وكان غانم في أثناء ذلك يسمع الحديث، فلا يفوه بكلمة، ويقول في نفسه: الرأي أني أوافق، فإني لو رفضت هذا الزواج فأبقيت عفيفة عندي صرت مسئولا بالنفقة عليها، وبت أبدا دائما قلق الخاطر متعب السر، فزواجها ولو بقليل من الخسارة أفيد وأليق، فتقرر هذا الرأي عنده، وقال: استحسنت رأي سعيد، ولو أن به كلفة علي، فالإنسان بين شرين يختار الأيسر، والألم المؤقت شديدا أخير من المرض الدائم خفيفا؛ ولذا قبلت بهذا الزواج.
قال همام: من الضروري إذن أن نستدعي فؤادا، فهو في قهوة البورس قريبا من هنا لعله يقبل هذا الرأي، فالاعتماد عليه، والرغبة رغبته، فخرج الخادم يدعو فؤادا.
وقالت سيدة: أنتم تعلمون أن الناس رجموا الظنون في ابني، وقالوا عليه الأقوال الفرية، ووضعوا من قدره ومكانته فلحق به أذى أليم وإهانة جسيمة، والتعويض بمقدار الخسارة، ومن الأوفق أن نزوجه بسعدى لتثبت براءته وتظهر صداقته، وليعلم القوم أنه مظلوم وبريء مما نسب إليه.
قال سعيد: إن فؤادا يحب عفيفة جدا والمحبة ضرورية في الزواج وبها البهجة والسعادة، وهي جالبة الراحة وكافلة السعادة، والذين يتزوجون على هذه السنة أسعد الناس حاضرا واستقبالا، وجميع أوقاتهم سعود وأفراح، وبانعدام المحبة ينعدم كل سرور، وقد رأينا فؤادا محبا عفيفة محبة فائقة يحتمل من أجلها كل مشقة وكريهة، ويستسهل كل صعب، فليس من العدل حرمانه من مطلوبه وإكراهه على الزواج بسعدى، وهو لا يحبها، وعلى سائر الأحوال فعفيفة وسعدى عند والدي في المعزة سواء، فكلتاهما ابنتاه ومنزلتهما واحدة، وهو أدرى بالتوفيق بينهما وجبر خاطر كل من الاثنتين.
وما أتم سعيد كلامه حتى دخل فؤاد، فحيا وسلم ثم جلس، فأخبره بما اجتمع عليه رأيهم فتهلل وجهه، وجعل يشكر، ويردد عبارات الثناء على الجميع، وعند ذلك زال الكدر من قلب عفيفة، وأشرق وجهها، وتلألأت أسرة جبينها بنور الحبور.
وقال همام لابن أخته يخاطبه: لك الهنا يا فؤاد، فعروستك ثمينة في آدابها وفضائلها، ومحاسن خلقها وهي كنوز تفوق كنوز الذهب قدرا وقيمة، وأنت أهل لكل مديح إذ برهنت بفعلك عن كرم أصلك وكرم سجيتك، وكنت أمينا صادقا حافظا عهد الصداقة، فلذلك عقدنا الرأي على تبليغك مأمولك، فيكون زواجك بمن تهوى جامعا لأسباب السعادة كافلا للتوفيق، فأنا أدعو لك بالهناء، ولمكافأة فعلك المبرور أوهبتكما هبة شرعية منزلي الذي أملكه في شارع الإسماعيلية فتقيمان فيه الزفاف وتسكنانه، وتجعلانه تذكار عهد مقدس جزاء الأمانة والصلاح والصداقة.
فهم فؤاد ليشكر فضل خاله فقاطع عليه غانم بقوله: مهلا أيها الشاب، فلك من وقتك السعة لتبدي عبارات الشكر على مهل، وكان تبرع همام على فؤاد بمنزله هيج في غانم السخاء، فأراد الفخار لنفسه، وأن يتبرع على ابنة أخته بشيء من ماله فقال: إن شريعة الحق تقضي على من تسبب بضرر أن يرده، وقد أسأت يا فؤاد فيك الظن بسماع الفتنة، فتجنيت عليك واعتديت، أما الآن فقد ظهر لي الحق، وتبينت ضلال القول وأقوال الوشاة، وخبث طوية الأعداء، فمن الواجب علي إصلاح ما أفسدت، فقد قبلت قبولا تاما واختياريا أنك تتزوج بابنة أختي، التي أخصص لها أبعدية في الريف تبلغ مائدة فدان من أحسن الأرض تربة وموقعا، فتستفيدان ريعها وتمرحان في رزقها الواسع وخيراتها الكثيرة.
