مقدمة
كتاب نفائس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية
المقدمة في كلام السلاطين ذوي الاقتدار في فضل العلم
الروضة الأولى في مجالس رمضان
الروضة الثامنة في مجالس شوال
الروضة الثالثة في ذكر المجالس التي وقعت في ذي الحجة
الروضة الخامسة في المجالس التي وقعت في شهر صفر
الروضة السادسة في مجالس ربيع الأول
الروضة السابعة في مجالس ربيع الآخر
الروضة الثامنة في مجالس جمادى الأولى
الروضة التاسعة في مجالس جمادى الآخرة
الروضة العاشرة في مجالس شهر رجب
خاتمة الكتاب
الكوكب الدري في مسائل الغوري
الكوكب الدري
مقدمة
كتاب نفائس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية
المقدمة في كلام السلاطين ذوي الاقتدار في فضل العلم
الروضة الأولى في مجالس رمضان
الروضة الثامنة في مجالس شوال
الروضة الثالثة في ذكر المجالس التي وقعت في ذي الحجة
الروضة الخامسة في المجالس التي وقعت في شهر صفر
الروضة السادسة في مجالس ربيع الأول
الروضة السابعة في مجالس ربيع الآخر
الروضة الثامنة في مجالس جمادى الأولى
الروضة التاسعة في مجالس جمادى الآخرة
الروضة العاشرة في مجالس شهر رجب
خاتمة الكتاب
الكوكب الدري في مسائل الغوري
الكوكب الدري
مجالس السلطان الغوري
مجالس السلطان الغوري
صفحات من تاريخ مصر في القرن العاشر الهجري
تأليف
عبد الوهاب عزام
السلطان الغوري.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
اطلعت منذ سنين على كتاب في دار الكتب المصرية اسمه «الكوكب الدري في مسائل السلطان الغوري»، يتضمن آراء السلطان الغوري آخر سلاطين المماليك المصريين في مسائل من الفقه والتفسير وغيرهما عرضت في مجالسه. والكتاب نسخة مصورة عن نسخة في إستانبول هي نسخة السلطان التي كتبت له في القاهرة وأهديت إلى خزانة كتبه.
قرأت الكتاب وتقريت سيرة السلطان في العلم والأدب، فعثرت على أبيات له بالعربية والتركية، وألقيت محاضرة في الجمعية الجغرافية موضوعها «مكانة السلطان الغوري في العلم والأدب»، ثم دأبت على استقراء سيرة هذا السلطان، فأخبرني بعض العلماء أن الشاهنامة ترجمت نظما إلى التركية بأمر الغوري، وأن نسخة من هذه الترجمة في إحدى دور الكتب بإستانبول، فكتبت إلى أحد العلماء هنالك فأجابني أنه لم يجد الكتاب في المكتبة التي سميتها له، ومرت سنوات قبل أن أعثر في مكتبة الأمير إبراهيم حلمي - التي أهداها الملك فؤاد رحمه الله إلى مكتبة الجامعة المصرية - على مجلد فيه نصف الكتاب المفتقد. شرعت أقرأ الكتاب فرحا بهذا الظفر، متعرفا اللغة التي نظم بها، متبينا فرق ما بينها وبين اللهجات التركية الأخرى.
ثم عرفت بعد قليل أن نسخة كاملة من هذه الترجمة في مكتبة المتحف البريطاني، فعزمت على أن أنقل صورتها إلى مكتبة الجامعة.
ثم سافرت إلى إستانبول عام 1356ه / 1937م؛ لأنقب في مكتباتها عن الشاهنامة التركية، شاهنامة الغوري، وعن كتب أخرى، وانتهى البحث إلى أن عثرت في مكتبات السلاطين العثمانيين في سراي طوب قبو على نسخة من الكتاب في مجلد واحد ضخم فيه صور ملونة جميلة.
ويستطيع القارئ أن يقدر اغتباطي ودهشتي إذا علم أن هذه النسخة التي عثرت عليها بعد طول البحث والتحري هي النسخة الأم من هذا الكتاب - النسخة الأولى التي كتبها المترجم بيده في القاهرة وقدمها إلى السلطان الغوري.
زاد اطلاعي على مقدمة الكتاب وخاتمته معرفتي بعناية السلطان بالأدب ورعاية أهله، فزدت إعجابا بالرجل وإعظاما له.
واطلعت من بعد على كتاب آخر يتضمن طرفا من آراء السلطان ومحاوراته في مجالسه اسمه «نفائس المجالس السلطانية»، وهو نسخة في دار الكتب مصورة عن نسخة في إستانبول هي النسخة التي كتبت للسلطان.
وينبغي أن أقول؛ اعترافا بالفضل لأهله: إن الذي أطلعني على هذا الكتاب وكتاب الكوكب الدري هو العالم الفاضل الشيخ محمد عبد الرسول، جزاه الله خيرا.
اجتمع لي كتب ثلاثة ألفت للسلطان، واجتمع لي الأمهات من هذه الكتب - النسخ الأولى التي كتبت للغوري وقدمت إلى خزانة كتبه؛ فجعلت هذه الكتب الثلاثة موضوع بحث ألقيته في مؤتمر المستشرقين، الذي اجتمع في بروكسل سنة 1938.
ورأيت أن أطبع «نفائس المجالس السلطانية» كله، ثم بدا لي أن أختار منه ومن الكتاب الآخر «الكوكب الدري» ما يفي بالمقصود، وأن أعفي القارئ من كثير من المسائل التافهة المتشابهة التي يتضمنها الكتابان، فاخترت من الكتابين مسائل وافية بتصوير مجالس الغوري وتبيين آرائه وآراء العلماء والكبراء الذين كانوا يغشون مجالسه؛ لتكون صفحات من تاريخ بلادنا في القرن العاشر الهجري. (1) مدخل: السلطان الغوري
مكانة مصر بين الممالك الإسلامية أواخر عصر المماليك، وموقفها في تباشير العصور الحديثة بين الشرق والغرب، وصلاتها بدول أوروبا والدول الإسلامية؛ وخاصة دولة بني عثمان، وقوة أساطيلها في بحر الروم والبحر الأحمر إلى الهند، واحتلالها بعض سواحل الهند لتأمين التجارة، واصطدامها بأساطيل البرتغاليين في المحيط الهندي، ثم نظام السلطان في مصر إذ ذاك، وأحوال مصر العلمية والأدبية والاقتصادية - كل أولئك مجال واسع لبحث عويص مفيد ممتع ذي خطر في تاريخ مصر والبلاد العربية والإسلامية، وتاريخ العالم كله. وعسى أن يوفق مؤرخونا إلى درس هذه المسائل وبسطها؛ فهي جديرة بالدرس والبسط، وهي من الواجبات الأولى على المؤرخين المصريين. (2) ملك الغوري
كان السلطان الغوري يدبر ملكا واسعا هو ملك مصر والأقطار التي تتبعها في أكثر العصور - الملك الذي ذكره أبو الطيب المتنبي وهو يمدح كافورا الإخشيدي:
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق، فأرض الروم فالنوب
كانت مصر والشام وبلاد العرب، وبعض الجزيرة الفراتية، وبلاد العواصم، وهي القسم الجنوبي من آسيا الصغرى، في سلطان ملوك مصر في معظم العصور الإسلامية، وكانت كذلك أيام الغوري، وكان بنو رمضان الذين تسلطوا في أذنة وطرسوس وما يليهما يولون من قبل سلاطين مصر.
وبلغت الأساطيل المصرية سواحل الهند، وبنت عليها قلاعا لحماية التجارة، وقد اجتهد الغوري زمنا في الاحتفاظ بسلطان المصريين في تلك الأرجاء، على رغم البرتغاليين، وكان بعض أمراء الهند يستنجده على الفرنج فيرسل الأساطيل والجند في الحين بعد الحين.
وكان للغوري، ولسلاطين المماليك من قبله، الزعامة بين ملوك المسلمين؛ لتوليهم خدمة الحرمين الشريفين، ولمكان الخلافة العباسية في مصر، ومن يتتبع الرسائل التي كانت بين ملوك مصر وغيرهم من الملوك المسلمين، ويتعرف أحوال الأقطار الإسلامية في تلك العصور يعرف أن ملوك مصر لم يكونوا ينازعون في هذه الزعامة. وحسب الباحث أن يقرأ الرسائل التي تراسل بها سلاطين آل عثمان ومماليك مصر. وكثير منها محفوظ في منشآت السلاطين التي جمعها فريدون بك في القرن الحادي عشر الهجري.
ولهذا نجد في تاريخ الغوري كثيرا من أخبار الرسل أو القصاد الذين كانوا يترددون بينه وبين الأقطار الإسلامية، وغير الإسلامية؛ نجد رسلا من الهند وإيران والعراق ومن قبل السلاطين العثمانيين، وأمراء آسيا الصغرى، ومن بلاد السودان والحبش، ومن بلاد الكرج وأوروبا وجزر بحر الروم، وكثير من الأمراء المغلوبين على أمرهم كانوا يلجئون إلى مصر؛ ليستنجدوا سلاطينها، أو يقيموا فيها آمنين.
يقول ابن إياس في حوادث ربيع الآخر سنة 918: «ومن العجائب أن في هذا الشهر اجتمع عند السلطان نحو من أربعة عشر قاصدا، وكل قاصد من عند ملك على انفراده. فمن ذلك قاصد شاه إسماعيل الصفوي، وقاصد ملك الكرج، وقاصد ابن رمضان أمير التركمان، وقاصد من عند ابن عثمان ملك الروم، وقاصد يوسف ابن الصوفي خليل أمير التركمان، وقاصد صاحب تونس ملك الغرب، وقاصد من مكة، وقاصد الملك محمود، وقاصد ابن درغل أمير التركمان، وقاصد من عند نائب حلب، وقاصد من عند حسين الذي توجه إلى الهند، وقاصد ملك الفرنج الفرانسة، وقاصد البنادقة، وقاصد على دولات، وغير ذلك قصاد من عند جماعة من النواب.»
صورة تبين السلطان جالسا على باب قصره يستقبل السفراء.
