مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الملك لير
الملك لير
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
إبراهيم رمزي
مقدمة
أشخاص الرواية:
لير (Lear) :
ملك بريطانيا.
ملك فرنسا:
خاطب كورديليا.
دوق بورغانديا (Burgundy) :
خاطب كورديليا.
دوق كورنوال (Cornwall) :
زوج ريغان.
دوق ألباني (Albany) :
زوج غونوريل.
إيرل كنت (Earl Kent) .
إيرل غلوستر (Earl Gloucester) .
إدغار (Edgar) :
ابن غلوستر الشرعي.
إدموند (Edmumd) :
ابن غلوستر غير الشرعي.
كوران (Curan) .
رجل عجوز:
مستأجر أرض غلوستر.
أوزوالد (Oswald) :
قهرمان لدى غونوريل.
طبيب.
البهلول:
مضحك الملك.
ضابط:
في خدمة إدموند.
أمين في القصر:
في خدمة كورديليا.
رائد.
بعض خدم:
لكورنوال.
غونوريل (Goneril) :
ابنه الملك لير الكبرى.
ريغان (Regan) :
ابنة الملك لير الوسطى.
كورديليا (Cordelia) :
ابنة الملك لير الصغرى.
فرسان في حاشية الملك، ضباط، رسل، جنود.
مكان الحادثة : بريطانيا العظمى.
عهد الرواية : قبل المسيحية. «اعتمدت في النقل على طبعة أوكسفورد
Oxford
واستأنست بغيرها، وبترجمة دوفال
Duval
المتوجة.» الناقل، 1932.
الفصل الأول
المنظر الأول
في قصر الملك لير (يدخل إيرل كنت، وكنت غلوستر، وولده إدموند.)
كنت :
زعمت أن الملك أحب لدوق ألباني منه لدوق كورنوال.
غلوستر :
كذلك كان يخيل إلينا دائما، أما اليوم بعد إذ قسم المملكة، فإنك لا تدري أيهما لديه أكرم؛ ذلك أنه جعل الحصص والأنصبة متماثلة متساوية، حتى ليستحيل الخيار على أشد الناس تفحصا وانتقادا.
كنت :
أليس هذا ولدك يا سيدي؟
غلوستر :
كانت نشأته يا سيدي في كفالتي، ولطالما علت حمرة الخجل وجهي في اعترافي ببنوته حتى أصبح أديمه اليوم صلبا صفيقا؛ بيد أن لي يا سيدي بحكم الشرع ولدا يكبر هذا بعام أو يزيد قليلا، ولكنه مع ذلك لا يفضل هذا في تقديري. نعم إن هذا الغلام الخبيث قد تطفل إذ جاءنا قبل أن ندعوه، ولكن أمه كانت حسناء، ولا بد لي من الاعتراف به. أتعرف هذا السيد يا إدموند؟
إدموند :
لا يا مولاي.
غلوستر :
إنه مولاي لورد كنت. أذكره منذ اليوم على أنه صديقي الكريم.
إدموند :
إنني رهن خدمتك يا سيدي.
كنت :
يجب أن أحبك، وأرجو أن يزداد بك تعرفي.
إدموند :
وسأبذل جهدي يا سيدي لأكون أهلا لهذا الشرف.
غلوستر :
لقد كان مبعدا عن الوطن أبد تسع سنين، وسيعود كما كان كرة أخرى. أتى الملك! (يسمع صوت أبواق من الخارج إيذانا بقدوم الملك) . (يدخل الملك لير، والدوق كورنوال، والدوق ألباني، والأميرات: غونوريل، وريغان، وكورديليا، وفريق من الخدم يحمل أحدهم تويجا.)
لير :
اصحب إلينا أميري فرنسا وبورغانديا يا غلوستر.
غلوستر :
سمعا يا مولاي! (يخرج غلوستر وإدموند) .
لير :
ولنعلن نحن في أثناء انتظارهما أخفى ما نسر من أمورنا. أنلني تلك الخريطة. نعلن لكم، أيها السادة، أننا قسمنا مملكتنا ثلاثة أقسام، وأننا وطدنا العزم على أن نلقي هموم الحكم والتدبير عن عاتق الشيخوخة منا لنجعلها على مناكب الشباب ممن هم أقوى منا؛ حتى ندلف إلى الجدث خفافا. ولدنا صاحب كورنوال! وأنت يا ولدنا صاحب ألباني الذي لا يقل عن صنوه كرامة علينا، لقد صحت عزيمتنا على أن نذيع الآن بائنة بناتنا منا؛ حتى نتقي نزاع المستقبل من اليوم، وسيؤتى جوابهما الآن الأميران؛ صاحبا فرنسا وبورغانديا، اللذان يتنازعان حب ابنتنا الصغرى، وطال مقام الهوى منهما في بلاطنا. خبرنني يا بناتي، إذ عزمنا الآن أن نخلع عن أنفسنا الحكم وما نملك، ونطرح وراءنا هموم الدولة: أيكن فيما نقول أشد حبا لنا حتى نمنحها أوفى حظ تتقاضاه الفطرة، وتستأهله الجدارة من نعمتنا؟ غونوريل يا ابنتنا الكبرى تكلمي أنت أولا.
غونوريل :
مولاي، إني أحبك حبا لا يحيط به اللفظ، إنك لأحب إلي من النظر، ومن الدنيا والحرية، وأقوم عندي من كل قيم، وأثمن من كل نادر وثمين، بل لعمري لا يعدو حبك في نفسي حب الحياة محبوة بالنعمة والعافية، وبروعة الحسن والعزة. حبي إياك أبلغ ما وجد ولد لوالده، وأشد ما استشعر والد لولده، حب تتخاذل دون غايته ولائد النفس، ويعجز المنطق. أحبك حبا يقل إلى جانبه كل كثير.
كورديليا (لنفسها) :
ويح كورديليا ماذا تستطيع أن تصنع؟ تحب وتلتزم الصمت.
لير :
على كل هذه الأرضين بين هذا الخط وذاك بما تتضمن من ظليل الحراج وخصيب البراح، وبما فيها من أنهر فياضة بالنماء، ومروج مترامية الأطراف، بأمرنا تكونين السيدة، وتكون لأعقابك وأعقاب ألباني من بعدكما وقفا آبدا. وماذا تقول ابنتنا الثانية ريغاننا العزى - زوجة كورنوال - تكلمي.
ريغان :
إني لمصوغة من ذلك المعدن الذي صيغت منه أختي، وأزن نفسي بمعيارها، ولعمري إني لأجد أنها إنما تتلو صحيفة قلبي النقي، وتنضح بما فيه من الحب، وإن كانت قد قصرت عن مداه مني قصورا بالغا؛ فإني لأرى نفسي عدوا لكل مسرة تملك أعشار الحس من نفسي أن تستمتع بها، وأجدني أستمد معين السعادة كلها من حب مولاي وحده.
كورديليا (لنفسها) :
يا ويلتا! أتى دور كورديليا المسكينة، بل لا؛ لست مسكينة، إن حبي كما عهدت أبلغ من لساني.
لير :
ليكن لك ولذريتك من بعدك هذا الثلث الوافر من ملكنا البهيج، لا يقصر مداه، ولا تقل قيمته ولا مصادر مسرته عما أنعمنا به على أختك غونوريل. والآن يا بهجة النفس، أيتها الأخيرة من بناتنا، لا الأخيرة في محبتنا، والتي تجاهد كروم فرنسا، وأرسال بورغانديا لترتبط بوثاق من محبتها، ماذا تملكين من القول لتظفري بثلث أثمن مما ظفر به أختاك؟
كورديليا :
لا شيء يا مولاي.
لير :
لا شيء!
كورديليا :
لا شيء.
لير :
لا شيء من لا شيء! تكلمي مرة أخرى.
كورديليا :
وا أسفاه! ما أضعفني عن حمل قلبي إلى فمي! أحب جلالتك قدر ما تستوجبه بنوتي لك لا أكثر ولا أقل.
لير :
كيف ذا يا كورديليا؟! أصلحي قولك هونا ما لئلا يفسد عليك حظك.
كورديليا :
مولاي الكريم، إنك ولدتني وربيتني وأحببتني، فأنا أجزيك على هذه الفروض ما تستوجبه مني: أطيعك وأحبك وأجلك إجلالا. كيف تزوج أختاي، يا ترى، إذا صدق قولهما إنهما تقصران الحب عليك وحدك؟ أشفق يوم أتزوج أن يحمل السيد الذي تتناول يده عهد الخطبة من يدي نصف محبتي معه، ونصف خلة البر والرعاية مني. حقا لن أتزوج كما تزوج أختاي، فأقصر الحب على أبي.
لير :
أوينطق جنانك بما جرى على لسانك؟
كورديليا :
أجل يا مولاي الكريم.
لير :
أصغر سن ، وقسوة فؤاد!
كورديليا :
صغر سن يا مولاي، وصدق نقيبة.
لير :
ليكن الأمر كذلك، وليكن الصدق بائنتك مني. قسما بوهج الشمس المقدس، وأسرار «هيكات» والليل، وبكل أفاعيل الكواكب التي تملك الحياة والموت، لقد نزعت عنك ولايتي الأبوية، وبترت أواصر القربى بينك وبيني، وأسقطت حق الدم عليك، وأقصيتك منذ اليوم عن قلبي ونفسي.
ولعمري لن يكون صدري أعطف ولا أشفق، ولا أحن عليك، أنت التي كنت ذات يوم من بناتنا، منه على ذلك «السياذى» الضاري الذي يمزق أجساد أبنائه ليجعل من لحمهم مزدردا يملأ به جوفه.
كنت :
مولاي الكريم!
لير :
صمتا يا كنت، لا تلق بنفسك بين التنين وموضع نقمته، لقد كانت أحب بناتي إلي، وكنت وطنت النفس على أن تكون هجعة الشيخوخة مني بين ذراعيها. إليك عني، تواري عن نظري! لقد انتزعت منك القلب الذي أودعتك إياه، وارتضيت القبر مهجعي. ادعوا ملك فرنسا!
أليس في الجمع من يتحرك لأمري؟! وادعوا أمير بورغانديا. وأنتما أيها الأميران كورنوال وألباني، خذا فيما أخذتما من بائنة ابنتي هذا الثلث الشاغر فتقسماه بينكما. أما هي، فليكن صلفها الذي تزعمه صدق نقيبة بائنة لزواجها. عليكما معا أخلع سلطاني وعزتي، وكل ما يلحق بجلال الملك من المظاهر العالية. أما نحن فسنجعل مقامنا مظاهرة بينكما شهرا فشهرا، نحن ومائة من فرساننا نستبقيهم حاشية لنا تعولونهم عنا، سوى أننا سنحتفظ باللقب ومظاهر الملك والسيادة. أما السلطة والخراج وولاية سائر الأمور فهي لكما أيها الولدان المحبوبان، وإقرارا لذلك نزجي إليكما هذا التاج لتقتسماه بينكما. (يعطي التاج.)
كنت :
مولاي يا صاحب الجلالة، الذي ما فتئت أجله إجلالي لملكي، وأحببته حبي لوالدي، وأتبعه تبعي لسيدي، وأذكره في صلاتي ذكر الولي الكريم ...
لير :
لقد شد الوتر، وانحنت القوس؛ فاتق وجه السهم.
كنت :
ليقع سهمك حيث يقع ولو مزق نصله حيز قلبي، ليكن ل «كنت» ألا يحتشم إذا وجد مولاه تساوره الجنة. ماذا تريد أن تفعل أيها الشيخ؟
1
أتزعم أني أهاب في ولائي لك أن أرفع هامتي فأتكلم حين أرى ذوي البأس يطأطئونها ارتياحا إلى الملق والرياء؟! ألا إن صراحة النصح فرض على الشريف إذا انقاد ذو الجلالة للخطل. انقض قضاءك، واكبح بحكمتك جماحك. حياتي ضمينة صواب رأيي؛ فما حب صغرى بناتك إياك أهون الحب، وليس بخالي القلب من لا يجاوبك من وعائه رنين.
لير :
كنت! أمسك عليك حياتك وأقصر.
كنت :
حياتي ما عددتها أبدا إلا وديعة أغامر بها في النكاية بعداك؛ فما أشفق أن أفقدها اليوم وفي سلامتك ما يهيب بي.
لير :
اغرب عن العين.
كنت :
بل ارجع البصر يا لير، ودعني أبقى كعهدك بي مجلتى البصر الصادق من ناظريك.
لير :
أما وافلون.
كنت :
أما وافلون! أيها الملك، إنك لتهيب بآلهتك عبثا.
لير :
ويل للعبد الكافر! (واضعا يده على مقبض سيفه.)
ألباني وكورنوال :
أقصر يا مولاي.
كنت :
بل امض، اقتل طبيبك، واجمع أجرته إلى دائك الوبيل. انقض قضاءك وإلا فإني - ما تردد لي نفسي في الصدر - لا أكف عن الصياح بأنك تسيء إلى نفسك.
لير :
أصخ، أيها الكافر، أصخ نزولا منك على حكم الولاء. لقد حاولت أن تحملنا على نقض يميننا، وهو ما لم نجرؤ على اقترافه من قبل، ووقفت وقفة الصلف الجريء بين قضائنا وإمضائه، وهو ما لا تطيقه فطرتنا، ولا تقره كرامة منزلتنا، وإذ حق علينا أن نصون سلطاننا؛ فخذ الآن جزاءك: نمنحك خمسة أيام تهيئ لنفسك وقاءها من عنت الدنيا، وفي السادس تدير ظهرك عن مملكتنا، وترحل بغيضا عن أرضنا، فإذا كان اليوم العاشر فوجدنا جزعك المنبوذ في ديارنا؛ فلساعة رؤيتك ساعة منيتك. اذهب، أقسم بالمشترى، لا معقب لهذا القضاء.
كنت :
وداعا أيها الملك، إذا كان شأنك ما رأيت؛ فالقطيعة في مزارك، والحرية في غير ديارك. (إلى كورديليا)
ولتسبل عليك الآلهة رعايتها أيتها الفتاة الصالحة التي لا يعي قلبها إلا الحق، ولا ينطق لسانها إلا بالصدق. (إلى ريغان وغونوريل)
وعسى أن يأتي عملكما مصداق دعواكما العريضة، فيكون لما أزجيتما من كلمات الحب أثر يرجى. والآن أيها الأمراء، يقرئكم كنت تحية الوداع جميعا، ويأخذ سمته إلى بلد جديد يصوغ في قالبه جسده القديم (يخرج) . (نقر طبول وأبواق. يعود غلوستر مع ملك فرنسا، وأمير بورغانديا وأتباع.)
غلوستر :
مولاي! حضر صاحبا فرنسا وبورغانديا.
لير :
يا أمير بورغانديا، إليك أوجه الخطاب أولا؛ إذ جئت كما جاء هذا الملك منافسا في طلب ابنتي: خبرني ماذا يرضيك من البائنة معها على القدر الأقل، أو تقلع عن بغيتك؟
بورغانديا :
أيها الملك الأجل! لا أطمع في أكثر مما منحت، وما أنت بناقصه شيئا.
لير :
أيها الدوق النبيل، لما كانت ابنتنا كريمة علينا قدرناها في الجداء كذلك. أما اليوم فقد انحط ثمنها. ها هي ذي ماثلة لعينك، فإذا كان لك في هذه الصورة الضئيلة ما يستهويك، أو كان لك منها كلها ما يرضيك، لا يبين معها إلا الغضب منا والنقمة؛ فخذها إنها لك.
بورغانديا :
لا أحير جوابا.
لير :
بل تكلم، أتأخذها بما انطوت عليه من العيوب والنقائص، وما استوجبت منذ هنيهة من نقمتي وغضبي، فتاة لم يعد لها صديق، وعروسا لا يبين معها من والدها إلا اللعنة والهجر المعقود بالقسم الغليظ، أم تتخلى عنها؟
بورغانديا :
معذرة يا مولاي، لا خيار في مثل هذا الحال.
لير :
إذن فدعها يا سيدي؛ فوالذي خلقني لن تصيب الفتاة إلا ما ذكرت. (إلى ملك فرنسا)
أما أنت يا ملك فرنسا العظيم، فلن ترضى نفسي أن تتجنى عليك بما ينفر قلبك مني فأزوجك ممن استوجبت بغضائي؛ ولهذا فإني سائلك أن تصرف حبك عنها، وتولي وجهك قبلة أحق وأولى، ولا توله نضو شر كهذي يندى في ادعائها جبين الوالد خجلا.
فرنسا :
يا عجبا، كيف انقلبت هذي التي كانت منذ هنيهة أثمن قنية، وأطيب أحدوثة، وأغلى ما ادخرت في شيخوختك من عزاء، والأنفس الأجل لديك من أهلك، فتجنت في بعض الثانية التي مرت بنا جناية نكراء استوجبت أن تنزع عنها كل مطارف برك؟ لعمري لقد كان في حبك شائبة من العهدة، أو أن جنايتها قد تخطت حد المعهود في النكر، وهو ما يأبى العقل أن يقبله بغير آية قارعة.
كورديليا :
مولاي، إذا كان ذنبي إليك أنه قد أعوزني القول الزلق، وبدأ العجز مني في مضمار المداهنة والرياء، وأنا من صدق الأمر بحيث أحسن الفعل قبل أن أتعجل بالقول، سألت مولاي ذا الجلالة أن يعلن في الناس أني ما حرمت رضاه، ولا فقدت عطفه ونداه لجريمة اجترحتها، أو رذيلة اقترفتها، أو سيئة ارتكبتها؛ بل إنما كان ذلك لما يعوزني من أمر أراني بدونه أغنى، كوني بلا عين تطمع في كل ما تنظر، ولا لسان سريع إلى الجهر بغير ما يضمر. ولعمري إني ليزهيني فقدانه، وإن كان قد حرمني العطف والرضى.
لير :
ليت أني لم ألدك، ولا تبينت هذا الجحود منك.
فرنسا :
أهذا كل أمرها؟! أجنايتها نبو في فطرتها يحبس لسانها عن الإفصاح بما يكنه فؤادها؟ مولاي دوق بورغانديا، ما رأيك في هذه السيدة؟ لعمري ليس الحب حبا إذا شابه ما ليس منه. ها هي ذي إنسانة عاطلة لا مهر لها إلا ذاتها، ألك فيها هوى؟
بورغانديا :
مولاي الملك، إذا أنت أعطيتها الحصة التي اقترحتها أنت نفسك؛ فإني آخذ الآن بيد كورديليا، وأجعلها دوقة بورغانديا.
لير :
لا شيء معها. لقد أقسمت ولا نقض لليمين.
بورغانديا (إلى كورديليا) :
لقد أعذرت يا سيدتي، أضعت على نفسك بما جرحت أباك؛ فلا غرو أن يضيع عليك زوجك أيضا.
كورديليا :
صحبتك السلامة أيها الدوق. إن كانت عروض الدنيا كل ما ابتغيت من البناء بي؛ فلن أكون لك زوجة.
فرنسا :
كورديليا، أيتها الغانية، التي تلوح أغنى من اغتنى بما افتقرت، وأندر مقتنى بما نبذت، وأحب من أحب بما هجرت. إني لأنفس بك وبفضائلك؛ فأهرع لاقتنائك إذا كان حلالا أن التقط اللقية المنبوذة. سبحانك أيتها الآلهة! كيف شببت في قلبي من شبم زرايتهم بها نار حب يتضوع بالتجلة لها. ابنتك، أيها الملك، ابنتك المعطال التي ألقيت بها في طريق حياتي لألتقطها أو أنبذها، ستكون ملكة على نفسي، وعلى شعبي، وعلى ديار فرنسا الجميلة. لا، لعمري، لا تملك كل دوقات بورغانديا الحالبة الراوية أن تقوم درتي هذه المرتخصة الغالية. ودعيهم يا كورديليا وإن أساءوا. إنك راحلة عن وطنك إلى وطن أبر وأبقى.
لير :
خذها أيها الملك؛ لأنها لم تعد من بناتنا، ولا نريد أن تقع عليها بعد اليوم عيننا، فانصرفي إذن على غير كرامة منا ولا حب ولا بركة. هلم بنا يا دوق بورغانديا النبيل. (نقر طبول وأبواق. يخرج الجميع ما عدا ملك فرنسا وريغان وغونوريل وكورديليا.)
فرنسا :
ودعي أختيك يا كورديليا.
كورديليا (إلى أختيها) :
يا أثمن ما ادخر أبي! تودعكما كورديليا مغرقة العينين بالدموع، إني لأعرف ما انطوت عليه النفس منكما، ولكني أكره - إذ أنا أخت لكما - أن أسمي معايبكما بأسمائها. أكرما أبي، لقد استودعته من صدركما الحنان الذي ادعيتما، ولو أنني كنت من رعايته كعهدي بها لأنزلته من صدري مكانا أكرم، فالوداع.
ريغان :
لا تملي علينا واجبنا.
غونوريل :
علمي نفسك استرضاء مولاك الذي آواك صدقة منه وإحسانا. لقد أنكرت ما لأبيك عليك من حق الطاعة، فمن العدل أن ينكر عليك بائنتك وإقطاعه.
كورديليا :
ستنشر الأيام ما تطويان من المكر، وما كانت عاقبة الخديعة إلا الفضيحة والخسر. أرجو لكما حظا سعيدا.
فرنسا :
هلم يا كورديليا الحسناء. (يخرج ملك فرنسا وكورديليا.)
غونوريل :
أختي، لدي ما أحدثك به مما يهمنا كلتينا: أظن أن الملك يعتزم الرحيل من هنا في هذه الليلة.
ريغان :
بلا شك، سيرحل معك، وبعد شهر ينتقل إلى دارنا.
غونوريل :
أرأيت كيف أصبح في أخريات أيامه شديد التحول. إن الذي لاحظناه من تقلبه ليس بالأمر اليسير؛ فلقد كانت كورديليا أحب إليه منا، ولكن ما اعتراه من ضعف الحجى قد حمله على نبذها لأهون الهنات.
ريغان :
ذلك خور الشيخوخة حقا؛ بيد أنه لم يكن فيما مضى موفور العقل.
غونوريل :
بل لم يكن في خير أيام شبابه وأنضجها إلا متهورا نزقا، فأحر بنا أن نرتقب منه الآن قديم العيب، وما استحدثت أيام الشيخوخة فيه من التسخط والريب.
ريغان :
ولنتوقع من عنته وسورته مثلما لقي إيرل كنت حين نبذه ونفاه.
غونوريل :
الآن يستأذن منه ملك فرنسا في الرحيل، وستطول مراسم الوداع؛ فدعينا نتفق في غضون ذلك على خطة واحدة؛ إنه إذا ظل يستعمل حقه الملكي، وهو على ما علمت من تقلب الرأي والتردد، فأحر أن تنقلب علينا نعمته القريبة نقمة.
ريغان :
فلنفكر في الأمر مليا.
غونوريل :
ولنطرق الحديد وهو محمي. (تخرجان.)
المنظر الثاني
قصر الإيرل غلوستر (يدخل إدموند وفي يده رسالة.)
إدموند :
أنت، أيتها الطبيعة، إلهتي، لشريعتك وحدها خضوعي، لن أصغي إلا لصوت ضميري، ولن أترك نفسي فريسة عرف البشر وتقاليدهم؛ إذ يلزموني الفقر والحرمان بدعوى أن لي أخا يكبرني باثني عشر أو أربعة عشر هلالا. لماذا يدعوني الناس نغلا؟ ولماذا يرونني سقطا! على حين أني سليم القسمات، وافر الحجى، كامل التقويم، كما يكون كل سليل حرة. لماذا يسميني الناس نذلا! ويسمونني ميسم الخطية والنغولة! إدغار، أيها الابن الشرعي، لا بد لي أن آخذ أراضيك. إن محبة والدنا هي لولده إدموند غير الشرعي بقدر ما هي لولده إدغار الشرعي. نعت جميل قولهم «شرعي». رويدك أيها الشرعي، إذا بلغت هذه الرسالة غايتها، وصح ما أعددت من التدبير، فسيعلو إدموند الدخيل على أخيه الشرعي الأصيل، أنا على الدرب والدنيا مقبلة. قفي الآن أيتها الآلهة لأولاد الحرام. (يدخل غلوستر.)
غلوستر :
يا عجبا، ينفي كنت، ويرحل ملك فرنسا مغضبا، وملكنا يحتويه الطريق منذ الليلة بعد إذ نزل عن سلطانه، وارتضى أن يعيش من وظيفة مقدرة! كل ذلك يجري عفو نزعة جامحة. (إلى إدموند)
إدموند، ما وراءك؟
إدموند :
لا شيء إن شئت يا مولاي.
غلوستر :
لماذا تحرص على إخفاء هذه الورقة؟
إدموند :
لم يحدث جديد يا مولاي.
غلوستر :
وما هذه الورقة التي كنت تقرؤها؟
إدموند :
لا شيء مما يهم يا مولاي.
غلوستر :
لا شيء مما يهم! فما حاجتك بجهد نفسك في تغييبها في جيبك؟ إن كان لا شيء فاللاشيء لا يتطلب إخفاء. دعني أراها؛ إذ لم تكن شيئا فلن أكون في حاجة إلى مجهر لأتبين ما فيها.
إدموند :
أتوسل إليك يا مولاي أن تعفيني. هي رسالة لي من أخي إدغار لما أتم قراءتها؛ بيد أني أرى أنها مما لا يجمل أن تطلع عليه.
غلوستر :
أعطني الرسالة يا سيدي!
إدموند :
سيسوءك الأمر على الحالين؛ أبقيتها معي أو ناولتك إياها، فلا جناح علي، إنما هو على مضمونها الذي تبينته مما قرأته حتى الآن منها.
غلوستر :
أرنيها، أرنيها.
إدموند :
أرجو أن تكون حجة أخي في أمرها أنه قد كتبها على أنها مقالة لا خطاب، أو أنه أراد أن يعجم عودي.
غلوستر :
يقرأ: «إن ما يفرض علينا من الطاعة والتوقير للشيوخ جاعل حياة الشباب نكدة شقية، فهو يحبس عنا وسيلة النعمى من الثروة حتى تدركنا الشيخوخة فتعجزنا عن الاستمتاع بشيء منها. ولقد أخذت في هذه الأيام أحس وطأة هذا القيد الذي يحملنا عليه ظلم الشيوخ حمقا وبهتانا، وهو أمر لا تبقى عليه قدرة ركبت في طبيعة الظلم نفسه، بل خضوع نجري من قديم على سننه. فأرجو منك أن تأتي إلي لنتكلم في هذا الشأن مليا، وعندي أنه إذا أمكن أن يرقد والدنا إلى أن أوقظه كان لك نصف دخله ما عشت، ودمت لأخيك البار.» إدغار.
وي! مؤامرة! يرقد والدنا إلى أن أوقظه! كان لك نصف دخله! ولدي إدغار! أله أنامل تخط هذا الكلام، وقلب وعقل يصوره؟ متى بلغتك هذه الرسالة؟ من جاء بها إليك؟
إدموند :
لم يجئ بها أحد يا مولاي. هذا بعض مكر صاحبها؛ بل وجدتها ملقاة لدى كوة غرفتي.
غلوستر :
أواثق أنت أن هذا خط أخيك؟
إدموند :
لو كان الأمر يا مولاي خيرا ما ترددت أن أقسم لك إنه خطه. أما والأمر ما ترى فإني أتمنى لو أكون مخطئا.
غلوستر :
إذن فهو خط يده؟
إدموند :
خط يده يا مولاي؛ بيد أني أرجو ألا يكون قلبه قد ساير يده حين كتب.
غلوستر :
ألم يحاول من قبل أن يسبر غورك في هذا الشأن؟
إدموند :
لم يسبق له قط يا مولاي، ولكنه كثيرا ما كان يرى أنه إذا بلغ الأبناء سن الرشد، وتطاولت السنون على الآباء بالعجز، كان أخلق بالوالد أن يكون تحت ولاية ولده، وبالولد أن يتولى رعاية ثروته.
غلوستر :
ويل للشقي! ويل للشقي! هذا عين فحوى خطابه، يا للئيم الممقوت! يا للئيم الزنيم الوحشي! بل إنه لأنكر من وحشي. انطلق، ابحث عنه وائتني به، سأعتقله. يا له من لئيم بغيض! تدري أين هو؟
إدموند :
لست أدري قطعا يا مولاي! ولكني أتوسل إليك أن تنهنه من غضبك على أخي حتى يتاح لك أن تتبين دخيلة نفسه بنفسك؛ ليكون طريقك أسلم وأعذر. أما إذا أنت طالعته بشدة التعزير على غير يقين منك بما انتوى، فقد عرضت كرامتك للأذى، وقطعت بيدك نياط ولائه لك؛ بل لعمري إني لأرى أنه إنما كتب إلي ما كتب ليسبر غور ولائي، لا ليأتمر بك.
