فقالت وقد خفق قلبها: ماذا يصنع الملك بولدي أيها الوزير؟
قال: لا أدري ماذا يصنع به! ولكني لا أعلم ماذا أقول! وأخاف إن لم أمتثل أمره يمثل بي وبولدي معا ويقتلنا شر قتلة.
فسكتت زوجته على مضض، وأحضرت الغلام وألبسته أحسن الملابس، وأرسلته مع والده إلى قصر الملك، ولما وصل إلى أول باب وجد جملة من أولاد الوزراء والحاشية، فاطمأن قلبه ودخل، ثم انخرط الغلام بين هؤلاء الحدثان، ودخل «أرباغوس» فوجد جملة من حاشية الملك، فسلم وجلس في مكانه على حسب العادة. وكان الملك أمر الخدم أن يذبحوا ابن «أرباغوس»، ويقطعوا الرأس واليدين، ويضعوهم في سلة، وبعد الفراغ من الطعام يقدموهم بين يديه، ويكشفوا الغطاء، ففعل الخدم بما أمرهم الملك. ولما رأى وجه ولده وبقاياه طاش لبه وذاب قلبه، وغاب عن الوجود، ولكنه تجلد على مضض، وأظهر الحزم، وأخفى حزنه، وقال: كل ما فعله الملك، هو مقبول عندي لا أراجعه فيه، ولم يخرج ولدي عن كونه أحد رعاياه، وفرع من دوحة فضله.
فقال الملك: إنما فعلت ما فعلت لتصير مثلي عديم الولد؛ لأني صرت كذلك بسببك، وأنت تكون عديم الولد بسببي؛ لأن «مندان» أنت الذي أشرت علي باستحضارها، وأنت الذي أخبرتها، وأخرجتها من المدينة، وقد عفوت عنك، واكتفيت بهلاك ولدك، وأقرك على عملك.
فشكره الوزير وانصرف إلى منزله حزينا كئيبا، ودفن عظام ولده، وأقيمت الأحزان في دار الوزير، ولبست والدته ومن في القصر الحداد، وهكذا تم الأمر بين الوزير «أرباغوس» والملك «أستياج».
الفصل الخامس
فيما كان من أمر مندان
قد كنا تركنا «مندان» سائرة مع الخادم على طريق بلاد فارس، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا شاطئ البحر، فوجدا هناك سفينة سائرة إلى فارس، فالتمسا من الربان أن يصحبهما معه، فلبى طلبهما وركبا، وسارت السفينة تشق عباب الماء إلى منتصف الليل. وكانت «مندان» قد شغلها تعب السير، وتعب النفاس عن كل شيء، فانطرحت في جانب السفينة لا تعي على شيء مما هنالك. وإذا هم بالبحر قد هاجت أمواجه، وأزبد وألقت الرياح كل قواها على تلك السفينة الضعيفة، حتى صارت تلعب بها كلعب الأسد بفريسته أو الهر بصيدته، هذا وقد تقطعت حبالها، وتكسرت سواريها، وقد غاب رشد الربان والركاب والملاحون جميعا من هذه النازلة، ويئسوا من الخلاص، وابتهلوا بالدعاء كل على قدر دينه؛ فمنهم من يستغيث بالله تعالى، ومنهم من يطلب من النار الخلاص، ومنهم من يستنجد بالأصنام، وهكذا، إلى أن أشرق الفجر، وقد ألجأتهم الأمواج إلى شاطئ جزيرة هناك آهلة بالسكان، عامرة بغاية الحضارة والزخرف، ولها ملك يقال له «جرمانوس»، وهو يعبد الأصنام دون الملك العلام.
ومن ضمن تلك المعبودات كبش عظيم الخلقة أبيض اللون، وقد بنى له قبة عظيمة، وزينها بزخارف الزينات البديعة المنظر، وأفرض لخدمته جارية خصوصية تقوم بكل ما يلزم له من أكل وشرب وتنظيف. وكان في ذلك اليوم الذي رست فيه السفينة التي فيها «مندان» على الجزيرة قد توفيت تلك الجارية الموكلة بخدمة الإله، فصار الخدم يبحثون على جارية بأمر الملك غير تلك الجارية، ولما رأوا السفينة تجاروا إليها على قدم السرعة بصفة كونها تجارية، ولما صعدوا على ظهرها، وجدوا «مندان» جالسة، فقال أحدهم للربان: لمن هذه الجارية؟
قال: لأحد الركاب، وها هو الآن معنا.
Page inconnue