في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، التي لا هي من الليل ولا هي من النهار، جلس الكاهن على صخرة، بين الزيتونة والطريق، يفحص ضميره، ويتأمل حاله. وفي مثل هذه الساعة، ومثل هذه الحال، يتصل فجر حياة الإنسان بفجر العالم، فيحلم إذا كان نائما الأحلام القريبة من الحقيقة، ويصور الحقيقة، إذا كان مستفيقا، في أشكال تقرب من الأحلام.
وفي مثل هذه الساعة أيضا يفنى ويتجدد جزء كبير من الجنس البشري، فإن حوادث الموت والولادة - أو أكثرها - تحدث، كما يقول العلماء والأطباء، في ساعة الفجر. في هذه الساعة يكتب القمر والمهد اسميهما في سجل الله، ويفترقان بعيد اجتماعهما. وكل واحد منهما يقول: «وكان سلامه علي وداعا.»
هي ساعة التحول والتجدد. ساعة يقبل الموت الحياة، فيريحها من القديم البالي، ومن الفاسد العقيم. وساعة تجيء الحياة بالجديد الطاهر، السليم، النشيط الجميل؛ فيحسن الموت العمل ، وتحسنه الحياة.
رأى أبو طنوس الكاهن في العربة، فامتقع وجهه، وقال في نفسه: «الله يطرد الشيطان.»
وفي ساعة الفجر تتجدد قوى العالم، وتنمو أفكار الإنسان نموا خفيا كما تنمو الأشجار. في هذه الساعة تحدث أكثر الانقلابات الروحية، وتضطرم الثورات في الأنفس المضطربة الحائرة؛ ذلك لأن الأحلام (أحلام النوام) تدنو فيها من الحقائق، والحقائق (حقائق المستفيقين) تدنو من الأحلام.
في هذا الفجر الرمادي الفضي سر للعالم، وسر للفيلسوف، وسر للشاعر؛ فالأول ينشد مفتاح السر في الإحصاءات والحقائق الحسابية، والثاني يبحث عنه في المشاعر والعواطف البشرية، والثالث يكتشفه في الأحلام والتصورات الشعرية.
إن الخوري يوسف الآن لفي فجر نفسه المضطرب. إنه لفي الساعة التي يتصارع فيها الماضي والحاضر، فهل يزوره الموت ليأخذ ما فسد وعقم من أعماله؟ وهل تحييه الحياة الجديدة، فتكتب له الطاهر السليم الجميل من المقاصد والأعمال؟ أينجلي ليل حياته كما انجلت الليلة التي أحياها في الصلاة؟ أيحمل نفسه، في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، إلى النهار القريب الانبثاق، أم يعود بها إلى الليل الذي لا تعد الآن منه؟ وبكلمة أخرى: هل ينبذ ما اجتناه واقترفته في ماضي حياته؟ أم هل يحافظ على ثروته، ويتمسك بمنصبه؛ شغفا بالسيادة والمجد الباطل؟
ظل الخوري يوسف جالسا على الصخرة، وهو في بحر من الهواجس تتقاذفه أمواجه، حتى أشرقت الشمس ترسل خيوطها الذهبية من وراء الجبال، فتخللت نسيج الفجر المنبسط في الأودية والغابات، وفوق الربى والمروج، فاستحال رويدا سربالا عصفريا شفافا، تكاد ترى خلاله حتى أعصاب النهار وهي تختلج جذلا. ونفذت الشمس بسحرها إلى قلب الكاهن، فاختلج اختلاج النهار، فوقف ناشطا ملبيا، وهتف قائلا وهو باسط يديه إلى السماء: «المجد لله وحده؛ المجد والحول والطول لله!»
ثم مشى إلى بيته. وبينما هو في الطريق، رأى العربة التي ركب فيها مساء البارحة وهي عائدة صباح ذاك اليوم إلى بيروت، فوقفت عندما قربت منه، ونزل الحوذي وبيده رسالة أعطاه إياها؛ قائلا: «من بو طنوس، يا محترم، رفيقكم الليلة البارحة.»
عرته الرعشة عندما سمع اسم أبي طنوس ، ولكنه ملك نفسه، فشكر الحوذي بكلمات دلت على أنه نسي حادثة الليلة البارحة. واستمر في طريقه إلى البيت، فبادر عند وصوله إلى غرفته الخاصة، وأخرج الكتاب من جيبه ليقرأه.
Page inconnue