فسمعت سيدة هذا القول بغاية التعجب، وكانت تظن غانما أبعد من أن يتخلق بأخلاق الكرام، وكانت تود وتفضل أنه لا يجود على عفيفة بشيء، فكل قصدها أن تزوج فؤادا بسعدى، ولكنها لم تجد مساغا للقول والتردد بعد أن رأت قبول الجميع، فاستخارت الله في الغنيمة الباردة من كف همام وغانم ترويجا لهذا الزواج، فإن فيما تبرعا به كفاية للإقامة في عيش رغيد، فمن أجل ذلك التزمت السكوت، فلم تفه بكلمة.
وقال سعيد بعد أن فرغ والده من الكلام: لا بد لي أن أهنئ نفسي بزوال الخصام وظهور براءة فؤاد وصداقة بنت عمتي له وعفتها، ولذلك فإني أهديها عربة فاخرة بخيلها وأدواتها فتجعلها للنزهة، وتستعيض عما فاتها من اللهو والحظ في سابقة الأيام، فنهض حينئذ فؤاد، وجعل يده بيد عفيفة، وابتدأ بتقبيل يدي والدته، ثم حيا الحضور بأبهى تحية، وشكر فضل المتفضلين وأثنى عليهم ثناء جميلا.
ثم ما انتهى من شكره حتى وقف خاله همام خطيبا فقال: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، قد قام فؤاد وعفيفة بعمل جليل، وبلغا النهاية في الأمانة والصداقة، فبلغهما الله المأمول وفوق ما كانا يرغبان، وللعمل الصالح أجر لا يضيع على صاحبه، فهو يعود عليه بالسعادة والإقبال آجلا كان أو عاجلا، فليت الشبان يقتدون بالقدوة الحسنة في زمان كثر فيه الفساد وقل الرشاد، فيعلمون فضل المحبة الصادقة الصحيحة على المحبة الكاذبة الفاسدة، أما كلامي فإليك الخطاب يا فؤاد وإلى عفيفة، فاعلما أن الزواج الذي قلتما عليه لهو أعظم أمر يقوم به الإنسان في حياته، فعليه النجاح والسعادة إن كان موفقا رشيدا، وعليه التعاسة والشقاء إن كان الغرض فاسدا، وقد عبر المتكلمون عنه بأنه اشتراك أدبي جسمي بين الرجل والزوجة؛ ليتقاسما مدى العمر أفراح وأتراح هذه الدنيا، وهو القول الصادق والحجة البالغة، وليس أضل سبيلا ممن يزعم أن الزواج عقد تجاري يرغب فيه للكسب والغنى، تالله إن من يتوهم ذلك لعلى ضلال مبين، وسوف يعلم من اختبر الأمر بنفسه حقيقة قولي؛ فيندم حين لا ينفعه الندم شيئا، فينبغي على الإنسان الراغب في الزواج أن يوسع في قلبه محلا للمحبة والميل، وأن يبعد عنه شهوة الطمع والشبق، فيتخذ له زوجة مهذبة مجملة بالفضائل والأدب، توافقه في الطباع والمشرب ليعيش سعيدا في قربها، ويرزق بالأولاد السعداء، فإن الأبناء أسرار الآباء بهم يقتدون ويتشبهون، ولا بد من العلم بأن الزواج يحمل صاحبه واجبات مهمة يقوم بها وأخصها أمانة الزوجين، فلو خرج أحدهما عن الأمانة فسد نظام العائلة وزالت النعمة عنها والسعادة، وقام الخصام بديلا عن السلام، ولعبت بالبيت أيدي الخراب والدمار. فأحمد الله أنك يا فؤاد وأنت يا عفيفة قد برهنتما على أمانة صادقة ومحبة خالصة، فتلك ضمانة تكفل سعادة الاستقبال ونجاح الأعمال، فأسأل المولى - جل وعلا - أن يحقق هذه الآمال، ويشمل ببركته ونعمته هذا الزواج، ويفيض عليه الخيرات، وأن يجعلكما قدوة لشبان هذا الزمان تفتخر بهم الأوطان.
Page inconnue