ولا أريد أن أبين هنا مكانة مصر وعلاقتها مع بلاد الشرق والغرب إذ ذاك؛ فإن من أصعب المباحث التاريخية وأوسعها وأكثرها إمتاعا أن يدرس التنافس بين الدول الإسلامية المتجاورة: الدولة المصرية، والدولة العثمانية، والدولة الصفوية، وموقف مصر بين جارتيها وبين الدول الأوروبية التي تنافسها في بحر الروم وبحر العرب إلى الهند، وتعرف الأسباب التي مكنت سليما من أن يهزم إسماعيل الصفوي وقانصوه الغوري، والأسباب التي أخرت الدول الإسلامية عامة عن منافسة الأوروبيين في مغامراتهم في بحار الشرق.
إن هذه المباحث وما يتصل بها ليست مما يتسع لتفصيله أو إجماله هذه المقدمة؛ وإنما ألمعت إلى هذه الحوادث؛ لأبين مكانة مصر وسلاطينها في ذلك العصر، وأبين العبء الذي اضطلع به الغوري في تدبير أمور مصر الداخلية والخارجية.
وسأذكر في الأوراق الآتية طرفا من سيرة السلطان الغوري أجعله إيضاحا وتكملة لما يستفاد من الكتابين اللذين أقدم لهما هذه المقدمة.
وعمدتي في هذا تاريخ ابن إياس المؤرخ المعاصر المدقق، وقد حرصت على أن أدعه يحدث القارئ بلغته، كلما أمكن هذا؛ لأن آراء ابن إياس ولغته وأسلوبه صور من تاريخ ذلكم العصر. (3) كيف تولى الغوري الملك؟
1
تولى أمر مصر في أواخر القرن التاسع الهجري سلطان من أعظم سلاطين المماليك همة، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم برا، هو الملك الأشرف قايت باي، ملك من سنة 872 إلى سنة 901؛ فاستقرت به الأمور في مصر بعد الاضطراب الذي عقب وفاة الظاهر خوشقدم.
وقد شغل زمنا بمحاربة العثمانيين في عهد السلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح وظفر عليهم في أكثر الوقائع، ولكنه صالحهم آخر الأمر سنة 896 على أن يرد إليهم مدينتي أذنة وطرسوس.
ولا تزال آثار هذا السلطان الكبير ظاهرة في مصر والحجاز.
وتلا وفاة قايت باي عهد من الاضطراب تداول فيه أمر مصر وما يتبعها خمسة سلاطين: خلفه ابنه محمد، وخلع بعد ستة أشهر، ثم عاد إلى الملك بعد خمسة أشهر فملك ثمانية عشر شهرا، ثم قتل سنة 904، وتوالى بعده ثلاثة سلاطين في ثلاثين شهرا.
فلما اختفى السلطان طومان باي؛ هربا من المماليك، اجتمع رؤساء الدولة ليختاروا سلطانا ينتهي بولايته هذا الاضطراب.
وأنقل هنا من تاريخ ابن إياس جملة تصور الحال تصوير معاصر خبير: «وثب العسكر على العادل «طومان باي» في سلخ شهر رمضان سنة ست وتسعمائة، واختفى في لية عيد الفطر بعد العشاء، فلما أصبح ذلك اليوم وأشيع هروب العادل ركب الأمير قيت الرجبي أمير سلاح، وقانصوه الغوري أمير دوادار كبير إلخ،
2
ثم ظهر خوشكلدي البيسقي، وكان مختفيا من العادل لما أراد القبض عليه، فلما تكاملوا اجتمعوا ببيت قانصوه خمسمائة الذي بقناطر السباع، فحضر إليهم الأتابكي تاني بك الجمالي، وكان مختفيا من حين كسر الأشرف جانبلاط وتسلطن العادل.
فلما حضر وقع الاتفاق على سلطنته أولا، فركب من هناك وعلى رأسه الصنجق
3
السلطاني، وقد ترشح أمره إلى السلطنة، فلما طلع إلى باب السلسلة ليلي السلطنة أشيع في ذلك اليوم أن الأشرف قانصوه خمسمائة باق على قيد الحياة، فأشهروا النداء في القاهرة بأن قانصوه خمسمائة إن كان موجودا فليظهر وله الأمان، وإن لم يظهر بعد ستة أيام فلا أمان له.
فلما طال المجلس انفض العسكر من الرملة، ونزل غالب الأمراء الذين كانوا قد اجتمعوا في الحراقة بباب السلسلة، وكان يوم عيد الفطر، فاختار كل أحد عوده إلى داره حتى يقع اختيار الأمراء على من يولونه السلطنة، فأعرض غالب العسكر عن الأتابكي تاني بك الجمالي، ولم يرض به أحد منهم، وكان الأتابكي تاني بك الجمالي أرشل معكوس الحركات في أفعاله، وطاش لما ذكر للسلطنة، ثم آل أمره بعد ذلك إلى كل سوء، فلم تقم له السلطنة، وكانت من نصيب قانصوه الغوري ...
فلما رأوا المجلس مانع
4
تعصب الأمير قيت الرجبي أمير سلاح والأمير مصرباي، إلى قانصوه الغوري، وقالوا: ما نسلطن إلا هذا. فسحبوه وأجلسوه وهو يمتنع من ذلك ويبكي، وربما كلمه مصرباي ومزق طوق ملوطته، وهو يمتنع غاية الامتناع. فحضر الخليفة المستمسك بالله يعقوب، وقاضي القضاة عبد الغني بن تقي المالكي، والشهاب الشيشيني الحنبلي، وتأخر قاضي القضاة الشافعي زين الدين زكريا، وبرهان الدين الكركي الحنفي حتى يقع رأي الأمراء فيمن يولونه السلطنة، فكتب القاضي الحنبلي صورة محضر في خلع العادل من السلطنة، وشهد فيه جماعة كثيرة من الناس بأنه سفاك للدماء، ثم حضر القاضي الشافعي والقاضي الحنفي وعقدت البيعة لقانصوه الغوري، وبايعه الخليفة، وكانت سلطنته في يوم الاثنين مستهل شوال سنة ست وتسعمائة.
ثم أحضر إليه شعار السلطنة، وهي الجبة والعمامة السوداء فأفيض عليه ذلك، كل هذا وهو يمتنع ويبكي، فلقبوه بالملك الأشرف، وسما في علوه وأشرف، وكنوه بأبي النصر قانصوه الغوري، وبه صارت مصر مشرقة بالنوري، وقيل:
ألا إنما الأقسام تحرم ساهرا
وآخر يأتي رزقه وهو نائم
ثم قدمت له فرس النوبة بالسرج الذهب والكنبوش ، فركب من على سلم الحراقة التي بباب السلسلة؛ فتقدم قيت الرجبي وحمل القبة والطير على رأسه، وقد ترشح أمره إلى الأتابكية، فركب الخليفة عن يمين السلطان، ومشت بين يديه الأمراء وهم بالشاش والقماش حتى طلع من باب سر القصر الكبير وجلس على سرير الملك والباقي للزوال نحو من خمس وعشرين درجة، وكان الطالع بالسرطان، فأول من قبل له الأرض قيت الرجبي، ثم بقية الأمراء شيئا فشيئا، ثم أخلع على الخليفة ونزل إلى داره وأخلع على مصرباي وقرره في الدوادارية الكبرى والوزارة والأستادارية عوضا عن نفسه؛ فنزل إلى داره في موكب حافل، ثم دقت له البشائر بالقلعة، ونودي باسمه في القاهرة، وارتفعت الأصوات له بالأدعية الفاخرة، وزال ما كان من الشكوك والظنون، وأقرت من الناس بسلطنته العيون؛ فكانت سلطنته على غير القياس، وأشيع بأن بنياته على غير أساس، فصار منه بعد ذلك الهزل جد، ومكث في السلطنة مكثا جاوز الحد، فزال عنه الأضرار والباس، وامتلأت منه أعين الناس، فتولى الملك وله من العمر نحو من ستين سنة ولم يظهر بلحيته الشيب، حتى عد ذلك من جملة سعده.»
5 (4) الغوري قبل السلطنة
الغوري جركسي من مملوكي السلطان قايت باي، أعتقه وولاه بعض الأعمال في حاشيته حتى جعل كاشفا للوجه القبلي سنة 886، ثم جعل أمير عشرة السنة التالية، ثم ولي بعض الولايات في الشام وما يتصل بها من بلاد العواصم، وما زال يتقلب في المناصب ويرتقي أيام محمد بن قايت باي ومن بعده حتى ملك طومان باي وهو بالشام والغوري في صحبته، فلما رجع إلى القاهرة ولي الغوري ما كان يليه هو من الأعمال: الدوادارية الكبرى والوزارة والأستادارية. (5) حليته وأخلاقه وطرف من سيرته
وكان فيما وصفه ابن إياس: «طويل القامة، غليظ الجسد، ذا كرش كبير، أبيض اللون، مدور الوجه، مشحم العينين، جهوري الصوت، مستدير اللحية، ولم يظهر بلحيته الشيب إلا قليلا.
وكان ملكا مهيبا جليلا مبجلا في المواكب، ملء العيون في المنظر.»
6
وكان يميل إلى الأبهة في ملابسه ومواكبه، كما كان ميالا للتنعم، مولعا بالفنون الجميلة.
قال ابن إياس: «وكان يلبس في أصابعه الخواتم الياقوت الأحمر والفيروز والزمرد والماس وعين الهر.
وكان مولعا بشم الرائحة الطيبة من المسك والعود والبخور، وكان ترفا في مأكله ومشربه وملبسه، ويحب رؤية الأزهار والفواكه.
وكان مولعا بغرس الأشجار، وحب الرياضات، وسماع الأطيار المغردة، ونشق الأزاهر العطرة والبخور.
وكان يستعمل الطاسات الذهب يشرب فيها الماء، وكان يستعمل الأشياء المفرحة، وكان نهما في الأكل، وكان يغوى طيور المسموع.»
7
هذه صفات تدل على رقة الطبع، ودقة الإحساس، والولوع بالجمال، والاستمتاع بالعيش.
ومن كانت هذه صفاته يبعد أن يكون ظالما جبارا سفاكا للدماء، قاسيا على الضعفاء.