غلوستر :
أهذا حقيقة رأيك؟
إدموند :
إذا شاء مولاي أقمته حيث يتيسر له أن يستمع لما يجري بيني وبينه من الحديث في هذا الشأن، فيكون لك من سمعك شهيدا، ولن يعدو انتظارك هذه العشية.
غلوستر :
محال لعمري أن يكون الفتى من الشر بهذا القدر.
إدموند :
محال ولا ريب.
غلوستر :
أيكون من الجحود بهذا القدر لأبيه وهو يحبه حب الحنو كله؟ يا آلهة السماء والأرض! إدموند، اذهب في طلبه، وأدخلني - سألتك - في خلده، ودبر لي الأمر كما ترى؛ فإنه ليهون علي أن أتجرد من طريفي وتالدي ليستقيم لي رأي في شأنه.
إدموند :
سأذهب في طلبه على الفور، وسأدبر حيلتي بأحسن ما في الطوق، ثم أنذرك على الأثر.
غلوستر :
ليس فيما جرى منذ قليل من كسوف الشمس وخسوف القمر إلا نذير بما سيطالعنا من الويل والسوء. قد يملك علماء الطبيعة تعليل حدوثهما، بيد أن الطبيعة تجد نفسها مرزوءة على الأثر بعواقبها: يبرد الحب، وتسقط المودة، ويتنافر الإخوة، وتقوم الفتنة في المدن، ويجري العصيان في البلاد، والخيانة في القصور، وتنفصم العرى بين الوالد وولده. وفي ولدي الشقي برهان على ذلك. حقا إن في أمره لشاهدا على عقوق الولد لوالده، وإن في أمر لير إذ عامل ابنته بقسوة تنبو عنها سجية الأبوة لشاهدا على جحود الوالد لولده. لقد تقضت أيام سعادتنا، وما آن لها من عودة! فاليوم لا نسمع ولا نرى إلا مؤامرات ومراءاة، وإلا خيانة وعبثا فوق عبث، يصاحبنا في وعثاء رحيلنا إلى القبور. ابحث عن الوغد واستكشفه يا إدموند، وكن حصيفا، لن يضيع عليك في سبيل عملك شيء. وي! ينفي كنت الوفي الأمين! وجريمته الأمانة! يا للعجب! (يخرج.)
إدموند :
كذلك الحمق البالغ في هذه الدنيا، إذا أدبرت الدنيا عنا - وهو أمر أكثر ما يكون عفو عملنا - عزونا مصايبنا إلى الشمس والقمر والكواكب كأنما نحن لا نكون أوغادا إلا لزاما لفعلها، أو حمقى مجانين إلا طوعا لإرادتها، أو أشرارا ولصوصا وخونة إلا تبعا لسلطان أفلاكها، أو سكيرين مدمنين أو أفاكين أو مفسدين في الأرض إلا مكرهين بقدرة سياراتها، وكأنما كل ما ركب فينا من الشر إنما أنزلته في أنفسنا يد سماوية. إدغار! (يدخل إدغار.)
ها هو ذا داخل في حينه كما يجيء الختام الفاجع في الرواية الهازلة القديمة، فليكن شعار دوري الأسى مصحوبا بزفرة مخبول من أهل مارستان بدلام. وا حرباه! لقد كان ظلام هذا الكسوف نذيرا بما جرى من الانقسام والتفرقة. (يتغنى بأصوات متنافرة)
فا، صول، لا، مي!
إدغار :
ما هذا يا أخي إدموند؟ أي أمر خطير يشغل بالك؟
إدموند :
إني أفكر يا أخي في نبوءة قرأتها منذ أيام قليلة عن عواقب كسوف النجمين.
إدغار :
أتشغل بالك بمثل هذا؟
إدموند :
إن ما أنذر به المتنبئ من عواقبها قد وقع - وا أسفاه - تباعا، كوقوع الجحود بين أب وولده، وحدوث الموت والمجاعة في الناس، وانحلال عرى المحبة القديمة العهد، وذيوع النزاع في الدولة، وانتشار الكنود والعيب في ذات الملك والنبلاء، وسوء الظن بلا مقتضى، ونفي الأصدقاء وتشريدهم، وانتقاض الجنود، وانفصام رباط الزوجية ... وما إلى ذلك.
إدغار :
متى كنت من حزب المنجمين يا إدموند؟!
إدموند :
دعنا من هذا. متى رأيت أبي لآخر مرة؟
إدغار :
ليلة الأمس.
إدموند :
أجرى بينكما حديث؟
إدغار :
أجل قضينا ساعتين معا.
إدموند :
وهل افترقتما بسلام؟ ألم توجس منه جفوة في كلمة أو نظرة؟
إدغار :
كلا بتاتا.
إدموند :
راجع نفسك وتذكر، فلعلك قد أسأت إليه. وأتوسل إليك أن تجتنب لقاءه أبد أيام قلائل حتى تهدأ سورة غضبه، فإنه الساعة ساخط عليك سخطا لا يطفئ من أواره أن يوردك مورد الردى!
إدغار :
إنها لسعاية من واش أثيم.
إدموند :
هذا ما أخشاه، فأتوسل إليك أن تظل على تجنب لقائه حتى تتراخى ريح غضبه، وأرجو أن تأوي الآن إلى غرفتي لأسمعك من كثب كلام أبيك، أتوسل إليك أن تنصرف. خذ. هذا مفتاح غرفتي، وإذا سرت خارجها فاحمل معك سلاحا.
إدغار :
سلاحا يا أخي!
إدموند :
اسمع يا أخي، إني إنما أنصح لك بالأمثل، احمل سلاحا، فإذا وجدت أنه لا يراد بك سوء فقل إنني كذبتك، لقد خبرتك بما رأيت وسمعت، ولكني ترفقت في الرواية؛ بيد أن لا مثيل لها في نكرها وشناعتها. أتوسل إليك أن تنصرف.
إدغار :
أتوافيني بما يجد قريبا.
إدموند :
إني أعمل لك في هذه المهمة (يخرج إدغار)
أب سليم الطوية، وأخ نبيل تنبو فطرته عن السوء فلا يريبه ريب، أحر بحيلتي أن تركب مطية سذاجته إلى أبعد مدى. الطريق ممهد، والخطة واضحة؛ فلأصب الثروة بالحيلة إذا أنا لم أصبها بحق المولد. كل وسيلة جائزة ما أبلغتني المراد. (يخرج.)
المنظر الثالث
قصر دوق ألباني (تدخل غونوريل وأوزوالد.)
غونوريل :
أصحيح أن أبي ضرب وصيفي لشتمه مضحكه؟
أوزوالد :
أجل يا مولاتي.
غونوريل :
إنه لا ينفك يسيء إلي ليلا ونهارا. أراه في كل حين يهم بجريمة منكرة تزعجنا جميعا. لن أطيق صبرا على ذلك. ولقد أخذ فرسانه في الصخب والشغب، وأخذ هو نفسه يؤنبني على كل أمر يسير؛ ولذلك عولت ألا ألاقيه عند عودته من الصيد. قل: إني مريضة، وإذا أنت تراخيت عن أداء ما اعتاد من خدمتك، فإنك تحسن صنعا، إني متحملة عنك وزر ذلك.
أوزوالد :
لقد عاد يا سيدتي، إني أسمع صوت ركبه. (تسمع أبواق من الداخل.)
غونوريل :
أظهر له من عدم الاكتراث أنت ورفقاؤك ما شئتم. إني أريد أن أستثير بذلك غضبه، فإذا لم يرقه الحال فليرحل إلى أختي. إننا على اتفاق في هذا الصدد، فما نرضى أن يتحكم فينا. عجبا لهذا الشيخ الذي لم يعد يرجى منه خير! كيف يود أن يكون له من السلطة ما خلعه هو بيده؟! أما وربي إن الشيوخ ليرتدون أطفالا حين تخف أحلامهم، فأحر بهم إذا شذوا أن يعاملوا مثلهم بالردع كما يعاملون بالتدليل. تذكر ما أقوله لك.
أوزوالد :
طوعا يا مولاتي.
غونوريل :
وعاملوا فرسانه بغير رعاية، ولا يعنكم ما ينجم عن ذلك. خبر إخوانك بهذا فإني إنما أريد أن أثير شكواه من مسلككم حياله؛ ليكون لي من ورائها فرص انفض فيها ما في نفسي ليتعرفه، وإني لواثقة بنجاح تدبيري، وسأكتب على الفور إلى أختي لتنحو نحوي في معاملته. انطلق الآن لإعداد العشاء. (يخرجان.)
المنظر الرابع
بهو في نفس المكان (يدخل كنت متنكرا.)
كنت :
إذا أنا استطعت أن أستعير صوت غيري فأخفي معالم منطقي كما أخفيت مظاهري بهذي الثياب، فقد يتم لي النجح في الأمر الذي من أجله أتنكر. إيه يا كنت المنفي! إذا سنحت لك فرصة للخدمة حيث أنت مهدر الدم؛ فلعل مولاك الذي أحببته يعرف قدر ما ينطوي عليه قلبك من الولاء. (أبواق من الداخل.) (يدخل لير وفرسان وأتباع.)
لير :
لا أريد أن يطول انتظاري للعشاء لحظة، علينا به على الفور. (يخرج أحد الأتباع)
وي! من أنت؟
كنت :
أنا رجل يا سيدي.
لير :
ما وراءك؟ ماذا تريد منا؟
كنت :
ليس ورائي إلا ما ترى، رجل يخدم بالأمانة من يأتمنه، ولا يحب إلا التقي النقي، رجل لا يرضى عشرة غير العاقل الرشيد الذي لا يتكلم كثيرا، رجل يخشى أن يعاب عليه فعل، ولا يجرد السيف للقتال إلا إذا لم يكن له بد إلى ذلك، وهو فوق هذا تقي لا يصوم الجمعة ولا يأكل شيئا.
لير :
ومن أنت؟
كنت :
إنسان طاهر القلب فقير كالملك.
لير :
إذا كنت من الفقر وأنت من رعيته، ما هو من الفقر وهو ملك؛ فأنت في الحق معدم. ماذا تبتغي؟
كنت :
خدمة.
لير :
خدمة من؟
كنت :
خدمتك.
لير :
أوتعرف من أنا؟
كنت :
كلا يا سيدي؛ بيد أني أرى في وجهك ما أسميه باختياري مخيلة سيد.
لير :
وما هو هذا؟
كنت :
السيادة.
لير :
أية خدمة تستطيعها؟
كنت :
إني أحفظ السر، وأركب الخيل وأركض، غير أني رجل أتف الرسالة الطويلة في إعادتها، ولكني أنقل الرسالة القصيرة كما هي، وأؤدي من الأعمال كل ما يستطيع أداءه الرجل العادي، وخير ما في نشاطي.
لير :
ما سنك؟
كنت :
لست من صغر السن بحيث تملكني المرأة بصوتها الرخيم، ولا من كبرها بحيث يدلهني منها شيء. إني أحمل على منكبي ثمانيا وأربعين سنة.
لير :
اتبعني، سأعطيك خدمة، وإذا ظل حبي لك بعد العشاء كما هو الآن فستبقى معي أبدا ما ... العشاء - هو! - العشاء. أين غلامي؟ أين مضحكي؟ انطلق أنت، وهات البهلول هنا (يخرج أحد الأتباع) . (يدخل أوزوالد.)
يا هياه! أين ابنتي؟
أوزوالد :
حيت تشاء (يخرج) .
لير :
ماذا يقول الغلام؟ علي بذاك الغبي. (يخرج أحد الفرسان)
أين مضحكي؟ هو! كأني بالناس نيام. (يعود الفارس.)
ماذا؟ أين ذلك النذل؟
الفارس :
يقول يا مولاي إن سيدته منحرفة المزاج.
لير :
ولماذا لم يرجع إلي العبد إذ دعوته.
الفارس :
مولاي، لقد أجابني بصفاقة. إنه يأبى أن يعود.
لير :
يأبى!
الفارس :
لا أدري يا مولاي سر ذلك، ولكني أرى أن مولاي لم يعد يلقى من الرعاية ما اعتاد أن يلقاه. وإني لألحظ اليوم فتورا في الحفاوة، وجفوة في المعاملة، سواء من الأتباع والحشم، أو من الدوق نفسه، أو من ابنتك ذاتها.
لير :
أهذا ما ترى؟
الفارس :
أستميح مولاي العذر إذا كنت مخطئا؛ فإن من واجب الولاء لك ألا أحبس لساني إذا أوجست أن مولاي يساء إليه.
لير :
ما أنت إلا مذكري بما أوجست أنا نفسي، فلقد لحظت منذ أيام شيئا طفيفا من الإهمال عزوته إلى خلة التشكك من نفسي لا إلى مساءة مقصودة، غير أني سأتقصى الأمر، ولكن أين البهلول؟ إني لم أره منذ يومين.
الفارس :
إنه كاسف البال شديد الهزال منذ رحلت سيدتي الصغرى إلى فرنسا.
لير :
أعرض عن ذكر هذا. لقد تبينت ذلك حقا. اذهب أنت يا فتى (مشيرا إلى أحد الأتباع)
وقل لابنتي إني أريد أن أكلمها. (يخرج أحد الأتباع)
واذهب أنت فادع البهلول هنا (يخرج أحد الأتباع) . (يعود أوزوالد.)
هيا! أنت يا فتى، تعال هنا. أتعرف من أنا؟
أوزوالد :
أبو سيدتي.
لير : «أبو سيدتك؟» ويحك يا كلب، يا سافل، يا لئيم.
أوزوالد :
لست من ذلك في شيء يا مولاي، وأستميحك عذرا.
لير :
أتجرؤ يا وغد أن ترفع وجهك في وجهي (يضربه) .
أوزوالد :
لا أسمح لك أن تضربني يا مولاي.
كنت :
ولا لي أن أزلك عن مكانك برجلي أيها اللاعب بكرة القدم السافل (لاكزا إياه برجله) .
لير :
شكرا يا صاحبي لما فعلت من أجلي. لك عظيم حبي.
كنت :
انهض يا سيدي، انهض وانصرف، ستحسن بعد يومك قياس المدى وتعرف الفروق. اخرج من هنا، اخرج. أما إذا اشتهيت أن تقيس ظلك الثقيل على الأرض مرة أخرى فأنا منتظر، وإن تنصرف فهو خير لك. ألا تعقل يا سيدي؟ انصرف (يدفعه إلى الخارج)
هكذا.
لير :
شكري جزيل أيها الخادم البار. إليك هذا عربون أجرك مني (يعطي كنت نقودا). (يدخل البهلول.)
البهلول :
دعني آجره أنا أيضا. (يقدم طرطوره إلى كنت)
إليك طرطوري.
لير :
مرحبا بغلامي الظريف، كيف حالك؟
البهلول (إلى كنت) :
خير لك أن تأخذ عرف الحمق مني.
لير :
لم ذا يا بهلول؟!
البهلول :
لم ذا؟! لأنه يوالي رجلا لم تعد له كرامة. إذا لم تكن تعرف كيف تداور بابتسامتك مهب الرياح لم تلبث أن تجد نفسك منبوذا في العراء، مصابا بالزكام. دونك هذا الطرطور فالبسه. ويحك! إن هذا الإنسان (مشيرا إلى الملك)
قد شرد عنه اثنتان من بناته، وأحسن إلى الثالثة برغمه، فإذا شئت أن تتبعه، فحقيق بك أن تلبس طرطور المجنون. ويك عمي! يا ليت لي طرطورين وابنتين.
لير :
لم ذا يا بني؟
البهلول :
حتى إذا ما أعطيتهما كل ما أملك؛ احتفظت لنفسي بالطرطورين معا. هذا واحد أهبه لك، فألتمس الآخر من بنتيك.
لير :
حذار من السوط.
البهلول :
لا غرو! إن الحق جروة جديرة في نظركم أن لا تفارق وجارها وإلا ضربتموها بالسوط. أما سيدتنا السلوقية المخاتلة فتسمحون لها بالبقاء والاستدفاء بنار المواقد، وتستطيبون رائحتها الكريهة.
لير :
هذه خمشة أليمة لي.
البهلول :
سيدي، سأعلمك خطبة.
لير :
هاتها.
البهلول :
تنبه لها يا سيدي العم:
لا تبد للناس جميع مالك
ولا تبح بكل ما في بالك
أو تقرض الصاحب كل مدخر
ولا تقامر بسوى القدر الهدر
ولا تصدق كل قول تسمعه
واركب ولا تمش إلا ما تزمعه
فإن تكن بحكمتي ضنينا
فعشرتاك تكثر العشرينا
كنت :
ليس في هذا شيء يا بهلول.
البهلول (إلى كنت) :
فهو إذن أشبه بكلام المحامي الذي لا تؤدي إليه أجرا. إنك لم تأجرني عليه. عمي العزيز، أتستطيع أن تستفيد شيئا من لا شيء؟
لير :
محال يا بني. لا يمكن أن يستفاد شيء من لا شيء.
البهلول (إلى كنت) :
أتوسل إليك أن تخبره أن هذا اللاشيء هو ما سيصيب من إيجار أراضيه وضياعه. إنه يأبى أن يصدق البهلول.
لير :
بهلول مر الكلام.
البهلول :
أتعرف الفرق يا ولدي بين البهلول المر والبهلول الحلو؟
لير :
لا يا ولدي. خبرني.
البهلول :
دع الرجل الذي أشار عليك أن تتجرد مما تملك يقف بجانبي، أو قف أنت بجانبي نيابة عنه؛ عندئذ يتبين لك البهلول الحلو من البهلول المر.
فأما البهلول الحلو فهو الواقف في ثوبه المرقع، وأما الآخر (مشيرا إلى الملك)
فهناك.
لير :
أتعني أنني مجنون يا غلام؟
البهلول :
لقد نزلت لغيرك عن سائر ألقابك! أما هذا اللقب فقد ولدت به.
كنت :
ليس كل أمر هذا الغلام جنونا يا مولاي.
البهلول :
لا وربي لا، لم يرض السادة وعظماء الناس أن يتركوا الجنون لي وحدي، بل لو أعطيت رخصة باحتكار الجنون لنفسي لطلبوا لأنفسهم فيه حصة، وكذلك السيدات؛ فإنهن يأبين أن يكون كل الجنون لي؛ ولذلك تراهن يهبشن لأنفسهن منه قطعا. عمي، أعطني بيضة أعطك تاجين.
لير :
عن أي تاجين تتكلم؟!
البهلول :
عن تاجي البيضة إذا أنا شطرتها نصفين، ثم أكلت لبهما. أما إذا أنت شققت تاجك في منتصفه، وجدت بالشقين معا؛ فإنك تكون كمن حمل حماره فوق ظهره في الوحول ليضحك الناس عليه. لا لم يكن في تاجك الأصلع شيء من العقل يوم خليت تاجك الذهبي. إذا كان كلامي هذا كلام مجنون فاضربوا بالسوط من يراه كذلك.
قل للمجانين ضاعت
أرزاق أهل المجون
أهل العقول نراهم
قد أسرفوا في الجنون
ضلوا السبيل وشذوا
فساء ما يعملون
وصارت الناس طرا
من فعلهم يضحكون
لير :
متى أغريت بالغناء يا شيطان؟
البهلول :
أغريت به منذ أن رأيتك تتخذ من بنتيك أما؛ فإنك حين أعطيتهما عصاك، وأزحت عنك سراويلك ليضرباك (مغنيا):
أطلقت من عينيهما دمع الفرح
وهجت بي الغناء من فرط الترح
حزنا على ملك رشيد هزلا
حتى غدا في البلهاء مثلا
أتوسل إليك يا عمي أن تأتيني بمعلم يعلمني الكذب؛ إني أود أن أكذب.
لير :
إذا أنت كذبت أيها الوغد أمرت بجلدك.
البهلول :
يدهشني ما بينك وبين بناتك من صلة؛ فهما تنذراني بالجلد إذا صدقت، وأنت تنذرني بالجلد إذا كذبت. وقد أجد السوط فوق ظهري إذا أنا سكت. ولعمري إني لأشتهي أن أكون غير من أنا، ومع ذلك فإني أكره أن أكون مثلك؛ فقد خلعت عقلك عن عارضيك حتى لم يبق بينهما شيء. وها أنا ذا أرى أحد الشطرين قادما. (تدخل غونوريل.)
لير :
ماذا أرى يا ابنتي، ما وراء تلك العبسة؟ إني أراك على هذا الحال منذ أيام!
البهلول :
لقد كنت على أحسن حال يوم لم تكن تأبه لعبستها. أما اليوم فأنت صفر لا قدر له. أنا أحسن منك حالا. إني بهلول القصر. أما أنت فلا شيء. (إلى غونوريل)
أجل سأحبس لساني. هكذا يأمرني وجهك وإن لم تتكلمي. هوس:
من ليس يبقي كسرة من يبسه
أو هنة لغده من أمسه
لضيق صدر فيه أو لمسه
لا بد أن يحتاجها لنفسه
ويلطم الخد لفرط يأسه (مشيرا إلى الملك)
انظروا، هاكم سنبلة ألقت حبها.
غونوريل :
سيدي، ليس بهلولك هذا الذي تلقي له الحبل على الغارب فيقذع الناس بلسانه فذا بين أتباعك الوقحاء الذين لا يقصرون لحظة عن المناكدة والمناقرة، ويثيرون صخبا كبيرا، وضجيجا لا يطاق. ولقد أملت يا سيدي إذ أنهي إليك الأمر أن أجد منك نصفة. أما الآن فإني أوجس لما أغرقت فيه أنت نفسك من القول والفعل أنك مغريهم على هذا الدأب، ومستحثهم عليه برضاك. فإن كان الأمر كذلك؛ فلن يفوتنا تعزيرك على هذه الإساءة، وأن نتخذ من الوسائل ما قد يكون في ردعك به إساءة إليك لولا أن مصلحة الدولة تقتضيه، أو يوجب علينا ملامة اللائمين لولا أن الضرورة تدعو إليه، وتراه وسيلة حكيمة.
البهلول :
أنت تعلم يا عمي حكاية العصفور الذي كان يطعم فرخ الغراب، فلما كبر الفرخ جزى العصفور على جميله بقطع عنقه! ها نحن هؤلاء! لقد انطفأ السراج وصرنا في ظلام.
لير :
أأنت ابنتنا؟!
غونوريل :
ألا ليتك يا سيدي تستعمل الحكمة التي أعلم أنك أوتيتها، وتنصرف عن ترهات النزق التي تستحيل بها حقيقة نفسك في هذه الأيام.
البهلول :
ألا يدري الحمار متى تجر المركبة حصانها؟ هوب. جوج. إني أحبك.
2
لير :
أفي الجمع من يعرفني؟ ليس هذا الذي ترون لير؛ ألير يمشي هكذا ويتكلم هكذا؟ أين عيناه؟ أم أن حجاه يؤذن بالزوال؟ أم أن قواه يغشاها الخمود؟ أم أن ... وي! يقظ أنا؟ محال. هل فيكم من يستطيع أن يخبرني من أنا؟
البهلول :
خيال لير.
لير :
أريد أن أتبين ذلك؛ فإن يقين العلم والعقل يحاول أن يخبرني كذبا أني أعقبت بناتا.
البهلول :
وسيعلمن أباهن كيف يطيع.
لير :
ما اسمك أيتها الغادة الحسناء؟
غونوريل :
هذه الدهشة يا سيدي بعض ترهاتك الطريفة؛ بيد أني أرجو منك أن تسمع القول، وتفهم القصد على حقيقته. جدير بك إذ أنت شيخ موقر أن تكون على شيء من الحكمة، إن لك من الحاشية مائة من الفرسان والأتباع، ليس فيهم غير العابث والفاجر والجريء المناقر، حتى أصبح بلاطنا بسوء ما سلكوا كالخان اللجب، وكأني به لذيوع النهامة منهم والرذيلة حانة أو ماخور، لا قصر لأمير موفور الكرامة. ولعمري إن المعرة نفسها لتهيب بنا طالبة منا علاجها على الفور؛ فلتكن مشيئتها إذن، ولتنفذها أنت بيدك، وإلا ألزمناك سؤلها؛ ذلك أن تنقص من حاشيتك، على أن يكون من يبقى منها في خدمتك نفرا من رجال أليق بسنك، وأعرف بأنفسهم وبك.
لير :
أيتها الظلم! والشياطين! أسرجوا لي الخيل! ادعوا حاشيتي برمتها. أيتها النغلة السافلة! لن أقلق لك بالا؛ إن لي بنتا سواك.
غونوريل :
إنك أخذت تضرب عشيرتي، وأخذت عصبتك الشكسة تتحكم فيمن هم خير منها. (يدخل ألباني.)
لير :
ويل لمن يندم، ولات ساعة مندم. (إلى ألباني)
ها! سيدي، أنت هنا؟ أوتلك مشيئتك؟ تكلم يا سيدي، أعدوا ركابي. أيها الجحود! أيها الشيطان الذي قد قلبه من صفوان! إنك لأبشع منظرا في العين من مارد اليم يوم تتكشف عنك قلوب الأبناء.
ألباني :
هدئ روعك يا سيدي.
لير (إلى غونوريل) :
أيتها الحدأة الممقوتة، إنك لكاذبة، حاشيتي من صفوة الرجال، قلوبهم عامرة بالفضائل النادرة، يعرفون شريعة الواجب ويرعونها، يحرصون كل الحرص على شرفهم أن تصيبه وصمة بأهون الإساءات! كم كنت من كورديليا بشعة في عيني، حتى لقد هشمت كياني كما تفعل آلة التعذيب بالأبدان! واعتصرت ماء حبها من قلبي، وأعقبته فيضا من المرارة. لير! لير! (يضرب رأسه)
اقرع هذا الباب الذي أدخل الحمق والجنون، وأخرج الرشد والحجى. هلم! هلم أيها الفرسان، فلنرحل.
ألباني :
إني بريء يا مولاي؛ أجهل كل الجهل ما استفزك.
لير :
قد يكون الأمر كذلك يا سيدي، أصيخي أيتها الطبيعة أصيخي، واسمعي أيتها الآلهة الكريمة، ردي قضاءك إن كنت قدرت لهذه المخلوقة أن تثمر، ألقي في أحشائها العقم، ويبسي من بدنها جوارح النماء، ولا تخرجي من بدنها المشئوم طفلا يسعدها؛ فإن كان قد قدر لها أن تفرخ فاخلقي ولدها من خثر الدم؛ ليشب مسخا، ويحيا كنودا، ويكون لأمه نقمة دائمة، ويغضن عقوقه جبين الشباب منها، ويحفر في خدودها من أثر البكاء مجاري وأخاديد، ويجعل مظاهر عنايتها به، ومشاهد حبها له أضحوكة للناس وزراية؛ عسى أن يعرف قلبها أن عض الثعبان الأرقم أهون إيلاما للنفس من جحود الأبناء. أفسحوا أفسحوا (يخرج) .
ألباني :
يا أيتها الآلهة التي نعبدها، من أين تأتي هذا؟
غونوريل :
لا تضن بالك بهذا ، دع ما انطوت عليه فطرته من النزق تجمح ما تشاء فيما أفسحت له شيخوخته من التخريف. (يعود لير.)
لير :
ماذا؟! خمسون من أتباعي يقطعون عني بنبرة واحدة ولما ينقض خمسة عشر يوما!
ألباني :
ماذا جرى يا سيدي؟
لير :
سوف أخبرك. (إلى غونوريل)
حياة وموت! إني ليخجلني أن يكون لك من القدرة ما تزعزعين به رجولتي حتى لتنساب من عيني هذه الدموع السخينة التي لا تستحقينها، معلنة أنك تملكين إذلالي. لتعبث بك الريح الحاصبة، والدجن العابسة، ولتخترم جسدك لعنة من أبيك بجراح لا تندمل تصيب كل حس منك وجارحة. وأنت أيتها العين الحمقاء! إذ أنت بعد اليوم أطلقت من مآقيك دمعة؛ فلأخرجنك من وقبك، ولألقين بك فيما تحدرين من مائك لتجبلي به الثرى. واعجبا! أكذا بلغ الحال! لا بأس، لم يزل لي ابنة أخرى، أوقن حق اليقين أنها بارة، وأنها ستنزلني منزلة الراحة لديها، وأنها حين تسمع ما جرى منك ستسلخ بأظافرها وجه الذئبة منك ... وسترين أني سأسترد كيان الملك الذي زعمت أنني نزلت عنه إلى الأبد. لقد عالنتك، وسترين. (يخرج لير وكنت والأتباع.)
غونوريل :
أرأيت ذلك يا سيدي؟
ألباني :
لا يملك علي صوابي فرط حبي إياك يا غونوريل حتى ...
