الفصل الثامن
في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
فلنترك «كورش» في دروسه، ونرجع إلى الملك «أستياج» حيث تركناه يتقد غيظا على ما فاته من هلاك «كورش»، وصار لا ينطفئ غيظه إلا بدماء الفرس، فأمر العساكر أن تتأهب لغزو مدينة تهران، وقتل الملك «قمبيز» والد «كورش».
ولما علم الوزير أرسل إلى «قمبيز» يعلمه ليكون على أهبة، وحذره من مباغتة «أستياج» فاستيقظ وجمع العساكر، وتحصن ورتب العساكر على الأبراج وأسوار المدينة، وبعد قليل من الأيام جاء الملك «أستياج»، وعسكر حول المدينة، وضرب عليها الحصار، وقامت بينهم الحرب على قدم وساق حتى فني أكثر عساكر الفرس، وكان الوزير «أرباغوس» قد خلفه الملك في مدينة «همذان» عوضا عنه يحكم بين الناس إلى حين حضوره حتى فرغ الملك من حرب «قمبيز»، وفتح مدينة «تهران»، وأخذ «قمبيز» أسيرا، وقدمه بين يدي الملك، فسأله عن من خلص «كورش».
فقال: لا أدري من هو «كورش»، ولا من استخلصه.
فأمر بقتله، وصلبه على جزع من الشجر، فقتل وصلب ظلما وعدوانا، وقد أمر بتفتيش المدينة لعلهم أن يجدوا «كورش»، فلم يجدهم ذلك نفعا، فأمر بقتل من استحصلوا عليه من أكابر الفرس، وقد أطفأ لهيب فؤاده بسفك تلك الدماء البريئة، وأقلع بعساكره الجرارة مؤيدا ظافرا بعد أن أقام على «تهران» حاكما من قبله، ودخل مدينة «همزان» في يوم مشهود، فهرعت الناس لملاقاته، وفرح قوم واغتم آخرون، أما «أرباغوس» و«أرباسيس» فتكدرا لموت «قمبيز» كدرا شديدا؛ لأن الغلام صار يتيما، وقد أجمعا أمرهما على الكتمان عنه؛ لئلا يشغله الحزن عن درس العلوم. واجتهدا في تهذيبه وتثقيفه، وكان «كورش» شابا ذكيا نير الفكرة ، ثابت الجنان، فصيح اللسان، بهي الطلعة، جميل الصورة. قد تجمل بمكارم الأخلاق والكرم والمروءة، له خلق طبيعي، ولما صار له من العمر سبع عشرة سنة صار بهجة للناظرين، وكان الوزير يحافظ عليه تمام المحافظة، وقد ضرب على تلك المزرعة كردونا من خدمه، وأوعز لهم إذا رأوا أحدا يشتبه فيه ألا يدعوه يتجاوز تلك الأرض إلى حد أن يصل إلى القصر.
وكأن الله تعالى من فضله وكرمه قد غرس حب «كورش» في قلوب أهالي تلك القرية والمزارعين، فصار كل من رآه يدعو له بطول العمر والبقاء، وهو يحسن لفقرائهم، ويوقر أغنيائهم، وكان إخوانه الثلاث، وبعبارة أخرى أساتذته يحلونه محل الروح من الجسد؛ فكان «روبير» دائما ساهرا على مراقبته، حريصا عليه من عيون الملك وأرصاده؛ لأنه لم يأل جهدا في البحث عنه، وأما «بركزاس» فكان يقيه بنفسه ويهذبه، ويجتهد في تعليمه الفروسية وفنون الحرب، و«فانيس» صار يلقي عليه أنواع العلوم الفلسفية حى نبغ في كل ما تقدم ذكره.
الفصل التاسع
في غرام كورش واحتقاره لنفسه
ولما كان ذات يوم ركب «كورش» جواده، وقصد التنزه على حافة النهر كعادته، وأخذ معه «روبير» الذي لا يفارقه طرفة عين، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا الجانب الشرقي من النهر، ووقفا يسرحان أنظارهما في تلك الغابات النضرة على الجانب الغربي، وكان «روبير» يعلم ما في باطن تلك الصخور لكثرة تردده وبحثه على كل دقائق تلك الأرض، فصار «كورش» يسأله بعض أسئلة عما اكتشف من تلك الناحية، وعما رأى فيها من زهور ونبات وغير ذلك، وهو يجاوبه عن كل سؤال بمقداره، حتى قطعا مسافة بعيدة وهما يتلذذان بتلك المذاكرة، وينتعشان بما يستنشقانه من أرج النسيم الممتزج بعبير تلك الأزهار العطرة وتلك الغابات النضرة. وبينما هما سكارى من لذيذ ذاك الموقف، وإذا هما ذعرا بصوت مستغيث أزعجهما، وبهتا من رخامة ذلك الصوت، ثم التفتا إلى جهة النهر، وإذا هما ينظران عن بعد جوادا تعلوه فتاة، وهو شارد بها، منكب على الماء، وقد نزل حتى صار في النهر يتخبط في الماء المتلاطم، أما الفتاة فقد استعملت كل قواها لرد جماحه فلم تقدر. وكان إلى جانب النهر فتاة أخرى قد نزلت عن جوادها، وهي تصرخ وتستغيث، وتنادي لعلها تجد من ينتشل رفيقتها من مخالب المنون.
Page inconnue