وكان الأمير جالسا على مقعد في صدر القاعة مسندا يده إلى وسادة فوقها «طبنجة» محشوة بالرصاص لا تفارق مجلسه، وليس على ذلك المقعد غيره لأنه لم يكن يأذن لأحد أن يجلس بجانبه. وكان عليه قباء بسيط، شبيه بالقفطان، من صنع دمشق، فوقه منطقة من الصوف من صنع كشمير، وقد تقلد في منطقته الدواة والخنجر المرصعين بالجواهر، وفوق القفطان جبة من الفرو الثمين، وعلى رأسه إذ ذاك العمامة الكبيرة. أما الطربوش فلم يلبسه إلا في آخر أيام حكمه، إذ أصبح الطربوش من ذلك الحين شعار الدولة العثمانية يلبسه كل من يتولى أعمالها. وكان الأمير ربعة في الرجال واسع الصدر عريض الكتفين، أما هيئته فكانت أقرب إلى هيئة الأسود منها إلى الآدميين؛ لأنه كان عريض الجبهة عاليها غليظ الشفتين، له حاجبان يتدلى الشعر منهما على عينين براقتين كأنهما تتقدان نارا، وبينهما أنف كبير به انحناء قليل، تحته شارب طويل، وله لحية مجعدة مسترسلة على صدره، وقد وخط الشيب شعره قليلا.
وكانت أرض القاعة مفروشة بالطنافس والسجاد الثمين، فدخل الرئيس بعد أن نزع حذاءه خارج الباب حسب العادة، فرأى الأمير جالسا وبين يديه أرباب مجلسه فحياه قائلا: «عم صباحا يا سيدي الأمير.» فرد التحية وأذن له في الجلوس، ثم أمر له بالقهوة والغليون. أما الرئيس فلم يسره هذا الإكرام لقلقه من هذه الدعوة على أثر تخوفه أمس. ثم نظر الأمير إلى الرئيس بتينك العينين الحادتين وبما فيهما من ملامح الشجاعة والذكاء، مبتسما تبسما يزيده هيبة ووقارا، وقال بصوته الجهوري: يا أبانا، إن غرباء نزلوا عليك أمس، فمن هم؟
فقال الرئيس: «إنهم يا سعادة الأمير قادمون من صيدا لوفاء نذر للدير.»
فقال الأمير: «إخالك جاهلا الحقيقة أو متجاهلا ... أتقصد أن تغش الأمير بشيرا؟»
فنهض الرئيس على قدميه، قائلا: «العفو يا سعادة الأمير، فإن سعادتك تعلم أننا عبيد مطيعون مخلصون، ولم يسبق لنا شيء مثل هذا، وليس هؤلاء أول من جاء لمثل ذلك، فإن هذا الدير مشهور بالكرامة، وتأتيه النذور من سائر أنحاء العالم.»
فأقعده الأمير، وسأله: «من أي طائفة هم؟» فقال الرئيس: «لا بأس يا سيدي، مهما كانت طائفتهم، فإن الدير يقبل النذور من جميع الطوائف والملل بدون استثناء.»
فضحك الأمير، وقال: «جئني بهم.» فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج وهو في حيرة خوفا على جميلة من غضب الأمير، فلما وصل إلى الدير وجد جميلة وسعيدا قد عيل صبرهما من الانتظار فأخبرهما بما كان وشجعهما، وقال لجميلة: «انهضي يا ابنتي والبسي أحسن ما عندك، وهلمي مع سعيد وأنا أسير بكما إليه، لعل لكما في ذلك خيرا.» فقالت جميلة: «وماذا نفعل بغريب؟» قال الرئيس: «نتركه هنا ونوصي به أحد الرهبان.» فقالت: «لا لا، لا أفارقه قبل أن تفارق روحي جسدي فإنه وحيدي، ومنتهى أملي، وكفاني من فقد!» فقال الرئيس: «إذن، نأخذه معنا.»
فلبست جميلة ثوبا ليس فيه مطرزات ولكنه بسيط نظيف، ومشطت شعرها وضفرته وأرخته على ظهرها، ولبست البرقع على رأسها، وكانت قد استراحت من تعب الطريق فأشرق وجهها، وارتد لونه الوردي على ما به من الكمال والوقار.
سراي بيت الدين
سار الجميع حتى بلغوا «السراي» فدخلوا من باب السور إلى صحن «السراي» الخارجي، فإذا هو أشبه بميدان متسع محاط بالأشجار، في صدره باب الصحن الداخلي يوصل إليه ببضع درجات، ترى فوق عتبته بيتين من الشعر تأريخا لبناء تلك «السراي». فدخلوا من ذلك الباب، والحراس وقوف هناك، يتأملون تلك السيدة وذلك العبد، ويتساءلون عن أمرهما، ثم وصلوا الصحن الداخلي فإذا هو مرصوف بالرخام، في وسطه بركة رخامية، وحوله غرف بعضها يؤدي إلى مماش تشرف على ما وراء بيت الدين من البساتين والأودية والجبال، وفي صدر ذلك الصحن قاعة الأمير، ويصعد إليها بعدة درجات، وإلى كل من جانبيه حارس منتصب ببندقيته، يمنع الدخول بغير استئذان.
Page inconnue