غونوريل :
كفى، هدئ روعك. أوزوالد، أوزوالد، هوه! (إلى المضحك)
وأنت أيهذا الذي أرى فيه من الخبث أكثر مما فيه من الدعابة، الحق بمولاك.
البهلول :
عمي لير، عمي لير، استأن وخذ البهلول معك.
إذا الثعالب صيدت
أو البنات عققنه
فهات حبلا متينا
وشد أعناقهنه
واخنق ولا تردد
فالخنق أحرى بهنه
ذياك عرفي فبعه
إن يكف أو لا فقرنه (يخرج.)
غونوريل :
نعم ما أشاروا به على هذا الرجل! مائة فارس! حقا إنه لأحوط وأسلم أن تكون له عدة جاهزة من مائة فارس مسلحين مدرعين، حتى إذا رأى حلما، أو سمع طنينا، أو خال خيالا، أو تلقى شكاية، أو ألقيت في روعه وشاية؛ استطاع أن يعزز حمق شيخوخته بسلاحهم، ويجعل حياتنا في قبضة يده. أوزوالد، أين أنت؟
ألباني :
أراك قد أوغلت في الخوف!
غونوريل :
هذا خير من أن أوغل في الطمأنينة. دعني أتقي الشر الذي أتوجسه بدلا من أن أعيش في فرق منه. إني أعرف خليقة أبي، ولقد كتبت إلى أختي أنبئها بما نم عنه لسانه، فإذا هي آوته هو وفرسانه المائة بعدما أبنت لها خطل ذلك ... (يعود أوزوالد)
ما وراءك؟ أكتبت الرسالة إلى أختي؟
أوزوالد :
أجل يا مولاتي.
غونوريل :
خذ بعض رفقائك وانطلقوا على ظهور الخيل إلى أختي، وأبلغها مخاوفي كلها، وزد عليها من عندك ما ترى تعزيزا لها. انطلق وعد إلينا سريعا. (يخرج أوزوالد)
لا، لا يا مولاي، لست ألومك على لين عريكتك، وما تجنح إليه من الهوادة معه، ولكني أستميحك المعذرة، أراهم أجنح إلى وصمك بخطل الرأي منهم إلى امتداحك لدعتك.
ألباني :
لا أدري قدر ما يمتد إليه بصرك، ولكن في الأمور ما نفسد الحسن منها إذا هممنا أن نزيده حسنا.
غونوريل :
بل لا ...
ألباني :
لا بأس، لا بأس. ستبدي لنا الأيام.
المنظر الخامس
ساحة أمام قصر ألباني (يدخل لير وكنت والبهلول.)
لير :
تقدمنا أنت بهذه الرسائل إلى مدينة غلوستر، وإياك أن تخبر ابنتي بشيء دون أن تسألك عنه بعد إذ تقرأ الرسالة. أطلق لجوادك العنان وإلا وصلت قبلك.
كنت :
لن يستقر لي جنب يا مولاي حتى أبلغ هذه الرسالة. (يخرج.)
البهلول :
إذا كان عقل الرجل في قدميه، أفلا يكون عرضة لقروح البرد؟
لير :
بلى يا غلام.
البهلول :
تهلل إذن ولا تبتئس؛ إن عقلك لن يسير في حذائك.
لير :
ها، ها، ها.
البهلول :
وسترى ابنتك الأخرى تعاملك على شاكلتها. نعم، إن هذه من تلك كالتفاحة البرية من التفاحة الأخرى؛ بيد أني أعرف ما أعرف.
لير :
وماذا تعرف أنت يا غلام؟
البهلول :
أعرف أن بين طعم هذه وتلك من الفرق ما بين التفاحة البرية والتفاحة البرية، أتعرف لماذا ركب الأنف في وسط الوجه؟
لير :
كلا.
البهلول :
ليكون للإنسان على كل جانب منه عين، حتى إذا لم يستطع أن يعرف الشيء بالشم أدركه بالبصر.
لير (مشغول الفكر) :
لقد ظلمتها ...
البهلول :
أتعرف كيف يصنع القوقع بيته؟
لير :
كلا.
البهلول :
ولا أنا، ولكني أعرف لماذا يكون للقوقع بيت.
لير :
لم؟
البهلول :
ليخبئ فيه رأسه، لا ليعطيه لبناته ويترك قرنيه بغير وقاية.
لير :
سأنكر طبيعتي وأثأر. كيف تسيء إلي أنا الأب البار؟ أجيادي على استعداد.
البهلول :
ذهب حميرك لإعدادها. لحكمة بالغة كانت الكواكب السبعة سبعة لا أكثر!
لير :
أحكمتها أنها ليست ثمانية؟
البهلول :
أجل، لو كنت بهلولا لكنت من خيرة البهاليل.
لير (غارقا في التفكير) :
ما أفظع نكران الجميل! أأعطيت ما أعطيت لأستعيده بالقوة؟
البهلول :
لو أنك كنت مضحكي أيها العم؛ لجلدتك لأنك شخت قبل أوانك!
لير :
كيف ذلك؟
البهلول :
ما كان يحسن بك أن تشيخ قبل أن يكمل عقلك.
لير :
أواه! ردي الجنون عني أيتها السماء الرحيمة، لا تدفعي بي إليه، وأبقي على النفس سكينتها، لا أطيق أن أصبح مجنونا ... ويحك! (يدخل أحد الأمناء)
الجياد مهيأة؟
الرجل :
أجل يا مولاي.
لير :
هلم يا غلام. (يخرجون.)
الفصل الثاني
المنظر الأول
صحن في قصر الإيرل غلوستر (يدخل إدموند وكوران متلاقيين.)
إدموند :
لك الصون يا كوران.
كوران :
ولك يا سيدي. لقد كنت الآن مع أبيك وآذنته بأن دوق كورنوال ودوقته ريغان سينزلان في ضيافته.
إدموند :
ما سر هذا يا ترى؟
كوران :
هذا ما لا أدريه. أبلغتك الإشاعة السائرة، أعني الأخبار التي يتهامسون اليوم بها؟
إدموند :
لم يبلغني شيء. بحقك خبرني ما هي؟
كوران :
ألم تسمع باحتمال وقوع القتال وشيكا بين دوقي كورنوال وألباني؟
إدموند :
لا شيء من هذا بتة.
كوران :
سيأتيك نبأ ذلك في حينه. سلام عليك يا سيدي. (يخرج.)
إدموند :
الدوق هنا الليلة! هذه فرصة طيبة، بل إنها لفرصة الفرص، حادثة ميمونة تندمج في وشيجة تدبيري. لقد رصد أبي العيون للقبض على أخي، وبقي علي أمر احتيال واحد يتطلب الإنجاز على الفور. فيا آلهة السعد والتوفيق، كوني معي. أخي، كلمة! انزل أخي، كلمة! (يدخل إدغار.)
أبي يرقب ظهورك، فاهرب من هذا المكان على الفور، لقد أفشى أحدهم إليه أنك مختبئ هنا؛ بيد أن الليل معوان لك على الفرار. ألم يتعجل لسانك بمذمة في كورنوال؟ إنه قادم الآن إلى هذا القصر على جناح السرعة في هذا الليل ومعه ريغان. ألم تقل شيئا مطلقا عن حزبه في مناهضته دوق ألباني؟ تذكر.
إدغار :
أؤكد لك لم أتفوه بكلمة.
إدموند :
إني أسمع وقع أقدام أبي قادما. معذرة، لا بد لي - لحسن السبك - أن أجرد سيفي عليك، فجرد أنت سيفك أيضا، وتظاهر بالدفاع عن نفسك، وسايف جيدا. سلم نفسك وتعال في حضرة أبيك. نورا! نورا! هو هنا. فر أيها الأخ فر. المشاعل، المشاعل! أجل. هكذا الوداع. (يخرج إدغار.)
إذا أنا أسلت شيئا من دمي أثبت لأبي أني كنت ممعنا في قتاله. (يجرح نفسه في ذراعه)
لقد رأيت في السكارى من يفعلون بأنفسهم أكثر من هذا وهم عابثون، أبي! أبي! قف. أقصر. أما من غياث؟! (يدخل غلوستر وخدم معهم مشاعل.)
غلوستر :
أين الوغد يا إدموند؟
إدموند :
لقد كان واقفا هنا في الظلام، والسيف مسلول في يده يتلو تعاويذ الشر، ويهيب بالقمر أن يكون في عونه.
غلوستر :
ولكن أين هو؟
إدموند :
انظر يا سيدي، إن دمي يسيل.
غلوستر :
أين الوغد يا إدموند؟
إدموند :
فر من هذه الناحية يا أبي لما ضاقت به كل حيلة عن ...
غلوستر :
تعقبوه. هو! اذهبوا في أثره. (يخرج بعض الخدم)
عم ضاقت به الحيلة؟
إدموند :
عن أن يغريني بقتل فخامتك، ولما ذكرت له أن الآلهة المنتقمة تبعث رعدها غضبا على من يهم بقتل أبيه، وأخذت أبصره بما بين الأبناء والآباء من أمشاج متينة الأوصال، وتبين أني إنما أقف دون غرضه المنكر وقفة الإباء والمقت الشديد؛ وثب علي والسيف مصلت في يده، وطعن جسمي الأكشف، فوخز ذراعي، ولكنه فر على حين فجأة، ولست أدري أكان ذلك لما رأى من جيشان نفسي بالغضب عليه، وتحفزي لقتاله، مستبسلا في سبيل الحق، أم كان ذعرا مما أحدثته من اللغب والضجيج؟
غلوستر :
دعه يفر نازحا أبعد المدى، فلن يبقى في هذه الأرض ناجيا بنفسه، وما إن يقبض عليه حتى يلقى على الفور حتفه. الليلة يأتي إلى هنا سيدي وزعيمي ومولاي، الدوق صاحب كورنوال، وسألتمس منه الإذن فأعلن في الديار أن من يجد ذلك الوغد الضاري، ويقبض عليه ليلقى جزاءه العادل؛ يستوجب شكرنا له، وأن من يئوه متسترا عليه يكون جزاؤه القتل.
إدموند :
لما حاولت أن أصرفه عن عزمه، وألفيته مصرا على المضي فيه، أنذرته مغضبا بكشف أمره، فأجاب: «أتزعم أنت، يا ابن الفاحشة المعدم المحروم، أني إذا وقفت أكذب دعواك كان في الناس من يثق بقولك، فيظن فيك الخير والفضيلة ويقرك؟ محال. كل ما أنكره من دعواك، وهو ما لا بد أن يكون حتى ولو أبرزت خط يدي بعينه، سأعزوه كله إلى رأيك وإغرائك، وتبييتك وائتمارك الأثيم. ولعمري إنك لترمي الناس بالحمق جميعا إذا هم لم يجدوا فيما تفيد من وراء موتي محفزا قويا، ودافعا شديدا للعمل على مناله.»
غلوستر :
ويل للوغد العنيد، أينكر رسالته؟ محال أن يكون هذا ولدي. (أبواق من الداخل)
هاكم أبواق الأمير. لا أدري فيم أتى، ولكني سأقفل كل مرفأ حتى لا يفلت الوغد من يدي، وأحر بالدوق أن يجيب سؤلي في هذا. وسأرسل صورته في كل ناحية حتى تستعرفه المملكة برمتها. أما أنت أيها الولد البار، والابن الحقيقي، فسأتخذ الوسيلة لأجعلك أهلا لوراثة أرضي. (يدخل كورنوال وريغان وأتباع.)
كورنوال :
كيف ذا أيها الصديق النبيل، منذ حضرت هنا - ولما يمض علي ما لا يكاد ينعت بقولي الآن - سمعت أنباء غريبة؟!
ريغان :
إذا صدق الخبر؛ فأكبر نقمة تنزل بالمجرم الآن تكون صغيرة. كيف حالك يا سيدي؟
غلوستر :
آه يا مولاتي، يا مولاتي، لقد تفطر قلبي. تفطر.
ريغان :
أحقا أن ولدك انتوى قتلك؛ إدغار حفيد أبي الذي اختار له اسمه الذي يحمله؟
غلوستر :
آه يا مولاتي، يا مولاتي، كم أتمنى لو أستطيع أن أنكر الأمر لما يعروني من الخجل بسببه!
ريغان :
ألم يكن يرافق أولئك الفرسان الفجرة الذين يسيرون في ركاب أبي؟
غلوستر :
لا أدري يا مولاتي. شنيع! شنيع!
إدموند :
بلى يا مولاتي، لقد كان من هذه الشاكلة.
ريغان :
لا عجب إذن أن يكونوا قد أعدوه بسوئهم. إنهم هم الذين أوعزوا إليه أن يقتل أباه لتكون ثروته غنيمة يستمتعون بتبديدها. لقد وقفتني أختي هذه العشية على حقيقة حالهم، ونصحت لي ألا أبقى في منزلي إذا هم آووا إليه.
كورونوال :
ولا أنا - وحقك - يا ريغان. إدموند، بلغني أنك أديت لأبيك خدمة بنوية عالية.
إدموند :
بعض حقه علي يا سيدي.
غلوستر :
أجل، إنه فضح دسيسة الوغد، وأصيب بهذا الجرح الذي ترى حين كان يحاول القبض عليه.
كورنوال :
أأرسلت تتعقبه؟
غلوستر :
أجل يا مولاي.
كورنوال :
إذا أدرك لم تعد تخشى أذاه، دبر أمرك على ما يروق لك من جاهي وسلطاني. أما أنت يا إدموند وقد ظهر لنا من نبلك وبرك ما يعلي قدرك لدينا؛ فقد تخذناك لنا، سنكون في حاجة شديدة إلى رجال يركن إليهم في مثل هذه العظائم، وأنت أول من نغتنم.
إدموند :
سأخدمك يا سيدي خدمة إخلاص.
1
غلوستر :
شكرا لمولاي على هذا الجميل الذي يسديه لولدي.
كورنوال :
إنك لم تعرف بعد سبب حضورنا لزيارتك.
ريغان :
في غير وقت زيارة، مختلجين صدر الليل إليك. إنما هي شئون ذات بال تستوجب منا أن نستنير فيها برأيك يا سيد غلوستر النبيل. لقد أرسل أبي إلي رسالة، وكذلك أرسلت أختي، وكلتاهما تتضمن ذكر شقاق وقع بينهما، فرأيت أن أجيب على الرسالتين وأنا بعيدة عن قصري! والرسل الآن ينتظرون جوابي لينطلقوا به إليهما، فأرجو من صديقنا الخير القديم أن يصرف همه، ويسدي إلينا فضل رأيه السديد على عجل في مهمتنا؛ فإنها تتطلب منا المسارعة إلى إنجازها.
غلوستر :
طوع أمرك يا مولاتي، وعلى الرحب والسعة أنتما. (يخرجون.)
المنظر الثاني
أمام قصر غلوستر (يدخل كنت وأوزوالد ... واحدا بعد آخر.)
أوزوالد :
سعد إصباحك
2
يا صاحبي. أأنت من أهل هذي الدار؟
كنت :
أجل.
أوزوالد :
أين ننزل جيادنا؟
كنت :
في الوحول.
أوزوالد :
ناشدتك المحبة أن تخبرني ...
كنت :
ليس لك عندي من المحبة شيء.
أوزوالد :
إذن فإني لا أعبأ بك.
كنت :
إذا أنا لقيتك في حلبة ليبسبري (Lipsbury)
جعلتك تعبأ بي.
أوزوالد :
ليت شعري لم هذه المعاملة؟ إني لا أعرف من أنت.
كنت :
ولكني أعرف من أنت.
أوزوالد :
ماذا تعرف مني؟
كنت :
إنك وغد صعلوك، أكال فضلات الطعام، رذيل فدم صلف، مصفق الذهن، مستخذ، لا تملك من الثياب إلا ثلاث قطع، ولا من الثروة فوق مائة جنيه، حطيط القدر، وضر، خشن الجورب، هرع القلب، جبان محور الكبد، ملجاء إلى المحاكم، حنتوف، حليف المرايا، خادم مسراع إلى كل عمل زري، ووغد متأنق، وعبد وحيد الجراب لا يجد بأسا عليه أن يكون ديوثا ليحسن أداء الخدمة. وما هو إلا خليط مركب من وغد، وشحاث، ورعديد، وقواد، ومن ابن ووريث لكلبة نغلة. واحد لا أتردد أن أجلده حتى يهر هريره إذا هو أنكر أهون مقطع من صفاته هذه.
أزوالد :
أي إنسان عجيب أنت؟ تشتم رجلا لا تعرفه ولا يعرفك!
كنت :
أي وغد صلب أديم الوجه أنت؟! تنكر أنك تعرفني ولما يمض غير يومين منذ ألقيت بك على الأرض، وأشبعتك في حضرة الملك ضربا! جرد سيفك أيها الصعلوك، فالوقت إن كان ليلا فهو مقمر، سأجبل جسمك بنور القمر. جرد أيها الخائل الغرير سيفك، جرد. (يجرد سيفه.)
أوزوالد :
إليك عني؛ لا شأن لي معك.
كنت :
جرد أيها الوغد سيفك. إنك وافد برسائل ضد الملك، ومستنصر لخيلاء الأميرة المزهوة على جلال والدها. جرد يا صعلوك وقاتل. إني لشاطرك نصفين. جرد يا صعلوك هلم.
أوزوالد :
أغيثوني من القتل يا هوه! أدركوني!
كنت :
اضرب يا سافل. قف يا صعلوك. قف أيها العبد الحنتوف. اضرب (ضاربا إياه) .
أوزوالد :
أغيثوني! القتل، القتل. (يدخل إدموند وسيفه مسلول.)
إدموند :
ما هذا؟ ماذا نرى؟ (يفرقهما) .
كنت :
أقاتلك أيها الصبي الكبير، إذا شئت. هلم سأعطيك فرصة للمران. تقدم أيها السيد الصغير.
غلوستر :
سلاح! سيوف! ماذا جرى؟ (يدخل كورنوال وريغان وغلوستر وخدم.)
كورنوال :
أقلعوا، أو تقتلوا! من يرفع السيف منكم أولا يمت على الفور. ما خطبكم؟
ريغان :
هذان رسولا أختي والملك.
كورنوال :
ما سبب اقتتالكما؟ تكلم.
أوزوالد :
أكاد لا أملك نفسا للكلام يا مولاي.
كنت :
لا غرو أن تلهث بعدما بدا منك من البسالة أيها الوغد الرعديد! إن الطبيعة لتنكرك، وأكبر الظن أن الذي سواك خياط.
كورنوال :
إنك إنسان غريب يا سيدي. خياط يخلق رجلا؟
كنت :
أجل يا سيدي، خياط! فالنحات أو النقاش لا يمكن أن يصوره أسوأ من هذا ولو كانا مبتدئين لم يمض عليهما في كارهما غير ساعتين.
كورنوال (إلى أوزوالد) :
امض في الذكر: ما سبب الشحناء بينكما؟
أوزوالد :
هذا الصعلوك العجوز، يا مولاي، الذي أبقيت على حياته رحمة بشيبة لحيته ...
كنت :
أيها الحرف النافل.
3
مولاي، إذا أذنت هرست بدن هذا الوغد الخثر، وأحلته ملاطا وطليت به جدر بيوت الخلاء. أنت تستبقي على حياتي رحمة منك بشيبة لحيتي؟! يا لك من رقيع!
كورنوال :
أقلع، أيها الجلف المتوحش، ألا تعرف كيف تحتشم؟
كنت :
بلى يا سيدي، ولكن للمغضب عذرا.
كورنوال :
ولماذا أنت مغضب؟
كنت :
مغضب أن يحمل مثل هذا العبد سيفا وهو يحقر حمله. هؤلاء الخسل الباسمون كالجرذان يقرضون ما بين الآباء والأبناء من الروابط المقدسة المشدودة شدا لا يعتوره استرخاء، ويشايعون كل هوية يستشعرها ساداتهم: يلقون على المضطرم منها زيتا، وعلى المبترد منها ثلجا؛ ينكرون ويؤيدون، ويدورون لكل شهوة منهم كما تدور أدلة الريح، مناقير طائر الماء مطواعة لكل هوجاء ورخاء، كالكلاب لا تعرف إلا التبع. رميت بالطاعون في وجهك الأشوه؛ أتبتسم أنت تهكما من كلامي كأنما أنا ضحكة؟ لعمري، يا فرخ الإوز، لو لقيتك في ساحة ساروم لرددتك مبطبطا صارخا إلى عشك في كاميلوت.
كورنوال :
ما هذا؟ أبك جنة يا رجل؟
غلوستر :
ماذا أوغر صدرك؟ أجب على هذا.
كنت :
ليس في الأضداد ما هو أدعى إلى التنافر مما بيني وبين هذا الوغد.
كورنوال :
لماذا تسميه وغدا؟ ما جرمه؟
كنت :
سحنته لا تطيب لعيني.
كورنوال :
وقد لا تطيب لك سحنتي ولا سحنته (مشيرا إلى إدموند) ، ولا سحنتها (مشيرا إلى ريغان).
كنت :
سيدي، من عادتي أن أكون صريح القول؛ لقد رأيت فيما مضى من أيامي وجوها أحسن مما أرى الآن إلى جانبي.
كورنوال :
هذا أحد أولئك الذين قدر أن مدحهم الناس لصراحتهم، فتظاهروا بوقاحتهم، وتلبسوا خلة ليست في فطرتهم. وإذ إنه يأبى أن يماري لأنه حر الضمير صريح؛ فلا بد له أن يصدع بالصدق، فإذا تقبله الناس منه فبها، وإلا اعتصم بصراحته. إني أعرف هذا الصنف الخبيث من الناس، فإنهم ليخفون في طيات هذه الصراحة من المكر ومقاصد السوء أكثر مما يخفي عشرون معا من الأتباع الركع الخضع المتباسمين، الذين يقومون بالخدمة ويتغالون فيها.
كنت :
مولاي في الحق والصدق الصراح، إذا سمحت مكارم ذاتكم الجليلة التي تحوط بها من هيبتها هالة وضاءة كتاج الوجه المشع من جبين الشمس المتقدة ...
كورنوال :
ماذا تريد بذلك؟
كنت :
أن أغير لهجة الكلام التي لم ترق لك. لست يا سيدي ملقا، ولعمري ما حملك على أن ترتاب في القول الصريح إلا نذل صريح. وهو ما تنبو بي النفس أن أكونه، ولو أسخطتك بالإباء إذا ألحفت طالبا مني قبوله.
كورنوال (إلى أوزوالد) :
بماذا أسأت إليه؟
أوزوالد :
ما أسأت إليه قط! ولكنها كانت مشيئة الملك مولاه منذ عهد قريب أن يضربني لمسلك ساء ما قدره مني، فمضى هذا الرجل على هوية الملك مشايعا منه غضبه، ولكزني من ورائي، وفيما أنا ملقى عن الأرض انهال علي يشتمني ويقذعني، وتظاهر بالرجولة في ذلك والبطولة حتى استرعى الملك، وظفر منه بثناء وافر على ما أبدى من البسالة في حمله على رجل أعزل مضعضع النفس في حضرة الملك. وإذ لم يفارقه الزهو بما أصاب في تلك المرة، فهو يحمل علي هنا مرة أخرى.
كنت :
لعمري، ولهذا أحد أولئك السفلة الجبناء الذين لا يرون في مثل أجاكس، بطل طروادة الغطريف، إلا هرعا ضعيفا.
كورنوال :
علينا بالمقطرة. سنعلمك أيها الوغد القحل العنيد، والدعي الوقور.
كنت :
سيدي، إني أسن من أن أتعلم. لا تطلب أن يجيئوك بالمقطرة من أجلي. إني في خدمة الملك، وقد جئت إليكم في مهمة له، فإذا أنت حملت رسوله على المقطرة، فإنك تبدي بفعلك استهانتك بكرامة مولاي، وصريح عدائك لذاته.
كورنوال :
علينا بالمقطرة. أما وحياتي وشرفي لأبقينك فيها إلى الظهر .
ريغان :
إلى الظهر يا مولاي! بل إلى المساء ومدى الليل كله.
كنت :
كيف ذا يا مولاتي؟! لو أنني كنت كلبا من كلاب أبيك ما جاز لك أن تعامليني هذه المعاملة!
ريغان :
إنما أعاملك كذلك لأنك من غلمان خاصته. (يحضرون المقطرة.)
كورنوال :
هذا من فصيلة أولئك الذين ذكرتهم أختنا في خطابها. تقدموا، هاتوا المقطرة هنا (يدخلون بالمقطرة) .
غلوستر :
أرجو مولاي أن يقصر عن هذا. حقا إن ذنبه كبير، وسيعزره مولاه الملك الصالح عليه، ولكن ما انتويت أن تؤذيه به لا يليق إلا بأسفل الأشقياء وأرذلهم، بما تستطيل إليه أيديهم من الهنات الهينات، أو يقترفونه من السيئات التافهات. وإني لأرى أن الملك سيستاء لذلك، ويرى أنكم قد استخففتم به في رسوله إذ اعتقلتموه على هذه الصورة.
كورنوال :
علي تبعة ذلك.
ريغان :
سيكون استياء أختي أشد لما وقع على غلامها من التحقير والإعنات من أجل سعيه في مهمة لها. ضعوه في المقطرة (يوضع كنت في المقطرة)
هلم، يا مولاي، هلم. (يخرج الجميع ما عدا غلوستر وكنت.)
غلوستر :
يؤسفني حالك يا صاحبي، هذي مشيئة الدوق الذي يعرف الناس طرا أنه لا يلين ولا يرد، ولكني سأشفع لك.
كنت :
بله هذا يا سيدي، أتوسل إليك؛ لقد أنضاني طول السهاد والسرى، وسأغفي بعض الوقت المقدور، وأصفر فيما يبقى.
إنك لا تدري، فقد ينبع ماء الحظ للرجل الطيب من بين أخمصيه. أنعم صباحا.
غلوستر :
الدوق مخطئ فيما فعل، وسيكون تأويل عمله سوءا (يخرج) .
كنت :
أيها الملك الطيب، إنك لمصداق للمثل السائر: «يستبدل بالنعمة نقمة». يا منارة هذه الكرة السفلى، أشرقي؛ لعلي أستطيع قراءة هذا الخطاب على نورك المشتهى. قلما تتبدى عجائب الغيب إلا لعين المحزون. إني لأعرف هذا الخط؛ إنه من كورديليا، أطلعها طيب الحظ على خفية أمري من التنكر، فعرفت مكاني، وستسعى لإخراجنا من هذه الضائقة، وتصلح معوج الأمور. أيتها العيون المتعبة، أعياها السهر الطويل، أنعمي بما يغشاك من ثقل الجفون، ويحميك رؤية هذه الدار الزرية. وأنت يا آلهة الحظ طاب ليلك، ابتسمي لي مرة أخرى ، ودعي عجلتك تدر لي بالإسعاد (ينام) .
المنظر الثالث
غابة (يدخل إدغار.)
إدغار :
وا حرباه! «سمعت بأذني صوت النذير يعلن طلبي»، ولكني نجوت من كيدهم بما وفقت إليه من مخبأ في جوف شجرة. ضاقت بي الأرض فما لي فيها من مخرج في مرفأ إلا وهو ممنوع، ولا مطمأن إلا وهو مخفور، أقيمت عليه رواقب أشد ما تكون يقظة للقبض علي، وليجدر بي الآن - وفرصة الاختفاء سانحة - أن أعمل لصيانة نفسي، ولعل من الحكمة أن أتنكر على أسوأ صورة، وأحط حال تملك الفاقة أن تردي فيها الإنسان وتدنيه زراية به من الحيوان. سألطخ وجهي بالأوحال، وأستر كشحي بالأسمال، وأرسل شعري عقائص معقدة، وأواجه بالعري والتجرد أعاصير السماء وبلاياها. وإن لي لقدوة في هذا الريف، وأسوة من متسولي مارستان بدلام الذين يسيرون في الأرض يصيحون ويغرسون في أعضادهم العارية - أخدرها البرد وأهمدها - إبرا وشظايا ومسامير وأشواكا، ويردون الديار على هذه الصورة البشعة متنقلين من زورة خاملة إلى زورة، ومن قرية فقيرة إلى أخرى، ويغشون مضارب الرعاة، ومساكن الصناع، يستدرون الحسنة بالدعوات، أو يقتسرونها باللعنات - المسكين تورليجود والمسكين توما - هذا هو اسمي الجديد. أما إدغار فلم يعد مني في شيء. (يخرج.)
المنظر الرابع
أمام قصر غلوستر، وكنت في المقطرة على حاله (يدخل لير والبهلول وأحد الأمناء.)
لير :
إني لدهش كيف يغادرون قصرهم فجأة، ولا يردون إلي الرسول بجواب.
