وبقيت الأمور على ما هي عليه حتى مارس سنة 1821م، ثم ابتدأت الثورة في ولايات الدانوب، بدأ بها ضابط يوناني في خدمة الجنود الروسية، حتى آل الأمر إلى نشر راية العصيان في جهات الدردنيل. وكانت الآستانة إذ ذاك في اضطراب عظيم لانقسام أربابها بعضهم على بعض، حتى إن بعضهم سعى في حرقها، فلما علم أهلها بما فعله اليونانيون احتدمت في قلوبهم شعلة التعصب التركي، حتى بلغنا ذات يوم أن بطريرك القسطنطينية غريغوريوس ذبح عند باب الكنيسة في عيد الفصح، وأن جثته أعطيت لليهود يجرونها في الأسواق، ثم علمنا بمقتل غيره من الأكليريكيين.
فاشتعل اليونانيون غيظا، وجاهروا بالعصيان والانتقام من الدولة، فلاح لجلالة السلطان محمود إذ ذاك أن يتخذ جندا نظاميا يعتمد عليه في الحروب، على مثال ما فعل عزيز مصر فاعترضته جنود الإنكشارية، وأنتم تعلمون أنهم الجند الذي أنشأه السلطان أورخان منذ خمسمائة سنة من أولاد الأسرى النصارى المفصولين عن والديهم قبل سن الحلم، وكانوا يعلمونهم ويثقفونهم بالديانة الإسلامية وعلومها. وقد باركهم حاجي بكطاش مؤسس دراويش الطريقة البكطاشية فنموا وتكاثروا، وكانوا عونا كبيرا للدولة في سائر حروبها وفتوحاتها، لكنهم أصبحوا حملا ثقيلا على عاتقها لفساد أمرهم وتمردهم.
فلما أراد السلطان محمود اتباع النظم الحديثة في جنده، اعترضه هؤلاء الإنكشارية، فلاح له أن يسعى في التخلص من شرهم، فجمعهم مرة في ساحة الميدان، فلما اجتمعوا طلب رءوس زعمائهم فاعترض جميعهم على ذلك الطلب. وكان السلطان قد صمم على اتخاذ الوسائل الفعالة، فإما أن يبيدهم وإما أن يذعن لهم، فلما رأى منهم ذلك العصيان أمر بنشر السنجق الشريف؛ وهو العلم النبوي، فانحاز إليه جميع المسلمين إلا العصاة، فنقل السنجق إلى جامع أحمد بقرب أتميدان وبرفقته السلطان وحاشيته وقضاة العاصمة وجميع المنحازين إلى العلم، وهناك أخرج السلطان فتوى بقتل الإنكشارية فقتلوا في ثلاث ساعات، وتخلصت الدولة من شرهم.»
فقال أمين بك: «قد سمعنا بمقتل الإنكشارية كما سمعنا بمقتل الأمراء المماليك بمصر منذ خمس وعشرين سنة، فكأن السلطان محمودا قد فعل ذلك اقتداء بوزيره محمد علي عزيز مصر، ومثل ذلك تدريبه الجند على النظام الجديد.» فلما ذكر المماليك، تأوه سالم أغا تأوها خفيفا، وقال: «بقي اليونان ست سنوات يحاربون الدولة العلية بمساعدة سرية من الدول الأوروبية، وفي آخر الأمر جاهرت تلك الدول بالتوسط، وهي: روسيا وإنجلترا وفرنسا، وعقدوا مؤتمرا في لندرا في 6 يوليو سنة 1827م قرروا فيه أن يتحرر اليونان، وأيدوا هذا القرار بأساطيلهم لتنفيذ ذلك بالقوة الجبرية. فتنحت الروسية وتقدمت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية نحو نافارين، حيث كانت الحملة العثمانية تحت قيادة إبراهيم باشا، فدارت موقعة في 21 أكتوبر سنة 1827م، انكسرت فيها حملة إبراهيم باشا، وتم الاستقلال. أما أنا فقد كنت في نافارين قبل مجيء الحملتين، فنزلت إلى إبراهيم باشا وسلمت له خاضعا.»
ما وراء الأكمة
قال أمين بك: «الحق أنك أفدتنا إفادة عظيمة عن استقلال المورة أو اليونان، ولكن اسمح لي أن أسألك سؤالا ربما كان تطفلا مني، وإنما الأخوة التي بينك وبين ولدي غريب تجرئني عليه!» قال سالم أغا: «تفضل.»
قال أمين بك: «إن تركك اليونان في حال فوزهم وانحيازك إلى إبراهيم باشا لم أره ينطبق على حكم العقل، أما كان الأفضل لك البقاء هناك مستقلا؟»
عند ذلك تنفس سالم أغا الصعداء وقال: «قد تركت تلك البلاد إذ ليس لي فيها أرب، وليست هي وطني، وليس لي فيها أهل، وإنما توجهت إليها بحكم الاتفاق طوعا لمطامع القرصان، وقد باعني بعضهم فيها بيع الأرقاء، وكنت مدة إقامتي فيها أغتنم فرصة أتمكن بها من العودة إلى بلادي، لعلي أشاهد أحدا من أهلي، فلم أستطع ذلك إلا عند مجيء إبراهيم باشا إلى اليونان كما قلت لجنابكم.»
فقال غريب: «يظهر أنك خرجت من بلادك صغيرا وعدت إليها كبيرا، فهل عرفك أهلك عندما شاهدوك؟»
فتنهد الرجل وتأوه وخنقته العبرات، فتعجب الجميع من حاله، ولم يفهموا سبب بلباله.
Page inconnue