ثم قال له: «ما الذي جاء بك إلى هذه الأرض بعد هذا الزمن الطويل؟ وما الذي حدث لك؟»
فتأوه الرجل وبكى، ولم يبد جوابا، ثم أخذ بأطراف الحديث، فقال: «أين والدك الأمير بشير؟» قال: «هو في عكا برفقة الجنود المصرية، وعما قليل يلحق بنا إلى بيت الدين.» فقال الشيخ: «هل هو بخير؟» قال: «نعم، ولا بد أنه سيسر كثيرا بمشاهدتك، فإن لك علينا فضلا كبيرا، هيا بنا الآن إلى الخيام لنبيت هذه الليلة، وفي الغد نركب معا إلى بيت الدين، ونبقى هناك ريثما يعود والدي فيسر بمشاهدتك.» فامتنع الرجل أولا، فألح عليه غريب حتى رافقه إلى رأس العين، وهناك عرض عليه أن يغتسل ويغير ثيابه، فقال: «لا يا ولدي إن ثيابي لا أغيرها، وإنما لا بأس من الاغتسال.» واغتسل، ثم مد السماط فأكلوا، وكان غريب في غاية السرور لهذا الاتفاق؛ لأنه كان يشعر بثقل الجميل الذي كان عليه لذلك الرجل الذي أنقذه من مخالب الموت، وقد ترك ذلك الحادث أثرا في جبينه. •••
وبعد الطعام، جلسا لتناول القهوة، وبدأ غريب مفاتحة الشيخ ثانية في حكايته، فقال: «إن حكايتي لا أحكيها إلا لوالدك.» فلم يراجعه، ولكنه لم يعد يعرف كيف يكرمه، وخطرت بباله والدته، فقال: «إني مسرور جدا بلقياك يا سيدي، وإنما الفرح العظيم سيكون لوالدتي التي كثيرا ما تذكر فضلك وتثني عليك، وبعد يومين ستشاهدك، ولا بد من أنها ستسر بك سرورا عظيما.»
فقال الشيخ: «إن ذلك كله لحسن نيتكم، وأما أنا فلم أفعل شيئا، وإنما الفضل الأكبر لسيدي والدكم، ولكن ...» ثم خنقته العبرات، فتعجب غريب لتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعلم شيئا من الأمر الذي دار بشأنه. وفي صباح اليوم التالي، ركب غريب بعد أن أركب الشيخ، وجعل في خدمته رجلين، وسار الركب حتى أمسى المساء، وفي الصباح التالي ساروا حتى إذا ما اقتربوا من بيت الدين سار المبشرون إلى السراي، يخبرون أهلها بقدوم الأمير غريب، فخرج الرجال لملاقاته، أما والدته فكانت في انتظاره عند باب الدار.
لقاء بهيج
وصل الموكب قبل الغروب بقليل، فدخل غريب ممسكا بيد ذلك الشيخ حتى وصل إلى صحن السراي الداخلي، فإذا هو بوالدته في انتظاره عند باب دار الحريم، فلما بلغها قبلته، ولم تنتبه إلى الشيخ الذي أدخله معه إلى قاعة الاستقبال إلا بعد قليل فاضطرت هي ومن معها من نساء السراي أن يمتنعن عن الدخول معهما حتى نادى والدته قائلا: «تعالي يا أماه وقبلي يد هذا الشيخ الذي أنقذ ابنك من الموت في صحراء بني سويف!» فدخلت جميلة القاعة وركبتاها ترتجفان، فلما شاهدت الرجل وتأملته صرخت قائلة: «أمين؟! أمين؟! هل أنت ما تزال على قيد الحياة؟» ووقعت مغشيا عليها، فذهل غريب لذلك المنظر، وأمر بالماء وماء الزهر ليرشا على وجهها خوفا عليها، وتقاطر سائر أهل السراي على مصدر الصوت، وكان ذلك الشيخ أكثر ذهولا من الجميع، لكنه عندما سمع لفظ أمين صرخ: «سلمى؟! سلمى؟! هل أنت هنا؟» ووقع غائبا عن الصواب، فبهت الحضور جميعا، ولكنهم شغلوا برش ماء الزهر على المصابين. وبعد قليل أفاق الاثنان وأخذ كل منهما يتأمل وجه الآخر، كأنهما أصيبا بجنون ثم أعادا النداء، وضم أحدهما الآخر وتعانقا، فزاد ذهول الناس، ولم يكن أحد من الحاضرين يعرف الحقيقة إلا زوجة الأمير، فأمرت كل من في القاعة بالخروج منها إلا غريبا ووالدته. أما غريب فكان كأنه في حلم؛ لأنه لم يكن يعرف أن ذلك الشيخ هو والده، ولا أن اسمه أمين بك، ولا أن له والدا غير الأمير بشير، ولا أن والدته تدعى سلمى، فأخذ منه الاندهاش كل مأخذ، وكان يظن في أول الأمر أن والدته فعلت ذلك لشدة تأثرها من تذكر الخطر الذي كان قد أحدق به، وتقدير هذا الرجل الذي أنقذه منه، ولكن لما نادى كل منهما الآخر باسم غريب عنه، ولم يعد يعرف كيف يؤول ذلك المنظر، وخاف على والدته، أخذ يخفف عنها، أما هي فلم تستطع إمساك نفسها عن البكاء الممزوج بالضحك من شدة الفرح، ثم قالت لزوجها: «لماذا لا تقبل ولدك غريبا؟» فتركها للحال واتجه إلى غريب صارخا: «ولدي وفلذة كبدي غريب، هل أنت ولدي ولم أعلم بعد؟» وأخذ يقبله ويعانقه، وعيناه تذرفان الدموع، فبكى غريب مشاركة لهما، وهو في حيرة من ذلك حتى ظن نفسه في حلم. •••
فتقدمت إليه زوجة الأمير بشير قائلة: «لا تذهل يا ولدي ولا تعجب مما رأيت، فإن والدك ليس الأمير بشير، وإنما هو هذا الشيخ، فقبل يده واجلس لنقص عليك القصة، اجلسوا قبل كل شيء، وسكنوا روعكم جميعا لنشكر الله الحي الأزلي الذي جمع شتاتكم، وهو قادر أن يحيي رميم عظامكم.» •••
فجلس الجميع، وأخذت زوجة الأمير تقص على غريب حكاية والده باختصار، وهو صامت يكاد لا يصدق أنه في يقظة، فلما انتهت من حديثها نهض غريب ثانية وقبل يدي والده، وقد تعجب لما علم من حكايته.
ثم أراد أمين بك أن يسأل سلمى عن ولدهما سليم، فأشارت إليه أن يرجئ ذلك إلى وقت آخر؛ إخفاء لأمره عن غريب، وبقي الجميع صامتين برهة، ثم جاء وقت العشاء، وبعد تناول الطعام ذهبت سلمى مع زوجها وولدها إلى حجرتها، وهناك سألت زوجها عن كيفية وصوله إليهم، وماذا مر به من ظروف؟ فقص عليها الحكاية حتى انتهى إلى كيفية ذهابه إلى السودان طلبا للموت ليأسه من الوقوف على مكان إقامتها، ثم حكى لها كيف قتل سعيدا، إلى أن قال: بعد أن ضربته انتبهت وتأملته، فإذا هو لا حراك به، وتذكرت قوله إنك على قيد الحياة، فصارت روحي عزيزة علي، بعد أن كنت أعرضها للسيف والنار، فعمدت إلى الفرار من موضع الوقعة، حتى وصلت إلى مأمن، فجلست أحدث نفسي بما كان وكأنه حلم مر بي، فكنت تارة أكذب مخيلتي، وطورا أعود فأشعر بحقيقة الوقعة، ولما ترجح لدي أن ما سمعته من سعيد كان في يقظة، تكدرت جدا لقتله بيدي وبكيت عليه بكاء مرا.
فصاحت سلمى: «وا حسرتاه عليه، إنه كان خادما أمينا بل صديقا وفيا!» •••
Page inconnue