الأمين :
فيما علمت لم تكن عندهم ليلة أمس نية هذه المغادرة.
كنت :
تحية لك يا مولاي الجليل.
لير :
ها! أتجلس نفسك هذا المجلس الزري لاهيا؟
كنت :
لا يا مولاي.
البهلول :
ها، ها، إنه لابس جوربا صلب المراس، الخيل تربط من رءوسها، والكلاب والدببة من أعناقها، والقردة من كشحها، والرجال من أرجلها، فإذا وجدوا أن الرجل يؤذيهم برجليه ألبسوه جوارب من الخشب.
لير :
من هو هذا الذي جهل مكانك فأنزلك هذا المنزل؟
كنت :
إنه هو وهي معا؛ ابنك وابنتك.
لير :
كلا.
كنت :
بلى.
لير :
أقول كلا.
كنت :
وأقول بلى.
لير :
لا، لا، إنهما لا يفعلان هذا.
كنت :
بل فعلاه حقا.
لير :
بالمشترى أقسمت لم يفعلا.
كنت :
وبزوجه أقسمت قد فعلا.
لير :
إنهما لا يجرؤان على ذلك، لا يقدران، لا يرضيان. إن في ذلك نقضا عنيفا لشرعة الواجب، وإهانة أقبح من جريمة القتل. نبئني على العجل المباح: كيف تأتى أن تستوجب منهم ما جرى، أو أن يوقعوا بك ما أرى وأنت رسولنا وخادمنا المنفذ إليهم منا!
كنت :
مولاي، ما كدت أسلم إليهما رسائل عظمتك، وقبل أن أنهض من مجثي التحية الواجبة علي لهما، حتى قدم رسول ملتهث من الإسراع، مغرق في عرقه، وألقى عليهما تحية غونوريل، وسلم إليهما منها رسائل - آخذا علي سبقي - يقرآنها، فما عرفا مضمونها حتى ناديا أتباعهما واستقلا وغادرا القصر على الفور، وأمرت أن ألحق بهما وأنتظر حتى يأتيني الجواب على مهل، وتجهماني. وإذ لقيت في هذه الدار ذلك الرسول الذي أفسد وروده موردي، وكان هو بعينه الرجل الذي توقح في حضرة مولاي منذ قليل، وإذا لم يكن بي من قوة الرأي قدر ما بي من قوة الرجولة، فقد نضيت سيفي، فأيقظ أهل الدار بصرخات عالية أرسلها جبنه وفزعه، وجاء ولدك وابنتك على الأثر، وقضيا فيما وقع لي من التعزير المهين.
البهلول :
لم ينقض الشتاء بعد، إذا كان الإوز لا يزال يطير من هذه الناحية.
إذا الوالد قد لبسا
ثيابا رثة هبرا
وجدت الابن قد عبسا
وولى عنه محتقرا
وإن هو كان ذا ذهب
عليه مطارف وفرا
رأيت الابن ذا أدب
وحب ليس فيه مرا
ومع ذلك فإنك اليوم ملاق من بنتيك من الهموم والأحزان قدر ما تصيب في عام كامل.
لير :
آه! إن ذلك الداء ليطمو على قلبي. أيتها السوداء، ارجعي، أيتها الهموم المتصاعدة، ارتدي مكانك دون هذا، أين تلك الابنة؟
كنت :
مع الأرل يا سيدي، هنا في البيت.
لير :
لا تتبعوني. انتظروا هنا. (يخرج.)
الأمين :
ألم تبد منك إساءة أخرى غير ما ذكرت؟
كنت :
لا. خبرني ماذا استوجب أن يجيء الملك في مثل هذه الحاشية القليلة؟
البهلول :
لو أنهم وضعوك في هذه المقطرة عقابا لك على هذا السؤال لكان ذلك جزاء وفاقا.
كنت :
لم هذا يا ترى؟
البهلول :
سنرسلك إلى كتاب النملة لتعلمك ترك العمل في الشتاء. كل ذي أنف يستهدي بعينه إلا الأعمى، ومع ذلك فقلما وجدت بين العميان واحدا في العشرين يعجز أن يتبين الرجل المصن. اسمع، خل يدك عن العجلة العظيمة وهي تجري منحطة عن الجبل؛ لئلا تفك رقبتك حين تجري وراءها. أما العجلة الكبيرة التي تصعد الجبل؛ فتمسك بها لترفعك معها، وإذا أعطاك أحد العقلاء نصيحة تكون أفضل مما أعطيتك فرد إلي نصيحتي؛ فإني لا أريد أن يتبع نصيحتي إلا الأوغاد؛ لأنها نصيحة مجنون.
من ليس يخدم مولى
إلا ليكسب رفده
إذا السماء اكفهرت
خلاه في الطرق وحده
أما أنا فسأبقى
في الخير والشر عنده
فأعجب لأحمق راعى
على البلية عهده
وعاقل قد تخلى
عنه وأنكر وده
وصار وغدا صريحا
إذ شذ في يوم شده
أما أنا فمحال
أكون في الحمق نده
كنت :
ممن تعلمت هذا يا بهلول؟
البهلول :
ليس في المقطرة يا أحمق. (يعود لير مع غلوستر.)
لير :
يأبيان أن يتحدثا إلي. تقول إنهما مريضان! متعبان، وإنهما قضيا الليل مسافرين. حجج واهية، بل هي علائم العداء والتنكر. اذهب وائتني بجواب أحسن من هذا.
غلوستر :
مولاي الكريم، أنت تعرف حدة طبع الدوق ونارية مزاجه، وتدري مبلغ تشبثه وصلابته فيما يرى.
لير :
الثأر والوباء والموت والفوضى! حدة الطبع! أية حدة؟ ويحك غلوستر! غلوستر، أريد أن أكلم دوق كورنوال وامرأته.
غلوستر :
هو ذا يا مولاي الكريم ما أخبرتهما به.
لير :
أخبرتهما به! ألا تفهم مرادي أيها الرجل؟
غلوستر :
بلى يا مولاي.
لير :
الملك يريد أن يكلم كورنوال! والأب يريد أن يكلم ابنته، ويأمرها بالحضور. أأخبرتهما بذلك، بأنفاسي ودمي! حدة؟ يا للدوق الناري المزاج! خبر الدوق المتقد أن. مهلا، لم يحن بعد ذلك. قد لا يكون سليما، والضعف يسقط الواجب المفروض على السليم. نحن لا نكون من نحن، إذا الطبيعة المرهقة أهابت بأرواحنا أن تتألم مع الجسد. سأقلع عن هذا؛ لقد ركبت رأسي حينما تقاضيت المريض ما لا يطيقه إلا السليم. (ناظرا إلى كنت.)
ويح ملكي! لماذا يجلس الرجل هذه الجلسة؟ إن هذا العمل يشعرني أن نقلة الدوق وامرأته عن بيتهما ليست إلا حيلة مدبرة. أطلقوا سراح خادمي، اذهب وخبر الدوق وامرأته أني أريد أن أكلمهما الآن على الفور، مرهما أن يأتيا إلي ويسمعا، وإلا دققت لهما الطبل قرعا على باب حجرتهما حتى ينزجر النوم عنهما شرودا.
غلوستر :
عسى أن يسفر الخير بينكما. (يخرج.)
لير :
ويحي، أيها القلب! أيها القلب الثائر تمالك!
البهلول :
ناده يا عمي واهب، كما فعلت تلك الطاهية الحمقاء إذ أهابت بثعابين السمك حين وضعتها في العجين حية، فقد ضربتها على رأسها بعصا وقالت لها: ارقدي أيتها الفواجر ارقدي. وربما كان أخا لها ذلك الذي أخذته الشفقة والمحبة لجواده فوضع له السمن في العلف. (يدخل غلوستر مع كورنوال وريغان وبعض الحشم.)
لير :
سعد صباحكما كليكما.
كورنوال :
وتجلة لعلاك (يطلق سراح كنت) .
ريغان :
إني لسعيدة برؤية جلالتك.
لير :
ريغان، أعتقد أنك سعيدة حقا، ولحري بي أن أعتقد ذلك، فإن لم تكوني سعيدة بلقائي، فلا بد لي أن أنكر قبر أمك، وأعلن أنه يضم رفات امرأة زانية. (إلى كنت)
ها أنت طليق. لأدع الكلام في هذا إلى وقت آخر. ريغان يا ابنتي المحبوبة، لقد عقتني أختك. آه يا ريغان! لقد أنشبت غونوريل (قارعا جهة قلبه)
أنياب جحودها الحادة هنا كما ينشب العقاب أظفاره. إني لفي عي عن الكلام، ولا أراك تصدقين بأي خبث وأي إثم كانت ... آه يا ريغان ...!
ريغان :
سكن يا مولاي روعك؛ فلعمري إني لأرى أنك تنقص من قدرها أكثر مما تنقص هي من حقك.
لير :
كيف ذا؟ خبريني.
ريغان :
محال أن تقصر أختي في أداء واجبها هونا ما، ولكن إذا قدر يا سيدي أنها عملت على إخماد شغب حاشيتك، فإن لها من هذا ومن كريم مقصدها ما يسقط اللوم عنها.
لير :
ألا لعنة مني عليها.
ريغان :
سيدي، إنك رجل مسن تقف بك الدنيا على حافة الحياة، ومن الواجب أن يسوسك امرؤ رشيد يدرك من حالك أكثر مما تدرك أنت نفسك؛ ولذلك أتوسل إليك أن تعود إلى أختي، وتقر لها بذنبك.
لير :
أطلب غفرانها؟! انظري كيف يجمل هذا برب الأسرة الملكية. (جاثيا)
أيتها الابنة العزيزة، أقر لك أني شيخ هرم، وأن لا حاجة للناس بالهرم. أجثو لك على ركبتي ضارعا أن تجودي علي بكسوة وفراش وطعام!
ريغان :
كفى يا سيدي، هذي سخريات ثقيلة. ارجع إلى أختي.
لير (ناهضا) :
محال يا ريغان، لقد قطعت نصف حاشيتي وتجهمتني، ولدغت صميم قلبي بلسانها كما تلدغ الأفعى. ألا لتقع كل ما تدخر السماء من النقمة على رأسها الكنود، ولتغل عظام شبابها غوائل الداء الوبيل.
كورنوال :
أف لك يا سيدي، أف!
لير :
ألا أيها البرق الخاطف، ألق في عينها الصلفة سهام لهبك المعمي، وأنت أيها الضباب الخميم، صعدته الشمس من كل سام آسن، شوه محاسنها بالداء، وأذل نفسها بالإعياء.
ريغان :
أيتها الآلهة المباركة، كذلك ما تدعو به علي إذا لويت عنان غضبك صوبي.
لير :
لا يا ريغان، محال أن تستوجبي لعنتي؛ لأن ما فطر عليه قلبك من الحنان ينبو بك عن القسوة، عينها تتقد فيها نار الوحشية المروعة. أما عينك فتشرق بنور السلام والسكينة. ليس في فطرتك أن تأبي علي متعتي، أو تنقصي عدة حاشيتي، أو تجبهيني بالقول النزق، أو تجحدي حقي عليك، وفي النهاية تقفلي باب دارك في وجهي. أنت أعرف منها بحق الأبوة، وأرعى لفرض البنوة، وأبصر بواجب الرعاية، وأحفظ لعهد المنة. لم تنسي بعد أني أنعمت عليك بنصف ملكي.
ريغان :
الغاية يا سيدي.
لير :
من الذي أمر بوضع رسولي في المقطرة؟ (يسمع صوت نفير من الخارج.)
كورنوال :
نفير من هذا؟
ريغان :
لي بأمره علم. هذا نفير أختي. لقد ذكرت في خطابها أنها قادمة في أثره. (يدخل أوزوالد)
هل جاءت مولاتك؟
لير :
هذا الخادم إنما يتبدى في عارية الخيلاء بما يكتسي من رضا مولاته التي يخدمها. اغرب أيها الوغد عن نظري.
كورنوال :
ماذا تعني جلالتك؟
لير :
من الذي حمل خادمي على المقطرة ؟ ريغان، آمل ألا يكون لك علم بهذا. من القادم؟ (تدخل غونوريل)
أيتها السماوات العلى، إذا كان للشيوخ عندك كرامة، وإذا قضت شريعتك السمحة بالوفاء والطاعة، وإذا كنت أنت أيضا شيخة داهرة؛ فكوني معي، وأرسلي من لدنك نصرا وتأييدا. (إلى غونوريل)
ألا تستحيين أن تنظري إلى هذه اللحية؟ آه يا ريغان! أتمدين للسلام عليها يدا؟!
غونوريل :
ولم لا تمد يدها يا سيدي؟ أي إساءة أسأت؟ ليس جريمة كل ما لا يرتضيه الحمق أو تنعته الشيخوخة هذا النعت.
لير :
يا جوانحي! ما أقوى نسيج أديمك! أفي مقدورك أن تتحملي؟ كيف كان لتابعي أن يوضع في المقطرة.
كورنوال :
إني وضعته فيها يا سيدي؛ بيد أن سلوكه المعيب ما كان يستحق كل هذا التكريم.
لير :
أنت! أنت وضعته؟
ريغان :
أسألك يا والدي أن ترعى ما أنت عليه من الضعف. إذا ارتضيت أن تعود إلى بيت أختي، وتقضي لديها بقية الشهر؛ فتعال يومئذ عندي. إني الآن بعيدة عن منزلي، وليس لدي من الوسيلة والمئونة ما يكفل ضيافتك.
لير :
أعود إليها وقد سرحت خمسين من حاشيتي! كلا، كلا، إني لأوثر أن أهجر الدور الواقية إلى الفلوات العارية استهدف فيها لغضب الريح، وأجاور فيها الذئاب والبوم، واستعرض فيها لشدائد الحاجة الحازبة. أعود معها! لهين كذلك أن أخر جاثيا عند قدمي عرش ذلك الفرنسي الكريم الذي أخذ ابنتي الصغرى على غير مهر، وألتمس منه التماس الأتباع وظيفة يجريها علي لأستبقي بها ماء هذه الحياة الدنية جاريا في عروقي. أعود معها! بل اطلبوا مني أن أجعل نفسي عبد رق ومهانة لهذا الخادم الكريه (مشيرا إلى أوزوالد) .
غونوريل :
أنت وما ترى يا سيدي.
لير :
أتوسل إليك يا ابنتي ألا تستعجلي جنوني، لن أثقل عليك الوداع! لن نلتقي بعد اليوم، لن تقع عين أحدنا على الآخر، وأنت بعد من لحمي ومن دمي. ابنتي، بل بعض داء في لحمي لا يسعني إنكاره. أنت دمل. أنت قرحة. أنت جمرة متورمة في دمي الفاسد، ولكني سأنهنه نفسي عن تأنيبك، وأدع للأيام أن تحزبك بالعار من تلقاء نفسها. أما أنا فلا أستثيرها، ولست أهيب بالإله ذي الرعد الصاعق أن يرميك بشهبه، ولن أبلغ مسمع المشترى إله العدالة الأعلى حكاية أمرك، بل أدعك لتستغفري حين تقدرين، وتصلحي من نفسك كما تشائين. سأصطبر، وسأبقى عند ريغان أنا وفرساني المائة.
ريغان :
أنى يكون هذا؟! إني لم أكن أتوقع مجيئك اليوم، فلم أتخذ ما يجب من العدة لإكرام وفادتك، أطع أختي يا سيدي. إن الذين يمسك العقل بزمامهم، فلا يطاوعون جوامح الهوى منك، يجدون من شيخوختك مهيبا وعذرا؛ ولذلك ... بل إنها لبصيرة بما تفعل.
لير :
أهذا كلام طيب؟
ريغان :
لا مرية في ذلك. عجبا! ألا يكفيك خمسون تابعا؟ ما حاجتك بأكثر من هذا؟ بل ما حاجتك بحاشية كثيرة العدد، كبيرة النفقة، عظيمة الخطر؟ كيف يسود السلام يا ترى في بيت واحد بين خليط كبير من الناس تحت إمرتين مختلفتين؟ إنه لأمر صعب بك، بل إني لأراه مستحيلا.
غونوريل :
ما ضرك يا مولاي أن تكون حاشيتك من خدمها أو خدمي؟
ريغان :
لم لا يكون ذلك يا مولاي؟ حتى إذا حدث أن تهاونوا تيسر لنا تعزيرهم. إذا أردت أن تجيء معي - وأنا اليوم أتوجس خطرا - فإني أرجو منك ألا تحضر معك غير خمسة وعشرين. إني لا أستطيع أن آوي وأرعى أكثر من هذا عددا.
لير :
أنا أعطيتكم كل شيء.
ريغان :
وكان إعطاؤك في وقته اللائق.
لير :
وجعلتكم ولاة أمري، وكفاة حياتي، ولكني تحفظت فاشترطت أن يكون لي ذلك العدد من الأتباع، وي! أقلت لا آتي بغير خمسة وعشرين يا ريغان!
ريغان :
أجل، وأعيد القول مرة أخرى: لا ينزل عندي أكثر من ذلك.
لير :
إذا قيس الشرير بمن هو أشر منه؛ بدا ذاك على صورة من الخير تستوجب شيئا من الرضا بما قل فيه من الشر. (إلى غونوريل)
سأذهب معك، إن خمسينك ضعفا العشرين والخمس؛ فحبك على ذاك ضعفان من حبها.
غونوريل :
أصغ إلي يا مولاي، ما حاجتك بخمسة وعشرين رجلا أو بعشرة أو بخمسة يقومون بخدمتك في دار يوجد بها أضعاف ذلك ممن تجب عليهم خدمتك؟
ريغان :
بل ما حاجتك بواحد؟
لير :
آه! لا تذكري الحاجة؛ فإن في حيازة أفقر الفقراء أشياء لا حاجة لهم بها، وإذا أنت قصرت حياة الإنسان على الضرورات وحدها فقد أنزلته منزلة البهائم السائمة. لو أن عليك وأنت سيدة ألا تلبسي من الثياب إلا ما يوجب لك الدفء؛ لم يكن لك حاجة بهذه الثياب الفاخرة التي ترتدينها وهي لا تكاد ترد عنك شيئا؛ بيد أن لك بها حاجة حتم لازبة. أيتها السماوات العلى، أولني الصبر، فالصبر حاجتي. ها أنت ذي أيتها الآلهة ترينني أمامك شيخا مسكينا، أناخ عليه الضعف والأسى معا، وشقي بهما كليهما. إن كنت أنت التي أغريت قلب هاتين الابنتين بأبيهما فلا تسخري بي، بل قوني على احتمال أذاهما بالرضى. أوح إلي آية الغضب الكريم، ولا تدعي سلاح النساء من قطرات ماء الشئون يجرح خدي الرجولة مني. لا يا أيتها الذئبتين لا، لا يكون ذلك. سأنتقم منكما كلتيكما انتقاما إذا ما بلغ مسمع الدنيا ... أجل، سأفعل أفعالا لا أدري الآن كيف تكون، ولكنها ستكون أحدوثة تذعر الدنيا برمتها، أتزعمان أنني سأبكي؟ لا، لن أبكي. إن لدي للبكاء ألف سبب، ولكن لا بد لهذا القلب أن يتمزق شذر مذر قبل أن تجهش لي عين ببكاء. أيها المجنون، لقد أدركني الجنون (الزوبعة قائمة على شدتها) . (يخرج لير وغلوستر وكنت والبهلول.)
كورنوال :
خير لنا أن ندخل الدار؛ الزوبعة آتية.
ريغان :
هذا البيت صغير لا يسع الشيخ وقومه.
غونوريل :
الذنب ذنبه، لقد هجر الراحة الخفض بملكه؛ فليذق عاقبة جنونه.
ريغان :
أنا على استعداد لإيوائه على الرحب هو وحده. أما أتباعه فلا.
غونوريل :
وعلى هذا عولت أنا أيضا. أين ذهب إيرل غلوستر؟
كورنوال :
ذهب في أثر الشيخ. ها هو ذا قد عاد. (يعود غلوستر.)
غلوستر :
الملك يعصف به الغضب.
كورنوال :
أين يذهب الرجل؟
غلوستر :
لا أدري، ولكنه أمر رجاله أن يشدوا رحالهم.
كورنوال :
خير لنا أن نتركه على هواه. إنه بصير بنفسه.
غونوريل :
إياك أن ترجو منه البقاء.
غلوستر :
وا أسفاه! لقد ادلهم الليل، والرياح تعصف وتقصف، وليس فيما حولنا على مدى عدة أميال مكان يأوي إليه.
ريغان :
سيدي، إن للمتعنتين من المكاره التي يجلبونها على أنفسهم معلمين يبصرون ويؤدبون. اقفل أبواب دارك واستوثق؛ فإن معه رجالا أولي شر تقضي علينا الحكمة أن نتقي ما قد يغرونه به من الأذى. وهو كما علمت أذن مطواع.
كورنوال :
اقفل أبواب دارك يا سيدي. لقد أشارت عليك الأميرة بالصواب؛ إنها لليلة نكباء. فلنأو إلى الدار من شرورها.
الفصل الثالث
المنظر الأول
أرض عاشبة (الزوبعة قائمة، رعد وبرق ومطر، يدخل كنت وأحد الأمناء متقابلين.)
كنت :
من هنا غير الجو العاصف؟
الأمين :
رجل مضطرب الفؤاد كالجو.
كنت :
إني لأعرفك. أين الملك؟
الأمين :
يجالد العناصر الشكسة، يهيب بالريح أن تكتسح الأرض، وتلقي بها في اليم، أو تثير عباب الموج بعضه فوق بعض ليغمر أديم الأرض حتى تتبدل الدنيا أو تبيد، ويقتلع لمته البيضاء التي تعبث بها هبات الصراصر في غضبتها العمياء، وتزري بصاحبها، ويحاول على ضعف كيانه الإنساني أن يغلب حلف الريح والمطر معا. يسير عاري الرأس يلهج بالويل والعثور للعالمين، في هذه الليلة العاتية التي تأوى الدببة فيها خاوية الضرع إلى جحورها فرارا من ويلها، ولو استصرختها أجراء لها ساغبة، وتخدر الأسود والذئاب في غيرانها والجوع يلدغ أحشاءها.
كنت :
ومن الذي معه؟
الأمين :
لا أحد غير البهلول.
كنت :
سيدي إني لأعرف من أنت، ويحملني صدق توسمي على أن أسر إليك أمرا ذا بال: إن بين الدوق ألباني والدوق كورنوال شقاقا يستران وجهه حتى اليوم تحت أطباق الخبث منهما والدهاء، ولكن بين خدمهما اليوم - وأي امرئ مثلهما لا يوجد بين خدمه وقد استقل نجماهما في سماء المجد - نفرا هم كذلك في خدمة ملك فرنسا، جعل منهم عيونا له وكشافا يوالونه بأخبارنا، ويطلعونه على نياتنا، وما وقع بين الدوقين من الشحناء، وما لقي الملك العجوز من عنتهما، وعلى ما هو أبعد غورا من أمور ليست هذه الحوادث إلا عوارض لها، ولكن لا خفاء في أن هناك جيشا آتيا من فرنسا إلى أرض هذه المملكة المنقسمة على نفسها. وقد اغتنم ما نحن فيه من الغفلة فاحتل في السر بعض مرافئنا المهمة، وهم على وشك أن يعلنوا أمرهم وينشروا رايتهم. والآن فاسمع ما أردت أن أقوله لك، إذا وثقت بي فانطلق إلى دوفر، هناك تجد من يشكرون لك صنيعك إذا أنت وقفتهم على حقيقة حال الملك، وأثبت لهم وجه حقه في الشكوى مما يناله من مساءة تنوء بها الفطرة البشرية، وأذى يذهب بالحجى أنى سرى العرق والأدب، فإذا عهدت إليك بالقيام بهذه المهمة، فعن بعض العلم واليقين ما أفعل.
الأمين :
سنتكلم في الأمر مليا.
كنت :
لا حاجة إلى ذلك، ولإثبات أني أكثر مما يتراءى لعينك مني؛ افتح هذا الكيس، وخذ ما يحتويه، وإذا لقيت كورديليا - وهو ما لا ريب عندي فيه - فأرها هذا الخاتم، وهي تخبرك من صاحبك الذي لم تعرفه بعد. تبا لهذه الزوبعة! سأذهب للبحث عن الملك.
الأمين :
اجعل يدك في يدي. أعندك من القول مزيد؟
كنت :
لم يبق إلا أمر واحد؛ بيد أنه أهم من سواه: لا بد لنا من البحث عن الملك أولا. تذهب أنت من هذا الطريق وأنا من ذاك، ومن يجده أولا يهيب بصاحبه معلنا.
المنظر الثاني
قطعة أخرى من الأرض العاشبة، والزوبعة قائمة (يدخل لير والبهلول.)
لير :
هبي أيتها الرياح، ومزقي الأوداج
1
منك. هيجي واعصفي، وأنت أيتها الشلالات والزوابع المعصرات، أفيضي ماءك حتى تغرقي قلل البروج والصوى، وأنت أيتها النيران الكبريتية المجفلة أجفال الخاطر، منذرة بالصواعق الشاطرة جزوع السنديان، عصفري هامتي البيضاء، وأنت أيها الرعد الزعزع، حطم كرة هذه الدنيا، واجعلها بطيحا جرزا، واجعل قوالب الخليقة هشيما، وأهلك من فورك بذور الحياة جميعا حتى لا تدع في الأرض ما تطول به حياة الإنسان الكنود.
البهلول :
ويك عمي، إن ماء الملق يجري على لسانك تحت سقف يسترك خير من ماء هذا المطر الذي ينصب في العراء. عمي، أيها الرجل الصالح، ارجع والتمس الرحمة من بناتك؛ فإن هذا الليل لا يرحم عاقلا ولا مجنونا.
لير :
اعصفي، وازأري أيتها الريح، وأرسل شهبك أيها الرعد، واهطل أيها المطر، ليس المطر ولا الرعد ولا النار بناتي. لا أرميك أيتها العناصر بالقسوة. إني ما منحتك ملكا، ولا سميتك أولادي ... لا طاعة لي عليك، فأرسلي ما طاب لك من الويل. هأنذا ماثل في رحابك عبدا لك، شيخا مسكينا مزعزعا ضعيفا ومهينا؛ بيد أني لا أتردد أن أدعوك أعوان جريمة إذ تآمرت علي أنت وابنتان فاجرتان، وبعثت بجنودك السماوية على رأس شيخ أشيب كهذا. وي! وي! خجلا لك. خجلا.
البهلول :
إن الذي له بيت يحمي رأسه لذو رأس عامر.
إن من يجعل كعبه
فوق ما يجعل قلبه
إن يصبه فيه ثؤلو
ل يبت يعلن كربه
فما وجدت حتى اليوم امرأة جميلة لم تعوج فمها أمام المرآة.
لير :
كلا، سأكون مثال الصبر، ولن أتشكى. (يدخل كنت.)
كنت :
من هنا؟
البهلول :
ويك، رجل عاقل وآخر مجنون.
كنت :
وا أسفاه! أنت هنا يا مولاي، والمولعات بالليل تمقت مثل هذه الليالي؟ غضب السماوات يذعر رواد الحلكة، ويلزمها غيرانها. لا لعمري لا أذكر أني سمعت منذ بلغت سن التمييز بمثل هذى الغلائل من اللهب، ولا مثل هذه القصفات الفظيعة من الرعد، ولا بشبه هذه الأنات الداوية من الريح والمطر. ويح الإنسان ما أضعف فطرته عن حمل هذه الويلات والمخاوف.
لير :
دع الآلهة العظمى التي تعلق هذا الويل فوق رءوسنا تستعرف اليوم غرماءها. ارتعد الآن أيها الشقي الذي تنطوي نفسه على جرائم مخبوءة لم تصب جزاءها، واختبئي أيتها اليد الدامية، وتداع متفطرا أيها الإنسان الحانث المخاتل المترائي بالفضيلة وهو مغرق في الرذيلة. وأنت أيها الوغد الآثم الذي يبيت الردى تحت ستر ونقاب خادع ليغتال حياة الناس، وأنت أيتها الخطايا المخبوءة، أهتكي حجابك الذي يخفيك، واستغفري هذه الرسل السماوية العاتية. أنا رجل تجنى علي الناس أكثر مما تجنيت عليهم.
كنت :
وا أسفاه! عاري الرأس مولاي الكريم! إن بالقرب منا خصا لا تأبى مروءة أهله أن يصونوك به من هول الزوبعة. الجأ إليه يا مولاي ريثما أمضي إلى ذلك البيت الذي قدت قلوب أهله من حجر أصلد مما أقيمت به جدرانه. طرقته منذ هنيهة سائلا عنك فأبوا أن يدخلوني. سأعود إليه وألزم من فيه أداء حق التجلة الذي أنكروه.
