وكانت عكا إلى ذلك الحين لم يتم فتحها لأنها امتنعت على الجنود المصرية أكثر من خمسة أشهر.
وفي 27 مايو (أيار) سنة 1832م أمر إبراهيم باشا جنوده أن يهجموا على عكا دفعة واحدة، وأن يواصلوا إطلاق النار عليها ففتحها عنوة، ودخلها بجيوشه، وأعطى الأمان لعبد الله باشا فسلم له، فلما أقبل عليه صافحه وطيب قلبه وطمأنه على دمه وعرضه، وسار به إلى قصر البهجة، ثم أرسله بحرا إلى والده في الإسكندرية.
فلما وردت البشائر إلى بيت الدين بذلك، نهض الأمير إلى عكا لتهنئة إبراهيم باشا بالفتح، فطلب غريب مرافقته، فقال: «لا حاجة يا ولدي لذهابك إلى هناك، فالأولى أن تبقى مع والدك هنا، أو أن تخرج به للنزهة أو السياحة، بل الأفضل لكم البقاء هنا لأن البلاد ثائرة علينا، وقد أصبح أعداؤنا كثيرين فأخشى أن يصيبكم مكروه من جماعة الدروز، وهنا يمكنكم الخروج إلى الجهات القريبة للترويح عن النفس، ريثما أعود.» •••
فلما رجع من عكا، أخذ يتأهب لملاقاة إبراهيم باشا في دمشق؛ لأنه كان قد سار لمحاربتها فأخذ معه ولديه خليلا وأمينا، وأراد غريب مرافقته فمنعه قائلا له: «إن وجودك هنا أولى، فإننا على كل حال نحتاج إلى من يحافظ على بيتنا.» فاستصوب الرأي ولكنه ركب معه لوداعه مسيرة ساعتين، حتى قال له الأمير: «يكفي يا ولدي فارجع إلى والدتك ووالدك.» فرجع بجواده، ونفسه تحدثه بمرافقة الأمير للحرب. وكان غريب راكبا جوادا أزرق عليه سرج مفضض، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وعلى كتفيه برنس أبيض يغطيه ويغطي ظهر جواده، وكان الجواد من جياد الخيل الأصيلة، يمشي به مشية العروس، مع وعورة المسالك في تلك الجبال الصخرية، وكان غريب قلما يعجب بنفسه، ولم يكن يهمه بعد ملاقاة أبيه إلا خدمته وراحته.
وفي أثناء عودته من توديع الأمير كان يفكر في وسيلة تمكنه من ذلك.
خطر جسيم
مر غريب بقصر جميل كان قد شاهده مرارا ولم يدخله، فأخذ يتأمله لانفراده عن القرية، ولما يحيط به من الأشجار التي معظمها من التين والزيتون والصنوبر والتي يتخللها حقول من الكرم، فانشغل بتلك المناظر، وبينما هو غارق في هذه التأملات سمع صوتا يناديه من جهة ذلك القصر: «ما بالك يا أمير غريب، احترس لنفسك!» فالتفت جهة الصوت فلم ير أحدا، ولكنه سمع وقع حوافر جواد مسرع وراءه، فالتفت فإذا هو برجل ملثم منقض عليه برمح في يده يريد طعنه به، فاستل غريب سيفه بأسرع من لمح البصر، وضرب ذلك الرمح فقطعه نصفين، وهجم على ذلك الفارس، وهو لا يعلم من هو، فصاح به: «من أنت يا خائن؟» فلم يجبه ولكنه أخرج من قربوسه شهبا ناريا يريد إطلاقه عليه، فانقض عليه غريب وأمسك ذلك المسدس بيده فخرج الطلق في الهواء، فتقاطر من وراء ذلك الفارس جماعة من الفرسان، جميعهم ملثمون، فصرخ فيهم غريب بقلب لا يهاب الموت: «ما غرضكم مني يا لئام؟ أتظنون أني أخشى عددكم؟» قال ذلك وهجم بسيفه فضرب أحدهم على رأسه فقضى عليه، وضرب الآخر فأصابه ما أصاب رفيقه، ولكنهم تكاثروا عليه حتى تعبت يده من الضرب، وأصيب بضربة في ذراعه اليسرى، واستمرت الوقعة نحو نصف ساعة حتى أصبح غريب في خطر، وكاد يعمد إلى الفرار ولكنه سمع صوتا يقول له: «لعينيك يا أمير غريب لا تبال بهؤلاء الخائنين الغادرين!» وإذا هو بفارس ملثم خرج من تلك البساتين، وقد جرد السيف وهجم على هؤلاء الفرسان فقوي قلب غريب وتشجع، وهجم عليهم ففر هؤلاء بعد أن قتل منهم ثلاثة. •••
عاد غريب وهو مذهول لمجيء ذلك الفارس الملثم، ودنا منه يريد أن يعرفه، فإذا هو قد أدار عنان جواده نحو ذلك القصر، بعد أن أومأ إلى غريب مودعا، فناداه غريب: «بالله عليك يا أخي، قف لأكلمك!» فلم يجبه، فتعجب غريب لذلك، واشتد ميله لمعرفة الفارس، وسار في أثره، فهمز ذاك جواده حتى دخل الحديقة فترجل بأسرع من لمح البصر، فتعقبه غريب إلى الحديقة، فأوقفه الخادم قائلين: «ماذا تريد؟» قال غريب: «أريد مقابلة صاحب المنزل.» قال أحدهم: «إنه ليس هنا.» فقال: «لا بأس فإني أريد مقابلة هذا الفارس، الذي دخل المنزل الآن.»
قال الحارس: «لم يدخل المنزل فرسان الآن، ويظهر أن الطرق تشابهت عليك.» فقال غريب: «لا شبهة عندي فيما أقول؛ لأني رأيت الفارس بعيني داخلا هذه الحديقة بجواده.» فغالطه الرجل، وكان غريب قد نسي جرح ذراعه لشدة تأثره من هذا الأمر، ولكنه عاد فأحس به، فخشي إذا طال أمره ولم يغسله ويعالجه أن يضر به، فقال للرجل: «هل تعلم أنك تخاطب ابن الأمير بشير؟» فبهت الرجل، وتقدم إلى غريب قائلا: «العفو يا سيدي، إني لم أعلم ذلك.» ثم أمسك بركاب الجواد، وأنزله ودخل به إلى ذلك البيت، وأصعده إلى دور علوي، ومن هناك إلى قاعة مفروشة بأحسن ما يكون من الفرش الثمين، فقال غريب: «لا حاجة لي بكل ذلك، وإنما أريد منك قليلا من الماء لأغسل به جرحي، وقطعة قماش لأربطه.»
فخرج الرجل ليأتي بما أمره به، وبقي غريب في تلك القاعة يتأمل ما بها، ويعجب من حكاية ذلك الفارس. وبينما هو يشرع في كشف ذراعه لغسل الدم عنه، وإذا هو بفتاة مقبلة على الغرفة كأنها حورية من حور الجنان، عليها ثوب بسيط لونه أبيض ناصع، وهي طويلة القامة، رشيقة الحركات، مع رزانة ووقار، عيناها سوداوان كبيرتان، ولونها قمحي وشعرها أسود حالك، قد ضفرته وأرسلته على ظهرها وكتفيها، وتتجلى في محياها ملامح البساطة والكمال، مع ما هي فيه من غضاضة الشباب.
Page inconnue