ثم تناول يد ماجدولين وأهوى بفمه إليها ليقبلها، فلمع أمام عينيه شعاع خاطف من أشعة الخاتم الماسي الذي يتألق في أصبعها، فاضطرب ومر بخاطره مرور البرق منظر ذلك الخاتم بعينه يوم رآه في يدها للمرة الأولى، وهي واقفة بجانب «إدوار» في حديقة منزلها، فتراخت يده وامتقع لونه وانطفأ ذلك الشعاع الذي كان يلمع في عينيه وارفض جبينه عرقا، وأخذ صوابه يعود إليه شيئا فشيئا، فظل يقول بصوت خافت متهدج: لا، لا، لا حق لي في تقبيل يدها؛ لأنها ليست لي ولا شأن لي عندها ، ثم تناول غطاءه فأسبله على رأسه وأخذ يبكي بكاء شديدا، ويقول للطبيب: ليخرجوا عني جميعا فلا شأن لهم عندي ولا شأن لي عندهم، فاغرورقت عين ماجدولين بالدموع، ومدت يدها إليه كالضارعة وهمت بالركوع بجانب سريره، فجذبها إدوار جذبا شديدا، فتبعته متثاقلة، خطوة والتفاتة، وهي تقول بينها وبين نفسها: «وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!»
وما انقضى النهار حتى ترك «إدوار» قرية «ولفاخ» وسافر بزوجته إلى «كوبلانس». (71) اليأس
لبث «استيفن» في سرير مرضه شهرين كاملين كابد فيهما من آلام النفس والجسم ما قدر له أن يكابده، ثم أبل قليلا، فهجر فراشه وأخذ يهيم على وجهه ليله ونهاره، ينام حيث يجد مضجعا، لينا أو خشنا، ويأكل حيث يجد لقمة، بيضاء أو سوداء، لا يستقر بمكان، ولا يأوي إلى ظل، ولا يتعهد جسمه أو ثوبه بما يصلح شأنهما، واستبد به الحزن، فدق جسمه، وغارت عيناه، واسترسل شعر رأسه ولحيته، وآضت نضرة وجهه شحوبا، وحمرة خديه اصفرارا، وأصبح آية السابلين، وعبرة الغادين والرائحين.
وكان لا يمر بكوخ صديقه «فرتز» إلا اتفاقا، فإذا مر به خرج الرجل إليه وزوجه وأولاده وتعلقوا به وناشدوه الله والمودة أن يدخل معهم كوخهم، فيدخل فلا يلبث إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يدركه الملل فيثور ثورة الوحش المهتاج ويفر من بينهم راكضا وقد عاد إلى شأنه الأول.
وكثيرا ما كان يمر في تطوافه بمنزله الصغير الذي بناه في «جوتنج» وبنى فيه سروح آماله الذاهبة وأمانيه الضائعة فيصرف وجهه عنه ولا يطيق النظر إليه، وربما انكفأ راجعا حين يلمح أول شرفة من شرفاته حتى لا يمر به ولا يقع نظره عليه.
وكان إذا ركب رأس طريق مشى فيه قدما لا يقف ولا يتريث ولا ينظر يمنة ولا يسرة حتى يعترضه نهر أو جدار، أو يرى بين يديه مجتمعا من الناس فيستفيق من ذهوله ويعود أدراجه.
ولقد استمر به المسير يوما في بعض غدواته حتى وصل في منتصف النهار إلى «كوبلانس»، فأخذ يهيم في شوارعها وطرقاتها، والناس ينظرون إليه وإلى منظره الغريب وشعوره المشعثة الثائرة ونظراته الحائرة المتبددة ويعجبون لأمره.
وإنه لكذلك إذ مرت على القرب منه عجلة فسمع فيها ضحكا عاليا خيل إليه أنه يعرف نغمته، فالتفت فإذا ماجدولين و«إدوار»، فصعق في مكانه، وتراجع إلى جدار كان وراءه فاستند إليه وهو يقول: «ما أسعدهما وأهنأ عيشهما! إنما يبنيان سعادتهما على أنقاض شقائي.» ثم ذهل عن نفسه وظل في ذهوله ساعة فلم يستفق حتى رأى حلقة من الناس محيطة به، ورأى قوما يتضاحكون ويتغامزون ويشيرون إليه إشارات الهزء والسخرية، فرماهم بنظرة شزراء رجفت لها قلوبهم، وخطا خطوة واسعة إلى الأمام، فهالهم منظره، وتفرجوا له عن طريقه، فسار في سبيله لا يلوي على شيء مما وراءه حتى بلغ ضاحية المدينة، فرأى نهرا جاريا على رأس مزرعة خضراء فجلس على ضفته يؤامر نفسه على الموت ويقول: لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعف وجبن، وما الضعف ولا الجبن إلا الرضا بحياة كلها آلام وأسقام فرارا من ساعة شدة، مهما كابد المرء من الغصص والأوجاع فهي ذاهبة ولا رجعة لها بعد ذلك.
وهل يوجد في باب الجهالات أقبح من جهالة الرجل الذي يفضل حياة يموت فيها في اليوم مائة مرة، على موتة سريعة عجلى تريحه من هذه الميتات المتقطعة المتداولة.
إني لا أدري لم يضيق الرجل بثوبه فينزعه، ويسمج في نظره منزله فيهجره، ويتبرم بصاحبه فيفارقه، ويثقل على ظهره حمله فيلقي به، فإذا ضاقت به حياته لا يخلعها، ولا يحدث نفسه بالخلاص منها، والحياة إذا بؤست كانت آلم للنفس وأثقل مئونة من ثوب ضيق، أو حمل ثقيل.
Page inconnue