فتقدم غريب، وهو لا يرتعد، وكأن كلام الوالي لم يؤثر فيه إطلاقا، وقال: «أتظن أنك تروعني بهذا التهديد؟ إنني لست أخشى الموت:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
أنا لا أبالي بالتهديد والوعيد ما دمت بريئا، ولكن عار عليك أن تجرد علي سيفا وأنا أعزل مكبل، فإذا شئت أن تجرب نفسك ففك أغلالي وليحكم الله بيننا بالقسط، ولا تستنكف من ذلك، فإنك تبارز أميرا.»
فعجب الجميع لهذا الشاب، وأعجبتهم جسارته وثبات جأشه، حتى إنهم خافوا عليه من غضب الباشا، وأشفقوا أن يأمر بقتله للحال، ولا سيما ذلك الضابط الذي أحضر ليسوقه إلى السجن فإنه تقدم إليه وأمسك بذراعه، وضغط بأصبعه عليه كأنه يقول له: «اقصر من هذا الحديث فذلك خير لك.»
أما الوالي فاشتد غضبه، وهم بضرب غريب، لكنه رأى الشرطة تسوقه إلى السجن فسكت، على أنه لو ساير غضبه واتبع هوى نفسه، ما أبقى على غريب، لكنه كان يشعر بضعفه عن مقاومة الجنود المصرية، وكان يعلم أن الدائرة ستدور عليه، حتى إنه كان قد طلب قبل ذلك الحين المفاوضة في أمر الصلح فجاءته أوامر من الآستانة تشدد عزيمته، فأمسك عن المفاوضة في انتظار النجدة، بيد أنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه لا يقوى على مقاومة تلك الجنود العظيمة التي دوخت الأقطار السودانية والغربية والرومية فضلا عما هي عليه من النظام، فخشي إن هو قتل غريبا أن يثير عليه انتقام الأمير بشير، فإذا وقع في يده فلا شيء ينقذه من القتل، ولذلك أمسك نفسه ورضي بأن يؤخذ ذلك الشاب من أمامه.
ثق بالله ولا تبال
أخذ رئيس الشرطة غريبا مخفورا إلى سجن عكا المشهور، وهو سجن مظلم ينزل إليه بعدة درجات تحت الأرض. وفيما هم في الطريق أخذ غريب يفكر في صروف الحوادث، وهذا الحظ السيئ الذي جر عليه هذا البلاء العظيم، فأظلمت الدنيا في عينيه، ولا سيما عندما تذكر والدته وما يكون من حزنها عليه إذا أصابه سوء، ثم طرق ذهنه ما أوصته به أمه عند وداعه، وتذكر تلك البطاقة التي أعطته إياها، ونصحته أن يقرأها في وقت الشدة والضنك، فمد يده إلى جيبه وكان قد حل وثاقه، واستخرج تلك البطاقة فقبلها وفتحها، والحراس ينظرون إليه، وأخذ يتأملها فقرأ فيها هذه الآية الذهبية: «ثق بالله ولا تبال»، فاطمأن قلبه وانبسط وجهه، كأنه كان في شدة ونجا منها، وقد لاحظ ذلك سالم أغا رئيس الشرطة؛ لأنه كان بجانبه، فحدثته نفسه أن يسأل غريبا عن تلك البطاقة، وكان قد أحبه ومال إليه منذ رآه، ومن ثم لم يتحول بصره عنه.
أما الوالي فاشتد غضبه، وهم بضرب غريب، لكنه رأى الشرطة تسوقه إلى السجن فسكت، على أنه لو ساير غضبه واتبع هوى نفسه، ما أبقى على غريب.
فتقدم إلى غريب قائلا: «ما هذه الورقة التي فتحتها؟»
Page inconnue