قال: رأينا حضرة زوجك خليل، فإنه لم يحضر لزيارتنا والسلام علينا، فكأنه بسلامته يضن علينا بهذا الشرف، وبالحق فإنني ممنون من غيبته ومسرور أن لا أراه.
قالت: ولعل سرورك أن لا تراني أيضا، فإني أرى حضوري قد كدرك، فوالله ما جئتك إلا للضرورة القصوى، فإن عطفت علي أعرتني سمعك قليلا؛ لأعرض عليك الغاية من حضوري.
فتضاجر غانم من هذه المحاورة، وحار في أمره، وأشفق أن تكون نتيجة هذه المقابلة اغترام صدقة يدفعها إلى أخته؛ فقاطعها بالكلام قائلا: علمت السبب في حضورك بدون أن تتكلمي، إنك جئت تخبريني بسوء أحوالك، وأن زوجك بدد أموالك، فأصبحت وإياه صفر اليدين، لا تملكين شيئا، ومرادك أن أنعم عليك بشيء تعيشين به، وأسلفك نقودا لتفتحي لزوجك دكانا يبيع فيه ويشتري، ويتخذها له معاشا، فارفعي هذا الأمل من قلبك، واعلمي أن مسعاك خائب، فلا تكلفي نفسك العناء والشرح الطويل، ولتعلمي أني لا أريد أن أعرف زوجك، ولا أعطيه أو أن يعطيه أحد خلافي مليما واحدا، فقد علم الجميع بسوء أخلاقه وفساد سيرته وإسرافه وقلة أمانته. وهذا كلامي إليك بصريح العبارة، فلا تطمعي مني شيئا، وقد أفهمتك أني لا أتدخل في أمره، وتذكري أني لم أرضه لك بعلا، ومنعتك عنه فلم تمتنعي، ونصحتك فلم تقبلي النصيحة، فالذنب ذنبك، تحملين عواقبه؛ لتعلمي نتيجة العناد، وتكوني عبرة للآخرين.
قالت: قد اعترفت لك يا أخي بخطيئتي، والله يرحم الخاطئين، وأي ذنب في الكون لا يغفره الله للتائبين! فارحمني يرحمك الله، وأشفق علي إني حزينة مسكينة.
قال: إني لا أشفق على من يجلب على نفسه الشقاء ولا ألتفت إليه، فلو أنك سمعت نصيحتي لدفعت عن نفسك النكد، وكنت في ألف خير، فلم تقاسي ما أنت فيه الآن من العناء والبلاء. وبعد، أفإنك وإن كنت في ضيق يوجب الأسف عليك، فإني أيضا في مركز صعب لإعسار الأحوال، فإن أملاكي قليلة الإيراد، والمحصولات متأخرة، وجميع أشغالي في تقلب، وعلي ديون كثيرة ونفقات جسيمة، وما أرى أمامي غير الخراب والدمار، فلا أستطيع أن أحسن إليك بشيء.
قالت: ما يليق هذا القول بك يا أخي، لا تجحد نعمة الله عليك، فأنت في نعمة سابغة، وفضل الله عميم وكرمه عظيم.
قال: وبفرض أني بعد كل التعب الذي تجشمته والمشقات التي كابدتها قدرت أن أجمع شيئا من المال أنفقه على نفسي في الكبر، وأبقيه لأولادي من بعدي، أفيكون من العدل أني أبدده، أو أتبرع به على زوجك الفاسد الطوية القبيح السيرة؟ وهل يفعل هذا الفعل إلا كل أبله معتوه ليس في رأسه ذرة من العقل؟ نعم، أكلف بأمرك وأمر ابنتك لو كنت أرملة، ولكنك في عهد زوجك وهو الملزوم بك، فما يعنيني من أمره وأمرك شيء. وليكن في علمك أني جمعت المال اليسير الذي عندي بغاية التعب والصعوبة، فما يلومني أحد إن حافظت عليه، فلم أضيعه هبة أو أبذله إلى من لا يعرف قيمته. والحمد لله أني من العقلاء، أصون نفسي عن فعل أفعال المجانين الجاهلين، فاقطعي الأمل، ولا تكلفي نفسك التعب ومضض السؤال.
فوقع هذا الكلام في نفس كريمة وقع الحسام، ولا سيما عند إشارته إلى أنه لا يسأل بأمرها إلا بعد وفاة زوجها، فسالت العبرة من عينيها، وقالت: زدتني يا أخي حزنا على حزني ولم تشفق علي، وأنا في حالة الفقر المدقع من زمان طويل محرومة من كل هناء وراحة، صابرة على البلوى حمولة موجعة القلب، أتمنى الموت وفراق هذه الدنيا التماسا لراحتي في الأخرى ... فاعلم يا أخي أني لم أحضر لأطلب منك مالا، فالمولى يزيدك عزا وغنى، وإنما مطلوبي شيء أعز من المال.
قال: أي شيء أعز منه غير الروح، وما أظن أنك حضرت لتطلبيها؟!
قالت: محبتك يا عزيزي أغلى من كل شيء، وأثمن من كل نفيس في العالم، وأعز من روحي إلي.
Page inconnue