قالت: لئن خشيت الموت فليس ذلك حرصا على حياتي، فوالله لم أصرخ إلا جزعا عليك، إذ بلغني أنك أقدمت على قتل نفسك عمدا في الأمس لولا عناية الله قد وقتك، ولطفه قد حماك.
فخفق جنان عفيفة رقة وحنوا، وتلفتت فرأت فؤادا، فعبست في وجهه واجمة وقالت: عداك الصواب يا رجل، جئت تخبر امرأة حزينة بما يزيد حزنها وتفجعها، ولا تخشى الله أن تزيد علتها فتهلك أسى وتفطرا.
قال: أجبت داعي الذمة فأخبرت بما رأيت، ولأنت أحرى بدفع الهموم وصرف الأكدار عن والدتك، فأقسمي بين يديها ألا تعودي إلى مثل فعلك المنكر في الأمس الغابر، تعد إليها الحياة، وتزل عن قلبها الغمة، فهي إنما جزعت عليك وروعت بسببك.
فوقعت هذه الملامة في نفس الفتاة، وعلمت أنها الخاطئة، فجثت على الركبتين تقبل يدي والدتها، وقالت بصوت مرتجف حزنا واضطرابا: عفوا يا أماه عما جنيت، فوالله لم يدعني إلى محاولة قتل نفسي سوى جزعي عليك مما تقاسين بسببي من الأتعاب، وتكابدين من الآلام المبرحة، وإني أشهد على نفسي بالوهن وقلة العزم وفتور الهمة عن مقاومة الهموم ومغالبة الأكدار، فقد عميت بصيرتي، وفقدت صوابي ورشدي، وساورتني الأفكار المزعجة، فأجدني في كل حين أتصور والدي يناديني للقياه بين الأموات، فأضطرب وأبغي الموت شوقا إلى رؤياه، فسامحيني يا أماه، سامحيني بحق والدي المرحوم، وتجاوزي عن خطيئتي، واصفحي عما جلبت لك من الأكدار، وارحميني يرحمك الله. فهيجت الفتاة وجد أمها فانهمر الدمع من عينيها، ودار بينهما حديث يصدع الأكباد، نغفله ابتغاء الاختصار، وشفقة على القلوب الرقيقة. ثم إن كريمة التفتت إلى فؤاد تعتذر إليه بقولها: عفوا كريما سيدي، فقد استقبلناك كما لا يليق بمقامك، وقد أوليتنا جميلا لا نستطيع القيام بحق شكره، وفضلك مقيم لا يبرح تذكاره من فكري ما دمت حية، والله عالم بذات الصدور، سبحانه يولي الإحسان من يستحقه، ولا يضيع أجر المحسنين.
قال فؤاد: لا فضل لي في شيء، فقد قمت بفرض أوجبته الإنسانية علي، وغاية ما أرجوه أن أخدمك خدمة تصرف عنك الأحزان.
قالت: عرفت مكارم أخلاقك أيها السيد الأمثل، قدرنا الله على مكافأتك.
ثم إنها التفتت إلى ابنتها عفيفة وقالت لها: لا تنسي أن عليك عملا تتمينه في هذا اليوم. فأجابتها عفيفة وهي تمسح الدموع: نعم علي شغل وعدت بإنجازه إلى غد صباحا، وليس عندي وقت كاف لإتمامه.
قال فؤاد: وهذا يوم الأحد حرام الشغل فيه، وهو يوم مقرر للراحة.
قالت كريمة: ليس للمساكين أيام راحة، إنما الراحة للسعداء والأعياد لهم وحدهم، وراحة المساكين بالأشغال، وبالاجتهاد سعادتهم ونفي همومهم وإبعاد أحزانهم وتشريد أفكارهم المزعجة وما يخالج قلوبهم من النكد، ثم التفتت إلى ابنتها تأمرها بالانصراف وإنجاز عملها وتسليمه حسب الوعد.
فتقدمت عفيفة تقبل يديها، وسلمت على فؤاد باحترام وقالت له: لو زرتنا أيها السيد فلك الفضل العظيم إن كان يطمع أمثالنا بمثل هذا الشرف، ولنا الفخر بأنك ستصبح نسيبا قريبا لنا.
Page inconnue