لير :
لقد أخذ الرشد يفارقني؛ هلم يا ولدي. كيف حالك؟ أنت مبرود. إني أستشعر بردا. (إلى كنت)
أين ذلك القش الذي ذكرت؟ ما أعجب الحاجة! إنها لتجعل أهون الأشياء غالية القيمة؛ هلم إلى الخص أيها البهلول والولد المسكين. إن في قلبي ركنا لا يزال يأسى شفقة عليك.
البهلول (مغنيا) :
إن كنت صاحب عقل
فاقنع بحظك واصبر
اجعل رضاك قرينا
للحظ منك وأبشر
إياك يا شيخ أن تس
تاء أو أن تكشر
إن يشرق السعد أو إن
يسود ليل ويمطر
فكل يوم ظلام
وأغلب العام ممطر
لير :
هذا حق يا ولدي. تعال خذنا إلى الخص. (يخرج لير وكنت.)
البهلول :
هذا ليل طيب؛ فأحر بي أن أنفث فيه نبوءتي قبل أن أنصرف.
عندما نلقى القسوس فينا
وصلوا الدنيا وجافوا الدينا
وكذا لما ترى الخمار قد
أتلف الخمرة بالماء المعد
وإذا الخياط من فرط القصور
أخذ الصنعة عن أهل القصور
وإذا العشاق يحرقونهم
وإذا الكفار يطلقونهم
وإذا لم تلق يوما حاكما
واحدا يصدر حكما ظالما
وإذا لم تلق عينا في البلاد
مفلسا أو فارسا يشكو النفاد
وإذا لم تلق فيما بيننا
واحدا مغرى بأن يغتابنا
وإذا لم تلق في اللمة من
ينشل الكيس بحذق وفطن
عندها يحدث في القطر اضطراب
وفساد واختلال وخراب
وترى أهل البلاد شمروا
كلهم عن ساقهم وأدبروا
هذه النبوءة ستعزى إلى مرلين القديم يوم يجيء.
2 (يخرج.)
المنظر الثالث
قصر غلوستر (يدخل غلوستر وإدموند.)
غلوستر :
أسفا يا إدموند أسفا! إني أكره هذه المعاملة الوحشية. لما رجوت منهما أن يسمحا لي بتطييب خاطره أبيا علي حق التصرف في بيتي، وحظرا علي أن أتكلم عنه أو أتشفع له، أو آخذ بناصره، وإلا استوجبت منهما غضبا دائما.
إدموند :
هذا غاية في الوحشية والنبو عن الفطرة الإنسانية.
غلوستر :
خل عنك ولا تقل شيئا. إن بين الدوقين شقاقا، بل هناك ما هو شر من هذا: وصلت إلي الليلة رسالة من الخطر أن يذاع أمرها، خبأتها في خزانتي، وسيلقون جزاءهم على ما يلقى الملك منهما من الأذى. نزل فريق من الجيش فعلا في البلاد، ولا بد لنا أن ننحاز إلى جانب الملك، سأذهب في البحث عنه وأنجده سرا؛ فاذهب أنت الآن، وأشغل الدوق بالحديث حتى لا يتنبه إلى ما انتويت من الخير، فإذا سألك عني فقل: إنني مريض، وإنني لزمت الفراش. لا بد لي أن أنقذ الملك سيدي القديم، ولو كان في هذا هلاكي، فما يقدر لي دون الهلاك جزاء. سنرى في القريب عجبا؛ فتنبه يا بني واحذر (يخرج) .
إدموند :
سأطلع الدوق من فوري على سعيك إلى الملك برغم ما نهاك، وسأطلعه على تلك الرسالة أيضا، وأكبر ظني أنني مستوجب منه جزاء طيبا، وكاسب كل ما سيخسره أبي - أي كل شيء. ينهض الصغير ساعة يرقد الكبير (يخرج) .
المنظر الرابع
المكان السابق أمام خص، ولا تزال الزوبعة قائمة (يدخل لير وكنت والبهلول.)
كنت :
هذا هو المكان يا مولاي. أتوسل إليك أن تدخل هذا الخص. إن قسوة هذا الليل تفوق طوق الإنسان.
لير :
دعني وحدي.
كنت :
ادخل هنا يا سيدي.
لير :
أتريد أن تضني قلبي بإلحاحك؟
كنت :
حاشا. ليضن قلبي قبل هذا. أتوسل إليك أن تدخل يا مولاي.
لير :
أكثير علي أن تغزوني هذه الزوبعة الصائلة حتى تنفذ وراء الأديم؟ هذا ما ترى. أما من يحمل في قلبه داء أشد وأكبر؛ فإنه لا يكاد يستشعر داءه الأصفر. إنك لتفر من الدب، ولكن إذا كان فرارك منه صوب البحر فرأيته يزأر ويزمجر آثرت فكي الدب. إذا خلا القلب وهن البدن. وأرى الزوبعة العاصفة في نفسي تكتسح كل الشعور من حسي، إلا ذلك الذي يخفق به جنبي. يا عقوق الأبناء! أليس العقوق أشبه بالفم يقضم الكف جزاء حملها الطعام إليه؟ ولكني سأنتقم شديد الانتقام. كلا، لن أذرف الدمع مرة أخرى. أفي مثل هذه الليلة تقفلون الأبواب دوني؟! اهطل أيها المطر، سأتحمل. أفي مثل هذه الليلة! آه ريغان! يا غونوريل! أبوكما الشيخ الهرم الذي أعطاكما قلبه السمح كل شيء. وي! هذا مدرج الجنون؛ فلأتجنبه ولأقصر.
كنت :
مولاي الجليل، ادخل هنا.
لير :
أرجو أن تدخل أنت. التمس الراحة لنفسك. هذه الزوبعة لا تتركني أفكر فيما هو أشد إيلاما لنفسي، فلأدخل إذن. (إلى البهلول)
ادخل أنت أولا يا بني، يا شقوة لا ملجأ لها، ادخل توسلت إليك. سأصلي وبعد الصلاة أنام. (يخرج البهلول)
أيها الأشقياء العراة، أيا كنتم، يا من يقاسون ويلات هذه الزوبعة الغشوم، كيف تستطيعون ورءوسكم لا تقيها من سقف واقية، وجنوبكم من الجوع خاوية، وثيابكن أسمال مهتكة بالية، أن تحموا أنفسكم من مثل هذه الزوابع القاسية؟ آه! إني لم أعن بهذا الأمر إلا قليلا. يا أهل النعمة والثراء، خذوا من ذلك دواء، سيروا في الأرض واستشعروا ما يستشعر الفقراء؛ فلعلكم أن تنفضوا إليهم فضل ما في يدكم حتى يقل في العين ظلم السماء.
إدغار (من الداخل) :
قامة ونصف. قامة ونصف. توما المسكين. (يأتي البهلول جاريا من الخص.)
البهلول :
إياك أن تدخل هنا يا عمي. هنا عفريت. انجدني انجدني.
كنت :
هات يدك. من الذي هنا؟
البهلول :
عفريت، عفريت يقول إن اسمه توما المسكين.
كنت :
من أنت يا من يتشكى من وراء القش؟ اخرج إلينا. (يدخل إدغار متنكرا متظاهرا بالجنون.)
إدغار :
الفرار! العفريت في أثري. الريح الباردة تهب من خلال أشواك الزعرور. آخ. عودوا إلى فراشكم البارد واستدفئوا.
لير :
ترى أعطيت ابنتيك كل ما تملك فوصلت إلى هذا؟
إدغار :
من ذا الذي يعطي شيئا لتوما المسكين، الذي اقتاده العفريت خلال النيران واللهب، والمخاضات والدوامات والمناقع والوحول، والذي وضع له السكاكين تحت مخدته، والحبال تحت مقعده في المعبد؛ ليغريه بالانتحار، ووضع له سم الفار بجوار العصيدة، وأزهاه بنفسه، وأركبه حصانا أحمر، وجعله يركض به فوق قناطر عرضها أربعة قراريط، جاريا وراء ظله كاتما يطارد خائنا. بورك لكم في حواسكم الخمس. توما مبرود. آه، حح! دو! دو دو. وقيتم زوابع الرياح، وسوء طوالع السماء والعدوى. أحسنوا بشيء على توما المسكين الذي يساوره عفريت شرير. هو ذا لو أمسكته، هو ذا، هو ذا هناك، هو ذا (الزوبعة مستمرة) .
لير :
ما خطبه؟ أأورده بناته هذا المورد؟ ألم تستطع أن تحتفظ بشيء؟ أأعطيتهما كل ما تملك؟
البهلول :
لا، لا، لقد احتفظ لنفسه بغطاء يستره، وإلا لاستحيينا أن ننظر إليه.
لير :
فليقع على رءوس بناتك كل ما يحمل الهواء من الشر والوباء معدا للنقمة من كل مجرم.
كنت :
ليس له بنات يا مولاي.
لير :
تبا لك يا خائن! محال، لا يستطيع أحد أن ينزل الإنسان هذا المنزل الذليل إلا بناته السيئات. أعادة الآباء إذا نبذهم الأبناء ألا يرحموا أجسادهم؟ نعم العقاب. إنه هو الجسد الذي ولد بنات الطائر السقاء هذي.
إدغار :
طار البجع طار وحط فوق الجبال، هللوية! هللوية.
البهلول :
سيجعلنا برد هذا الليل مجانين كلنا ومعتوهين!
إدغار :
حذار جميعا من العفريت الشرير. أطيعوا آباءكم، وأوفوا بعهودكم، ولا تحلفوا بالكذب، ولا تتباهوا بزينتكم. توما مبرود.
لير :
ماذا كنت من قبل؟
إدغار :
كنت لأحد السادة خادما يملأ الزهو قلبي وعقلي، أعقص شعري، وأضع القفازات في قبعتي، وأقسم مع كل كلمة أقولها قسما أحنث به صراحة في وجه السماء. كنت لا أنام إلا وقد دبرت دسيسة شر أنهض من نومي لتنفيذها. كنت أحب الخمر والنرد حبا شديدا، وكنت أشد ولوعا بالنساء من التركي، فاسد الطوية، تواق الأذن لاستماع مقالة السوء، دموي اليد، بطيء الحركة كالخنزير، لصا كالثعلب، نهما كالذئب، شكسا كالكلب، وحشيا كالأسد. حذار أن يستهويك وقع حذاء المرأة أو خشخشة ثوبها؛ فتسلم قلبك الضعيف إليها، وأبعد قلبك عن دفاتر المقرضين، واحذر العفريت الشرير (الزوبعة على حالها) .
هذه الريح البرود لم تزل
خلل الزعرور تجري بالعجل
بزئير وهدير ووشل
دعه يمضي هكذا ولا تسل
لير :
ويك! كان خيرا لك لو بقيت في قبرك من أن تخرج بجسمك هذا العاري مستهدفا لعاديات السماء. أهذا كل شأن الإنسان؟ أمعنوا فيه النظر، لست مدينا للدودة بحرير، ولا للبهيمة بجلد، ولا للشاة بصوف، ولا للهر بعطر. نحن بيننا ثلاثة مصطنعون. أما أنت فإنك الإنسان الصراح، ما لإنسان المتجرد إلا بهيمة عارية مثلك ذات رجلين. إليك عني أيتها العاريات! هلم، فكوا هذه الأزرار من عراها (ممزقا ثيابه) .
البهلول :
أتوسل إليك يا عمي أن تهدئ روعك. هذا ليل سيئ لا تحمد السباحة فيه. انظر: هذه نار ماشية على قدمين تدنو منا (يظهر غلوستر بمشعل) .
إدغار :
هذا هو العفريت الأسود فليبرتيجبت
3
يبتدئ خروجه عندما يدق جرس المساء للهجود، ويظل سائرا حتى تصيح الديكة وهو يرمي النواظر بالجهر، والعيون بالحول، والشفاه بالشرم، والقمح بالجرب، ويؤذي خلق الأرض المساكين.
قد مر ويتهولد ثلاثا بالتلال
فقابل الكابوس والتسع العيال
ضاربها فاندحرت وأذعنت
وطلبت منه الرضا فأمنت
قال لها القديس: خلي أرضنا
فوعدت ألا تجيء ها هنا
اذهبي أيتها الساحرة، اذهبي.
كنت :
كيف حال مولاي؟
لير :
من هذا؟
كنت :
من هنا؟ ماذا تنشد؟
غلوستر :
ومن أنتم؟ ما أسماؤكم؟
إدغار :
توما المسكين الذي يأكل ضفادع الماء والأرض والدحلب، وسحالي الجدران، وهوام الغدران، وإذا اعتكر قلبه - إذا ثارت ثائرة العفريت الأسود - يجعل تابله روث البقر، ويزدرد الفأرة الميتة والكلاب ملقاة في الخنادق، ويشرب وشاح الطحلب من ماء البركة الراكدة، والذي يزجرونه من زورة لزورة، ويعاقبونه ويحبسونه في المقطرة، وكان له من قبل ستة معاطف على ظهره، وستة قمصان على بدنه، وجواد يركبه، وسيف يتقلده.
ولكن توما قضى سبعة
طوالا على الفأر والضفدع
احذروا مساوري. هدئ جأشك يا سملكين، هدئ جأشك أيها العفريت.
غلوستر :
ويحي! أما لك صحبة خير من هذا؟
إدغار :
إن أمير الظلام ذات شريفة. «مودو» يسمونه، و«ماهو».
غلوستر :
لقد فسد لحمنا ودمنا، يا مولاي، حتى أصبحا يكرهان من ولدهما.
إدغار :
توما المسكين مقرور.
غلوستر :
تعال معي؛ ينبو بي ولائي لك أن أطيع جميع أوامر ابنتيك القاسيتين، فقد أمرتاني أن أقفل أبواب بيتي في وجهك، وأدع هذا الليل العاتي يعبث بك، ولكني لم أبال بهما، وجئت أبحث عنك لأنزلك دارا تجد فيها دفئا وطعاما.
لير :
دعني قبل هذا أحادث هذا الفيلسوف: ما سبب الرعد؟
كنت :
مولاي الجليل، أجبه إلى ما يعرض، واذهب إلى الدار معه.
لير :
أريد أن أكلم هذا العالم الطيب كلمة: فيم علمك؟
إدغار :
أعلم كيف أزجر العفريت وأقتل الهوام السامة.
لير :
دعني أسألك سؤالا واحدا على انفراد.
كنت :
ألح عليه مرة أخرى أن يأتي معك يا سيدي، لقد أخذ يضطرب حجاه. (الزوبعة مستمرة.)
غلوستر :
كيف تلومه؟ إن ابنتيه تريدان موته. وا أسفاه على كنت الصالح! لقد تنبأ بما هو حادث، أسفا على الرجل المنفي ظلما! تقول إن الملك أخذ يجن؟ اعلم يا صاحبي أنني أكاد أكون مجنونا أنا نفسي. لقد كان لي ولد أصبح اليوم باسم القانون مقطوع صلة الدم بي. هذا الولد انتوى قتلي منذ عهد قريب، قريب جدا، وقد كنت أحبه يا صاحبي حبا لم يشعر بمثله والد قبلي لولد. (الزوبعة قائمة.)
ولعمر الحق لقد عبث الحزن بحجاي حتى عراني الخبال. ما هذا الليل العصيب؟! أتوسل إلى مولاي ...
لير :
أرجو منك يا سيدي. معذرة، أيها الفيلسوف النبيل، اسمح لي بصحبتك.
إدغار :
توما مقرور!
غلوستر :
ادخل يا صاحبي هنا في الخص واستدفئ.
لير :
هلموا ندخل الخص جميعا.
كنت :
من هنا يا مولاي.
لير :
أنا معه. لا أفارق هذا الفيلسوف الحكيم.
كنت :
سيدي الرجل الكريم، طيب خاطره، ودع الفتى يأتي معه.
غلوستر :
اقتده.
كنت :
هلم يا صاحبي، تعال معنا.
لير :
تعال أيها الأثيني الفاضل.
غلوستر :
لا تنبسوا بكلمة، الزموا الصمت.
إدغار :
إلي البرج عاد الأمير الصغير
يبحث عن أخته في الظلام
فلما تشمم ريح الغريب
أخو الجن فاه «بفوه وفام»
المنظر الخامس
غرفة في قصر غلوستر (يدخل كورنوال وإدموند.)
كورنوال :
سأنتقم منه قبل أن أغادر قصره.
إدموند :
ليت شعري ما حكم الناس في أمري؟ لعمري لقد أنكرت في ولائي لك حق أبي علي، وإني لأتوجس من ذلك شرا.
كورنوال :
تبينت الآن أن الذي حمل أخاك على تبييت قتله لم يكن لؤم نفسه وحده، وإنما هو إحساس عدالة أيقظه ما تبين فيه من داء سوء عياء.
إدموند :
ما أسوأ حظي، فهو يقضي علي أن أقاسي آلام الندم على أني أحققت العدل. هذا هو الخطاب الذي حدثني به، وفيه الدليل على أنه يتراسل في مصلحة فرنسا.
يا للسماء! ليت أن هذه الخيانة لم تكن، ولم أكن مستكشفها.
كورنوال :
تعال معي إلى الدوقة.
إدموند :
إذا كان ما تضمنه هذا الخطاب صدقا كنت أمام أمر خطير.
كورنوال :
صدق الأمر أو كذب؛ لقد أصبحت به إيرل غلوستر. أبحث أين أبوك كي نقبض عليه.
إدموند (لنفسه) :
إذا أنا ألفيته عاملا على مساعدة الملك؛ زدت الدوق - بكشف أمره - ريبة منه فوق ريبة، سأمضي يا مولاي في سبيل ولائي لك وإن احتدم القتال، واشتد بين هذا ودمي.
كورنوال :
سأنزلك منزل الثقة من نفسي، وستجد في محبتي لك أبا أحن وأعطف (يخرجان) .
المنظر السادس
غرفة في منزل ريفي بجوار قصر غلوستر (يدخل غلوستر ولير وكنت والبهلول وإدغار.)
غلوستر :
سيكون حالكم هنا خيرا منه في العراء، فتقبلوا النعمة شاكرين، وسأزيد راحتكم بما أستحضره الآن لكم. لا أغيب عنكم طويلا.
كنت :
فلتثبك الآلهة يا سيدي على فضلك. لقد ضعضع الهم كل قوى نفسه (يخرج غلوستر) .
إدغار :
فراتيراتوا يناديني ويقول لي: نيرون يصطاد الآن في بركة الظلام، صل أيها البهلول، واحذر العفريت الأسود.
البهلول :
من فضلك يا عمي خبرني: المجنون سري أم فلاح؟
لير :
هو ملك! ملك!
البهلول :
لا، بل هو الفلاح الذي يكون له ولد من طبقة السادة؛ لأن الفلاح الذي يرضى أن يصير ابنه سريا قبل أن يصير هو، هو المجنون بعينه.
لير :
ليشويهما ألف عفريت يحملون مشاعل حمراء ملتهبة ذات حسيس.
إدغار :
العفريت الأسود يعض ظهري.
البهلول :
مجنون من يطمئن لوداعة الذئب، أو قوائم الجواد، أو محبة الأولاد.
لير :
أجل. عزمت، سأشكوهما على الفور. (إلى إدغار)
تعال اجلس هنا، أنت أيها القاضي اللوذعي. (إلى البهلول)
وأنت أيها السيد الفقيه، اجلس هنا. والآن، يا ثعالتان!
إدغار :
انظروا كيف يقف ويحملق! أتغازلن بعينيك يا سيدتي في ساحة المحاكمة؟ (شعر):
اعبري البركة يا بيسي إلي
البهلول :
إن في القارب خرقا واضحا
فهي لا تستطيع أن تأتي إليك
إدغار :
العفريت الأسود يساور توما المسكين في صورة بلبل يغني «هو بدانس»، يصيح في بطني طالبا سمكتين. لا تصرخ أيها الملك الأسود، ليس لك عندي طعام.
كنت :
كيف حالك يا سيدي؟ لا تظل واقفا ساطع العين، ارقد واتكئ على الوسائد.
لير :
أريد أن أشهد محاكمتها أولا. هات الشهود. (لإدغار)
خذ مجلسك أيها المدره اللابس أثواب القضاء. (إلى البهلول)
وأنت أيها الزميل العادل، اجلس بجانبه. (إلى كنت)
وأنت أيضا من هيئة المحكمة، اجلس كذلك.
إدغار :
فلنحكم بالعدل.
أيها الراعي أفق أم أنت صاح
إن قطعانك غابت في الحقول
ليس يجديك نداء أو صياح
فهي صما لا تبالي ما تقول
پر، پر.
4
الهرة خضراء.
لير :
حاكموا هذه أولا. إنها غونوريل. إني أقسم أمام هذه المحكمة المحترمة أنها ركلت أباها الملك المسكين بقدمها.
البهلول :
تعالي هنا أيتها السيدة، اسمك غونوريل؟
لير :
لا تستطيع إنكاره.
البهلول :
معذرة يا سيدتي، لقد زعمت أنك قطعة من الحجر.
لير :
وإليكم واحدة أخرى تدل نظراتها العابسة من أي معدن قد قلبها، اقبضوا عليها. سلاح! سلاح! سيفا! نارا! أرشوة في المحكمة؟! ويحك أيها القاضي الكاذب! لماذا مكنتها من الفرار؟
إدغار :
بورك في حواسك الخمس.
كنت :
وا رحمتاه! سيدي، أين صبرك الذي كنت تباهي به كثيرا؟
إدغار (لنفسه) :
أخذت دموع العطف عليه تفضح ما سترت من أمري.
لير :
حتى كلابي الصغيرة؛ تراي وبلانش وسويثهارت، كلها تنبحني.
إدغار :
ولكن توما سيرميها برأسه. ابعدي يا كلاب السوء.
أن تكوني ما تكوني في الكلاب
ذات ظفر قاتل أو ذات ناب
حرة أو نغلة أو نسلا
من سراحين الذئاب في الفلا
سأجريك وأبكيك إذا
ملت بالرأس إليك هكذا
دودو، دودو. قفي، اذهبي إلى السوامر والموالد والأسواق. مسكين يا توما ليس في قرنك شيء.
لير :
إذن فدعوهم يشرحوا ريغان؛ ليروا ماذا ران على قلبها، هل من علة في الفطرة تخلق القسوة في القلوب؟ (إلى إدغار)
اسمع يا سيدي، إني أريد أن أستبقيك بين رجالي المائة؛ بيد أني لا أحب هذا الزي من ثيابك. ستقول إنه حلة فارسية بهيجة، ولكني أريد أن تغيرها.
كنت :
سيدي، ارقد هنا واسترح قليلا.
لير :
لا تحدثوا ضجيجا، لا تحدثوا ضجيجا، أسدلوا الأستار هكذا، هكذا، هكذا، سنذهب للعشاء في الصباح هكذا، هكذا، هكذا.
البهلول :
وسأذهب إلى الفراش في الظهر. (يعود غلوستر.)
غلوستر :
ادن مني يا صاحبي. أين الملك مولاي؟
كنت :
هنا يا سيدي، ولكن إياك أن تقلقه، لقد فارقه الحجى.
غلوستر :
أتوسل إليك يا سيدي أن ترحل به، لقد استكشفت أنهم يدبرون موته، هنا نقالة حاضرة، أرقده عليها وسر به إلى دوفر يا صاحبي؛ فإنك واجد هناك خفضا وحمى. ارحل بمولاك على عجل، وإلا فإنك إذا تلكأت نصف ساعة ضاعت عليك حياته وحياتك وحياة من معك من حماته. هلم ارفعه واتبعني؛ إني أريد أن أخرج بك على الفور إلى مكان أمين.
كنت :
الفطرة المرهقة نائمة، وقد يرأب الرقاد بعض صدوعها، أما إذا هي حرمته فلعلها تستعصي على الشفاء. (إلى البهلول)
تعال ساعدني على حمل مولاك ولا تتخلف وراءنا.
غلوستر :
هلم، هلم، أسرعوا. (يخرج الجميع ما عدا إدغار.)
إدغار :
إذا نحن رأينا من هم أحسن منا يقاسون من الآلام ما نقاسي، فلشد ما تهون علينا بلايانا، ولعمري لا يغتال الأسى إلا من ينفردون بالأحزان بما يساور قلوبهم من ذكريات متعة حرموها، ونعمة فارقوها. أما الذين يجدون لهم نظراء في أحزانهم، وأضرابا في أساهم؛ فأولئك تخف عنهم آلامهم. لشد ما أرى الآن وجدي هينا طفيفا حين أجد الحمل الذي يطأطئ له رأسي يخر له متن الملك. كلانا مرزوء، هو من ظلم بناته، وأنا من ظلم أبي. انصرف الآن يا توما، وراقب ما يعج من حولك من ضجيج، ولا تكشف عن نفسك حتى تنكشف تلك التهم التي رموك بها ظلما، وينجلي الأمر عن برهان مبين منك يردك إلى أبيك، ويعيدك إلى مكان المحبة من قلبه؛ ليبلغ الملك غايته آمنا، وليقع بعد ذلك في هذه الليلة ما يقع. فلأتدار، فلأتدار.
المنظر السابع
قصر غلوستر (يدخل كورنوال وريغان وغونوريل وإدموند وخدم.)
كورنوال :
سيدتي الأميرة، اركبي وسيري على عجل إلى مولاي الدوق زوجك، وأريه هذا الخطاب؛ لقد نزل جيش فرنسا بأرضنا، علينا بالخائن غلوستر. (يخرج بعض الخدم.)
ريغان :
اشنقه على الفور.
غونوريل :
افقأ عينيه.
كورنوال :
اتركاه لنقمتي. إدموند، كن في رفقة أختنا. إن ما عزمنا أن ننتقم به من أبيك الخائن حري ألا تشهده. قل للدوق إذ أنت ذاهب إليه يهيئ عدته سريعا. إنا فاعلون كذلك، وسيتولى مهمة البريد بيننا رسل أكفاء ذوو سرعة ودراية. صحبتك السلامة أيتها الأخت، صحبتك السلامة يا لورد غلوستر. (يدخل أوزوالد.)
ما خطبك؟ أين الملك؟
أوزوالد :
سيدي، نقل بتدبير لورد غلوستر عن هذه الناحية، ولقد كان جماعة من فرسان حاشيته يبلغ عددهم خمسة وثلاثين أو ستة وثلاثين يبحثون عنه مجدين حتى التقوا به عند باب المدينة وهو خارج، وكان معه بعض أتباع اللورد، فانضووا إليهم، وساروا كلهم في ركبة صوب دوفر جذلين بأنهم سيلاقون بها أصدقاء مسلحين.
كورنوال :
أعد جيادا لمولاتك.
غونوريل :
وداعا أيها السيد العزيز، وداعا يا أختي.
كورنوال :
وداعا يا إدموند. (تخرج غونوريل وإدموند وأوزوالد.)
اذهبوا وابحثوا عن الخائن غلوستر، شدوا وثاقه شد اللص وأحضروه إلينا. (يخرج بعض خدم أخر.)
قد لا أملك أن أصدر عليه حكما بالموت بغير محاكمة رسمية، ولكنا سنستعين بسلطتنا وجاهنا على تحقيق نقمتنا؛ فهي - وإن عابها الناس - لا يستطيع أحد كبح جماحها. (يعود الخدم مع غلوستر.)
غونوريل :
يا للثعلب الجاحد! إنه هو.
كورنوال :
أوثقوا ذراعيه المتقلصتين.
غلوستر :
ما قصد سموكم؟ أيها الأصدقاء، اذكروا أنكم في ضيافتي،ولا يليق بكم أن تسيئوا إلي.
كورنوال :
أوثقوه قلت لكم (الخدم يشدون وثاقه) .
ريغان :
شدوا، شدوا. يا لك من خائن قذر!
غلوستر :
لست من ذلك في شيء أيتها المرأة الجافية.
كورنوال :
اربطوه بهذا الكرسي. سترى أيها الوغد أن ... (ريغان تنتف لحيته.)
غلوستر :
أما والآلهة الكرام، إن من الخسة البالغة أن تنتفي لحيتي.
ريغان :
أشيبة لحية وخيانة؟!
غلوستر :
أيتها المرأة الباغية، هذه الشعرات البيضاء التي تستأصلينها من منبتها ستبعث عما قريب وتدينك. اذكري أني أنا مضيفك، فما كان يليق بك أن تطلقي يد اللص منك عابثة بمكارمي، وتبغي علي كما بغيت. ماذا تريدين؟
كورنوال :
صه! ما تلك الرسائل التي جاءتك من فرنسا؟
ريغان :
أوجز القول لأننا على بينة منها.
كورنوال :
وما صلتك بالخونة الذين نزلوا منذ عهد قريب ببلادنا؟
ريغان :
وإلى من أرسلت الملك المجنون؟ تكلم.
