Les Intrigues de l'Amour dans les Palais des Rois
مكايد الحب في قصور الملوك
Genres
وكان إذا جالس الغرباء يستولي عليه الخجل والاستحياء، فيجلس مطرقا لا يتكلم ولا ينظر إلى أحد منهم. وكان يبدي اشمئزازا لا مزيد عليه من رؤية الدمامة (قبح المنظر) أية كانت. وإذا شاهد من يكرهه أو لا يستحسنه تقزز وتكره وأغمض عينيه أو اختبأ وراء ستار حتى ينصرف الشخص المكروه.
فهل كان مجنونا؟ لا ريب في أن الخلل العقلي الذي اعتراه في السنين الآتية كانت آثاره ظاهرة في صبوته كما يتضح من القصص الكثيرة التي رويت عنه. فمنها أن أحد ضباط البلاط كان يتمشى يوما في حديقة القصر، فرأى أوتو مطروحا على الأرض وهو موثق اليدين والرجلين، وحول عنقه منديل يشده أخوه لودوك ليخنقه به. ولما بادر الضابط إلى إغاثة أوتو المشرف على الموت اعترضه لودوك وصاح به: «ليس لك حق المداخلة في ما لا يعنيك. وهذا الولد عبدي. وقد عصى أمري فأروم قتله.» وبعد بذل الجهد العظيم تمكن الضابط من إنقاذ حياة أوتو المسكين.
ومع شدة تسلط الهواجس والوساوس والخجل والاستحياء عليه كان ممتازا بالحصول على كثير من صفات الرجولية. وفاق أقرانه بالبراعة في الألعاب الرياضية كلعب السيف والفروسية (حذاقة ركوب الخيل) والسباحة والرماية وغيرها من مقتضيات الحرب والكفاح. وعلى ذكر الفروسية نقول: روي عنه أنه عندما كان يتعلم ركوب الخيل رماه الجواد وأخذ مدربه يضحك عليه لرعونته وطيشه، فحمي غضب الأمير عليه، وبعدما نهض انتهره قائلا: «ليتك تستطيع أن تعلمني السقوط على وجه لا يستدعي سرورك وضحكك علي، ولست أرى ما يضحك في حادثة يتعرض لها أبرع الفرسان.»
وبعدما بلغ أشده أضاف إلى هذه الصفات حسن الهيئة وجمال الطلعة، وكتب عنه من عرفه حينئذ يقول: «كان في الثامنة عشرة من عمره ذا شكل لم تقع العيون على أجمل منه. فكان يميس بقامة طويلة ممشوقة وجامعة لكل محاسن التناسق والتناسب. وشعره الأجعد يلقي على رأسه شبها واضحا لما مثل به اليونان البطولة والبأس . وكان أجمل ما فيه عيناه اللتان كانتا تسطعان ببهاء ساحر جاذب يتعذر وصفه بقلم كاتب. ومن نورهما المغنطيسي كانت تنبثق أشعة حزن عميق يعبر عن القلق والاضطراب العابثين بدماغ صاحبهما.» وهاك ما وصفه به أستاذه وغنر: «كان فائقا في جماله وذكائه. وأما سحر عينيه فيفوق الوصف. فإن فسح الله في أجله كان آية عصره.»
ولما كان ابن ثماني عشرة سنة احتفل بجلوسه ملكا على عرش بافاريا بعد وفاة أبيه، وكان الاحتفال بتتويجه بالغا حد الأبهة والعظمة والفخامة. ولم يلبث أن أخذ يرأس مجالس رجال الحكومة، ويستقبل سفراء الدول بما لا مزيد عليه من البراعة والكياسة والظرف وحسن التناول، واستمال إليه قلوب الرعية بحسن رعايته لهم وعنايته بهم وعطفه عليهم. وخرج في موكب المهابة والجلال يعرض جيوشه لابسا خوذة أنيقة، وممتطيا جوادا أبيض يستحثه بمهمازين من ذهب، وحوله كبار القادة والضباط. وفي هذه المظاهر كلها لم يبد عليه من علامات العته والجنون ما يجعله دون غيره تعقلا وإدراكا. ومع هذا كله كان جنونه كامنا فيه يحاول الظهور على رغم مقاومته له، كما سنرى فيما بعد.
