤمنين علي عليه السلام وجه وجوب هذه الحقوق على كل منهما للآخر مع بيان ما يتأتى منها ومن عدم تأديتها ما يتأتى منها بأوضح بيان ذكره صاحب (نهج البلاغة) في بعض خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام بصفين بلفظ: ((أما بعد: فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو لكان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه بقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله، ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاما لألفتهم، وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته اختلت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت حجاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد وإن اشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده، يبالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ، وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت فضيلته، يفوق أن يعاون على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه)) انتهى .
فاستبان من صريح نصوص هذه الخطبة بيان ما في الخبر، من الحق أن المراد به الفرض اللازم، والواجب على كل من الإمام والرعية للآخر، وبين عليه السلام أن صلاح كل من الإمام والرعية لا يتأتى إلا بتأدية كل منهما ما عليه من الحقوق للآخر، وأن الله تعالى جعل ذلك نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فإذا أتى كل منهما ما عليه من الحقوق للآخر عز الدين، وقامت مناهج العدل، واعتدلت معالم الحق، وجرت على إذلالها السنن، وعند ذلك حكم عليه السلام بصلاح الزمن، وبقاء الدولة، وإياس مطامع الأعداء من نفوذ سياستها في طمع البلاد.. إلى آخر ما ذكره عليه السلام.
Page 86