غلوستر :
جاءني خطاب لا يتضمن إلا رواية ظن وحدس من شخص على حياد لا من شخص مضاد.
كورنوال :
تدليس.
ريغان :
وكذب.
كورنوال :
أين بعثت بالملك؟
غلوستر :
إلى دوفر.
ريغان :
ولمذا اخترت دوفر؟ ألم ننذرك بالويل؟
كورنوال :
لماذا اخترت دوفر؟ دعيه يجب هذا السؤال أولا.
غلوستر :
لا مفر، أنا موثق ومغلول؛ إذن فلأجبه الأوغاد بما يستحقون.
ريغان :
لماذا اخترت دوفر؟
غلوستر :
لأني لا أطيق أن أرى أظافرك الجافية ناشبة في عيني الشيخ المسكين تقتلعهما، ولا أنياب الأفعى من أختك الوحشية تعض جسده المبارك. يا ويلتا! لو أن تلك الزوبعة المعصرة التي هطلت سحائبها على أبيك وهو عاري الرأس في تلك الليلة الحالكة المدلهمة قد ألمت بالبحر لغاضت مياهه، وعلت إلى السماء فأطفأت نيران نجومها، ولكن تلك الروح الطيبة كانت تشفع تهتان السماء بالدموع. لو أن الذئاب عوت لدن بابك مستغيثة من هول تلك الساعة لأحفزك عويلها، وتجاوزت عن سيئاتها، فناديت من وجدك: افتح أيها الحارس الكريم بابك، ولكني سأرى بعيني وقوع الانتقام السريع على هاتين البنتين.
كورنوال :
لن تراه. يا رجال، أمسكوا بالكرسي. سأضع على عينيك هاتين قدمي. (يقبضون على غلوستر فيقتلع كورنوال إحدى عينيه، ويضع عليها قدمه.)
غلوستر :
من يرجو منكم حياة طويلة فلينجدني! ويل للقاسي. آه! يا إلهي.
ريغان :
اجعلهما سواء واقتلع الأخرى أيضا.
كورنوال :
إذن أنت رأيت الانتقام.
خادم أول :
رويدك يا سيدي، أقصر؛ لقد خدمتك منذ طفولتي، ولكني ما أديت لك خدمة خيرا من نهيك الآن عما تهم به.
ريغان :
ويحك يا كلب.
خادم أول :
لعمري لو كنت رجلا لانتقمت منك جزاء ما لك من يد في هذه الجريمة. ماذا تريدين؟
كورنوال :
خادمي! (يجرد ويهم بالقتال) .
خادم أول :
هلم إذن. تقدم وأصل نار غضبي. (يجرد سيفه ويقاتل. ينجرح كورنوال.)
ريغان (إلى خادم آخر) :
أعطني سيفك. عبد يجبه سيده! (تأخذ سيفه وتطعنه به في ظهره.)
خادم أول :
آه! قتلت، قتلت. (إلى غلوستر)
سيدي، بقيت لك عين لترى بها بعض ما أوقعت به من النكال. آه.
كورنوال :
خشية أن ترى أكثر مما وقع، أمنعها من الآن. (يقتلع عينه الأخرى ويرميها على الأرض)
اخرج أيها الزلال الفاسد. أين نور عينيك الآن؟
غلوستر :
الدنيا كلها ظلام وأسى. أين ولدي إدموند؟ إدموند، أشعل كل شرارات نفسك وانتقم لأبيك من هذا الجرم الفظيع.
ريغان :
اخرج أيها الوغد الخائن! إنما تستنجد بمن يكرهك؛ إنه هو الذي كشف عن خيانتك لنا، هو أوفى لنا من أن يشفق عليك.
غلوستر :
وا سوأتاه! تبين لي أني أسأت إلى إدغار. أيتها الآلهة، اغفري لي ذنبي، وباركي عليه.
ريغان :
خذوه وارموه خارج الأبواب، ودعوه يتشمم الطريق إلى دوفر. (يخرج أحد الحاضرين بغلوستر)
ماذا بك يا سيدي؟ كيف حالك؟
كورنوال :
لقد جرحت. اتبعيني يا سيدتي. أخرجوا هذا الوغد الفاقد العينين، وارموا هذا العبد على المزبلة. ريغان، إن دمي يتدفق مني. لقد جاء هذا الجرح في غير وقته، أعطني ذراعك. (يخرج كورنوال مستندا إلى ذراع ريغان.)
خادم ثان :
إذا لقي هذا الرجل خيرا؛ فلعمري لا يعود يهمني اقتراف كل منكر.
خادم ثالث :
وإذا هي عاشت طويلا، وفي نهاية حياتها ماتت كما يموت غيرها؛ فلعمري لتصبحن جميع النساء شياطين.
خادم ثان :
هلموا بنا نلحق بالإيرل العجوز، ونعهد إلى فتى المارستان مسايرته حيث يريد. إنه على جنونه مطواع.
خادم ثالث :
اذهب أنت لذلك. أما أنا فسأحضر شيئا من الكتان وزلال البيض لأضعه على وجهه الدامي. كوني في عونه أيتها السماء.
الفصل الرابع
المنظر الأول
الأرض العاشبة (يدخل إدغار.)
إدغار :
لأن أكون هكذا زري الحال مع العلم به خير من أن أكون زريا ويخدعني الناس في أمري. إن أكن في أسوأ حال فشر الأحياء وأسفلهم، وأزرى من وضع الحظ منهم، لا تفارق قلوبهم الآمال، ولا يعيشون في وجل من تبدل الحال. أنكى التبدل ما كان من النعمى. أما تبدل الشقوة فمرجعه إلى الفرج. مرحبا بك أيها النسيم اللطيف أضمك إلى صدري. لقد عبثت بي أعاصيرك، ورمتني في البؤسى، فليس لها علي جميل. (يدخل غلوستر يقوده رجل عجوز.)
إدغار :
أبي يقاد هكذا، يا دنيا! يا دنيا! يا دنيا! لولا غيرك العاتية، وصروفك القاسية التي تكرهنا فيك ما ألم
1
بنا وهن الشيخوخة.
الرجل العجوز :
كيف ذا يا سيدي؟ لقد كنت مستأجرا أرضك وأرض أبيك من قبلك أبد تلك الثمانين من السنين.
غلوستر :
بل انصرف، انصرف عني أيها الرجل الطيب، ابعد عني، ليس يجديني الرثاء بتاتا، ولربما أصابك أنت منهم الأذى.
الرجل العجوز :
وا أسفا يا سيدي! إنك لا تستطيع أن تبصر الطريق.
غلوستر :
ليس لي طريق، فما لي من حاجة إلى البصر، لقد عثرت يوم كنت أبصر، ولطالما رأينا كمال حواسنا يشعرنا بالأمن فنزل ونقع. حين يشعرنا نقصها بالشك فنأمن. آه يا ولدي العزيز إدغار! يا من كنت فريسة غضب أبيك المخدوع! لو عشت حتى أراك باللمس من يدي لأقولن يومئذ ردت إلي عيناي كلتاهما.
الرجل العجوز :
ما هذا؟ من هنا؟
إدغار (لنفسه) :
رباه! من ذا الذي يستطيع أن يقطع بأنه في الدرك الأسفل من سوء الحال؟ إني لأسوأ الآن حالا مما كنت منذ قليل.
الرجل العجوز :
هذا توما المجنون المسكين.
إدغار (لنفسه) :
وقد أكون أسوأ حالا فيما بعد. لا، ليس أسوأ أحوالنا ما يكون ما دمنا نستطيع أن نقول: إن هنالك ما أسوأ.
الرجل العجوز :
أين تذهب يا صاحبي؟
غلوستر :
أهو أحد المتسولين؟
الرجل العجوز :
مجنون ومتسول معا.
غلوستر :
لا بد أن يكون فيه شيء من الرشد، وإلا ما استطاع أن يستجدي. في زوبعة ليلة الأمس رأيت مثل من تصف، فخيل إلي أن الإنسان في حقارته دودة. عندئذ خطر ولدي على بالي؛ بيد أن البال لم يكن طيبا له، على أني سمعت منذ ذلك أنباء لم أكن عليما بها إذ ذاك. نحن بني البشر لعب في يد القدر، تعبث الآلهة بنا وتردينا في لهوها بنا كما تفعل الصبية العابثة بالفراش.
إدغار :
كيف حدث هذا يا ترى؟ ما أسوأ تجارتي! تقضي علي أن أمثل برغمي دور المجنون الهازل أمام رجل محزون، فأحزن قلبي وقلبه معا. بورك فيك يا سيدي.
غلوستر :
أهذا هو الفتى العاري؟
الرجل العجوز :
أجل يا مولاي.
غلوستر (إلى العجوز) :
إذن فإني أرجو منك أن تنصرف، وإذا لم يكن لك بد أن تتبعني إكراما لي؛ فكن على مدى ميل أو ميلين مني في طريق دوفر. افعل هذا سألتك بحق الحب القديم العهد، وأحضر شيئا من الغطاء لهذا المخلوق العاري، إني سأتوسل إليه أن يأخذ بيدي.
الرجل العجوز :
ويحي يا سيدي! إنه فاقد الرشد.
غلوستر :
هو الخطب الشائع هذه الأيام أن يستهدي العميان بالمجانين. لا عليك، افعل كما قلت لك، أو بالأحرى افعل كما يحلو لك، وقبل كل شيء انصرف.
الرجل العجوز :
سأحضر له خير ثوب عندي، وليكن ما يكون (يخرج) .
غلوستر :
أيها الفتى العاري.
إدغار :
توما المسكين مقرور. (لنفسه)
ضقت ذرعا بهذا التنكر.
غلوستر :
ادن مني يا فتى.
إدغار (لنفسه) :
بيد أن التنكر واجب. بورك في عينيك يا سيدي. إنهما تدميان.
غلوستر :
أتعرف الطريق إلى دوفر؟
إدغار :
معالمها وحواجزها، طريق الراكب فيها والراجل. توما المسكين شردوا عنه العقل، وقيت يا ابن الكرام أذى العفريت الأسود. لقد كان في بدني خمسة عفاريت معا، أو بديكوت أمير الجشع، وهوبيدانس أمير البكم، وماهو أمير اللصوص، ومودو أمير القتلة، وفليبرتيجبت أمير المتعوجين والمتصنعين. وهذا العفريت هو الذي يركب الخادمات والوصائف؛ فلتحمك الآلهة منهم يا سيدي.
غلوستر :
خذ هذا الكيس لك أيها الشقي المسكين الذي رمته عوادي السماء بكل نازلة، طب الآن نفسا بما ترى من شقائي. وأنت أيتها السماء، استرسلي واحزبي بنوازلك كل ذي ثروة مستفيضة، المنغمس في الملذات والشهوات، والذي يسخر شريعتك لمراده، والذي لا يبصر لأنه لا يشعر. احزبيه عساه يشعر على عجل بقدرتك حتى يذهب التوزع بالزوائد، ويكون لكل امرئ كفايته. ترى أتعرف دوفر؟
إدغار :
أجل يا سيدي.
غلوستر :
هناك صخرة لها ناصية عالية، منكبة منحنية تطل على غور البحر الحبيس إطلالا، يبعث الرعب في القلوب. خذني إلى غرار الحافة منها أصلح لك ما أنت فيه من البؤس بعطية ثمينة، ولن أكون في حاجة بعد ذلك إلى من يقودني.
إدغار :
أعطني يدك؛ سيقودك توما المسكين (يخرجان) .
المنظر الثاني
أمام قصر دوق ألباني (تدخل غونوريل وإدموند.)
غونوريل :
مرحبا بك يا سيدي، إني لأعجب لم لم يأت زوجي الوديع للقائي؟ (يدخل أوزوالد.)
ماذا؟ أين مولاك؟
أوزوالد :
مولاتي، هو في القصر، ولكني لم أر إنسانا اعتراه من التغير ما اعتراه! لقد خبرته عن الجيش الذي ورد فابتسم لما سمع، وخبرته أنك آتية فكان جوابه: «هذا أسوأ وأكره»، وخبرته عن خيانة غلوستر وولاء ولده، فما إن انتهيت حتى سماني أبله وقال: أخطأت النظر وخدعت. وكأني به أصبح يحب ما كان يجب أن يكره، ويكره ما يجب أن يحب.
غونوريل (إلى إدموند) :
إذن فقد انتهت مهمتك. لم يقعده عن النهوض إلى الخطب إلا ما ركب في نفسه من الرعدة والجبانة. إنه لا يرى جناحا في أمر يلزمه أن يغضب له ويستشيط؛ إذن فلينفذ ما اتفقنا عليه في الطريق، عد إلى صهري كورنوال، وأعنه على حشد جنوده عاجلا، وكن على رأس الجيش. وسأنصرف أنا في غضون ذلك إلى مبادلة زوجي بمهمتي في الدار، فآخذ السيف من يده، وأعطيه المغزل بدله. وسيكون هذا الخادم الأمين رسولا فيما بيننا، ولعله لا يطول بك الوقت، إذا أنت أقدمت على تحقيق مرادنا؛ حتى تتبين أن التي تأمرك بذلك خلة تحبك وتهواك. البس هذا (تعطيه حلية للتذكار)
لا، لا تتكلم، مل برأسك. إذا كان لهذه القبلة لسان نطقت بما يرفع آمالك في أجواز السماء. فكر في الأمر، ولتصحبك السلامة.
إدموند :
أنا عبدك حتى الممات.
غونوريل :
وأنت الحبيب الأعز يا غلوستر. (يخرج إدموند.)
ما أوسع البون بين الرجل والرجل! على مثلك تعطف المرأة لا على مثل ذلك المأفون الذي يستبيح جسمي استلابا .
أزوالد :
أتى مولاي يا سيدتي. (يدخل ألباني.)
غونوريل :
لقد أصبحت ولا يعتد بي.
ألباني :
أنت يا غونوريل لا تعدلين التراب الذي تسفيه الريح على وجهك. أرى في شيمتك ما ينزل الرعب بنفسي! إن المرأة التي تزري بأبيها لقمينة أن تقترف كل منكر، ولعمري إن الوليدة التي تنفصل وتنشق على معين الحياة من الجزع الذي أنبتها لا بد أن يعالجها الذبول والجفاف، وتتناولها أيدي الردى.
غونوريل :
كفى! هذا كلام سخيف.
ألباني :
لا غرو أن تكون الحكمة والفضيلة سقطا في عيني الساقط. الدنس لا يستطيب إلا الدنس. ماذا فعلتما أيتها النمرتان - ولا أقول الابنتان - ماذا اقترفتما؟ أكذا تصنعان بأبيكما الرجل المسن الوقور الذي تملك شيبة رأسه مشاعر النفس، ولو كانت نفس دبة مقودة. يا أضرى الخلق، وأعق النفوس! أعراكما الجنون؟ بل كيف أجازته رجولة عديلي الكريم، ونبل نفسه، وعظيم عرفانه بالجميل! لعمري لو أغضت السماء طرفها فلم ترسل سوط نقمتها تعزيرا على مثل هذه الجرائم؛ لأكل الناس بعضهم بعضا كما تفعل وحوش اليم العميق.
غونوريل :
يا ذا الكبد البيضاء، الذي يحمل خدودا للطمات، ورأسا لتنصب عليها المهانة، والذي لم تركب تحت حاجبه عين تتبين ما يرفعه وما يحطه، إنه لهو الأحمق الذي يشفق على أولئك الأوغاد، ويأسى لعقابهم قبل أن يوقعوا ما انتووه من الشر. أين طبلك ونفيرك في قومك؟ لقد خفقت بنود ملك فرنسا في بلادنا حين لا تسمع فيها قعقعة سلاح منا لمقاتلته، ولا لجب جيش لمقاومته. تقدم فرسانه المعلمون نحو حماك ليستبيحوه وليحكموه حين تخلد أنت للسكينة والفلسفة الحمقاء. صارخة «وا أسفا»! لماذا يفعل ملك فرنسا بنا هذا؟
ألباني :
تأملي نفسك أيتها الشيطانة المريدة، بل لعمري لدمامة نفس الشيطان وهي منه، أقل قبحا في العين من دمامة نفس المرأة.
غونوريل :
قبحت من غر مأفون.
ألباني :
أيتها الكائن الممسوخ والهنة المتنكرة، استحيي ولا تتبدي في صورة الوحشة الضارية. لو كان يجمل بي أن أطلق يدي طوع دمي لسخلت هبر لحمك، وفككت أوصال عظمك. إنك لشيطانة مريدة؛ بيد أنك تتبدين في مسلخ امرأة، وتجعلين لنفسك درعا من ذلك وحمى.
غونوريل :
مرحى، أرى عليك الآن مخايل الرجولة. (يدخل الرسول.)
ألباني :
ما وراءك؟
الرسول :
أسفا يا مولاي! مات دوق كورنوال! قتله خادمه حين كان يهم باقتلاع عين غلوستر الأخرى.
ألباني :
يقتلع عيني غلوستر!
الرسول :
خادم نشأ في بيته وجد لما رأى؛ فأنكر الفعلة، ورفع سيفه على مولاه الكبير، فاستشاط غضبا وحمل عليه وقتله بين الجمع لساعته، ولكنه كان قد أصيب بطعنة بالغة قضت عليه بعد ذلك.
ألباني :
إن في ذلك لدليلا على أنك في العلا أنت أيتها الآلهة العادلة بما ترسلين من جزاء معجل، تعزرين به جرائمنا في هذه الدنيا، ولكن وا أسفا عليك يا غلوستر! هل فقد عينه الثانية؟
الرسول :
كلتيهما يا مولاي كلتيهما. هذي الرسالة يا مولاتي تتطلب جوابا عاجلا، وإنها من أختك.
غونوريل (لنفسها) :
يطربني سماع هذا النبأ على وجه ما، ولكنها أصبحت أيما وفتاي غلوستر بين يديها، وقد يكون في ذلك تقويض لأماني يجعل حياتي رهن الشقاء، ولكن هناك طريقا آخر أسلكه. ليس في نبأ موت الرجل ما تنزعج له النفس. سأقرأ الرسالة وأجيب عليها (تخرج) .
ألباني :
أين كان ولده حين اقتلعوا عيني أبيه؟
الرسول :
كان قد انصرف في رفقة مولاتي إلى هنا.
ألباني :
إنه ليس هنا.
الرسول :
لا يا مولاي، لقد لقيته في الطريق عائدا.
ألباني :
أيعرف ما أوقعوا بأبيه؟
الرسول :
أجل يا مولاي، إنه هو الذي وشى به إليهم، وغادر القصر متعمدا ليوسع لهم مجال النكال بأبيه.
ألباني :
غلوستر، سأحيا لأؤدي واجب الشكر لك على ما أظهرت من المحبة للملك، ولآخذ الثأر لعينيك. ادن مني يا صاحبي، وخبرني بما لا يزال لديك (يخرجون) .
المنظر الثالث
المعسكر الفرنسي بالقرب من دوفر (يدخل كنت والأمين.)
كنت :
ترى لماذا عاد ملك فرنسا إلى بلاده فجأة؟ أتعرف السبب؟
الأمين :
السبب في ذلك أنه كان قد خلف وراءه من أمور الدولة أمرا غير مستقر اشتغل به باله منذ حضر، وإذ كان من الخطورة بمكان مخوف؛ فقد كانت عودته ضرورة لازبة.
كنت :
ومن القائد الذي استخلفه من بعده؟
الأمين :
ماريشال فرنسا مسيو لافار
2 (Mons. La Far)
كنت :
ترى هل بعثت رسائلك في قلب الملكة شيئا من الأسى؟
الأمين :
أجل يا سيدي، لقد تناولتها وقرأتها في حضرتي، وكنت أرى قطرات الدموع تساقط على خدها الرقيق من آن لآن، وكأنما كانت تغالب عاطفة الوجد حتى كبحت جماحها وهي ثائرة بقوادها تود لو تستطيع أن تتغلب عليها.
كنت :
إذن فقد أثارتها الرسائل.
الأمين :
نعم، ولكنها لم تزلها عن وقارها، وكأنما تباري الصبر والحزن؛ أيهما أقدر على تجليتها في أروع مظهر؟ أرأيت إشراق الشمس وانسجام المطر معا؟ كذلك كان على الفضل ابتسامها وبكاها، وكأنما كانت تلك البسمات الحلوة التي افترت عنها شفتاها الناضجة تجهل في سكونها ما استقر من ماء الشجون في جفونها، فما لبثت أن انفرطت من عينيها الدموع كما تنفرط حبات اللؤلؤ من جوهرتين مشرقتين، ولعمري لو كان يتجلى كل ذي حزن فيما تجلت به من روعة الحسن؛ لكان الحزن بهجة للعين، وهوى لكل فؤاد.
كنت :
ألم تنبس بشيء؟
الأمين :
بلى تنهدت مرة أو اثنتين تنادي «والدي» وقد احتبس نفسها وتهدج كأنما كان القلب يعاني عبئا أناخ عليه، ثم صرخت منادية «أختاي! أختاي!» يا عار النساء، أختاي! كنت! أبي! أختاي! ويلاه! في العاصفة، في ظلام الليل! لا، لا، ما أكذب دعوى الرحمة! ثم رأيتها أسالت قطرات الماء المقدس من عينها السماوية، وأعولت، ثم انصرفت تعالج وجدا في انفراد.
كنت :
إنها هي الكواكب، الكواكب التي فوق رءوسنا تتصرف في أمورنا وتتحكم، وإلا فما يتأتى لزوجين بعينهما أن يختلف نتاجهما كل هذا الاختلاف. ألم تكلمها بعد ذلك؟
الأمين :
كلا.
كنت :
أكان ذلك قبل سفر ملك فرنسا إلى بلاده.
الأمين :
بل بعد سفره.
كنت :
إذن فاسمع يا سيدي، إن الملك لير المثقل القلب بالهم نازل الآن بالمدينة، ولقد يعاوده الصواب في بعض أحيانه فيذكر ما جئنا لأجله، ولكنه يأبى أن يلاقي ابنته.
الأمين :
لم هذا يا سيدي؟
كنت :
تمنعه خجلة بالغة تصاحب نفسه؟ قسوة قلبه التي جردت كورديليا من مطارف بركته وأسلمتها إلى مخاطر الغربة، بعد إذ حرمها حقها، وخلعه على قلبي الذئب من ابنتيه. هذه الأمور تلدغ فؤاده لدغ الأفاعي، وتثير في قلبه جوى خزي يقعد به عن رؤية كورديليا.
الأمين :
أسفاه على الرجل!
كنت :
ألم تسمع شيئا عن جيوش ألباني وكورنوال؟
الأمين :
يقولون إنهم على الأهبة.
كنت :
سأسير بك الآن إلى الملك لير سيدنا، وأتركك هناك لترعاه، وسيضطرني بعض الحال أن أظل على ما أنا فيه من التنكر هونا ما، ولكن إذا حان الوقت لتعرفني على حقيقتي فلن تأسى لتفضلك علي بمعرفتك. تفضل يا سيدي واصحبني (يخرجان) .
المنظر الرابع
نفس المعسكر، خيمة (تدخل كورديليا بطبول ورايات ومعها طبيب وجنود.)
كورديليا :
واأسفاه! إنه هو بعينه. رأوه منذ هنيهة هائجا كالبحر الثائر يصيح بأعلى صوته مغنيا، وقد توج رأسه بأعشاب الأخاديد وأزاهيرها الشديدة العبق، وبكل شائكة سامة من الحشائش والأزهار في حقول القمح الكريمة. لتذهب شرذمة في طلبه، وليجوسوا خلال كل جانب في المرج الباسق الزروع ويأتوا به إلينا. (يخرج ضابط)
ماذا في مقدور حكمة الإنسان عمله لترد إليه الصواب؟ من يشفه ينل كل ما ملكت يدي.
الطبيب :
هوني الأمر عليك يا مولاتي، إن هناك وسائل كثيرة؛ بيد أن أهمها وأفعلها وسيلة الطبيعة، تلك هي النوم. هذا ما يعوزه، وهناك عقاقير كثيرة من نبات الأرض الهين في مقدورها أن تغمض عيني الوجد منه.
كورديليا :
آه! ليت كل ذي نفع وفضل من أعشاب الأرض الشافية ترويها دموعي، وتنبتها عاجلة ليكون منها الشفاء لأبي، ابحثوا عنه، ابحثوا لئلا يهيم به الوجد في مدارج الردى فيلقى حتفه وهو سائر في الأرض مفقود الدليل من الحجى. (يدخل رسول.)
رسول :
جئت بنبأ يا مولاتي؛ الجنود البريطانية قادمة نحو هذا المكان.
كورديليا :
عرفنا ذلك من قبل، ونحن على استعداد لمقابلتهم. وا أبتاه! إني إنما أتيت هنا من أجلك. رثى لي ملك فرنسا العظيم فأجاب داعي حزني ورجاء دموعي، ما أحفزني الطمع، وإنما دعاني الحب، الحب النقي وحقك أيها الوالد المسن! عسى الآلهة أن تجمعني به لأسمعه وأراه ! (يخرجون.)
المنظر الخامس
قصر غلوستر (تدخل ريغان وأوزوالد.)
ريغان :
ولكن هل شخصت جيوش أخي ألباني إلى القتال؟
أوزوالد :
أجل يا مولاتي.
ريغان :
وهو بنفسه مع الجنود.
أوزوالد :
نعم، بيد أن ذلك على الكره منه، وأرى أخت سيدتي أرجل منه.
ريغان :
ألم يلتق لورد إدموند بمولاك في القصر؟
أوزوالد :
كلا يا سيدتي.
ريغان :
ماذا في خطاب مولاتك إليه يا ترى؟
أوزوالد :
لا أدري يا سيدتي.
ريغان :
إنه رحل في أمر خطير. لقد كان من الخطأ أن يتركوا غلوستر حيا بعدما قلعت عيناه، حيثما خطرت قدمه أثار غضب القلوب علينا، وربما كان إدموند قد ذهب ليريح أباه من عناء حياة يقضيها في ليل مدلهم من العمى، وكذلك ليستكشف حال العدو.
أوزوالد :
لا بد من اللحاق به يا مولاتي لأوصل إليه الخطاب.
ريغان :
سترحل جنودنا في صباح الغد؛ فتلوم معنا إن الطريق غير مأمون.
أوزوالد :
لا أستطيع يا سيدتي؛ فقد أمرتني مولاتي أن أسير في هذه المهمة بما يجب لها من المضاء.
ريغان :
أي ضرورة اقتضت أن تكتب إلى إدموند؟ ألم يكن في وسعك أن تحمل إليه رسالتها شفاها؟ ربما كان هناك شيء. لا أدري. أكون لك صديقة إلى الأبد إذا أنت سمحت لي بفض هذه الرسالة.
أوزوالد :
سيدتي خير لي ...
ريغان :
أنا أعلم أن مولاتك لا تحب زوجها. إني واثقة من ذلك، ولما كانت هنا آخر مرة رأيتها تنظر إلى إدموند النبيل التقويم نظرات غريبة تنم عن الحب، وتنطق بالهيام. إني أعلم أنك موطن سرها.
أوزوالد :
أنا يا سيدتي؟
ريغان :
أجل، إني أتكلم عن علم بالحقيقة، أنا واثقة من ذلك. استمع وتنبه، لقد مات الآن زوجي، وأصبحت حرة، وإنه لأليق أن يكون إدموند زوجي من أن يكون عندما ترى مولاتك. ولقد تكلمت أنا وإدموند في هذا الصدد، وقد يبلغك من هذا الأمر أكثر مما عرفت؛ ولذلك أرجو منك إذا لقيته أن تعطيه هذه الشارة، وأرجو عندما تعرف منك مولاتك ما عرفت الآن مني أن تنصح لها بالتزام الرشد. والآن صحبتك السلامة، وإذا قدر لك أن تسمع شيئا عن ذلك الخائن الضرير؛ فأعلن في الناس أن من يحمل إلينا خبر موته يلق منا كريم الجزاء.
أوزوالد :
آمل أن ألقاه أنا نفسي لتعرفي في أي جانب أنا.
ريغان :
صحبتك السلامة (يخرجان) .
المنظر السادس
الريف بالقرب من مدينة دوفر (يدخل غلوستر وإدغار لابسا ثياب فلاح.)
غلوستر :
أما آن أن نبلغ قمة تلك الصخرة.
إدغار :
إنك الآن تصعدها. تأمل كيف أننا نلهث.
غلوستر :
يخيل إلي أن الأرض هنا مستوية.
إدغار :
بل هي منحدر رهيب. أنصت. ألا تسمع البحر؟
غلوستر :
كلا وربي.
