لم استقر الحال وخلا المكان قال سعيد لفؤاد: كانت ليلتي بالأمس عديمة النظير أنسا وحظا، فلم أذق نوما حتى الصباح من فرط انشراحي.
قال فؤاد: قص علي أخبارك، وما جرى لك مع صاحبتك.
قال: كانت ليلة سرور، يبخل الدهر بمثلها، وهيهات أن أتمتع كما تمتعت فيها، أو أرى فتاة تفضل صاحبتي التي رأيتها لطفا وبداهة وفكاهة وعقلا، وتراني الآن سكرانا من نشوة أمس، مدهوشا من حركاتها وإشاراتها وجميل حديثها، وتفصيل القول: أني بعد أن فارقتك انطلقت وراءها، فأدركتها قريبا من باب حديقة الأزبكية الشرقي، فلما دخلت تبعتها وبادرتها بالتحية حين دنوت منها مسلما بقولي: يا مساء النور، يا خفة يا دلال يا صاحبة القد والاعتدال والخد الأسيل والطرف الكحيل، مني علي بنظرة، وارفقي بالمحب الولهان، فقد أحرقت الفؤاد بنار حبك، سلم الله وجهك النضير الزاهر، فالتفتت إلي مبتسمة، فقلت لها وقد تهلل وجهي حبورا: يا شقيقة الروح تكرمي علي بلحظة، وجوابي قتيل غرامك. فعند ذلك تقدمت نحوي، وتقدمت نحوها قليلا، فجعلت ذراعي في ذراعها، وكان قد انتصف الليل، وقل عدد المتنزهين، فقمت بها إلى انفراد في جهة قليلة الأنوار من الحديقة، وطفقت أقبلها بشوق وأضمها إلى صدري، وهي في أثناء ذلك تمتنع نافرة مني، ثم انطلقنا إلى جهة البحيرة وجلسنا على مقعد، فشرعت تحدثني عن نفسها، وتخبرني عن أحوالها وما حصل لها في سالف الزمان، وأنها من عائلة شريفة غنية، وأن والدها توفي في الحرب وخلف لها أموالا طائلة أكلها الوكلاء، وبددتها المصائب، فوقعت في هوة الفقر، وأنها لأنفتها ورغبتها في الحرية أبت الزواج على كثرة خاطبيها من الشبان، ولم يكن قولها فريا فإنها على غاية من الحسن والجمال.
قال فؤاد: أخبرني بالاختصار، هل توجهت إلى بيتها، فهو المهم من الحديث؟
قال سعيد: تواعدنا على المقابلة في الساعة الرابعة بعد الظهر قريبا من باب الجنينة أمام دار البوسطة، وأن نأخذ عربة ونتوجه للنزهة سويا.
قال فؤاد: ولعلك تكون قد أخبرتها عن نفسك، وأحطتها علما بغناك وثروتك.
قال سعيد: أتشك في ذلك، وأنت تعلم أن الدينار مبلغ الأوطار؟
قال فؤاد: نصيحتي إليك يا سعيد أن لا تغتر بقولة، فأنت غريب الديار، لا تعلم أحوال وشأن بنات الهوى مكرا وخداعا، وأخشى عليك الوقوع في شرك حبهن، فيسلبن مالك وعقلك حتى تفرغ النقود من يدك، فيعرضن عنك بالوجوه العوابس، فإنهن إنما يطمعن في ثروتك لا في حسنك وجمالك، فهي عادة بل مهنة للمعاش يأتينها، فلا يعلمن ما الهوى والمحبة الصادقة، ولا تتأثر طبيعتهن من شيء، وما أجسامهن إلا كآلة لبلوغ الغرض وسلب أموال الناس حراما، وقد عرفت شبانا كثيرين وقعوا في شراكهن ففقدوا طريفهم وتليدهم وهدمت صحتهم، وأصبحوا في الخاسرين، فاجتنب فعلهم، واعتبر بمثالهم، ولا تعاشر نساء يتخذن الفساد تجارة، ولا تنخدع لكلامهن اللين ومظاهر المحبة التي يوهمنها سفها، وهن أروغ من ثعالب.
قال سعيد: لا تقس هذه الفتاة بغيرها، فهي على كمال فائق وأدب باهر، وعلى سائر الأحوال فإني بصير عاقل، لا تخفى علي أمور النساء ومكرهن وخداعهن.
قال فؤاد: سمعنا الشبان قبلك يقولون: إنهم يترددون على بنات الهوى طلبا للمسامرة ومساجلة الحديث، فما يلبثون أن يقعوا في حبالهن، ولا بد أن يصيبك ما أصاب غيرك، فتذهب لأول مرة على سبيل الفرجة، ثم تعقبها الثانية فالثالثة، وينتهي بك الأمر إلى التعلق بمجلسهن، فلا تستطيع عنهن انقطاعا، وتبتدي في تبديد مالك بغلبة الحب على قلبك، فما تشعر إلا وقد فقدت ما ورثه لك أهلك، فتندم حين لا ينفع الندم.
Page inconnue