ونحن نجد في تاريخ الغوري ما يصدق هذه الخلال، فأما كلفه بغرس الأشجار والأزهار واقتناء الطيور، وما يتصل بهذا من تشييد الأبنية وتجميلها فسيأتي بيانه. (6) حبه الموسيقى والغناء
وأما ولعه بسماع الموسيقى والغناء ومعرفته بهما؛ فقد اتفق على ذلك المؤرخون وشهدت به سيرته، فهو إذا أراد الاستراحة من عناء الملك خرج إلى مقياس الروضة أو قبة الأمير يشبك، التي في حدائق القبة الآن، وأحضر خواصه وبعض المغنين والعازفين، وكثيرا ما كان يستصحب المطربين في أسفاره.
يقول ابن إياس في حوادث ذي الحجة سنة 915: «وفيه كان موكب العيد حافلا، وأوكب السلطان على العادة، فلما انقضى يوم العيد نزل السلطان في اليوم الثاني من العيد، وتوجه إلى قبة الأمير يشبك الدوادار التي بالمطرية، وأقام هناك إلى بعد العصر، ووافق ذلك اليوم عيد النصارى وأول الخماسين، فانشرح هناك، ومد أسمطة حافلة، وحضر عنده جماعة من المغاني وأرباب الآلات، ورسم لبعض الأمراء العشرات بأن يرقص؛ فقام ورقص بين يدي السلطان فرسم له بمائة دينار.»
ويقول في حوادث المحرم سنة 918: «وفي يوم الأحد وهو يوم عاشوراء، نزل السلطان وتوجه إلى نحو المقياس، وجلس في القصر الذي أنشأه هناك، وكان معه جماعة من الأمراء، فأقام هناك إلى قريب المغرب وانشرح في ذلك اليوم إلى الغاية، ومد هناك أسمطة حافلة، وأحضر بين يديه مغاني وأرباب آلات، ثم إن شخصا مضحكا يقال له علي باي، الذي يعمل عفريتا في المحمل، قام فرقص، ثم سحب الوالي كرتباي فرقصه، ثم سحب أمير آخور ثاني آقباي الطويل فرقصه، ثم سحب بركات بن موسى المحتسب فرقصه، ثم سحب عبد العظيم الصيرفي فرقصه، وكان جسيما؛ فضحك عليه السلطان، ونثروا بين يديه أشياء من أنواع الورد والزهر والفاكهة ومجامع الحلوى؛ فتخاطف ذلك المماليك، وابتهج في ذلك اليوم.»
وفي حوادث ذي القعدة سنة 918، يذكر ابن إياس سفر السلطان إلى الفيوم، ويقول في أثنائه: «ولما نزل السلطان من القلعة توجه نحو المقياس وبات به ليلة السبت، فلما طلع النهار عدى من هناك وطلع إلى بر الجيزة وتوجه إلى الوطاق
8
الذي نصبه عند الأهرام، وقيل: إن السلطان أخذ معه جماعة من المغاني وأرباب الآلات، فمنهم محمد بن عوينة العواد، وجلال السنطيري والبوالقة، وابن الليموني، وغير ذلك من المغاني.»
وذكر الشريفي مترجم الشاهنامة عناية السلطان بالموسيقى، واستصحابه كبار الموسيقيين.
وللسلطان موشحات وألحان كان يغنى بها في عصره، سنذكر بعضها بعد. (7) ألعابه
وكان يلهو أحيانا بنطاح الكباش والثيران.
يقول ابن إياس في حوادث ربيع الآخر سنة 912: «وفي يوم الثلاثاء خامسه، كان ختام ضرب الكرة بالميدان، فلما انتهى ذلك أحضر السلطان ثيرانا وكباشا يتناطحون قدامه.»
وفي حوادث ربيع الآخر سنة 918: «وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه كان ختام ضرب الكرة بالميدان - وكانت جماعة من هؤلاء القصاد حاضرين
9 - فلما انتهى ضرب الكرة قام السلطان وطلع إلى الحوش وجلس بالمقعد، وأحضروا قدامه ثيران يتناطحون وكباشا.» «وفي يوم الأربعاء ثامن رمضان نزل السلطان وتوجه إلى نحو المطعم بالريدانية، وجلس على المصطبة التي هناك، وأطلقوا قدامه الكلاب والصقورة والفهودة، وانشرح في ذلك اليوم، ثم عاد إلى القلعة من يومه.»
وكان السلطان مواظبا على لعب الكرة في موسم معروف، وكذلك كانت عادة سلاطين المماليك وكثير من ملوك مصر والدول الإسلامية. نجد في حوادث كل سنة من تاريخ ابن إياس: «وفي يوم كذا بدأ السلطان بضرب الكرة، وفي يوم كذا كان ختم الضرب بالكرة.» (8) موائده
وأما احتفاله بالطعام وموائده؛ فيظهر من وصف مآدبه للسفراء ولأعيان مملكته، ومن مآدب أعيان الدولة له.
يقول ابن إياس في حوادث المحرم سنة 915: «ومن الوقائع اللطيفة أن في يوم الخميس ليلة الجمعة خامس عشره، نزل السلطان إلى الميدان، ونصب به خيمة كبيرة مدورة، وملأ البحرة التي أنشأها هناك من ماء النيل، من المجراة التي أنشأها، ثم رسم بجمع كل ورد في القاهرة ووضعه في تلك البحرة، وجمع قراء البلد قاطبة والوعاظ، وعلق أحمالا بها قناديل، وفرش حول البحرة الفرش الفاخرة، وعزم على القضاة الأربعة، وسائر الأمراء من كبير وصغير، وأرباب الوظائف من المباشرين، وأعيان الناس قاطبة، وبات السلطان تلك الليلة بالميدان، وبات عنده الأتابكي قرقماس، وجماعة من الأمراء.
ومد تلك الليلة أسمطة حافلة أعظم من سماط المولد، فمد في السماط أربعمائة صحن صيني، ورسم بأن تعمل المأمونية الحموية وكل قطعة نصف رطل، وكان من الإوز والدجاج والغنم ما لا ينحصر، ومن اللحم ألف وخمسمائة رطل، ومن الدجاج ألف طير، ومن الإوز خمسمائة طير، ومن الغنم المعاليف خمسون معلوفا، ومن الرمسان الرضع أربعون رميسا؛
10
حتى قيل: صرف على ذلك السماط فوق الألف دينار، بما فيه من حلوى وفاكهة وسكر وغير ذلك، وكانت ليلة مشهودة.»
وكذلك نجد أعيان الدولة يسرفون في الأسمطة التي يحضرها السلطان؛ فقد أدب القاضي كاتب السر محمود بن أجا للسلطان ورجال الدولة عند مقياس الروضة، مأدبة أنفق فيها سبعمائة دينار.
11 (9) مواكبه وزينته
وكان الغوري يميل إلى الأبهة في زينته وموكبه على شدة حاجته إلى المال.
ووددت أن أمتع القارئ بوصف أحد المواكب بلغة ابن إياس لولا ضيق المجال، فليرجع من شاء إلى الجزء الخامس ص276، 421.
ولكني لا أستطيع إغفال زينة من زينات الغوري، يرى القارئ في وصفها صورة من معيشة القاهرة في ذلك العصر: يقول ابن إياس في الحديث عن ذهاب السلطان إلى المقياس وإقامته هناك يومين في جمادى الآخرة سنة 918: «ثم إن السلطان أوقد في قاعة المقياس وقدة حافلة، باطنا وظاهرا، وعلق أحمالا بقناديل في القصر الذي أنشأه هناك، وعلى شرفات المقياس قناديل في أحمال وأمشاط حتى أوقد جامع المقياس والمئذنة.
ثم إن سكان بر مصر
12
وبر الروضة علقوا في بيوتهم القناديل في الأحمال والأمشاط بطول البرين، حتى أوقدوا المربع الذي أنشأه السلطان للسواقي تجاه بر الروضة.
13
ثم أحضر السلطان المركب الكبير الغليون الذي عمره وأصرف عليه نحوا من عشرين ألف دينار، فأرسوا به قبالة المقياس، وصنعوا له ثماني مراس في البحر، وعلقوا في صواريه القناديل في الأمشاط؛ فكان الذي وقد في المقياس تلك الليلة خمسة قناطير زيت وعشرة آلاف قنديل، ثم صنع السلطان في تلك الليلة إحراقة فكان مصروفها نحوا من مائة وسبعين دينارا مثل إحراقة نفط المحمل التي كانت تصنع بالرملة قدام القلعة،
14
فشقوا بالنفط من القاهرة وهو مزفوف، وقدامه الطبول والزمور؛ فكان عدة قلاع النفط خمسين قلعة والمواذن ستين مئذنة، وأزيار عشرة، وجرار أربعون جرة، وصواريخ كبار ثلاثمائة، وماويات ألف ومائتان، وشجرات عشرة، وتنانير عشرون، وقطع ألفان، وشعل أربعون. فلما وصلوا بالنفط إلى شاطئ البحر أنزلوه في خمسين مركبا، وصفوا المراكب قبالة المقياس عند البسطة، ورسم السلطان للأمراء المقدمين بأن يحضروا طبلخاناتهم في مراكب عند المقياس؛ ففعلوا ذلك، فكان حس الطبول والزمور مع الكوسات
15
مثل صوت الرعد القاصف، فلما صلى السلطان صلاة العشاء جلس على سطح القصر الذي أنشأه على بسطة المقياس والأمراء حوله وأحرقوا قدامه النفط، وكان النيل في ثلاثة أصابع من عشرين ذراعا، وكانت ليلة البدر فدقت كوسات السلطان مع كوسات الأمراء المقدمين، وهم أربعة وعشرون مقدم ألف، فقاموا في صعيد واحد عند إحراق النفط؛ فكانت تلك الليلة لم يسمع بمثلها فيما تقدم، ولم يقع لأحد من الملوك قبله مثل هذه الواقعة، ولا للمؤيد شيخ، ولا للناصر فرج بن برقوق.»
باب جامع الغوري في شارع الغورية. (10) عماراته
وأما كلفه بتشييد الأبنية والتأنق فيها؛ فتدل عليه آثاره القائمة اليوم، وما حدث التاريخ عن آثاره التي درست.
أنشأ الجامع والقبة والمكتب والسبيل التي في الغورية، وجامعا عند القلعة، وبنى خان الخليلي، وخانا وأحواضا في طريق الحاج عند العقبة، ورباطا ومارستانا في مكة، وقصرا عند المقياس في الروضة، وأنشأ الميدان عند القلعة، وأحواضا وأبنية فيه.
