فجالت الخواطر في رأس فؤاد، وكان في الابتداء راغبا عن الخروج، فأصبح الآن بعد سماع كلام سعيد راغبا فيه، مريدا ملازمة سعيد ومصاحبته ابتغاء استطلاع أحوال سعدى وخوافي أمرها، فالتمس منه أن يقيم معه إلى آخر الليل.
قال سعيد: قد سألتني من دقيقتين أن أنصرف وأنت الآن تطلب إقامتي، فلي الحق في ملامتك.
قال فؤاد: لم يحن وقت الرقاد، ونحن في أول الليل، وقد قلت: إنك لا تسكر من شرب كأسين، فأخذت قولك على وجهه.
قال سعيد: هوم النعاس في رأسي، فلا أستطيع السهر، ولو عيرتني فاسمح لي بالانصراف، وإن شاء الله قابلتك غدا وكلمتك مديدا عن سعدى وخلافها.
وكان فؤاد شديد الرغبة في استطلاع حقيقة قول سعيد على شقيقته سعدى، واستغرب أن يسمع حديثا كهذا منه مع أن العادة أن أهل العروسة لا يبلغون عنها إلا كل حسن، ويخفون شوائبها ومعائبها، فوقع في نفس فؤاد من كلام سعيد أن سعدى على سوء الأخلاق وذميم الطباع، وأنه إنما أنطقه السكر فألح خطابه وقال له: إن كان لا بد من توجهك للرقاد فلنشرب كأسا أخيرة من الكونياك ثم ننصرف، وشراب الكونياك موصوف بخاصيته في هضم الطعام وللنوم والاستراحة.
قال سعيد: أصبت، فالكونياك من خاصيته أيضا التنبيه وإصلاح ما أفسد النبيذ، فاخرج بنا إلى قهوة البورس فإن مشروبها جيد موصوف.
فانطلق الصاحبان معا، وقد انطلت الدسيسة على سعيد فلم يدرك الغاية، وانتهيا إلى القهوة، وجلسا يتحادثان، وأحضر الخادم لهما زجاجة كونياك فشربا، وأكثر فؤاد من العزومة على سعيد في الشرب، فأجاب هذا دعوته، وجعل يتناول الكأس بعد الكأس حتى فرغت الزجاجة، فنادى فؤاد الخادم ليحضر أخرى، وكان قد أخذ السكر في رأس سعيد كل مأخذ، فاستخفه الطرب، وجعل يعبث ويضحك، وعند ذلك سأله فؤاد قائلا: أمن أمد بعيد فارقت سعدى شقيقتك؟
قال سعيد: أراك جاعلا سعدى شقيقتي محور الحديث فلا بأس في ذلك، املأ الكأس لي أولا، فإني أرى الكونياك باردا خفيفا لا يروي الظمأ.
فملأ له فؤاد وهو يقول: تتعجب مني كيف أسألك عن شقيقتك، وهي ستكون عما قليل زوجة لي، والحديث عنها يسرني.
قال سعيد: والله يا صاحبي إني أرى حالتك كحالها، أنت ترغب في سماع أخبارها بقدر رغبتها في سماع أخبارك.
Page inconnue