إدغار :
كيف يكون هذا إلا أن يكون ما تعانيه من الألم في أجاج عينيك قد أفسد سائر مشاعرك؟
غلوستر :
قد يكون الأمر كذلك؛ فإني أجد صوتك قد تغير، وأجد لسانك في عبارته أسلم، وحديثك في موضوعه أقوم.
إدغار :
لشد ما أنت مخدوع، لم يتغير سوى الثوب مني.
غلوستر :
إنك أنصع تعبيرا.
إدغار :
هلم يا سيدي، هذا هو المكان. قف ساكنا؛ لشد ما يرهب النفس ويذهل الحس أن تلقي العين ببصرها إلى هذه الهاوية السحيقة التي لا تكاد تبدو الغربان فيها والزيغان، وهي تسبح في لجة الهواء، إلا كما تبدو الجعلان. وأرى في منتصف المهوى فيما بيننا وبين الماء إنسانا معلقا ممن يجمعون العشب، ويا هول هذا المرتزق! وكأني به على البعد في جرمه لا يكبر حجم رأسه، وكأني بصيادي السمك الذين يرتادون الشواطئ في صغر ما تبدو أجسامهم جرذانا، وكأني بتلك الخلية من السفائن الراسية قد تضاءلت حتى بدت في حجم القارب المستخف، وكأنما القارب طوف استدق حتى لم تعد تدرك له العين أثرا، وما تكاد تسمع من هذا المكان الشاهق همسا يعبر عن تلك الأمواج العجاجة المتدفقة على ركام تلك الحصباء المستنيمة. سأقلع عن النظر؛ لئلا يعوج صوابي، ويغم علي فأتردى في الهاوية انكبابا.
غلوستر :
ضعني حيث تقف.
إدغار :
أعطني يدك. أنت على قيد قدم من غرار الصخرة. لو أعطيت ما يطلع عليه القمر على أن أقفز في مكاني قائما ما فعلت.
غلوستر :
خل يدي من يدك. إليك يا صاحبي كيسا آخر (يعطي كيسا)
خذ. إن فيه جوهرة ثمينة تغري الفقير بأخذها، وعسى الأرواح والآلهة أن تشفعها لك بالسعادة. تنح الآن عني. قل الوداع ودعني أسمع وقع أقدامك منصرفا.
إدغار :
الوداع يا سيدي الكريم (يتظاهر بالذهاب) .
غلوستر :
شكرا لك من صميم القلب.
إدغار :
لعمري ما عبثت بما هو فيه من اليأس إلا لأشفيه منه.
غلوستر (راكعا) :
يا أيتها الآلهة القادرة! ها أنا ذا أخلع الدنيا وأفارق الحياة. تحت بصرك ألقي بيد الصبر ما تحملت من عظيم البلوى، ولو أني استطعت أن أحملها بعد يومي هذا، بغير كفر بك، ولا اعتراض لقضائك الذي لا مرد له؛ لاحترقت ذبالة حياتي المهينة من تلقاء نفسها، وإذا كان إدغار على قيد الحياة فباركي عليه أيتها الآلهة، والآن ودائما أيها الرفيق (يسجد إلى الأمام) .
إدغار :
وداعا يا سيدي، لقد ذهبت. (لنفسه)
أشفق أن يبلغ الوهم بصاحبه مبلغا يسترق منه كنز الحياة، ولا سيما إذا استهدفت الحياة بملكها للمسترق. ولعمري لو أنه كان قائما حيث يزعم أني وضعته، لما بقي حتى الآن من رشده ذماء. تراه حي أم ميت؟ هيا أنت أيها السيد! يا صاحبي، أسامع أنت كلامي؟ يا سيدي، تكلم. قد يلوح الميت كذلك، ولكني أرى وعيه يرتد إليه. من أنت يا سيدي؟
غلوستر :
إليك عني ودعني أموت بسلام.
إدغار :
يا عجبا! لو أن جسمك مصوغ من تبن أو ريش أو من هواء حين هويت على الأرض من هذا العلو الشاهق لتهشمت كما تتهشم البيضة؛ بيد أني أراك تتنفس، وأرى جسمك من مادة ثقيلة، ثم أراك لا تدمى، وأجد أنك تتكلم، وأن كل ما فيك سليم، وأنت لو أقمت عشر أسوار بعضها فوق بعض لم تبلغ طول الهاوية التي سقطت فيها. حياتك بعد هذا إحدى العجائب. دعني أسمع صوتك مرة أخرى.
غلوستر :
ولكن خبرني أسقطت أنا فعلا أم لم أسقط؟
إدغار :
أجل، هويت عن تلك القمة الرهيبة المطلة من تلك الصخرة. انظر بعينك في العلا، نحن لا نكاد نرى ذلك العصفور، ولا نسمع زقزقته الحادة. ارفع عينك وانظر.
غلوستر :
وا أسفاه! ليس لي عين فأبصر بها. أيحرم نضو الشقاء كل شيء حتى حق القضاء على نفسه بالموت! لقد كان لي عزاء في أن تسخر شقوتي من حنق الظالم، وتفسد عليه ما انتوت كبرياؤه.
إدغار :
أعطني ذراعك. ارفعها. حسن. كيف حالك؟ وساقاك كيف حالهما؟ أرني كيف تنهض؟
غلوستر :
خيرا مما أردت.
إدغار :
هذا أعجب من كل عجب! ما هذا المخلوق الذي كان معك على ناصية تلك الصخرة وانصرف.
غلوستر :
شحاث مسكين شقي بدنياه.
إدغار :
لقد كنت أراه وأنا واقف بأدنى الهاوية كأنما عيناه لكبرهما قمران مكتملان. يبدو من وجهه ألف أنف، ومن رأسه عدة من قرون ملتوية تغشاها كبب ناتئة. والقرون تتراوح مثل موج البحر الثائر. لعمري لهو أحد الشياطين، فاذكر إذن، أيها الوالد السعيد، أنما أنقذتك الآلهة المطهرة التي تجعل من لطفها بالبشر في ساعة الشدة دليلا على قدسها ومجدها.
غلوستر :
لا بد أن يكون الأمر كذلك؛ فلقد كان ذلك المخلوق الذي جاء بي إلى هذا المكان - وكنت أظنه من بني البشر - يصيح من آن لآن العفريت! العفريت! سأحتمل بلواي منذ اليوم صابرا حتى تصيح بملكها كفى كفى، ثم تموت.
إدغار :
سر عنك همك، واشرح بالأمل المشرق صدرك. من القادم يا ترى؟ (يدخل لير وهو لابس ثوبا منمقا بالأزهار البرية على صورة عجيبة.)
حقا لن يرضى العقل الرصين أن يبدو صاحبه في مثل هذا المظهر.
لير :
لا يملك أحد أن يقبض علي لتزييفي النقود؛ لأنني أنا الملك.
إدغار :
ما أوجع هذا المنظر لقلبي!
لير :
الطبيعة في هذا فوق الفن. خذ هذا عربونك. هذا الرجل يمسك بالقوس كأنه ناطور الغيط. أعطني سهما ذرعه ذراع الثوب. انظر، انظر. جرذ. صه. صه. حسبي قطعة من الجبن المحمر. ها أنا ذا ألقي قفاز الخصام، وأثبت صدق وعيدي حتى في مقاتلة المردة. ليتقدم حملة الفئوس. آه، أحسنت الفرار أيها الطير. في الهدف. في القلب. هلم - ها - أعطي كلمة الشعار.
إدغار :
زهرة المردقوش.
لير :
مر .
غلوستر :
إني أعرف هذا الصوت.
لير :
ها، غونوريل بلحية بيضاء! لقد ملقوني تمليق الكلب، وقالوا كانت لي في ذقني شعرات الحكمة البيضاء قبل أن تنبت فيها شعرات الشباب السوداء. كانوا كلما قلت شيئا جاروني فيه بقولهم نعم وكلا، ولم يكن قول نعم ولا كلا عن صدق ولا ولاء، فلما غمرني المطر، وصك أسناني الزمهرير، ولم تهدأ ثائرة الرعد لأمري تبينت وجه النفاق منهم، وعرفت سوء الطوية من أمرهم، وعلمت أنهم خونة مخادعون، قالوا: إني صاحب الأمر في كل شيء، لشد ما كذبوا! هي الحمى أقوى يدا مني.
غلوستر :
إني أعرف نبرة هذا الصوت. أليس هذا هو الملك؟
لير :
أجل، الملك، من فرعه إلى قدمه. إذا رميت عيني فانظر كيف تضطرب لها الرعية. عفوت عنك يا رجل. عش، لك الحياة. ما جريمتك؟ أعطني أوقية من الزباد، أيها الصيدلي، لتنبه ذهني. إليك هذه النقود.
غلوستر :
دعني أقبل يدك.
لير :
دعني أمسحها أولا؛ إن بها رائحة الموت.
غلوستر :
أسفا على بدعة الخلق، وتحفة الفطرة. كيف تحطمت؟!
لعمري لن يكون تحطيم هذا الكون العظيم إلا هكذا. آه! ألست تعرفني؟
لير :
إني لأذكر عينيك حق الذكر. لا، لا مغازلة، لا لن أحب أحدا، حقا إن إله الحب أعمى، ولكني لن أحب وليفعل بي الإله ما يشاء. اقرئي
3
هذا الإنذار، وتأملي خطه جيدا.
غلوستر :
لا أستطيع قراءة حرف منه ولو كان واضحا كالشمس.
إدغار (لنفسه) :
لو روي لي هذا المشهد ما صدقت راويه؛ بيد أنه حقيقة ماثلة يتفتت القلب لرؤيتها.
لير :
اقرأ.
غلوستر :
كيف أقرأ؟! أقرأ بظرف فارغ.
الملك :
أو! هو! أهذا ما تعني؛ لا عيون لك في رأسك؟ ولا نقود في جيبك؟ عينك وجيبك في ظرف مؤلم؛ بيد أن أحدهما ظرف ثقيل والآخر خفيف، ومع ذلك فإن في استطاعتك أن ترى كيف تسير هذه الدنيا.
غلوستر :
أراها تحسسا.
لير :
ماذا! أأنت مجنون؟! إن في استطاعة الإنسان أن يرى كيف تسير هذه الدنيا بغير عيون. انظر بأذنيك؟ انظر ذلك القاضي كيف يؤنب ذلك اللص المسكين. أنصت ! أريد أن أسر إليك شيئا بدل مكانهما، والعب بهما لعبة «الجديد»، وقل أيهما القاضي وأيهما اللص؟ هل رأيت كلبا من كلاب المزارع ينبح سائلا؟
غلوستر :
أجل يا مولاي.
لير :
ورأيت كيف يفر الإنسان من الحيوان؟ ألا إن لك في ذلك صورة بالغة تمثل لك السلطة على حقيقتها. هي كلب له الطاعة ما دام مملكا. إنهم يقتلون السارق على أنك قد تجد من أصدر الحكم عليه مرابيا؛ إلا أن الثوب الخلق ليكشف أهون الهنات. أما الرداء والطيلسان ذو الفراء فيستران كل شيء، كفت الخطية بصفائح الذهب تتكسر دونها نصال رمح العدالة، ودرعها بأسمال بالية تمزقها وتخترقها أصغر عصافة. ليس في الوجود مجرم. أقول لك ليس فيه، سأطلق سراحهم جميعا، خذ عني ذلك أيها الصديق، عني أنا الذي أملك أن أرتق فم الذي يقيم الدعوى وأخرسه، هيئ لمحجريك زجاجتين، وتظاهر كما يتظاهر السياسي الحقير أنك تبصر ما لا ترى. والآن، والآن اخلع حذائي. شد، شد. هكذا.
إدغار (لنفسه) :
الرشد والخبل في قراب. كم ذا في الجنون من صواب!
لير :
إذا شئت أن تبكي سوء حظي فخذ عيني. إني أعرفك حق المعرفة؛ اسمك غلوستر، عليك بالصبر، واذكر أننا لم ندخل هذه الدنيا إلا والدموع تسبقنا، فما نجهل أننا حين شممنا ريحها لأول مرة بكينا وأعولنا. سأزكيك بعظة أنصت.
غلوستر :
ما أسوأ اليوم!
لير :
إنما يبكي الإنسان منا ساعة يولد حزنا على نفسه؛ إذ ينزج في مرزح الدنيا الفسيح الذي يمثل فيه المجانين. هذه قبعة
4
جيدة - حقا - لقد كانت فكرة رشيدة نعلهم كوكبة من الخيل باللباد، سأفعل ذلك لأسترق الطريق إلى صهري، ثم أقتلهما، أقتلهما. اقتل، اقتل، اقتل. (يدخل الأمين ومعه أتباع.)
الأمين :
ها هو ذا. لا يفلت منكم. سيدي، بنتك التي تحبها كل الحب ...
لير :
وي! ألا يأتي لنجدتي أحد؟! أسير أنا؟ أمخلوق أنا لأكون هزأة للقدر؟ أحسنوا معاملتي، سأعطيكم فدية، ايتوني بجراحين فإني مشجوج الفؤاد.
الأمين :
سيكون لك كل ما تريد.
لير :
ألا يكون لي نصير؟ وي! أغشى الملحمة وحدي؟ حسب الإنسان هذا الحال ليذوب ذوب الملح، ويرسل عينه شآبيب تروي أصص الحدائق، وترقد عثير الخريف.
الأمين :
سيدي الجليل.
لير :
سأموت كريما كما يموت العروس اليافع المتأنق. ماذا! سأبش وأطرب. هلم، هلم، إني ملك. أتعرفون ذلك يا سادتي؟
الأمين :
إنك ملك عظيم، لك الأمر وعلينا الطاعة.
لير :
إذن فلم يذهب الأمل في الحياة؟ وإذا شئتم أن تأخذوها فاجروا في سبيلها هكذا، هكذا، هكذا. (يخرج جاريا والأتباع وراءه.)
الأمين :
مشهد توجع القلب رؤيته من أحقر الحقراء، فكيف به والمشهود ملك؟! إن لك ابنة، أيها الملك، ستداوي كلوم نفسك مما سلبتك إياه فعلة ابنتيك الأخريين.
إدغار :
سلام أيها السيد الكريم.
الأمين :
سيدي، بوركت، لبيك.
إدغار :
أسمعت نبأ قتال يوشك أن يقع؟
الأمين :
أصدق الأنباء هذا وأشيعها؛ سمع به كل ذي أذنين.
إدغار :
معذرة يا سيدي، هل تسمح فتخبرني هل الجيش الآخر قريب؟
الأمين :
إنه قريب جدا، وهو يغذ في المسير. بل إن العين لتترقب رؤية قيروانه في كل لحظة.
إدغار :
بحسبي هذا يا سيدي، لك الشكر.
الأمين :
نعم، إن الملكة تخلفت في هذه الناحية لأمر خاص، ولكن الجيش قد رحل في سبيله.
إدغار :
شكرا لك يا سيدي. (يخرج الأمين.)
غلوستر :
أيتها الآلهة الرحيمة، بيدك موتي، فأميتيني يوم تشائين، واجنبيني أن تطغى علي نفسي الأمارة فاقضي على حياتي قبل يومي الذي تقدرين.
إدغار :
أحسنت الدعاء يا أبي.
غلوستر :
وي! من أنت أيها السيد الصالح؟
إدغار :
إنسان ملأت قلبه الهموم والأحزان رحمة ورثاء. أنلني يدك؛ سأسير بك إلى مكان أمين.
غلوستر :
الشكر لك من كل قلبي، ولتجزل لك السماء بركتها ونعمتها. (يدخل أوزوالد.)
أوزوالد :
مرحى! هذه هي الطريدة المنشودة ذات المكافأة المقررة. ما أسعد الحظ! رأسك الخالي من نواظره أول رأس يحمل الحظ إلي أيها العجوز الخائن الشقي. اذكر ذنوبك واستغفر، لقد جرد السيف الذي قضي لك أن تموت به.
غلوستر (إلى إدغار) :
أرني قوة عضدك أيها الصديق. (يتدخل إدغار.)
أوزوالد :
ويك أيها الفلاح الجريء! أتجرؤ أن تحمي خائنا مهدر الدم. إليك وإلا أعداك سوء قدره . خل ذراعه. (يقلد إدغار لهجة الفلاحين.)
إدغار :
أنا لا أدع ذراعه يا سيدي بغير سبب وجيه.
أوزوالد :
تخل عنه يا كلب وإلا قتلتك.
إدغار :
أيها السيد الطيب، سر في طريقك، ودع الناس تسير؛ لو كانت كلمات الوعيد تذعرني لكنت في الأموات منذ أسبوعين. إليك، إليك. إياك أن تمس هذا الشيخ وإلا أريتك أي الهنتين أقوى، رأسك أم هراوتي.
أوزوالد :
تنح يا كومة الروث.
إدغار :
هلم؛ سأترم أسنانك يا صاحبي، ولا يهمني منك لعبك بالسيف (يتقاتلان ويضربه فيقع أوزوالد) .
أوزوالد :
قتلتني أيها العبد! خذ كيسي أيها الوغد، وإذا عشت فادفن جثتي به، وأعط الرسائل التي ستجدها معي إلى إدموند، إيرل غلوستر. ابحث عنه في الجيش البريطاني. آه! مت قبل الأوان، مت (يموت) .
إدغار :
إني أعرفك حق المعرفة، أنت وغد مشاء يساير شرور مولاته إلى أبعد مدى في الرذيلة.
5
غلوستر :
ماذا؟ أقضى نحبه؟
إدغار :
اجلس أنت يا أبي، استرح. سأفتش جيوبه. قد تكون الرسائل التي ذكرها ذات فائدة لي. نعم قضى نحبه، وما يسوءني من أمره إلا أنني أنا جلاده. والآن فلنر ماذا في هذه الرسالة. بإذنك أيها الشمع الجميل، وأنت يا كرائم الشيم لا تلومي؛ حلال لنا أن نشق قلب العدو لنستعرف دخيلة أمره، فأحر أن يكون فض رسائله أحل. (يقرأ) : «تذكر ما عقدنا عليه إيماننا. إن لديك فرصا عديدة لقتله، وإذا لم تكن تعوزك العزيمة لم يعوزك الآن زمان ذلك ولا مكانه. أما إذا هو عاد منصورا فقد ضاع علينا كل شيء، وعشت أنا لديه أسيرة؛ فراشه سجني! فخلصني من دفئه الممقوت، وخذ مكانه جزاء عملك. خادمتك المحبة - وبودي لو أقول زوجتك الشيقة - غونوريل».
يا إرادة المرأة! ما أخفى حدود مداك! أتأتمر بحياة زوجها النبيل، وتعتاض عنه بأخي؟ سأغيبك هنا في الرمل مثوى البرد الأنجاس من رسل القتلة الفسقة، وإذا آن الأوان فسأظهر الدوق الذي يأتمران به على وثيقة الشر هذي. الخير في أن يعلم الدوق بموتك، وبالمهمة التي كلفتها.
غلوستر :
لقد جن الملك، فما أجمد حسي وما أقبحه! أقف مستشعرا مدركا عظيم الهم في قلبي ولا أتضعضع! يا ليتني كنت مخبولا حتى تنقطع الصلة في فؤادي بين الفكر والهم، وتفقد الأحزان في شطط الذهن علما بنفسها! (يسمع صوت طبول من بعيد.)
إدغار :
أعطني يدك؛ يخيل إلي أني أسمع صوت طبل بعيد. تعال يا أبي، سأنزلك عند أحد أصدقائي.
المنظر السابع
خيمة في المعسكر الفرنسي (يرى لير في فراش نائما، وهناك ألحان موسيقى لطيفة، وقام في الخدمة الأمين وغيره من الأتباع، تدخل كورديليا وكنت والطبيب ...)
كورديليا :
ألا يا كنت الخير البار، خبرني كيف أحيا وأعمل لأثيبك على فضلك؟ حياتي ما طالت قصيرة، وجهدي ما بلغ دون كل وفاء.
كنت :
لي من عرفانك يا سيدتي جزاء يتجاوز كل وفاء. لقد وقع ما تنبأت به على غرار الحق الصراح، لا إفراط ولا تفريط، بل شرعا.
كورديليا :
عليك بثوب أليق من هذا. ما هذه الألياف إلا بقايا ساعات مشئومة، فأتوسل إليك أن تخلعها.
كنت :
معذرة يا سيدتي العزيزة، إن ظهور أمري اليوم يقطع علي سبيل المراد. أمنيتي ألا تبدو معرفتك بي حتى يحين الوقت الذي أراه أليق بذلك.
كورديليا :
ليكن الأمر كما تريد أيها السيد الطبيب. (إلى الطبيب)
كيف حال الملك الآن؟
الطبيب :
إنه لا يزال نائما يا مولاتي.
كورديليا :
أيتها الآلهة الرحيمة، ارتقي ذلك الصدع الواسع الذي وقع بجسمانه المخضد، وأعيدي إلى أوتار المشاعر الشاذة المختلة رتوبها وانتظامها، وابعثي في الأحياء ذلك الوالد الذي وأده عقوق الأبناء.
الطبيب :
إذا شئت يا صاحبة الجلالة أذنت لنا أن نوقظ الملك؛ لقد طال نومه.
كورديليا :
استهد بعلمك في هذا، وسر في عنان من رأيك. أهو مرتد ثيابه؟
الأمين :
أجل يا مولاتي كان مستغرقا في نومه؛ فتمكنا أن نلبسه ثيابا جديدة.
الطبيب :
كوني إلى جانبه يا سيدتي حين نوقظه. لا ريب عندي أن جأشه سكن.
كورديليا :
حسن.
الطبيب :
وتفضل أنت بالدنو هنا. والآن فلتعزف الموسيقى عاليا.
كورديليا :
والدي العزيز، عسى آلهة الشفاء أن تجعل دواءك على شفتي، وتنزل على هذه القبلة برءا لك مما أوقعت أختاي بجلال ذاتك من بالغ الأذى.
كنت :
سيدتي العزيزة النبيلة.
كورديليا :
لو أنك لم تكن أباهما ما قصرت هذه الندف البيضاء أن توقظ رحمتهما. أهذا وجه يقدر أن يقاوم الروح العاتية، ويناهض الرعود المزلزلة، ويقف بصاحبه مستهدفا لأنكى ضربات البروق الخاطفة المتوشجة، وما يقيه إلا تلك الشعرات الرقيقة؟ وا رحمتاه للأب المضيع! لو رأيت كلب عدوي لآويته في تلك الليلة بجوار ناري ولو كان قد عضني! وهل آثرت أيها الوالد المسكين أن تأوي إلى حظائر الخنانيص، وتنزل خصائص الصعاليك راضيا بالقش والوضر! بل إني لأعجب كيف لم يذهب الضر بحياتك وحجاك معا! إنه تيقظ، كلمه.
الطبيب :
كلميه أنت يا مولاتي؛ هذا أجدى.
كورديليا :
كيف حال مولاي الملك؟ بما تشعر يا صاحب الجلالة؟
لير :
إنكم لتسيئون إلي إذ تخرجوني من القبر. إنك روح مباركة، أما أنا فمربوط في الجحيم على عجلة من نار تساقط عليها دموعي كأنما هي رصاص مصهور.
كورديليا :
مولاي، أتعرفني؟
لير :
أنت على اليقين روح، خبريني متى كانت وفاتك؟
كورديليا :
لا يزال، لا يزال على مدى من الرشاد!
الطبيب :
لم يفق بعد؛ دعوه وشأنه قليلا.
لير :
أين كنت؟ أين أنا؟ أهذا وضح النهار البهيج؟ لشد ما أنا مخدوع! بل لكنت أذوب رثاء لو رأيت امرءا على مثل هذا الحال. لا أدري ماذا أقول، لا أقسم أن هذي يدي. فلأختبر، إني أشعر بوخز هذا الدبوس. من لي بأن أتبين حالتي باليقين؟
كورديليا :
سيدي، انظر إلي، وارفع يديك وبارك علي. لا يا سيدي لا، ليس لك أن تجثو.
لير :
أتوسل إليك ألا تسخري بي؛ إني شيخ شديد الحمق والأفن، في الثمانين فما فوقها، لا تنقص ساعة ولا تزيد، وأشفق، في الحق، أنني غير سليم العقل؛ بيد أني أظن أنني أعرفك، وأعرف هذا الرجل (كنت)، ولكني في ريب من الأمر؛ لأنني لا أعرف مكاني الآن بتاتا، ولا تعي الذاكرة شيئا من هذه الثياب، ولا أدري أين قضيت ليلة الأمس. سألتكم لا تضحكوا مني إذا قلت أني أعتقد أن هذه السيدة هي ابنتي كورديليا! كما أعتقد أني إنسان من لحم ودم.
كورديليا :
أجل، أنا ابنتك، أنا هي.
لير :
أدموعك مسبلة حقيقة؟ أجل وربي. سألتك لا تبكي، وإذا شئت لي الموت بالسم فآتيني به سأشربه طائعا. لقد أساء إلي أختاك، فيما أذكر، بغير سبب. أما أنت فلا تثريب عليك؛ أنت ذات سبب واضح.
كورديليا :
معاذ الله أن يكون لي سبب.
لير :
أأنا في فرنسا؟
كنت :
بل في مملكتك ذاتها يا سيدي.
لير :
لا تخدعني!
الطبيب :
سكني روعك يا سيدتي البارة، ها أنت ذي ترين سورة الخبل قد رقدت في نفسه، ولكن من الخطر عليه أن نستثير فيه شيئا، حتى ولا ذكريات ما مضى من زمنه. اطلبي إليه أن يدخل، ولا تقلقي له بالا حتى يصبح أهدأ وأملك.
كورديليا :
هل يطيب لعظمتك أن تتمشى؟
لير :
جدير بكم أن تحسنوا إلي، فأتوسل إليكم الآن أن تنسوا وتعفوا؛ إني عجوز ومخبول. (يخرج الجميع ما عدا كنت والأمين.)
الأمين :
أحق يا سيدي أن دوق كورنوال قتل كما قيل؟
كنت :
كل الحق يا سيدي.
الأمين :
ومن قائد قومه؟
كنت :
يقولون إنه ابن غلوستر غير الشرعي.
الأمين :
يقولون إن ابنه إدغار المنفي هو الآن مع إيرل كنت في جرمانيا.
كنت :
إن الروايات متباينة. آن وقت التنبه. إن جيوش المملكة قادمة على عجل.
الأمين :
ستكون الملحمة فيما أرى دموية. لك الصون يا سيدي.
كنت :
أجل، وسيقضى بها كذلك في مقاصدي ودواعي تبعا لنتائج هذه الملحمة، إن خيرا فخير، أو شرا فشر. (يخرج.)
الفصل الخامس
المنظر الأول
المعسكر البريطاني (يدخل بالطبول والأعلام إدموند وريغان وجنود وغير ذلك ...)
إدموند (يخاطب أحد الأمناء) :
اذهب إلى الدوق وتبين أهو على ما ارتأى آخر مرة، أم ألقي في خلده بعد ذلك أن يغير الخطة؟ إنه رجل تملك نفسه خلة التردد والتناقض. ايتني بما استقر عليه هواه. (يخرج المخاطب.)
ريغان :
لا بد أن يكون قد وقع لغلام أختي حادث.
إدموند :
أشفق أن يكون الأمر كذلك يا مولاتي.
ريغان :
أما وقد عرفت ما أريد لك من الخير أيها السيد العزيز، فخبرني بلا مواربة، بل بالصدق والصراحة: ألست تحب أختي؟
إدموند :
بلى، حبا كريما.
ريغان :
ولكن ألم يحدث لك بتة أن سرت في الطريق الذي يسلكه أخي إلى مكانه المحرم؟
إدموند :
تأثمت علي بهذا الظن.
ريغان :
أشفق أنك على وفاق معها وقربة لا يسعنا معهما إلا أن نسميك خدينها.
إدموند :
لا وشرفي يا مولاتي.
ريغان :
لن أتجاوز لها عن هذا. سيدي العزيز، لا تكن معها على جانب الألفة.
إدموند :
لا تراعي، سأتجنبها هي وزوجها. (يدخل بالطبل والأعلام ألباني وغونوريل وجنود.)
غونوريل (لنفسها) :
أوثر أن أخسر الموقعة على أن تفرق هذه الأخت بيني وبينه.
ألباني :
أيتها الأخت المحبوبة، ما أسعدني بلقائك! (إلى إدموند)
سيدي، بلغني أن الملك لجأ إلى ابنته هو ومن حملتهم قسوة حكومتنا على الجهر بالشكوى. ما عهدت في نفسي شجاعة في قتال أراني في أمره على غير جانب الحق، ولكن الأمر الذي نحن في سبيله يمسنا ويستثيرنا؛ فلقد جاءت فرنسا لا مستنصرة للملك، بل غازية لبلادنا بجيوشها وبغيرهم ممن أشفق أنهم في مناهضتنا على جانب الحق القويم، وشرعة العذر الصريح.