وعمر قاعة البيسرية وقاعة العواميد والدهيشة في القلعة، وأنشأ قناطر وأبنية أخرى.
فأما الجامع فلا يزال قائما بالغورية، ملتقى شارع الغورية (الذي سمي شارع المعز لدين الله)، وشارع الأزهر، وتحته السوق المعروفة باسم التربيعة.
وننقل هنا ما يروي ابن إياس في إتمام هذا الجامع والصلاة فيه أول مرة: «وفي ربيع الآخر (909) في يوم الجمعة مستهله خطب في جامع السلطان الذي أنشأه في الشرابشيين، وقد تم بناؤه وجاء في غاية الحسن والتزخرف، وصنع به مئذنة لها أربعة رءوس، وهو أول من اتخذ ذلك ... فكان أول من خطب بهذا الجامع قاضي قضاة دمشق الشهاب أحمد بن فرفور الدمشقي الشافعي. فلبس السواد وخطب، وكان المرقي قدامه القاضي عبد القادر القصروي، وحضر في ذلك اليوم الخليفة المستمسك بالله يعقوب والقضاة الأربعة؛ وهم: برهان الدين بن أبي شريف الشافعي، وعبد البر بن الشحنة الحنفي، وبرهان الدين الدميري المالكي، والشهاب الشيشيني الحنبلي. وحضر غالب الأمراء المقدمين، وولد السلطان المقر الناصري، وأعيان المباشرين قاطبة، والجم الغفير من الأمراء العشرات والخاصكية، وأعيان الناس، وزينت الشرابشيين في ذلك اليوم، وكان يوما مشهودا، وأخلع السلطان في ذلك اليوم على قاضي القضاة عبد البر بن الشحنة؛ كونه حكم بصحة الخطبة في هذا الجامع، وأخلع على إينال شاد العمارة خلعة حافلة، وأنعم عليه بإمرة عشرة، وأخلع في ذلك اليوم على عدة من المهندسين والبنائين والمرخمين والنجارين وغير ذلك من أرباب الصنائع ممن كان بالجامع، وأنعم على الفعلاء لكل واحد بألف درهم.
ثم في الجمعة الثانية رسم السلطان لقاضي القضاة عبد البر بن الشحنة بأن يخطب في هذا الجامع، فخطب تلك الجمعة خطبة بليغة.»
16
باب قبة الغوري في شارع الغورية.
وفي حوادث جمادى الآخرة سنة 911 يقول ابن إياس: «وفيه مالت مئذنة جامع السلطان الذي أنشأه بالشرابشيين، فلما تشققت وآلت إلى السقوط رسم بهدمها، وقد ثقلت من علوها؛ كون أنها بأربعة رءوس، فلما هدمت أعيدت على الصحة، وقد بني علوها بالطوب، وصنعوا عليه قاشاني أزرق.
وتجاه جامع الغوري يرى الآن بناء آخر يساميه ويشابهه فيه قبة الغوري وقاعة كبيرة للدرس، وسبيل وكتاب وحجرات قليلة، وتحت هذه الأبنية مخازن، ووراءها فناء به قبور بجانب الجدار القبلي، ويؤخذ من ابن إياس أن بعض زوجات السلطان وأولاده والسلطان طومان باي الأخير دفنوا هناك.»
وفي ابن إياس أخبار كثيرة عن أبنية الغوري، ومما قاله عن المدرسة: «ووقع للغوري أشياء غريبة لم تقع لغيره من الملوك؛ منها أنه نقل الآثار الشريف النبوي من مكانه الذي كان به المطل على بحر النيل فجعله في مدرسته حتى عد ذلك من النوادر.
وقد تعب الصاحب بهاء الدين بن حنا في نقل هذا الآثار الشريف، وكان عند جماعة من بني إبراهيم بالينبع، فلا زال يتلطف بهم حتى اشتراه منهم بستين ألف درهما بالدراهم القديمة، ثم نقله إلى الديار المصرية، وبنى له مسجدا مطلا على بحر النيل،
17
وكان الناس يقصدون الزيارة إليه في كل يوم أربعاء، فلما تلاشى أمر ذلك المكان الذي كان به الآثار الشريف استفتى السلطان العلماء فأفتوه بنقله إلى مدفنه بالقبة وهذا بخلاف شرط الواقف، ثم إن السلطان نقل المصحف العثماني إلى مدرسته أيضا،
18
وعد ذلك من النوادر، ثم نقل إلى المدرسة أيضا الربعة العظيمة المكتوبة بالذهب التي كانت بالخانقاه البكتمرية التي بالقرافة، قيل إن مشتراها على الواقف ألف دينار، ولم يكتب نظير هذه الربعة سوى ربعة أخرى بخانقاه سرياقوس اشتراها الملك الناصر محمد بن قلاوون بألف دينار أيضا، وأخرى بالمدينة الشريفة.
وقد وقع للأشرف قانصوه الغوري في مدرسته من المحاسن ما لا وقع لأحد قبله من الملوك، وحاز فيها أشياء غريبة عزيزة الوجود.
ولما نقل الآثار الشريف والمصحف العثماني إلى مدرسة السلطان كان له يوم مشهود ونزل قدامه القضاة الأربع والأتابكي قيت، وجماعة من الأمراء المقدمين والفقراء أرباب الزوايا والأعلام وهم يذكرون ...
وفي ذلك اليوم أخلع على الشيخ برهان الدين بن أبي شريف وقرره في مشيخة هذه المدرسة، وقد صرف عن قضاية القضاة، وانفرد بمشيخة مدرسة السلطان واستمر بها إلى الآن.»
19
صورة قديمة تبين الشارع بين جامع الغوري والقبة، رسمها بعض السائحين، وترى فيها السقيفة التي كانت فوق الشارع.
ويصف الشريفي الشاعر - الذي ترجم الشاهنامة إلى اللغة التركية بأمر الغوري - عمارات السلطان وصفا شعريا يدور على الخيال والمبالغة، ولكنه ينم عن حقائق، فهو يصف القبة ويبين علوها، وأنها لونت باللون الأزرق، ويصف الجامع والسوق التي تحته، ويصف الخانقاه التي بجانب القبة وهي القاعة الكبيرة الجميلة التي إلى يسار الداخل. ويقول في هذه الخانقاه: «يقرأ فيها العلم الإلهي، ويتلى القرآن والأوراد في الأسحار، ولها شيخان وثمانون صوفيا يقرءون مرتين كل يوم، وبها مائتان من أصحاب الوظائف (يعني الجرايات) منهم من يعطى الخبز كل يوم، ومنهم من يعطى وظيفته مشاهرة.
20
ويقول في السبيل الذي يلاصق الخانقاه: «وبجانب الخانقاه سبيل كأن ماءه سلسبيل؛ يشرب الناس منه ليل نهار، وفيه خدام لا يغيبون نهارا ولا ليلا؛ فإذا غاب أحد السقاة أناب غيره.»
ويقول في المكتب الذي فوق السبيل: «وبنى فوق السبيل مكتبا يقرأ فيه الأيتام إلى العصر، وفيه مؤدب يعلمهم ويربيهم.»
وكذلك نجد الكلام عن عمارات السلطان في كتاب النفائس.
21
باب من آثار الغوري يرى اليوم في شارع الصليبة متصلا بدار أحمد بك إحسان. (11) ولعه بالحدائق والأزهار
وأما ولعه بالحدائق والأزهار وإجراء المياه في الحدائق واتخاذ الأحواض والنافورات فيدل عليه ما فعل في ميدان القلعة.
وهذا الميدان وصفه الشاعر الشريفي، وذكره ابن إياس كثيرا، يقول في حوادث جمادى الآخرة سنة 914: «وفيها كان انتهاء العمل من المجراة التي أنشأها السلطان كما تقدم فدارت هناك الدواليب وجرى الماء في المجراة حتى وصل إلى الميدان الذي تحت القلعة.
ثم إن السلطان صنع هناك سواقي نقالة، وبنى ثلاثة صهاريج تمتلئ من ماء النيل برسم المماليك الذين يلعبون الرمح في الميدان، وشرع في بناء بحرة في وسط ذلك البستان الذي أنشأه بالميدان فكان طول تلك البحرة نحوا من أربعين ذراعا، وقيل أكثر من ذلك، وبنى هناك عدة مقاعد ومناظر مطلات على ذلك البستان.»
وفي حوادث ذي الحجة سنة 915: «وفي هذه السنة أينعت الأشجار التي غرسها السلطان بالميدان وأخرجت ما شتله بها من الأزهار ما بين ورد وياسمين وبان وزنبق وسوسان وغير ذلك من الأزهار الغريبة. ولقد عاينت به وردا أبيض ذكي الرائحة وهو غير أنواع الورد التي بمصر، وقد نقل من الشام، وكان يطرح في أوان الصيف والنيل في قوة الزيادة، وهو نوع غريب لم يوجد بمصر.
فكان السلطان يوضع له دكة كبيرة مطعمة بالعاج والأبنوس ويفرش فوقها مقعد مخمل بنطع، ويجلس عليه، وتظله فروع الياسمين، وتقف حوله المماليك الحسان بأيديهم المذبات ينشون عليه، ويعلق في الأشجار أقفاص فيها طيور مسموع ما بين هزارات ومطوق وبلابل وشحارير وقماري وفواخت وغير ذلك من طيور المسموع، ويطلق بين الأشجار دجاج حبش وبط صيني وحجل وغير ذلك من الطيور المختلفة - إلى أن يقول - وقد صار هذا الميدان جنة على الأرض.» (12) تدينه وبره بالفقراء
كان الغوري دينا محافظا على فروض الدين، شديدا على من يفرط فيها، وكان يعد من علماء الدين في مصر، كما يتبين فيما يأتي.
وكان كلما حزبه أمر أو حلت بالبلاد قارعة أو خشي عليها نازلة فزع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى قراءة القرآن والحديث والدعاء، وكان البخاري يقرأ في رمضان ويحتفل بختمه في القلعة، وهي سنة قديمة.
