قلت له: «نعم، إنه هناك في مكانه.»
رفع حاجبيه وذهب ذاهلا وراء دانيلا نحو الباب.
وتزايدت تلك المواقف السريالية التي تبدو عندما أحكيها فكاهية ومرحة بعض الشيء وغريبة بعض الشيء، ولكن من ينصت جيدا يجد فضلا عن المرح كثيرا من القلق والحيرة، وفي أغلب الأحوال كان المرح يغيب عن الصورة تماما.
ومما كان يزيد كثيرا من المواقف صعوبة عدم قدرة أبي على فهم جدوى الأمور؛ فكان يغضب لأن عليه أن يبتلع أدوية لا يستسيغ طعمها، ولا يدري أن حالته ستسوء دون الأدوية؛ لذا كان يعترض قائلا: «لا يمكن أن تفعل بي هذا!» «هذا لصالحك.» «يمكن لأي شخص أن يدعي ذلك.» جاءت إجابته بلهجة حادة، ثم استكمل كلامه لي: «إياك أن تظن أني سأنخدع بشخص غير متزن مثلك! أعرف جميع ألاعيبك القذرة.»
كنت أدرك بطبيعة الحال أن المرض هو الذي يتحدث؛ ومع ذلك كان إحساسي بأن أبي ينهرني دون ذنب بهذه الطريقة مؤلما، وكان وقع ذلك أشد إيلاما على الأشخاص الذين لا يمتلكون الخبرة التخصصية ولا يعرفون أبي جيدا وليسوا ملتزمين تجاهه بشيء. «ارحل من هنا! إن لم تتركني لحالي فسأحضر سلاحا وأطلق الرصاص على مؤخرتك!»
كان يقول لي ذلك، وكنت أجده مضحكا؛ لأنه يذكرني بطفولتي عندما كنت أخوف الآخرين بأخي الكبير. لكن بعض المشرفات لم يتفهمن ذلك، ولم يقدرن على فهم الرسالة وراء مثل تلك التهديدات؛ ألا وهي تفضيل أبي أن يترك في هدوء في ذلك العالم المليء بالوجوه الغريبة.
مكثت دانيلا قرابة ثلاثة أعوام لدينا، وكانت تقسم حتى آخر يوم أنها لن تجد بسهولة مكانا يعجبها مثل بيتنا. بالنسبة إليها كان أبي بالرغم من مرضه شخصا ذكيا ومرحا ومستعدا لتقبل الدعابة دائما، ومع أن عقله يتخلى عنه تماما في بعض الأحيان، فإنها كانت تعرفه بما يكفي كي تدرك أنه شخص مسكين ومسالم فعلا.
كان علينا كل ثلاثة أسابيع أن نحضر مشرفة أخرى مكان دانيلا؛ حتى تزور أسرتها في سلوفاكيا. وللأسف لم تتمكن أي من زميلاتها على مدار عامين من تكوين علاقة طيبة مع أبي مثلها، ولم يكن يمكثن فترة طويلة لدينا. مع تفهمي لذلك في معظم الأحيان.
فقد كان أبي في أغلب الأوقات يتصرف بعناد، ويرفض كل شيء من الصباح حتى المساء. وكان أيضا يميل إلى طرد الأشخاص الذين يعتبرهم غرباء ويتسببون في شعوره بالحيرة والقلق. معظم المشرفات كن يتحدثن إليه أكثر مما ينبغي، وبلهجة غير مناسبة وكأنه طفل صغير. ولأن أبي كان لا يزال شخصا ملفتا برأسه الكبير وتعبيرات وجهه المعبرة، فقد كانت المشرفات يشعرن أحيانا ببعض الخوف منه؛ فعندما كان يرى أنهن يضغطن عليه كان يدفعهن جانبا.
وحينها لم تكن أي تأكيدات على أن أبي رجل لطيف تجدي. كذلك لم تنفعهن نصائحي بأن يتحاشينه عندما يكون غاضبا.
Page inconnue