إدموند (متهكما) :
هذا كلام نبيل يا مولاي!
ريغان :
لم تنظرون هذه الناحية؟
غونوريل :
اتحدوا على العدو معا؛ فما خطب الساعة تلك المسائل المنزلية والمشاحن الداخلية.
ألباني :
علينا إذن أن نضع خطة أعمالنا مستنيرين فيها بخبرة شيوخ الحرب المجربين.
إدموند :
سأكون في خدمتك على الفور في خيمتك.
ريغان :
أختي، أتذهبين معنا؟
غونوريل :
لا.
ريغان :
مجيئك أجدر، أرجو أن تجيئي معنا.
غونوريل (لنفسها) :
أو - هو - تبينت السر. (لأختها) سأذهب (ساعة خروجهما يدخل إدغار متنكرا) .
إدغار :
إذا تنزل مولاي للكلام مع رجل على مثل حالي من الفقر سألته أن يستمع لي كلمة واحدة.
ألباني :
سأستمع. تكلم. (يخرج الجميع ما عدا ألباني وإدغار.)
إدغار :
قبل أن تفتتح القتال افتح هذه الرسالة، وإذا نلت النصر فأطلق نفيرك يدعو إلى رحابك من جاء بها إليك؛ لأني وإن بدوت زريا - كما ترى - أستطيع أن آتيك بشاهد يثبت لك ما فيها. أما إذا سقطت في الميدان فقد سقط همك من هذه الدنيا، وسقط ما يدبر لك. صانتك إلهة الحظ.
ألباني :
انتظر حتى أقرأ الرسالة.
إدغار :
كلفت أن لا أنتظر، ولكن إذا حان الوقت فمر المنادي يصيت تجدني لديك.
ألباني :
لا بأس. صحبتك السلامة. سأطلع على ما في رسالتك. (يخرج إدغار ويعود إدموند.)
إدموند :
لقد لاح العدو، فأعد جيشك للمسير إليه. هذه ظنة عددهم وعدتهم بما دل عليه الكشف الدقيق والاستطلاع من أمرهم. أسرع فالأمر يقتضي الإسراع.
ألباني :
لن ندع الفرصة تفوت (يخرج) .
إدموند :
لقد عاهدت هاتين الأختين على الهوى. أصبحت كل منهما على ريبة من الأخرى كالملدوغ من الأفعى. أيتهما آخذ؟ كلتاهما؟ إحداهما أم لا هذي ولا تلك؟ ليس في الإمكان الاستمتاع بهما كلتيهما إذا هما بقيتا في الأحياء. إذا تزوجت الأيم أوغرت صدر أختها غونوريل، ودفعت بها إلى الجنون؛ بيد أني لا أستطيع تحقيق أمنيتي وزوجها في الأحياء؛ فلأنصرف الآن إلى استعمال نفوذه لتسيير القتال، حتى إذا انتهى بسلام كان على من يريد الخلاص منه أن يدبر مقتله على عجل. أما تلك الرحمة التي يعدها للير وكورديليا! ... إذا انتهت الموقعة فسيصبحان أسيرين في قبضة يدي، ولن يكون لهما نصيب يومئذ من تلك الرحمة. تقضي علي مصلحتي بالدفاع عن نفسي لا أن أنفق الوقت في الجدل. (يخرج.)
المنظر الثاني
ميدان بين المعسكرين (نوبة من الداخل، يدخل بالطبل والأعلام لير وكورديليا وجنود، ويمرون عبر المرزح من أعلاه ويخرجون. يدخل إدغار وغلوستر ...)
إدغار :
هنا يا أبي، اجلس في مكرمة من ظل هذه الشجرة، وادع للحق أن ينتصر. وإذا أنا عدت إليك فسأعود لقلبك بسعادة.
غلوستر :
صحبتك البركة يا صاحبي. (نوبة خطر وتقهقر، يرجع إدغار.)
إدغار :
فرارا أيها الشيخ. أعطني يدك. فرارا! غلب الملك لير وأسروه هو وابنته. أعطني يدك، هلم.
غلوستر :
لا يا سيدي. لا أتحول. لا بأس أن يبلى الإنسان هنا.
إدغار :
ماذا؟ أعاودتك الوساوس؟ على المرء أن يرتقب خروجه من الدنيا كما دخلها، ولكن يجب عليه أن يتهيأ لذلك.
غلوستر :
وهذا حق. (يخرجان.)
المنظر الثالث
المعسكر البريطاني بقرب دوفر (يدخل إدموند مدخل الظفر بالطبول والأعلام ومعه لير وكورديليا أسيرين. ضابط وجنود وغير ذلك ...)
إدموند :
ليذهب بهما بعض الضباط، ويكونوا عليهما حرسا حتى يبين الرأي الأعلى في أمرهما ممن يملكون تعزيرهما.
كورديليا :
لسنا أول من لقي أنكر الشر وإن انتوى أخلص الخير. إني إذا وجدت فإنما أجد حزنا عليك أيها الملك المظلوم لا على نفسي؛ فإني أرد عبسات القدر الصادرة بأعبس منها. ألا ترى تينك الابنتين والأختين.
لير :
لا، لا، لا، تعالي، هلمي بنا إلى السجن، نحن - الاثنين - وحدنا سنغرد تغريد الطير في القفص، فإذا طلبت مني البركة جثوت طالبا منك الغفران. كذلك سنعيش ونصلي ونغني، ونحكي قديم القصص، ونضحك من تلك الفراشات المذهبة الحواشي، ونسمع مفاليك الناس يروون أخبار البلاط، وسنتكلم معهم أيضا ونتساءل: أي أولئك كسب، وأيهم خسر؟ أيهم ولى وأيهم ولي؟ ونستكشف خبايا الدنيا كأنما نحن عيون الآلهة، وسنعيش لنشهد من وراء الجدران في محبسنا ما ينشأ ويبيد من الأحزاب والشيع والمكايد والمؤامرات للعظماء الذين يعلو بهم مد القدر أو ينخفض تبعا للقمر.
إدموند :
اذهبوا بهما.
لير :
ستطلق الآلهة يا كورديليا بخور الرضا بنفسها على هذه الضحايا. أحقا جمعت الآلهة بك شملي يا بنيتي؟! إذن فليأت من يريد تفريقنا بقبس من السماء يشعل به مجتمعنا، ويشردنا تشريد الثعالب. جففي عينيك؛ سيلتهمهم الداء لحما وجلدا قبل أن يحملونا على البكاء، وسنرى حينهم بالجوع وشيكا. تعالي. (يخرج لير وكورديليا محروسين.)
إدموند :
ادن مني أيها الضابط، اسمع، خذ هذه المذكرة لنفسك. (يعطيه ورقة)
اذهب بهما إلى السجن، وقد رقيتك منذ الآن درجة أعلى. إذا أنت سرت في الأمر على ما تتضمن تلك الورقة، فقد سرت في الطريق الذي يؤدي بك إلى مناصب أرقى، واعلم أن الناس على سنن الدهر من كان منهم رخو القلب فهو لا يصلح أن يحمل السيف، والمهمة التي وكلتها إليك خطيرة لا تحتمل جدلا؛ فقل إنك لها، أو فابغ إلى الحظ سبيلا سواها.
الضابط :
أنا لها يا مولاي.
إدموند :
عليك بها، واكتب نفسك في السعداء يوم تكون قد نفذتها. تنبه أني أقول لك عجل ونفذ المهمة بالدقة كما رسمتها لك.
الضابط :
لا أستطيع أن أجر عربة ولا أن آكل حب الشوفان الجاف. إذا كانت المهمة مما في مقدور الإنسان القيام به فسأنفذها (يخرج) . (دق طبول ونفافير. يدخل ألباني وغونوريل وريغان وضابط آخر وجنود.)
ألباني :
سيدي، لقد بلوت اليوم بلاء مجيدا على شاكلتك، وكان السعد في مرادك حليفا. أخذت في الأسر أضدادنا في ملحمة اليوم، ونحن نريدهم منك لنرى في أمرهم ما يستوجبه حقهم وسلامتنا.
إدموند :
سيدي، رأيت من الصواب أن أرسل الملك الهرم، الشقي الحظ، إلى دار آمنة أقيم عليها حرس أمين؛ خشيت أن يأخذ قلوب الناس بشيخوخته، ويستعطف صدور الدهماء بمكانته، ويرد في أعيننا نصال من نرمي بهم. ولقد أرسلت الملكة معه لعين ما ذكرت من العذر، وسيكونان على استعداد في الغد أو بعده للمثول حيث تعقد مجلسك. نحن اليوم ينتح عرقنا، وتنطف دماؤنا، وقد فقد الصديق صديقه، والعذير الكريم ممن أبلى في القتال ملعون في حر هذه الساعة ممن اصطلى بنارها. وأرى قضية كورديليا وأبيها تستوجب مكانا أليق من هذا.
ألباني :
سيدي، ايذن لي أن أنبهك أني أراك في هذه الحرب تبعا لي لا عديلا.
ريغان :
يتوقف هذا على ما نرى. ولقد كنت أشتهي أن تستشيرني قبل أن تبلغ في مقالك هذا المدى. لقد قاد جيوشنا، وحمل عهد النيابة عن مقامنا وذاتنا. وإذ إنه إنما يأتي بذلك في المكان الثاني من بعدنا؛ فيحق أن يرى نفسه لك عديلا.
غونوريل :
بعض هذا أن له من حسبه ما يعلو بقدره أكثر مما تخلعين عليه من عندك.
ريغان :
إنه ليعدل أرفع رأس في البلاد بما خلعت عليه من الحقوق والقوى.
غونوريل :
هذا أقصى ما ينال إذا صار لك زوجا.
ريغان :
كم صحت نبوءة الماجن إذا هذر!
غونوريل :
حسبك حسبك، لقد كذبتك العين التي منتك ذلك.
ريغان :
أيتها السيدة، لست صحيحة المزاج وإلا لرميتك بالجواب من جوف ممعود. أيها القائد، خذ جنودي والأسارى وثروتي ، وتصرف فيها وفي؛ لقد سلمت نفسي إليك، ولتشهد الدنيا هنا أني اخترتك لنفسي سيدا ومولى.
غونوريل :
أتبغين أن تستمتعي به؟
ألباني :
لا يتوقف الأمر في القبول والرضى عليك.
إدموند :
ولا عليك أيها السيد.
ألباني :
بل علي أيها النغيل.
ريغان (إلى إدموند) :
دق الطبول وأعلن في الناس أنك تحمل اليوم ألقابي.
ألباني :
تمهل واستمع. إدموند، إني أقبض عليك بجريرة الخيانة العظمى. (مشيرا إلى غونوريل)
وكذلك على هذه الحية المذهبة (إلى ريغان)
أما ما تدعينه أيتها الأخت الحسناء فإني أحول دونه رعيا لمصلحة زوجتي. إنها مرتبطة بعهد من باطن عهدنا على الزواج من هذا السيد، وأنا زوجها أنقض عهد زواجكما، وإذا شئت أن تتزوجي فوجهي عواطف هواك نحوي. انتهى بيان امرأتي.
غونوريل :
أي هزل هذا؟
ألباني :
إنك مسلح يا غلوستر، مر الطبل يقرع، وإذا لم يأت على الصوت أحد يثبت على رأسك خياناتك العديدة؛ فإليك الكفيل. (يلقي عليه قفازه)
سأرسل إلى قلبك برهاني قبل أن أتذوق خبزا. إنك لست من إحدى نواحيك أقل مما به وصمتك.
ريغان :
أنا عليلة، عليلة.
غونوريل (لنفسها) :
إذا لم تكوني كذلك، فلن أثق بسم.
إدموند :
وإليك الجواب: (يرمي قفازه)
إذا نعتني في هذه الدنيا إنسان - كائنا من كان - بالخيانة فليمت موت الوغد. انفخ في بوقك وادع؛ إني لمثبت بالسيف شرفي ونزاهتي على رأسك ورأس كل من يجرؤ أن يتقدم.
ألباني :
أحضروا مناديا.
إدموند :
أحضروا مناديا - هو - مناديا!
ألباني :
لا تعتمد إلا على شجاعتك أنت وحدك؛ فإن جميع جندك الذين باسمي حشدوا، قد سرحوا كذلك باسمي.
ريغان :
أجد العلة تطمو علي.
ألباني :
إنها مريضة، احملوها إلى خيمتي. (تخرج ريغان مقودة.) (يدخل المنادي.)
ألباني :
تعال هنا أيها المنادي، دع البوق يصيت، واقرأ هذا معلنا.
الضابط :
ليصت البوق (صوت بوق) .
المنادي (قارئا) :
إذا كان في الجيش رجل ذو حسب أو نسب يرمي إدموند «المسمى إيرل غلوستر» بأنه رجل خوان؛ فليأت إلينا عندما يصيت البوق لثالث مرة، وليعلم أن المتهم مستعد للدفاع.
إدموند :
أطلق البوق (أول نفير) .
المنادي :
مرة أخرى (ثاني نفير) .
المنادي :
مرة أخرى (ثالث نفير) . (يرد بوق من الداخل.) (يدخل إدغار على الصوت الثالث وهو مسلح ومعه بوق.)
ألباني :
استعرف منه خبره؛ لماذا يظهر على صوت هذا البوق؟
المنادي :
من أنت؟ وما اسمك؟ وما منزلتك؟ ولماذا تأتي على هذا النداء؟
إدغار :
ضاع اسمي؛ قضمته أنياب الخيانة واخترمته حتى لم يعد منه شيء؛ بيد أني نبيل كغريمي الذي جئت أختصمه.
ألباني :
ومن غريمك؟
إدغار :
هو من يتكلم باسم إدموند إيرل غلوستر.
إدموند :
أنا المعني، فماذا تقول عنه؟
إدغار :
جرد حسامك، حتى إذا أوغر كلامي منك قلبا نبيلا انتصفت يمينك لصاحبها. هذا حسامي، فانظر: إنه مناط محتدي، ومعقد قسمي، وشارة إمرتي. أنا أرميك - بالرغم من قوتك وفتوتك، وعزة مكانتك، وبالرغم من سيفك المنتصر، ومجدك المستحدث، ومن بسالتك وقلبك - أنك خائن؛ خنت آلهتك وأخاك وأباك، وتآمرت على الأمير العالي المجيد، وأنك من أعلى شعفة في رأسك إلى أدنى موطئ من كعبك، بل وإلى ما يكون من الثرى تحت قدمك خائن كالصرار الأرقط، فإذا أنت أنكرت ذلك فهذا السيف، وهذي الذراع، وهذا القلب الصادق العزيمة، كلها عازمة على أن تثبت في صميم فؤادك أنك فيما تكذب من القول كاذب.
إدموند :
كان لي في شرعة العدل أن أسألك عن اسمك؛ بيد أن ما يبدو لي من وسامتك ومظاهر بسالتك، وما ينم عنه لسانك من أدبك يحملني على أن أسقط بملكي ما تبيح لي شرعة الفروسية من حق النبو عن منازلتك؛ ولذلك أرد إلى وجهك ما رميتني به من مقاذع الخيانة، وألقي على قلبك تلك الفرية الممقوتة مقت الجحيم. وإذ إن تلك التهم تبلغك وتنزلج، لا ترض قلبك ولا تتغلغل؛ فسيفسح هذا السيف طريقها إلى الصميم؛ لترقد في مستقرها الأبدي. تكلمي أيتها الأبواق. (صوت نوبة خطر. يتقاتلان. يسقط إدموند.)
ألباني :
أبق عليه، أبق عليه!
غونوريل :
هذه خدعة يا غلوستر. لم تكن ملزما في شرعة النزال أن تجيب خصما مجهولا. إنك لم تغلب، بل غششت وخدعت.
ألباني :
سدي فمك يا امرأة وإلا سددته لك بهذه الورقة . خذ يا سيدي! وأنت يا من هو أحط من أن يسمى وينعت، اقرأ بعينك جرمك. إياك أن تمزقيها يا سيدة. أرى أنك عرفتها (يعطي الرسالة إلى إدموند) .
غونوريل :
وبعد، ماذا يضيرني إذا عرفتها؟ أنا الحاكمة لا أنت، ومن ذا الذي يملك تعزيري؟
ألباني :
يا للشناعة! تعرفينها إذن؟
غونوريل :
لا مساءلة لأحد علي (تخرج) .
ألباني :
اذهبوا في أثرها؛ إنها يائسة فامنعوها.
إدموند :
كل ما اتهمتني بفعله قد فعلته حقا، بل وأكثر منه كثيرا ستكشفه الأيام لك، لقد مضى وانتهى أمره كما انتهيت، ولكن من أنت يا من قدر أن تكون له الغلبة علي؟ إذا كنت ذا دم شريف فقد عفوت عنك.
إدغار :
دعنا نتبادل العفو. لست في شرف الدم دونك يا إدموند، فإن كان مولدي أطهر من مولدك، فقد كان ذنبك بما فعلت أعظم. أنا اسمي إدغار، وأنا ابن أبيك. إن الآلهة لعادلة، وهي تجعل من آثامنا المستحبة لدينا أداة لعقابنا. ولقد جلبت ظلمة الخلوة الخائسة التي جلبك فيها أبوك ظلمة لعينيه.
إدموند :
تكلمت حقا. الصدق فيما نطقت. لقد دارت عجلة القدر فوق رأسي دورة كاملة، وها أنا ذا.
ألباني (إلى إدغار) :
لقد خطر لي حين خطرت أني أشاهد نبلا ملكيا. لا بد لي من عناقك. ليفطر الحزن قلبي إذا كان قد استشعر لك كراهية أو لأبيك.
إدغار :
أنا أعرف ذلك يا أميري الجليل.
ألباني :
أين خبأت نفسك؟ وكيف عرفت مصائب أبيك؟
إدغار :
عرفتها برعايتها يا مولاي. هاك قصة موجزة، أتمنى لو يتفطر القلب في نهايتها؛ فرارا من غائلة ذلك البلاغ الدموي الذي انطلق معجلا في أثري. خطر لي لأنجو بحياتي - ولشد ما تحلو الحياة حتى ليحملنا حبها على أن نحتمل آلام الموت كل ساعة بدلا من أن نموت مرة واحدة - خطر لي أن أتراءى في أسمال مجنون، وأتبدى في مظهر تزري الكلاب نفسها بصاحبه، وفيما أنا في تلك الصورة لقيت أبي دامي المحاجر وهي حديثة الخلو من جواهرها الثمينة، فأخذت أقوده وأتكفف له، وحميته اليأس والقنوط، ولم تحدثني النفس مرة - ولشد ما كنت مخطئا في ذلك - أن أكشف له عن أمري إلا منذ نصف ساعة، حين تقلدت سلاحي مؤملا لا واثقا بالنجاح الذي أصبت الآن، فسألته البركة، وقصصت له رحلتي من بدايتها إلى النهاية، ولكن كان قلبه المضعضع أوهن - وا حسرتاه - من أن يحتمل العراك الذي نشب فيه بين طاغيتين من عواطف السرور والأسى؛ فانفطر فؤاده باسما وقضى.
إدموند :
كلامك هذا أثر في نفسي، وقد يفيء خيرا؛ فامض فيه، لقد كان لديك - فيما أرى - مزيدا من القول.
ألباني :
إن كان لديك مزيد، مزيد من هذا القول الفاجع؛ فأمسك لقد أوشكت أن أذوب غما مما سمعت.
إدغار :
قد يرى من لا يطيقون رواية الأحزان أن فيما رويت غاية الشقوة والأسى، ولكن هناك رواية ذكرها يصغر من كل كثير، ويتخطى حد ما ظن أنه غاية المدى:
1
بينما أنا معول في حزني نسل إلي رجل كان قد رآني من قبل في أسمالي، وازور عني، ولما تبين نضو الشقاء مني ألقى على عنقي ذراعين شديدتين يعانقني، وأعول إعوالا خيل إلي أنه يصدع قبة السماء، وهوى على جثة أبي يقبله ويضمه، ثم ذكر لي مما لقي الملك لير وما لقي هو نفسه قصة هي أوجع ما سمعت الآذان، وفيما هو يرويها جمح به حزنه إلى ما لا يكبح، فأخذت نياط حياته تتقطع من قلبه. في تلك اللحظة سمعت صوت البوق للمرة الثانية، فتركته هناك في غيبوبته.
ألباني :
من كان ذاك الرجل؟
إدغار :
كنت، يا سيدي، كنت المنفي الذي تنكر ليتبع الملك الذي ضامه، وتولى من خدمته ما يكبر عنه العبد. (يدخل الأمين وفي يده سكين دام.)
الأمين :
الغياث! الغياث!
إدغار :
أي غياث تريد؟
ألباني :
تكلم يا رجل.
إدغار :
ما سر هذا السكين الدامي؟
الأمين :
إنها حراء سخينة. يتصاعد دخانها. نزعت الآن من قلب. ويلاه ماتت!
ألباني :
من التي ماتت؟ تكلم يا رجل.
الأمين :
امرأتك يا سيدي، امرأتك، وماتت أختها مسمومة بيدها. لقد اعترفت بذلك.
إدموند :
لقد كنت معقود الخطبة عليهما كلتيهما؛ فنحن الثلاثة نتزوج في لحظة.
إدغار :
ها هو ذا كنت.
ألباني :
أحضروا جثتيهما في الأحياء كانتا أو الأموات. إن هذا الحكم الصادر من السماء يملؤنا ذعرا، ولكنه لا يبعث فينا من الرحمة فتيلا (يخرج الأمين) . (يدخل كنت.)
وي! أهذا هو؟ لا يسمح هذا الوقت أن نلقاه بالتحية التي يفرضها علينا واجب الأدب.
كنت :
أتيت أودع ملكي وسيدي. أليس الملك هنا؟
ألباني :
لقد نسينا شيئا عظيما. تكلم يا إدموند. أين الملك؟ وأين كورديليا؟ أترى هذا الشخص يا كنت؟ (يؤتى بجثتي غونوريل وريغان.)
كنت :
أسفاه! لم هذا؟
إدموند :
كان إدموند على ما جرى منه حبيبا إليهما. سمت إحداهما الأخرى من أجلي، ثم قتلت نفسها.
ألباني :
هو ذاك. غطوا وجهيهما.
إدموند :
أنا أحتضر؛ بيد أني أريد أن أعمل شيئا من الخير - بالرغم من فطرتي - أرسلوا على العجل إلى القصر، أسرعوا فقد أصدرت أمري كتابة بقتل لير وكورديليا. أنجدوا قبل فوات الأوان.
ألباني :
اهرعوا، اهرعوا. آه، تراكضوا.
إدغار :
لمن يا مولاي؟ من الذي كلفته؟ أرسل أمارتك له ليبقي عليهما.
إدموند :
أحسنت الرأي، خذ سيفي، أعط الضابط إياه.
ألباني :
أسرع، وحياتك (يخرج إدغار) .
إدموند :
لقد كلفته أنا وامرأتك أن يصلب كورديليا في السجن، ويلقي تبعة العمل على يأسها؛ قولا إنها انتحرت.
ألباني :
حمتها الآلهة. ارفعوا هذا من هنا. (يحمل إدموند خارجا.) (يعود لير ومعه كورديليا محمولة على ذراعيه يتبعه إدغار والضابط وغيرهم.)
لير :
اعولوا، اعولوا، اعولوا! أنتم رجال من حجارة، لو كان لي ألسنتكم وعيونكم لاستعملتها حتى تنفطر قبة السماء. لقد ذهبت وما أن تعود أبدا. إني لأعرف متى يكون الإنسان ميتا ومتى يكون حيا. إنها هامدة كالثرى. ايتوني بمرآة؛ إذا هي غطتها أو بقعتها بندى من أنفاسها، فهي إذ ذاك في الأحياء.
كنت :
أهذا هو اليوم الموعود؟
إدغار :
أم شبح من هوله؟
ألباني :
اسقطي أيتها السماء وأنهي هذه الدنيا!
لير :
هذه الريشة تتحرك؛ فهي حية. إن كان الأمر كذلك فهي فرصة سعد تمحو جميع ما استشعرت من الحزن حتى اليوم.
كنت (جاثيا) :
يا سيدي الجليل.
لير :
أتوسل إليك أن تبتعد.
إدغار :
إنه كنت النبيل، صديقك.
لير :
ليأكلكم الداء. أنتم جميعكم قتلة وخونة. لقد كان في طاقتي إنقاذها. أما الآن فقد مضت إلى الأبد. كورديليا، كورديليا، تمهلي قليلا. ها! ما هذا الذي تقولين؟ عهدت صوتها لينا حنونا منخفضا. صفة في النساء جليلة. لقد قتلت الرجل الذي شد الحبل في عنقك.
الضابط :
حقا يا سادتي، لقد فعل ذلك.
لير :
ألم أقتله يا فتى؟ لقد أتى علي عهد كان سيفي البتار يدحرهم فيتراكضون. أما اليوم فأنا عجوز، وهذه الأرزاء تنيخ علي. من أنتم؟ ليست نواظري من خيار النواظر. سأخبركم على الفور.
كنت :
إذا عدت آلهة الحظ في الناس اثنين: أحدهما غمرته بنعمها، والآخر صبت عليه جميع نقمها، فهذا الآخر هو من نرى.
لير :
هذا منظر كمد. ألست كنت؟
كنت :
بلى، خادمك كنت. أين خادمك كايوس؟
لير :
إنه فتى همام. خذ عني ذلك؛ إنه ليضرب ويجيد بالإسراع. لقد مات وتعفن.
كنت :
لا يا مولاي الجليل، هذا الرجل هو أنا.
لير :
سأتبين ذلك على الفور.
كنت :
إني أنا الذي صحبك وتأثر خطاك منذ ألمت بك الغير والبلايا.
لير :
مرحبا بك ها هنا.
كنت :
لا، لا أنا ولا غيري؛ كل شيء مظلم هنا، عبوس تعلوه قترة الموت. بنتاك الكبيرتان قد عجلتا حينهما، وماتتا ميتة اليأس والقنوط.
لير :
أجل، هذا ما أعتقد.
ألباني :
إنه لا يعرف ما يقول، ومن العبث أن نحاول تذكيره.
إدغار :
عبث وباطل (يدخل الضابط) .
الضابط :
قضى إدموند يا مولاي.
ألباني :
هذا أتفه الأمور هنا. أيها السادة والأصدقاء النبلاء، إني معلمكم بما عزمت عليه، سنفعل كل ما يعود بالراحة والسكينة على هذه الشقوة العظيمة الماثلة، فمن جانبنا سننزل عن سلطة الملك مدى حياة هذه الجلالة الموقرة. (إلى إدغار وكنت)
ويعود إلى كل منكما حقه مشفوعا منها بالمزيد الذي تستوجبانه عن جدارة بالغة، وسيؤتى الأنصار ثواب فضلهم، ويذوق الأعداء كأس سوئهم. وي! وي! انظروا، انظروا (مشيرا إلى الملك) .
لير :
وخنقوا مضحكي المسكين. لا، لا، لا حياة! لماذا يكون في الكلب والحصان والجرذ حياة ولا يكون لك نفس أبدا؟ لا، لن تعودي سرمدا، سرمدا، سرمدا! أتوسل إليكم يا سادة فكوا هذه الأزرار. شكرا لك يا سيدي، أترى هذا؟ ... انظر إليها ... انظر ... شفتيها ... انظر هنا ... انظر ... (يموت) .
إدغار :
أغمي عليه. مولاي! مولاي!
كنت :
تحطم أيها القلب، أتوسل إليك أن تتحطم.
إدغار :
شرع جفنك يا مولاي.
كنت :
لا تقلق روحه، أو دعه يقضي نحبه؛ إنه ليكره من يطيل انبطاحه على آلة التعذيب من هذه الدنيا الدنية.
إدغار :
لقد قضى نحبه حقا.
كنت :
العجب أنه قد تحمل كل هذي المدى. إنه إنما كان ينتزع حياته من الأيام غصبا.
ألباني :
احملوهم من هذا المكان. مهمتنا الآن إعلان الحداد العام. (إلى كنت وإدغار)
يا حبيبي النفس، احكما أنتما الاثنان في هذه المملكة، وكونا دعامتي ما تداعى منها.
كنت :
إن علي ... مرحلة يا سيدي أرحلها في القريب العاجل. أهاب بي مولاي وليس من حقي أن أقول لا.
ألباني :
ألا إنه ليجدر بنا أن نتحمل عبء هذه الأيام السوداء، وأن نجهر بما نشعر لا بما يجب أن نقول. لقد تحمل أسننا أكبر الأسى. أما نحن الصغار السن فلن نرى كثيرا، ولن نعيش طويلا.
2 (يخرج الجميع بنوبة حزن.)
Page inconnue