قالت: أجد بعض التعزية بأكداري، فلا أستطيع العدول عنها.
قال: إنك لا تعدلين عنها ابتغاء تكديري وغمي، فبالله عليك يا عفيفة أن ترحمي نفسك، فلا تظلميها، وسكني البال شفقة علي، ولا تقنطي من رحمة الله، إن بعد العسر يسرا، والله مولى الفرج القريب، وهو مجيب الدعاء، وكان فؤاد قد نطق بهذه الكلمات الأخيرة بصوت فيه رنة الحنان والمحبة.
فقالت عفيفة وقد تبسمت: أجاب الله دعاءك، وبلغت مأمولك، فأنت جدير بكل نعمة، والله يجزي المتفضلين خيرا، فاذهب يا حبيبي إلى والدتك، فهي في انتظارك، وما يحسن بك الإبطاء عن مقابلتها، وأرجوك أن لا تتأخر عن زيارتي في الغد، فأنت تعزيتي الوحيدة وسلوتي الأكيدة، لا أسكن إلا برؤياك ولا أطمئن إلا بوجودك، ولا يطيب عيشي إلا بقربك، اذهب ودعني أتقلب على جمر الأفكار مضطربة حتى تعود.
فقام فؤاد ورافقته عفيفة إلى باب البستان تودعه، وقلب كل منهما ينفطر من الفراق، وكان فؤاد قد غالب الوجد، وأصغى إلى حديث الشرف، فكبح سلطان الشهوة وفصل عن حبيبته، وهو لا يعلمها بحقيقة هيامه، وما يقاسيه من خمسة أشهر من عذاب حبها.
الفصل الثاني عشر
نهض همام في اليوم التالي وعلى وجهه علامات الغم والكدر، يتذكر ما جرى بينه وبين فؤاد في الأمس، فيحتدم غيظا، ويناجي نفسه بالانتقام. ففي الساعة العاشرة صباحا لبس ثيابه قاصدا حديقة الأزبكية يتنزه ويأكل طعامه في فندقها، لعله يزيل الأكدار عن باله، فجعل يدور حول البحيرة مديدا، ثم جلس على مقعد وأشعل سيجارة يدخنها متنشقا النسيم الرطب مارا على وجه الماء، ثم نهض عند الظهر ليأكل، فتناول من الطعام ما اشتهت نفسه بقابلية. ولم يتم غداه حتى حضر سعيد بن غانم، فجلس على مائدة إلى جانبه غير متنبه إليه، ففي جلوسه قال للغلام القائم في الخدمة: هذا الكرسي لصاحب لي يأكل معي، ثم إنه التفت فرأى هماما فحياه وسأله عن فؤاد، فقال له: هو بخير، وقد قابلته أمس فلم أخض في محادثته، ولم يتيسر لي إجراء الحديث بحضرة الناس فيما اتفقنا عليه، على أني أقابله في هذا اليوم، وغدا أخبرك عما يكون قد تم. وقد كان كلام همام تزويقا، فأظهر على نفسه الرضا وهو غضبان ساخط؛ لئلا ينعكس عليه المراد.
قال سعيد: لا بأس تكلمه اليوم أو غدا على أنني أسالك عنه: هل يقيم في بيته بعد الظهر؟
قال همام: المظنون عندي أنه يخرج للنزهة بعد الظهر، ثم إني أسألك في نوبتي عن الصاحب الذي تنتظره من هو؟
قال سعيد: لعلك تعرفه، فهو خليل زوج المرحومة عمتي، فقد التزم الحزن ولبس السواد، في قلبه الكدر الشديد والمرارة الزائدة.
قال همام: أمر عجيب، كان عهدي بهذا الرجل مبغضا زوجته يعذبها أشد العذاب ويمقتها كثيرا، فكيف انقلب بغضه محبة، وكان والدك يقول عليه الأقوال المبينة؟!
Page inconnue