وبعد الاحتفال بتتويجه، سر البافاريون إذ علموا أن مليكهم عازم على الاقتران بابنة عمه الأميرة صوفيا شارلوت. وطفق رجال البلاط يستعدون ليوم الزفاف استعدادا لا مثيل له، ولاحت على محيا الملك أمارات ابتهاج لا مزيد عليه، فقضى معظم أيامه يجول متنزها مع خطيبته إما في مركبته الملكية في شوارع مونيخ، وإما في زورقه في بحيرة ستارنبرغ. ولما جاء اليوم المعين للاحتفال بزفها إليه وجيء بالأميرة إلى الكنيسة، أعلن لودوك رفضه المطلق للذهاب إلى الكنيسة، واضطرت العروس أن تعود من حيث أتت تذرف دموع الكآبة، والناس من حولها يتعثرون بأذيال الخيبة.
ثم فتشوا له عن عروس أخرى، وهي أرشديوقة نمسوية كانت مشهورة ببارع حسنها وجمالها. وكان الأمل وطيدا أن بهاءها المنقطع النظير يمكنها من أن تنال نعمة الرضا والقبول في عينيه. ولكنه إذ كان ذات يوم يتمشى في حديقة قصره، لقي عروسه الحسناء تقطف وردا وهي غير شاعرة بقربه منها، ثم رفعت نظرها فرأته محملقا وعيناه تقدحان شرر الغيظ والحنق، ثم أقبل عليها يوسعها سبا وشتما، فولت مذعورة وهي تبكي وتكتئب، ولم يبق فيها أقل ميل إلى مشاهدته مرة أخرى.
وكان ميله في أيام حداثته إلى العزلة والانفراد قد تجدد فيه الآن مشتدا كل الاشتداد، حتى باتت أعراض جنونه ظاهرة لكل ذي عينين. فكان في النهار يروع بمخاوف هائلة تشب من طوق الحصر. وفي الليل يرى في حلمه وجوها ملطخة بالدماء ملتهبة الشعور وهي محدقة بسريره ترقبه هازئة صافرة، حتى كان من شدة ارتياعه يندفع خارجا من القصر ويركب حصانا ويقضي الليل كله هائما على وجهه في الغابات فرارا من هواجس دماغه وأخيلة أفكاره.
وكان عندما تخف وطأة الوساوس عليه يستدعي مغنيات الأوبرى إليه ليطربنه برخيم إنشادهن، وهو راكب زورقه في حديقة الشتاء التي أنشأها على سطح القصر، وكانت من أبهى جنان الأرض. وكثيرا ما كان يستصحب أشهر مغنيات الأوبرى في ذلك الحين؛ وهي فرولين تشيفسكي. وحدث مرة أنها وهي راكبة معه في الزورق رأته مستغرقا في ذهوله وشرود ذهنه، فأخذت تعبث بشعره، فأفاق من ذهوله مغيظا محنقا، ودفعها بعنف دفعة أمالت الزورق وكادت تفضي إلى انقلابه وغرق من فيه.
وأحيانا كان يتزيا بزي لوهنغرين (الموسيقي الشهير) فيتقلد السيف والترس ويضع على رأسه عفرة طويلة، ويقضي ليله في البحيرة في زورق خفيف تجره أوزة كبيرة وحوله مئات من المشاعل والمصابيح المختلفة الألوان، ومراوح ريش تروح الهواء، والموسيقى تصدح بألحان رقيقة وراء خمائل الأشجار، أو يجلس في الأوبرى وحده صاغيا لإيقاع تلاحين وغنر، حتى إذا سمع ما ساءه ولم يسره، هاج غضبا على الممثلين المنكودي الحظ.
Page inconnue