فالكلام سهل. والمشرفات لم يكن متخصصات، ولا يملك كل إنسان بالضرورة القدرات اللازمة للتعامل مع مريض ألزهايمر، وأفضل دليل على ذلك كان إيفا أصغر حفيدة لأبي، تلك التي لم تعرف جدها إلا على هذه الحال. كانت المودة التي تعامله بها كبيرة، لدرجة كانت تجعله يتجاوب معها بصورة تلقائية، ولأن الصغيرة كانت خالية الذهن، فقد كان أبي في حضرتها خالي الذهن أيضا.
وكان الأمر مشابها مع دانيلا، التي تفاهمت معه من البداية بطريقة جيدة جدا، وكانت تعامله بأريحية شديدة، وبدا أبي وكأنه مغرم بها إلى درجة ما؛ فقد كان على أي حال يحاول عادة إبعادي عندما تكون هي معه. كانت قادرة على إعطائه الإحساس بأهميته؛ فقد كانت مثلا تعطيه سلة المشتريات ليحملها عنها، أو تتركه يدفع دراجتها. كذلك قام هو بتعليمها اللغة الألمانية، وأمضى ساعات في تعليمها نطق الكلمات وقواعد النحو، في الوقت الذي كان فيه عاجزا عن تذكر أسماء أبنائه الأربعة. وعندما سألته عن سبب فعله ذلك، قال إنه يقوم بكل ذلك كي تبقى معه.
كانت تلك أسبابا كافية دفعت السيدة الشقراء القادمة من نيترا في سلوفاكيا إلى البكاء عندما أخبرناها في شهر مارس من عام 2009 بقرارنا أن الوقت قد حان لدخول أبي دار مسنين، في حين أن أنا اعتذرت عن رعايته بعد فترة قصيرة، ولم يكن هناك أي أمل في أن تعود إلى بيتنا مرة أخرى، بعد ما عايشته معه طوال عام مضى. كانت الأيام التي صبغتها نوبات الرفض والعناد كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
من الشائع أن يشعر المرء بتأنيب الضمير عندما يقرر إدخال أحد أفراد الأسرة دار مسنين، وبالتأكيد يخلق مثل هذا القرار حالة من الحيرة ، ولكن في الوقت نفسه لا ضير من مراجعة بعض تلك الأعراف الثابتة. كانت دار المسنين في قريتنا تمتاز بوجود عمالة مؤهلة، تعمل في ظروف جيدة، ولديها فرصة لتبادل الرأي والخبرة حول المشاكل الملحة. وهناك يعرفون أبي، حتى قبل مرضه، هناك يرون فيه الشخص والإنسان الذي له تاريخ حياة طويلة، طفولة وشبابا؛ إنسانا حمل اسم أوجوست جايجر لأكثر من ثمانين عاما وليس مع بداية المرض فحسب.
أما في البيت فلم يعد توفير مثل هذه الرعاية ممكنا رغم كل الدعم الذي تقدمه الأسرة. إن الاعتراف بالهزيمة قد يكون في بعض الأحيان انتصارا، ولن يسعد أحد إذا تضرر آخرون في الأسرة. لسنوات طوال كان الأب المريض المحور الذي يدور حوله كل شيء، ومن يعاني مشكلة شخصية كان عليه أن يجد بنفسه سبيلا لحلها؛ فقد كان الجميع منهكا بالتفكير ليل نهار في أبينا، وكنا نسأل أنفسنا طوال الوقت: ترى ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كنا قد تخطينا حدود التحمل.
وقد جعل إحساس أبي وهو في بيته بأنه ليس في بيته كل جهودنا تذهب أدراج الرياح.
بدأ آخر يوم لأبي في البيت مثل أي يوم من سابقيه. لم يعد يقاوم تماما منذ تم تغيير أدويته، وأصبح يجفف نفسه بنفسه بعد الاستحمام، ثم يأكل ببطء ورضا طعام الإفطار. كان صباحا دافئا ومشمسا؛ لذلك أجلسته أمي على كرسي حديقة أمام البيت، وكانت قد حضرت لرعايته بعد استسلام أنا. تبادل أبي من مقعده بعض الكلمات مع الجيران الذين يمرون أمام البيت، بينما كانت أمي تحيك قطع قماش صغيرة تحمل اسمه في ملابسه، وأيضا في مناديله.
على الغداء تناول وجبة تقليدية من العصيدة والجبن، ثم رقد في غرفة المعيشة، وبعد دقائق قليلة نام. استيقظ في الثالثة عصرا تقريبا وشرب شايا، وساعدها في حمل حقيبته إلى السيارة، ثم ركب السيارة، وأوصلته أمي إلى دار المسنين.
أمام البوابة كان أحد أعضاء المجلس المحلي السابقين جالسا، فقام وأمسك لهما الباب ليدخلا؛ فلعله كان يعرف أن الباب معطلا ولن يفتح تلقائيا. لم يتعرف عليه أبي، ولكنه حياه فقط.
في قاعة الاستقبال كانت تجلس سيدة ضعيفة البنيان على الأريكة. رفع أبي يده وحياها، ثم ذهب إليها وأخذ بيدها وتبعا أمي إلى باب قاعة الانتظار في دار المسنين. هناك حيته مديرة الدار وأرته حجرته وصورة جديه التي كانت بالفعل معلقة على جدرانها، فقال إنه قد رآهما قبل ذلك ولكنه لا يعرفهما. طرحت المديرة بعض الأسئلة المتعلقة بعاداته وأدويته، ثم خرجت معه إلى الحديقة، فجلس إلى جانب بقية النزلاء في الظل وبدا مستريحا. بعد فترة ودعته أمي، فلوح لها بيده مودعا. •••
Page inconnue