يقول ابن إياس في حوادث رجب سنة 915: وفي رجب نادى السلطان بألا يتجاهر الناس بالمعاصي، ولا يمشى بسلاح بعد المغرب، وأن الناس يواظبوا على الصلوات الخمس في الجوامع.
وفي حوادث ذي الحجة سنة 915 أن النيل زاد في هاتور ثمانية أصابع فتضرر الناس، «فرسم السلطان للقضاة الأربع بأن يتوجهوا إلى المقياس، ويدعوا إلى الله تعالى في هبوطه، فتوجهوا هناك وباتوا بالمقياس، وقرأ السلطان تلك الليلة ختمة شريفة ومد أسمطة حافلة، فانهبط في تلك الليلة نحو من نصف ذراع، فعد ذلك من الوقائع الغريبة.»
ويصف الشريفي صلاة السلطان وتهجده بالليل ودعاءه، في خاتمة الشاهنامة.
22
وكان برا بالفقراء كثير الصدقات؛ أنشأ رباطا ومارستانا في مكة ورباطا في مصر، وأجرى فيها الصدقات.
وكان يجب أن يتصدق على الفقراء بيده؛ نجد في ابن إياس مثل هذه الحوادث:
المحرم سنة 912: «وفيه في يوم عاشوراء أمر السلطان بأن تجمع الفقراء والحرافيش عند سلم المدرج فاجتمع هناك الجم الغفير من الفقراء والحرافيش ونزل السلطان بنفسه ووقف وهو راكب على فرسه تحت سلم المدرج، وصار يعطي لكل إنسان من الفقراء من رجل وامرأة وكبير وصغير أشرفي ذهب، فوقع الازدحام بين الفقراء حتى قتل منهم ثلاثة أنفار، من شدة ازدحامهم، فكان كما يقال في المعنى:
فيا لك من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
وقيل: إنه فرق في ذلك اليوم نحوا من ثلاثة آلاف دينار فارتفعت الأصوات له بالدعاء، فلما رأى ازدحام الفقراء لم ينزل مرة أخرى ولم يفرق شيئا، وكان قصده يفرق على الفقراء مرة أخرى.»
في رمضان سنة 915: «نزل السلطان إلى الميدان فوقف إليه جماعة من المغاربة نحو من سبعين إنسانا ما بين رجال ونساء وقد قصدوا الحج في هذه السنة، فرسم لهم السلطان بأشرفي لكل واحد منهم ثمن بقسماط.» (13) وفاؤه
وكان وفيا برا بأصحابه وأولياء نعمته؛ بقي طول عمره يذكر سيده قايتباي بالخير ويعظمه. قال ابن إياس في حوادث ذي القعدة سنة 915: «نزل السلطان وسير وتوجه إلى نحو تربة الأشرف قايتباي فنزل عن فرسه ودخل وزار قبره وبكى هناك وتمرغ على قبره، وقرأ له الفاتحة ثم رسم للبوابين وللصوفية بمائة دينار.»
ونجد في كتاب النفائس تعظيمه قايتباي.
23
ونجد في موضع آخر حزنه على أحد رجال دولته وهو الأشرف قرقماس، يقول ابن إياس في وصف جنازته (رمضان سنة 916): «فلما وصل إلى سبيل المؤمني خرج السلطان من الميدان وهو راكب وأتى إلى سبيل المؤمني، فنزل عن فرسه ودخل للصلاة؛ فلما وضعوا نعشه بين يديه قبله وهو في النعش وبكى عليه بكاء كثيرا، فلما صلوا عليه حمل نعشه ومشى به خطوات حتى أخذوه منه الأمراء.» (14) محاسن الغوري كما أجملها ابن إياس
يقول ابن إياس في حوادث رمضان سنة 922: «فأما ما عد من محاسنه؛ فإنه كان رضي الخلق يملك نفسه عند الغضب، وليس له بادرة بحدة عند قوة خلقه، ومنها أنه كان له اعتقاد زايد في الصالحين والفقراء، ومنها أنه كان يعرف مقادير الناس على قدر طبقاتهم، ومنها أنه كان ماسك اللسان عن السب للناس في شدة غضبه، ومنها أنه كان يفهم الشعر ويحب سماع الآلات والغناء، وله نظم على اللغة التركية، وكان مغرما بقراءة التواريخ والسير ودواوين الأشعار، وكان قريبا من الناس يحب المزاح والمجون في مجلسه،
24
غير كثيف الطبع في ذاته، وكان عنده لين جانب ورياضة بخلاف طبع الأتراك، ولم يكن عنده شمم ولا تكبر نفس.» (15) مساوئ الغوري
كان الغوري في حاجة إلى مال كثير ينفق منه على الجند؛ ليسكن ثوراتهم المتكررة، وليزود الجيوش التي يرسلها إلى أطراف المملكة وإلى الهند، كما يتفق في بناء الأساطيل، وكانت التجارة قد كسدت بما أخاف الفرنجة سبل البحار، وفي صفحات ابن إياس أمثلة من الحادثات التي أكسدت التجارة في عهد الغوري؛ في حوادث المحرم سنة 920: «وكان في تلك الأيام ديوان المفرد وديوان الدولة وديوان الخاص في غاية الانشحات والتعطيل، فإن بندر الإسكندرية خراب ولم تدخل إليه البضائع في السنة الخالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبث الإفرنج على التجار في بحر الهند فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدة نحوا من ست سنين، وكذلك جهة دمياط.»
ويقول في حوادث ذي الحجة من السنة عينها، أثناء الكلام في سفر السلطان الغوري إلى الإسكندرية: «ولم يكن بثغر الإسكندرية يومئذ أحد من أعيان التجار لا من المسلمين ولا من الفرنج، وكانت المدينة في غاية الخراب بسبب ظلم النائب وجور القباض؛ فإنهم صاروا يأخذون من التجار العشر عشرة أمثال؛ فامتنع تجار الفرنج والمغاربة من الدخول إلى الثغر؛ فتلاشى أمر المدينة وآل أمرها إلى الخراب حتى قيل: طلب الخبز بها فلم يوجد ولا الأكل، ووجد بها بعض دكاكين مفتحة والبقية خراب لم تفتح.»
لهذا اشتدت حاجة السلطان إلى المال واشتد حرصه على جمعه وكثرت مصادراته، وأسف فيها إلى درك لا يلائم همته وسيرته.
يقول ابن إياس في حوادث جمادى الأولى سنة 916: «وفي هذا الشهر كثرت مصادرات السلطان للمباشرين، حتى إنه صادر عرب اليسار الذين يسكنون تحت القلعة، وقرر عليهم مال له صورة وقال لهم: إنتو عملتو كيمان تراب تحت القلعة من عفشكم ما يشتال ولا بعشرة آلاف دينار، وجعل ذلك حجة عليهم.»
وفي حوادث رمضان سنة 918: «وفيه كان ما وقع لرئيسة المغاني، وهي امرأة يقال لها: هيفة اللذيذة، وقد رافعها بعض أعدائها بأن لها دائرة كبيرة من المال، ولها حلة للكرا، فلما سمع السلطان ذلك قبض عليها وأقامت في الترسيم، وعرضت للضرب غير ما مرة، وقرر عليها خمسة آلاف دينار؛ فباعت الحلي وجميع ما تملكه وأوردت ألف دينار، وقد تكلم لها القاضي بركات بن موسى بأنها لا تملك غير ذلك فقرر عليها بعد ذلك خمسمائة دينار ترد في كل شهر مائة دينار على كل جامكية،
25
وقد طفل السلطان نفسه إلى مصادرة المغاني أيضا! والأمر لله.»
وكان المال وسيلة إلى المناصب حتى مناصب القضاء أحيانا.
في حوادث ربيع الآخر سنة 910: «وفيه أخلع السلطان على شخص يقال له طراباي، وكان طراباي هذا ولي الأتابكية بحلب، ثم حضر إلى مصر وسعى في نيابة صفد بمال له صورة حتى تولاها.»
وفي ذي الحجة سنة 906: «وفي يوم الخميس ثامن ذي الحجة عزل قاضي القضاة زين الدين زكريا الشافعي عن القضاء، وهذا كان آخر عزله وولايته، وقد كف بصره عقب ذلك.
فلما عزل زكريا سعى محيي الدين بن عبد القادر بن النقيب في عوده إلى القضاء، وقد أورد مال له صورة، فأخلع عليه، وأعيد إلى القضاء.»
وأكثر مساوئ الغوري ترجع إلى كثرة نفقاته وقلة دخله واضطراره إلى أخذ الأموال بكل الوسائل.
وإذا رجعنا إلى ابن إياس نجد جل المساوئ التي ذكرها من هذا القبيل،
26
ولولا هذه الضرورات لبرئت سيرة هذا الرجل الهمام مما اقترف من هذه المصادرات. (16) مكانة الغوري من معارف عصره
لم تكن المعارف منتشرة مزدهرة في مصر في عصر الغوري، وإذا نظرنا إلى الأبحاث والمجادلات التي كانت في مجالس هذا السلطان ، عرفنا ضيق الأفكار وقلة المعارف، والولع بسفاسف الأمور والقصور عن جلائلها.
ولكن ينبغي ألا نعد هذه المجالس مصورة معارف علماء مصر في ذلك العهد، فإن كبار العلماء كانوا يتورعون عن هذه المجالس؛ فقد عاش بمصر في عصر الغوري علماء كبار مثل جلال الدين السيوطي، والسخاوي، والقسطلاني، وزكريا الأنصاري، ولم تذكر أسماؤهم في هذه المجالس؛ بل القضاة الأربعة الذين يذكرون كثيرا في شئون ذلك العصر، ولهم بالدولة والسلطان صلة مستمرة، قل أن يذكر أحدهم في مجالس الغوري.
ويتبين من تاريخ الغوري، ومن أقواله التي يتضمنها الكتابان: «نفائس المجالس» و«الكوكب الدري»، ومما كتبه الشريفي مترجم الشاهنامة، أن السلطان كان ذا حظ من العلوم الدينية: التوحيد والفقه والتفسير، مشاركا في علوم العربية: النحو والبلاغة وغيرهما، وأنه كان مولعا بقراءة كتب التاريخ والسير والقصص، وأنه كان ذا ملكة يتفهم بها الأدب وتزين له أن يشارك في النظم أحيانا، وأنه كان مولعا بالموسيقى والغناء، وكان له نظم وألحان يتغنى بها، وأنه كان يعرف لغات عدة.
