ينظر الرجل إلى المرأة في حبه إياها بعين غير العين التي تنظر بها إليه في حبها إياه، فهو يراها أداته الخاصة به التي لا حق لإنسان غيره في التمتع بها بوجه من الوجوه، ويرى أن حقا عليها أن تختصه بجميع مزاياها وصفاتها، فلا تقع على حسنها عين غير عينه، ولا تسمع رنة صوتها أذن غير أذنه، ولا يشعر بروعة جمالها قلب غير قلبه، فيغار عليها من النظرة واللفتة، وكلمة الاستحسان، وبسمة الإعجاب، ويخيل إليه أن الناظرين إليها والمحتفلين بها والمتحدثين بأحاديث حسنها وجمالها إنما هم قوم جناة متلصصون قد مدوا أيديهم إلى خزانة ذخائره التي يملكها وحده من دون الناس جميعا، فاختلسوا من جواهرها جوهرة لا حق لهم فيها، وفازوا بها من دونه، فيلم بنفسه من الألم والامتعاض ما يلم بنفس الشحيح المختل إذا رأى السابلة تفر من حر الهاجرة إلى جدران داره لتستذري بظلالها ساعة من الزمان، وإن لم يضره ذلك شيئا، وقد يكون من أشهى الأشياء إلى نفسه وأعجبها إليه أن يرى الناس قد أجمعوا رأيهم على استقباحها والزراية عليها ووصفها بأقبح الصفات وأشنعها، وأنها قد أصبحت في نظرهم ضحكة الضاحكين، وآية السائلين، حتى يكون جمالها سرا من الأسرار الخفية، لا تراه عين غير عينه، ولا يبلغ صميمه نفس غير نفسه.
أما المرأة فتنظر إلى الرجل الذي تحبه نظرها إلى حليتها التي تلبسها وتعتز بها وتدل بمكانها على أترابها ونظائرها، فلا أوقع في نفسها ولا أشهى إلى قلبها من أن تسمع الرجال يقولون عنه إنه رجل عظيم، والنساء يقلن عنه إنه فتى جميل، فهي تحبه لخيلائها وكبريائها أكثر مما تحبه للذاتها وشهواتها، وترى في إعجاب المعجبين به وافتنان المفتتنات بحسنه وجماله اعترافا منهم بحسن حظها وسطوع نجمها، واكتمال أسباب سعادتها وهنائها، وهذا كل ما يعنيها من شئون حياتها.
لذلك شعرت ماجدولين بلوعة الحزن في أعماق قلبها حينما عرفت أن حليتها التي كانت ترجو أن تفاخر بها أترابها غدا وتكاثرهن بحسنها وجمالها، قد بدأتها العيون، واقتحمتها الأنظار، وسخر منها الرجال والنساء جميعا، وظلت تفكر في ذلك ساعة كابدت فيها من آلام النفس ولواعجها ما تكابد نفس المحتضر في ساعته الأخيرة، ثم لم تلبث أن عادت إلى نفسها وظلت تقول: إنهم لا يعرفون من أمره شيئا، ولو أنهم علموا من شأنه بعض الذي أعلم، وعرفوا ما تنطوي عليه جوانحه من الفضائل والمزايا، لأعظموا منه ما استصغروا، وأجلوا ما احتقروا، ولأنزلوه من نفوسهم المنزلة التي يستحقها فضله وكرمه.
وهنا ذكرت آماله وأحلامه، وبؤسه وشقاءه، وما يكابده في حياته من شدة وبلاء في سبيل عيشه مرة وحبه أخرى، فبكت رحمة وإشفاقا عليه.
وهكذا أخذ حبها يستحيل إلى رحمة وشفقة، والحب إذا استحال إلى هذين فقد آذن نجمه بالأفول. (52) من استيفن إلى ماجدولين
رأيتك يا ماجدولين بعد افتراقنا عاما كاملا، وكانت ساعة من أسعد الساعات وأهنئها، فغفرت للدهر من أجلها كل سيئاته عندي، بل نسيت عندها أنني ذقت طعم الشقاء ساعة واحدة في يوم من أيام حياتي، وظللت أقول في نفسي: هذا شأني ولم أرها إلا لحظة واحدة على البعد، فكيف بي إذا أصبحت كل ساعات حياتي ساعات لقاء واجتماع؟ إني أذكر ذلك يا ماجدولين فيخيل إلي أن قلبي أضعف من أن يحتمل هذه السعادة كلها، وأنها يوم توافيني ستذهب إما بعقلي أو بحياتي.
عفوا يا صديقتي، فقد أذنبت إليك بيني وبين نفسي ذنبا لا بد لي من أن أعترف لك به حتى لا أكون قد أذنبت إليك ذنبا آخر بكتمانه وإخفائه.
تركت «جوتنج» وقلبي يخفق رعبا وخوفا أن تكون الحياة الجديدة التي انتقلت إليها قد نالت من نفسك منالها من نفوس الفتيات الضعيفات اللواتي تتلون قلوبهن وأهواؤهن بلون الهواء الذي يستنشقنه، والجو الذي يعشن فيه، فلما رأيتك ورأيت تلك السحابة السوداء من الحزن التي كانت تغشى وجهك وتظلله، ومنظر عينيك الساجيتين المنكسرتين المملوءتين كآبة وحزنا، علمت أني مخطئ في هواجسي وظنوني، وأن المكان الذي شغلته من قلبك لا يزال آهلا بي كعهدي به، وأن تلك الريبة التي عرضت لنفسي فيك إنما هي وساوس الحب وأوهامه، غير أن لي عندك أمنية واحدة أحب أن تأذني لي بذكرها، وأن تنوليني إياها.
رأيتك في الملعب تلبسين ثيابا رقيقة ناعمة تشف عن ذراعيك وكتفيك ونحرك، وتكاد تنم عن صدرك وثدييك، ورأيت الأنظار حائمة حولك تكاد تنتهبك انتهابا، فاشتد ذلك علي كثيرا، وألم بنفسي من الغيظ والألم ما الله عالم به، وما أحسب أنك كنت راضية عن نفسك في هذا المنظر الذي ظهرت به بين الناس، ولكنك خضعت فيه لرأي النساء، ورأيهن في هذا الشأن أخيب الآراء وأطيشها، فرجائي عندك أن تنزعي عنك هذه الشفوف المهلهلة، وأن تعودي إلى ثيابك القروية الأولى، صونا لجسمك من عبث الأنظار وفضولها، فليس يكفيني منك أن تهبيني قلبك وتؤثريني بمحبتك، بل لا بد لك من أن تذودي عنك قلوب الرجال وأفئدتهم، فلا تجعلي لها سبيلا إلى الافتتان بك، أو الاهتمام بشأنك، لا بالبشاشة والوداعة، ولا بالتزين والتحلي، ولا بالتجمل والتأنق، واعلمي أن المرأة لا تخلص للرجل الذي تحبه الإخلاص كله حتى تؤثره بجميع مزاياها وصفاتها، فلا تحفل برأي أحد فيها غير رأيه، ولا تنزل منزلة الرضا في قلب غير قلبه، ولا تأذن لكائن من كان أن يقول لها في وجهها، أو بينه وبين نفسه، أو في رؤاه وأحلامه: إنها جميلة أو فتانة، أو ما أظرفها وأبدعها! حتى توافيه طاهرة نقية كاللؤلؤة المكنونة التي يلتقطها ملتقطها من صدفتها.
تحيتي إليك وإلى السيدة «سوزان»، وسأذهب مساء كل أحد إلى الملعب لأراك، وألتمس السبيل إلى لقائك. (53) الدسيسة
Page inconnue