وسمعت زفيف الريح من فوقي في الأشرعة، وما زلت أذكر أنني قلت في نفسي: هذا حمق! إنك لا ترتدي سترة الأمان ولا سترة النجاة وعليك أن تتوقف عما تفعله. ثم إذا بالسفينة تميل بعنف وتلقي بي جانبا. ولما كنت أقبض بذراعي على ستلا لم أجد الوقت اللازم لأمسك بسور السفينة الحديدي. وقبل أن أستطيع حتى أن أفتح فمي لأصرخ أصبحنا في وسط مياه البحر الباردة.
الفصل الرابع
قرود وأشباح
تتابعت أهوال الرعب بسرعة. وابتعدت أضواء السفينة بيجي سو ثم اختفت في ظلام الليل، تاركة إياي وحيدا في المحيط، وحيدا مع ثقتي بأن الأضواء قد بعدت بعدا شديدا وأن صرخات استغاثتي من المحال أن يسمعها أحد. وخطر ببالي وجود أسماك القرش السابحة في المياه السوداء من تحتي، تتشمم رائحتي وتتعقبني وتشق طريقها إلي، وعرفت أنه لا أمل. سوف تأكلني حيا. إما ذاك أو أن أغرق ببطء. لا يمكن أن ينقذني الآن شيء.
وضربت الماء بأقدامي فطفوت، وأنا أبحث بجنون في الظلمة الصماء من حولي عن شيء؛ عن أي شيء يمكن أن أسبح لأصل إليه. لكنه لم يكن هناك شيء.
ثم لمحت فجأة شيئا أبيض في الماء، ربما كان زبد موجة. لكنه لا توجد أمواج، ستلا! لا بد أن تكون ستلا، حمدت الله كثيرا وشعرت براحة عميقة لأنني لم أكن وحدي، وناديتها وسبحت تجاهها، لكنها كانت دائما بعيدة، تختفي وتعود للظهور ثم تختفي من جديد. كانت تبدو قريبة جدا، لكنني اضطررت إلى السباحة بشدة عدة دقائق قبل أن أقترب منها اقترابا يكفي لمد يدي ولمسها. وعند ذلك فقط أدركت خطئي. رأس ستلا يغلب عليه السواد، وأما هذه فبيضاء. كانت كرة القدم. أمسكتها وتعلقت بها وقد أحسست بقدرتها الرائعة وغير المتوقعة على الطفو، وثابرت وأنا أضرب الماء بقدمي وأنادي ستلا، لكنني لم ألق جوابا. ناديت وناديت، لكنني كلما فتحت فمي الآن دخلت فيه مياه البحر. كان علي أن أكف عن النداء، فالواجب أن أنقذ نفسي إذا استطعت.
لم يكن هناك جدوى من إهدار الطاقة بمحاولة السباحة. وعلى أية حال، لم يكن هناك مكان أسبح نحوه. وقررت بدلا من ذلك أن أطفو وحسب. ومن ثم قررت أن أتعلق بكرة القدم، وأن أضرب الماء بقدمي ضربا خفيفا وأن أنتظر عودة السفينة بيجي سو. لا بد أن والدي سوف يكتشفان عاجلا أو آجلا أنني وقعت في البحر، وأن يأتيا للبحث عني عاجلا أو آجلا. يجب ألا أرفس الماء بشدة، بل بما يكفي فقط للطفو، لإبقاء ذقني فوق سطح الماء. فكثرة الحركة سوف تجتذب أسماك القرش، ولا بد أن الصبح قريب، لا بد أن أثابر إذن حتى يطلع الصبح، لا مفر من ذلك. لم تكن برودة المياه قارسة، وكانت معي كرة القدم، والفرصة لا تزال قائمة.
ظللت أقول ذلك لنفسي المرة بعد المرة. ولكن الدنيا ظلت سوداء لا تريد التخفيف من سوادها من حولي، كما بدأت أشعر أن برودة الماء تجمدني حتى الموت. حاولت أن أغني حتى أتوقف عن الارتجاف وحتى أبعد صور أسماك القرش عن بالي، غنيت جميع الأغاني التي أذكرها، لكنني كنت بعد قليل أنسى كلمات الأغنية، ودائما كنت أعود إلى الأنشودة التي كنت واثقا من إتمامها وهي «عشر زجاجات خضراء». غنيتها بأعلى صوتي مرات كثيرة. كنت أستمد الاطمئنان من رنين صوتي، الأمر الذي جعلني أحس بوحشة أقل في البحر، وكنت دائما أبحث عن لمعة الفجر الخضراء، لكنها تأبى أن تأتي وتأبى أن تأتي.
وسكت آخر الأمر ولم تعد رجلاي تضربان الماء. وتعلقت بكرة القدم، ورأسي ينساق إلى النوم. كنت أعرف أنني يجب ألا أنام، لكنني لم أستطع المقاومة. وكانت يدي كثيرا ما تنزلق من الكرة. كنت أفقد بسرعة آخر ما لدي من قوة، وهكذا كنت سأهبط، وأهبط إلى قاع البحر وأرقد في قبري وسط الطحالب البحرية وعظام الملاحين الغرقى وحطام السفن.
والغريب أنني لم آبه لذلك حقا. لم أكن أكترث، أو لم أعد أكترث. وجعلت أطفو حتى غلبني النعاس، وجاءت الأحلام. ورأيت في حلمي سفينة تتقدم نحوي ساكنة فوق صفحة البحر. إنها بيجي سو! بيجي سو العزيزة الحبيبة! لقد عادا يبحثان عني، كنت أعرف أنهما سيعودان، وأمسكتني أذرع قوية، وحملتني إلى أعلى خارج الماء، ورقدت هناك فوق ظهر السفينة أنشق الهواء بصعوبة مثل سمكة حطت على اليابسة.
Page inconnue