وعناية السلطان بالعلم والأدب ومشاركته فيهما، وولعه بمطالعة الكتب، مهدت السبيل لمبالغة المادحين، وتخيل الشعراء، يقول الشريفي في خاتمة الشاهنامة:
نه سوز آكله علم ومعرفتدن
سن آنك عارفيسن هرجهتدن
دلك هر معرفتدن أولدي محظوظ
ضمير كدر صناسن لوح محفوظ «ما تذكر كلمة من العلم والمعرفة إلا أنت محيط بها، وقد أوتي قلبك حظا من كل معرفة، كأن ضميرك اللوح المحفوظ.»
ويقول:
نه فن أولسه سنك أنده ألك وار
نه يردن سوز آجلسه مدخلك وار
نجه مشكل كه أورلمز أكا أل
سن إيدرسن أنى إدرا كله حل
أكر إنشا أكر شعر وغز لدر
أكر علم وأكر بحث وجد لدر
كرورز طابك أنده بحر زاخر
سزوكه خلق حيران أول آخر
27 «لك يد في كل فن، ولك مشاركة في كل موضوع، وكم مشكل لا تناله الأيدي حللته بإدراكك، الإنشاء والشعر والغزل والعلم والبحث والجدل، كل هذا نراها فيك بحرا زاخرا، لقد تحير الخلق فيك.»
وفي مقدمة الكتابين الآتيين ما يبين عن غلو المؤلفين في مدح السلطان بالعلم وسعة المعرفة.
28
فأما مشاركته في العلوم الدينية، فدليلها في صفحات الكتابين لا تخلو منه بضع صفحات متتابعة، ولست في حاجة إلى التمثيل هنا؛ فحسب القارئ أن يلقي نظرة على بعض الصفحات، وفي الشاهنامة مدح السلطان بمعرفة الفقه والتفسير، وأنه يديم مطالعة التفاسير.
وأما مشاركته في علوم العربية فتدل عليها بعض المجالس؛ كالمجلس الثامن من كتاب النفائس،
29
والسؤال الذي في آخر صفحة 63 من الكوكب الدري.
وأما ولوعه بالتاريخ والسير والقصص؛ فقد أخبرنا به ابن إياس،
30
وقد أخبرنا به كذلك الشريفي مترجم الشاهنامة، يقول:
تواريخ وحكايا تيله أخبار
أقينر صحبتنده جمله تكرار «تقرأ في صحبته دوما التواريخ والحكايات والأخبار.»
ويقول في سبب ترجمة الشاهنامة: إن السلطان كان مولعا بالقراءة وعنده خزانة فيها ضروب الكتب، وكان فيها نسخة من كتاب الشاهنامة، فأمره بترجمتها إلى التركية إلخ.
وفي الكتابين اللذين نقدم لهما هذه المقدمة ما يصدق قول ابن إياس والشريفي، ومن أمثلة هذا ما في صفحة 66، 130 من كتاب النفائس، وفي الكوكب الدري أن إسماعيل الصفوي أهدى إلى الغوري كتاب تاريخ التتار.
31
وأما بصره بالشعر والغناء والموسيقى، وقدرته على المشاركة فيها؛ فقد أخبرنا بهما ابن إياس والشريفي مترجم الشاهنامة، ودل عليهما ما أثر من نظم السلطان وموشحاته.
فأما ابن إياس؛ فقد نقلنا آنفا قوله، وهو يعدد محاسن الغوري: «ومنها أنه كان يفهم الشعر ويحب سماع الآلات والغناء، وله نظم على اللغة التركية.»
32
وأما الشريفي؛ فقد قدمنا قوله في معرفة السلطان الشعر والإنشاء،
33
ونزيد هنا قوله في مقدمة الشاهنامة:
34
نه فن أو لرسه أند ندر خبير أول
هرايشده تكرى كسترمش آكايول
بلر شعر ومعمي فننى خوب
عزل إنشا إدر دركيبي مرغوب
نبيك مدحني توحيد باري
دمش كم كيدر إيشيدن قراري «ما كان من فن فهو خبير به، قد هداه الله في كل أمر طريقا، يجيد فن الشعر والمعمى، وله غزل مرغوب كالدر.
وقد قال في توحيد الباري ومدح النبي ما بلغ به الغاية.»
وفي كتاب النفائس ذكر موشحين من موشحات السلطان .
35
وبين أيدينا نماذج قليلة من نظمه، وعسى أن يهدي البحث إلى منظومات أخرى، وفيما يلي إجمال الكلام فيما لدينا من نظمه: (1)
موشح ملمع أثبته صاحب كتاب نفائس المجالس في آخر الكتاب، وهو عشرة أبيات، أوله:
يا إلهي بن كنه كار
أنت غفار الذنوب
عيبمي يوزيمه أورمه
أنت ستار العيوب
قاموا إشلر ساكه معلوم
أنت علام الغيوب
بن فقيره قل عنايت
إنني أرجو رضاك (2)
وقصيدتان وموشحان بالعربية وموشح تركي أثبتها الشيخ محمد راغب الطباخ في كتابه تاريخ حلب، من مجموعة من شعر الغوري عند بعض أدباء حلب.
القصيدة الأولى اثنان وعشرون بيتا أولها:
بالملك أنعم ربنا الرحمن
وهو الكريم المنعم المنان
فله علينا الشكر حق واجب
يقضيه قلب مخلص ولسان
يذكر في هذه القصيدة أمراء دولته وجنده، ويدعو الله أن يؤلف قلوبهم، ويجمعهم حوله.
والقصيدة الثانية ثلاثة وعشرون بيتا، أنشأها في نصف شعبان، وفيها حث على إحياء ليلة النصف، ودعاء له ولجنده ورعيته، وأولها:
لله في أيامنا نفحات
من دهرنا تزكو بها الأوقات
فيها ألا فتعرضوا وتضرعوا
فيها، تجاب لكم بها الدعوات
هذي مواسمهما لنا قد أقبلت
ودنا بموعدها لنا ميقات
وأحد الموشحين العربيين من نغم الحسيني، وهو عشرة أبيات، وأوله:
ربنا أدم لنا نعما
جدت لي بها كرما
فيضها حكى ديما
بالغمام منهله
والثاني كتب فوقه: «من نغمة المصرية علو محير يهبط على عشاق العجم.»
وهو اثنا عشر بيتا أولها:
صفحة العنوان من كتاب الشاهنامة التركية.
جل من لنا وهبا
ملك مصر واكتسبا
حيث سبب السببا
في قديم علم الله
والموشح الثاني ملمع بين العربية والتركية، وهو عشرة أبيات أولها:
كز لرم يا شينه رحم إيت يا رحيم
سائلي رد ايلمز هركز كريم
رب هب لي من لدنك رحمة
تب علينا أنت تواب رحيم
حق جمالن استرز، جنت ندر؟
كورنر جنت بزه أنسز جحيم إلخ
وأما معرفة اللغات؛ فالعربية والتركية لا تحتاجان إلى بيان، وقد ذكر الشريفي في الشاهنامة معرفته الفارسية، وروى مؤلف النفائس أن السلطان قال في أحد المجالس أنه يعرف كثيرا من الألسن، وعد سبع لغات.
36 (17) الغوري والشاهنامة
قدم إلى مصر أحد شعراء التركية في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، وهو رجل عربي الأصل شريف النسب اسمه حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي، ولعله فر إليها؛ إذ كان من المقربين إلى الأمير جم ابن السلطان الفاتح، وبقي في مصر حتى توفي سنة 920، ولا ندري متى قدم إلى مصر، ولكنا نعرف أنه اتصل بالسلطان أول سنة من ملكه، فأمره بترجمة كتاب الشاهنامة إلى اللغة التركية، فامتثل أمره، وأتمه في عشر سنين، آخرها سنة ست عشرة وتسعمائة.
وقد نظم الشاعر في مقدمة الشاهنامة فصلا بين فيه أن السلطان كان مولعا بقراءة التاريخ والقصص، وكان في خزانته كتاب الشاهنامة فأمره بترجمته إلى التركية، مع أن السلطان يعرف الفارسية.
ولا ريب أن السلطان أراد أن يقرن اسمه بهذا الكتاب الخالد، كما اقترن به اسم السلطان محمود الغزنوي، الذي قدم إليه الأصل الفارسي، وكما اقترن به اسم الملك المعظم الأيوبي الذي أمر بترجمته إلى العربية.
في مقدمة الكتاب وخاتمته نحو ألف بيت، يبدأ المؤلف بالتحميد ومدح الرسول والخلفاء، على سنة شعراء الفرس والترك، ثم يذكر سيرة مماليك مصر منذ سنة 870ه؛ يذكر قايتباي والملوك الذين خلفوه في فترة الاضطراب التي بينه وبين الغوري، ثم يفيض في مدح السلطان، ثم يبين سبب نظم الكتاب، ثم يشرع في ترجمة الشاهنامة، وفي الخاتمة يمدح السلطان ويبين أنه نظم الكتاب باسمه وأتمه في دولته، ويتكلم عن أخلاق السلطان وسياسته وشغفه بالعلم والأدب، ومعرفته لغات كثيرة، ومشاركته في الإنشاء والشعر، ونظمه في توحيد الله ومدح الرسول، وإلمامه بالموسيقى، ونظمه موشحا للغناء، وولعه بقراءة التواريخ إلخ ... ثم يصف مجلس السلطان واجتماع العلماء فيه لمذاكرة العلم، ويذكر المغنين والموسيقيين الذين يطربون السلطان في مجالسه.
ثم ينتقل إلى وصف عمارات السلطان وصفا مفصلا، فيعدد تسعا منها.
