كنت أدرك أنه لا جدوى من التوسل أو المناقشة أو الاحتجاج، ووضع جبهته فوق جبهتي وتركني أبكي. واستمر قائلا: «اذهب أنت الآن، ولكن قبل أن تذهب، لا بد أن تعدني بثلاثة أشياء. أولا: ألا تهجر الرسم في أي يوم من أيام حياتك، حتى تصبح فنانا عظيما مثل هو كوساي، وثانيا: أن تفكر في أحيانا، بل أحيانا كثيرة، بعد أن تعود إلى وطنك في إنجلترا. إذا رأيت البدر المنير في السماء فتذكرني، وسوف أفعل مثل هذا هنا. وهكذا لن ينسى أحدنا الآخر أبدا. والوعد الأخير بالغ الأهمية لي. من بالغ الأهمية ألا تقول شيئا عن هذا، ولا عني. لقد جئت إلى هنا وحدك. ومكثت وحدك في هذا المكان. مفهوم؟ لست موجودا هنا. أما بعد عشر سنوات فلك أن تقول ما تشاء. فلن يبقى عندئذ مني سوى العظام. ولن يهم ما يكون عندها. لا أريد لأحد أن يأتي للبحث عني. فأنا أقيم هنا وأعيش حياة السلم. لا أريد بشرا؛ فالبشر عندما يأتون ينتهي السلم. مفهوم؟ هل ستكتم سري يا ميكا؟ هل تعدني بذلك؟»
وقلت له: «أعدك.»
وابتسم وأعطاني كرة القدم، قائلا: «خذ كرة القدم. أنت ماهر في لعب الكرة، ولكنك أمهر كثيرا في الرسم. اذهب أنت الآن.» ثم وضع ذراعه على كتفي واصطحبني خارج الكهف، وقال: «اذهب.» ومشيت خطوات معدودة ثم التفت إليه. كان لا يزال واقفا في مدخل الكهف فقال: «اذهب الآن من فضلك» ثم انحنى لي. وانحنيت له وقال: «سايونارا يا ميكاسان! لقد تشرفت بمعرفتك، أكبر شرف في حياتي.» ولم أجد عندي الصوت الذي أجيبه به.
كانت الدموع تغشي بصري وأنا أجري في المسرب. ولم تأت ستلا على الفور، لكنها أدركتني عندما وصلت إلى حافة الغابة. وانطلقت تعدو مسرعة على الشاطئ وهي تنبح السفينة بيجي سو، لكنني ظللت مختبئا في ظل الأشجار أبكي حتى نفدت دموعي. وتابعت بعيني بيجي سو وهي تدخل مياه شط الجزيرة، وكان فوقها حقا والدتي ووالدي. وكانا قد شاهدا الآن ستلا وجعلا يناديانها، وكانت تنبح نباحا شديدا أطار عقلها. وشاهدت مرساة السفينة وهي تهبط.
وهمست «وداعا يا كنسوكي» وأخذت نفسا عميقا وانطلقت أجرى على الرمل وأنا ألوح بيدي وأصيح.
ونزلت أجري في المياه الضحلة لملاقاتهما. وجعلت أمي تحتضنني وهي تبكي حتى ظننت أن عظامي سوف تتكسر. وظلت تقول وتكرر: «ألم أقل لك إننا سنجده؟ ألم أقل لك؟»
وكانت أولى كلمات والدي لي حين رآني: «مرحبا أيها القرد.»
ظلت والدتي ووالدي يبحثان عني ما يقرب من عام كامل. ولم يكن أحد على استعداد لمساعدتهما، لأن أحدا لم يكن ليصدق أنني ما زلت على قيد الحياة، وكان الناس يقولون لهما إن احتمال حياته لا يصل حتى إلى واحد في المليون. وقد اعترف والدي فيما بعد بأنه كان يتصور أنني مت ولكن والدتي لم تفقد الأمل قط. كنت بالنسبة لها دائما على قيد الحياة، وكانت تقول إنني لا بد أن أكون حيا، وكانت واثقة من ذلك بقلبها وحسب. وهكذا ظلا يبحران من جزيرة لجزيرة، ويواصلان البحث حتى عثرا علي. لم يكن ذلك بفعل معجزة، بل بفعل الإيمان.
حاشية الرواية
بعد أربع سنوات من نشر هذا الكتاب تلقيت الرسالة التالية:
Page inconnue