والخلاصة أن في مقدمة الكتاب وخاتمته ما يكشف عن بعض تاريخ الغوري، ولا سيما الجانب الأدبي منه، ويبين طرفا من تاريخ مصر، بعد حساب المبالغات الشعرية. (18) مجالس السلطان الغوري
يقول الشريفي، ناظم الشاهنامة باللغة التركية، في مقدمة الكتاب:
شها خوش مجلسك وار جنت آرا
أو مجلسده قمونسنه مهيا
حقيقتده علومك منبعي در
دكل شك أول أفاضل مجمعي در
أو مجلسده أولر مشكل لر آسان
نه مجلس كم أودر باغ وكلستان
أقينر أنده هر دلجه عبارت
أولر قانونله رمز وإشارت ... «ما أجمل مجلسك أيها السلطان، إنه يشبه الجنة، كل شيء مهيأ في هذا المجلس، إنه في الحقيقة منبع العلوم، ومجمع الأفاضل بلا ريب، مجلس تيسر فيه المشاكل، أي مجلس هذا؟ إنه حديقة وبستان، تقال فيها العبارات بكل اللغات، وتسير على قانونه الرموز والإشارات.»
كان للسلطان مجالس تجمع العلماء والكبراء، وتطرح فيها للبحث مسائل شتى.
وقد سجلت كثيرا من مسائل هذه المجالس في كتابين يصوران تصويرا حسنا كثيرا من أحوال مصر في عهد السلطان الغوري: (1)
كتاب نفائس المجالس السلطانية، في حقائق الأسرار القرآنية: ألفه حسين بن محمد الحسيني، وهو شريف كما يؤخذ من اسمه ومن عبارات في ثنايا الكتاب، ويظهر أنه ساح في إيران والبلاد الشرقية، وهو يعرف التركية فقد نظم بيتين بالتركية في رثاء ابن السلطان الغوري، وروى من شعر حسين بيقرا.
37
وفد على مصر فأقام عشرة أشهر شهد فيها مجالس السلطان الغوري، وجمع في كتابه هذا بعض المباحث التي كان السلطان والعلماء يتكلمون فيها.
والعجمة ظاهرة في كتابته حتى اسم الكتاب؛ فقد سماه «نفايس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية»، فحذف اللام من المجالس والأسرار.
والنسخة التي بأيدينا هي النسخة التي كتبت للسلطان وأهديت إليه.
وقد جعل المؤلف كتابه في مقدمة وعشر روضات، والمقدمة قصيرة تتضمن كلام بعض السلاطين ومنهم الغوري، والروضات العشر يذكر في كل واحدة منها مجالس السلطان في شهر، وكانت المجالس تجتمع في كل أسبوع مرة أو اثنتين أو ثلاثا.
وأولها مجالس رمضان سنة عشر وتسعمائة، وأول مجلس منها يوم الخميس الثالث والعشرين من الشهر، وآخرها مجالس رجب، فهي عشر روضات في أحد عشر شهرا؛ لأن السلطان لم يجلس في شهر ذي القعدة؛ لوفاة ولده محمد.
والمؤلف يصف كل مجلس وتاريخه ومدته، ويذكر الإمام الذي يحضر المجلس وكبار الحاضرين، ثم يذكر المسائل التي طرحت للبحث في المجلس.
يبدأ السلطان أكثر الأحيان بسؤال يجيب عنه أحد الحاضرين فيرتضي السلطان جوابه أو يناقشه، وأحيانا يبدأ أحد الحاضرين الكلام، وأكثر المسائل دينية وبعضها تاريخية ومنها ألغاز في موضوعات شتى، وقصص عن الملوك وغيرهم.
وأحيانا يصف محافل السلطان، يصف، مثلا، إحياء السلطان المولد النبوي، ويذكر طوائف الناس الذين اجتمعوا، وما فعلوا في هذا المحفل، ويبين كيف جلس السلطان ليلا، وكيف يتقدم إليه كبار الدولة وينشد كل منهم شعرا في مدحه، وكيف يقابلهم السلطان، وقد ذكر أن الخليفة يعقوب المستمسك بالله خليفة مصر تقدم «وباس الأرض كفرض العين وعين الفرض»، وأنشده:
إن الخلافة ثوب قد خصصت به
إذا لبست فلم يفضل ولم يعز
ما أودع الله في أحداقنا بصرا
إلا لنفرق بين الدر والخرز
38
وكذلك يمر القارئ بمسائل ذات خطر في التاريخ والسياسة إذ ذاك كقول السلطان: «الجركس من الغساسنة فهم عرب.» وكالبحث في شروط الإمامة في مجلس السلطان وقول مؤلف الكتاب: فإن لم يوجد من يستوفي الشروط من ولد إسماعيل جاز أن يولى واحد من العجم أو من ولد إسحاق، وقوله بعد هذا: الحمد لله والمنة، والجركس من ولد إسحاق، وجميع هذه الشرائط موجودة في السلطان الأعظم.
39
بل نجد في الكتاب بحثا صريحا في نيابة الغوري عن الخليفة العباسي، وهل هذه النيابة لازمة لصحة أحكامه في الأمور الشرعية، ويشتد الخلاف بين المؤلف وأحد العلماء في هذه المسألة، فيحقر المؤلف الخليفة ويعظم السلطان، ثم يذهب يستفتي العلماء ويأخذ خطوطهم بأن نيابة السلطان عن الخليفة غير لازمة.
40
ويرى القارئ أحيانا اهتمام السلطان بتعليم المماليك وإحضارهم من حين إلى آخر إلى مجلسه، ليقرءوا أمامه ويمتحنهم.
41
هكذا يجد القارئ في الكتاب مسائل مهمة لا يظفر بها في كتب التاريخ، ويرى صورا من آراء السلطان وعلماء عصره، ويتبين مقدار اطلاعهم ومدى تفكيرهم. (2)
والكتاب الثاني اسمه الكوكب الدري في مسائل الغوري : وهو يحتوي على ألفي مسألة وأجوبتها من المسائل التي وقع البحث فيها في مجالس السلطان الغوري أيضا، ولدينا الجزء الأول من الكتاب وفيه ألف مسألة في 338 صفحة، والنسخة مكتوبة في عهد الغوري، ويظهر أنها نسخة المؤلف، وعليها خطوط ثلاثة من علماء وقته المعروفين يشهدون بأنهم اطلعوا على الكتاب، منهم عبد البر بن الشحنة قاضي قضاة الحنفية، وبعض هذه الخطوط مؤرخ بالسنة التي تم فيها كتابة هذا الجزء.
ويقول المؤلف في آخر الكتاب: «وكان الفراغ منه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع عشر وتسعمائة.»
الصفحة الأولى من كتاب نفائس المجالس.
وفي مقدمة هذا الكتاب شبه بمقدمة الكتاب الأول، وبعض عباراتهما واحدة، وبين تاريخهما زهاء عشر سنين.
وفي الكتابين مسائل مشتركة مثل سؤال نكاح الشبهة، والإكراه على سب النبي.
42
الصفحة الثانية من كتاب نفائس المجالس.
وهذا الكتاب ليس مقسما على المجالس كالكتاب السابق، بل المسائل فيه متتابعة بغير فصل، والمطلع على الكتاب يرى صورا من أفكار علماء مصر وأمرائها في ذلك العصر؛ يرى إلى المسائل الدينية - وهي معظم الكتاب - مسائل تاريخية، وجغرافية، ويرى انتقال الحديث من تفسير آية أو حديث إلى السؤال عمن بنى الأهرام، أو عن زرقة السماء،
43
أو السؤال عن كيومرث أول ملوك الشاهنامة أكان قبل نوح أو بعده،
44
أو عن شهر المحرم لماذا جعل أول التاريخ الهجري، أو هل الأرض أفضل أم السماء؟! ويجد القارئ في الحين بعد الحين فكاهة من السلطان أو نادرة، ويعرض في المجالس ذكر الملوك المعاصرين والأمراء الذين وفدوا على السلطان كأبناء بايزيد وسليم، ويرى بعض المسائل الدينية التي سألها هؤلاء الأمراء وجواب السلطان أو بعض علمائه.
لا ريب أن هذا الكتاب، على تفاهة معظم المسائل التي يدور عليها البحث، يصور بعض النواحي الفكرية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي في ذلك العصر.
كتاب نفائس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم
اغفر ذنوبنا يا سلطان السلاطين، واستر عيوبنا يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، نرجو رحمتك يا أرحم الراحمين ، ونخشى عذابك يا أحكم الحاكمين، توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
والصلاة والتسليم على شفيع المذنبين، وسلطان الأنبياء والمرسلين، الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فإني لما تشرفت في خدمة أشرف الملوك وأعظم السلاطين، ظل الله في الأرضين، ناظر أربع حرم رب العالمين، سلطان العرب والعجم، صاحب البند والعلم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، ملك الأشرف عزيز مصر، أبي النصر، قانصوه الغوري، أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره، ولازمت بابه الشريف، مدة عشرة أشهر، جمعت درر فوائده في سمط العبارة، ونظمت جواهر زواهره في خيط الكتابة؛ لأن بابه الكريم مجمع الأفاضل، وجنابه العظيم بحر الفضائل والفواضل، هذا مع ما خصه الله تعالى من الفضائل النفيسة، والمناقب الشريفة اللطيفة، أعطاه من الفهم أوفره، ومن الذهن أغزره، ومن الحلم أشرفه، ومن العلم ألطفه، ومن الرتب أقواها، ومن الملك أعلاه، ومن الشجاعة أبلغها، ومن السخاوة أعظمها، كل هذه الصفات خصه الله تعالى بمجموعها، ولهذا ارتقى إلى الذروة (العالي، التي كانت نهاية درجات الأفاضل الأهالي)، وفضل هذا السلطان على سلاطين الدنيا، كفضل سلاطين الدنيا على الرعايا.
وكل هذه الأوصاف والمناقب بما قرن به من محبة العلم والعلماء، والتفتيش عما وضعته الحكماء في كل نوع من العلوم، لو يقول البشر في وصف هذا المظهر:
1
إنه هو سلطان العلماء والمحققين، ما هو كذب في حقه، أو يقول في مدحه: إنه هو سلطان العارفين، ما هو عيب في وصفه. قال أنوشروان: إذا أراد الله بأمة خيرا؛ جعل العلم في ملوكها، والملك في علمائها. وسميته: بنفائس المجالس السلطانية، في حقائق الأسرار القرآنية.
وهو مشتمل على مقدمة وعشر روضات، فينبغي لفوائد المجالس السلطانية، وفرائد نفائس النكات القرآنية؛ أن تكتب بالتبر، لا بالحبر؛ لأنها مشتملة على أسرار الآيات، ومتضمنة الحكايات، ومندرج فيها الآثار النبوية، ومذكور فيها أسرار العربية.
المقدمة في كلام السلاطين ذوي الاقتدار في فضل العلم
سئل إسكندر: أي رجل يصلح أن يكون ملكا؟
قال: إما حكيم ملك الحكمة، أو ملك طالب الحكمة.
قال فغفور الصين: الجهل مصيبة لا يؤجر عليها صاحبها.
قال قيصر الروم: كل قبيح في الدنيا الجهل به أقبح منه.
قال فور الهند: قرائن الأحوال تدل على حقيقة الحال.
قال كيخسرو: حسن الذكر ثمرة العمر.
قال بهرام كور: إنا نجمع الرجال، لا الأموال، وندخر الذكر، لا الوفر، ونذاكر العلوم، لا الرسوم.
قال بطليموس الملك: العقول مواهب، والعلوم مكاسب.
قال أردشير بابكان الملك: العلم عمود الدين، والدين أس الملك، والملك حارس الدين، فما لا أساس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
قال منوجهر الملك: علم الرفق مصباح النجاح.
قال كسرى قباذ: ينبغي أن يكون الملك صاحب العلم والفراسة كالأسد حوله الفرائس، لا كالفريسة حوله الأسد.
قال خان ملك الترك: إضمار الغضب على من هو فوقك مهلك.
قال يزدجرد شهريار الملك: أطع من هو فوقك يطعك من هو دونك.
قال محمود الغزنوي: العلم طبيب الدين والمال دواؤه.
ونختم هذا بقول خاتم السلاطين، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف قانصوه الغوري عز نصره: ما في الدنيا أحسن من الأدب؛ لأنه يزين الأغنياء، ويستر فقر الفقراء.
وقال أيضا: إذا اتفق جماعة على شيء وإن كان كذبا فلا تخالفوهم.
وقال أيضا: لو كان الاجتماع بأبي حنيفة ممكنا لسألت عن حكمة كراهية قراءة المأموم خلف الإمام.
ولو كان الاجتماع بالشافعي ممكنا لسألته عن حكمة جواز الوضوء من قلتين مع أنه يتغير بأدنى تغير، لو أنت تبعت في هذه المسألة مذهب أبي حنيفة لكان أحسن.
الروضة الأولى في مجالس رمضان
(1) المجلس الأول
طلعت يوم الخميس ثالث عشرين رمضان المبارك في تاريخ ستة عشر وتسعمائة، وكان في خدمته ناصح الملوك والسلاطين، الشيخ حسين جلبي، وكان الإمام في تلك الليلة الشيخ شمس الدين السمديسي؛ وقعدوا في الأشرفية ستين درجة، ووقع في تلك الليلة أسئلة:
السؤال الأول:
قال حضرة مولانا السلطان: الصلاة من الله تعالى رحمة، ومن المؤمنين الدعاء، فمعنى: اللهم صل على محمد؛ أي: ارحم محمدا، فكيف يجوز لنا أن نسأل له الرحمة مع أنه
صلى الله عليه وسلم
رحمة للعاملين؟ لا بد أن تكون مرتبة السائل أعظم من المسئول له؟
عجزوا عن الجواب، ثم قرأنا الفاتحة.
قال حضرة مولانا السلطان: إنا نسأل الدعاء في الحقيقة لأجل أنفسنا، ولا شك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ما هو محتاج إلى صلاتنا عليه، والمقصود من صلاتنا عليه طلب زيادة قدر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وطلب زيادة قدر النبي
صلى الله عليه وسلم
مستلزم لزيادة قدر أمته، كما ورد الأحاديث في فضيلة الصلاة عليه.
قال الشيخ برهان الدين بن أبي شريف، والشيخ جلال الدين السيوطي: هذا الجواب في غاية الحسن.
السؤال الثاني:
قلت: ما السر في أن الدعاء في جميع الشرائع لا يقبل إلا بالصلاة على نبينا، وفي الشرائع الأخر إجابة الدعاء ما هو موقوف على الصلاة على أنبيائهم، بل بمجرد الصلاة على نبينا يقبل دعاؤهم، كآدم عليه السلام ما استجيبت توبته إلا بعد الصلاة على محمد، وكذلك يوسف عليه السلام ما تخلص من السجن إلا بعد الصلاة على نبينا؟
قال حضرة مولانا السلطان: الواجب على الداعي أن يتوسل بأعظم شفيع، لا شك أن أعظم شفيع عند الله محمد عليه السلام.
السؤال الثالث:
قال مولانا السلطان: أي رجل صلى ركعتين بلا سهو فما لم يسجد سبع سجدات لا تصح صلاته؟
وقال: أمهلتك ثلاثة أيام، ثم بعد ثلاثة أيام بست الأرض وقلت: رجل دخل مع الإمام في الركعة الثانية؛ فقد أدركه في السجدتين، فلما قعد الإمام قدر التشهد قبل أن يسلم أحدث وتأخر وقدم هذا المسبوق ليسلم، ثم أخبره الإمام أنه ترك سجدة فإنه يجب عليه أن يأتي بها ويشير إلى القوم ليسلموا، ثم يصلي ركعتين بأربع سجدات.
السؤال الرابع:
قال الله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، لأي حكمة ما قال: (وأطيعوا أولي الأمر منكم)؟
قال مولانا السلطان: حتى يفهم منه أن أمر أولي الأمر ما هو مخالف لأمر الله وأمر الرسول، بل لا بد أن يكون موافقا للشرع الشريف والكتاب والسنة.
لطيفة
ذكر مولانا السلطان على الطارئ أنه قيل: ركب خواجة محمود الكاوان في الهند مع الوزراء فلما وصلوا إلى زريبة البقر وهي في الصياح قالوا له: يا خواجة، ما يقول البقر؟
فقال: هي تقول لي: اخرج من بين الحمير وتعال عندنا.
المناسب لهذا المجلس.
حكاية
قيل: قصد السلطان محمود الغزنوي رحمه الله زيارة واحد من الأولياء، وسافر مسيرة شهر، فلما وصل إلى بلاد الشيخ بعث قاصدا إلى الشيخ وقال: قل له: إنا جئنا بطول مسافة شهر لقصد زيارتكم ووصلنا إلى باب مدينتكم فالواجب عليكم أن تخرجوا إلى باب المدينة حتى يزوركم السلطان! قال الشيخ: ما لنا حاجة بزيارة السلطان. ثم بعث السلطان ثانيا فقال: قولوا له أما قرأت قوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ؟
قال الشيخ: إطاعة أولي الأمر واجبة إذا كانت موافقة للكتاب والسنة، والله تعالى ما أمرنا في كتابه بزيارة السلطان.
فأعجبه منه هذا الجواب فركب إلى زيارة الشيخ.
نختم هذا المجلس بظرافة: قيل: إن أعرابيا كان يأكل في شهر رمضان الفاكهة بالنهار، قيل له: ما هذا؟! فقال الأعرابي: رأيت في كتاب الله:
كلوا من ثمره إذا أثمر ، وأنا خفت أن أموت قبل الإفطار فأكون عاصيا. (2) المجلس الثاني
طلعت ليلة الأربعاء سابع عشرين رمضان المبارك، والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي، وقعدوا في تلك الليلة ستين درجة في الأشرفية، فوقع في تلك الليلة أسئلة:
السؤال الأول:
قلت: أي شيء فعله حرام، وتركه حرام؟!
الجواب:
قال مولانا السلطان: صلاة السكران.
السؤال الثاني:
سأل مولانا السلطان: أي صائم إذا أفطر فصلاته صحيحة، وإن تم صائما بطلت صلاته؟
الجواب:
هذا رجل اغتسل في ليل رمضان بدون المضمضة والاستنشاق، فإذا شرب الماء وصل إلى حلقه فخرج من الجنابة.
السؤال الثالث:
قال مولانا السلطان: أي جنب يطهر من الجنابة بوزن درهم من الماء؟
الجواب:
قلت: إذا اغتسل جميع بدنه فلصق في بدنه قطعة من الشمع، فما لم يغسل هذا الموضع لم يخرج من الجنابة، ويكفي في غسل هذا الموضع قدر الدرهم من الماء.
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: رجل صلى صلاة الظهر - مثلا - بالوضوء الكامل، وما أحدث شيئا وما وصل إليه نجاسة جديدة فركعتان منها صحيحتان وركعتان منها فاسدتان.
الجواب:
قلت: رجل أصاب ثوبه دهن نجس أقل من الدرهم ثم انبسط بعد الركعتين الأوليين.
السؤال الخامس:
سأل مولانا السلطان: إذا ابتلع الصائم أشرفيا من الذهب هل هذا مبطل لصومه أم لا؟
الجواب:
قلت: عند الشافعي يبطل مطلقا، وعند أبي حنيفة لا يبطل، وعند مالك فيه قولان.
السؤال السادس:
أي رجل إذا دخل في مسجد فبدخوله يقع طلاق الإمام، ويجب حلق ذقن المأموم، ويجب هدم المسجد؟
الجواب:
قلت: هذا الرجل كان مسافرا، وجاءت هذه الجماعة الذين هم مأمومون وقت دخوله، وشهدوا بالزور بموته، وأخذ الإمام امرأته وعمل بيته مسجدا.
السؤال السابع:
قال مولانا السلطان: امرأة رأت رجلا فقالت: هذا ابني وأخي وزوجي وعبدي؟
عجز أهل المجلس عن جواب هذه المسألة.
ثم قال مولانا السلطان: أمهلتك ثلاثة أيام، رح فهات الجواب، وقال مولانا السلطان: ما يعرف جواب هذه المسألة إلا القاضي شهاب الدين بن الفرفور.
قلت: أروح عنده وأسأل وأجيب الجواب.
ثم بعث مولانا السلطان قاصدا إلى ابن الفرفور، وقال: إن الشريف يأتي إليك لجواب المسألة، لا تذكر له الجواب.
فلما رحنا عند القاضي رحمه الله قال: ما نقول جواب مسألة السلطان إلا بأمر مولانا السلطان.
ثم درت في المدينة ثلاثة أيام وسألت جميع الفقهاء والفضلاء، ما قال لي أحد جوابها.
ثم بعد ثلاثة أيام طلب مني مولانا السلطان جواب المسألة، قمت وبست الأرض وقلت: مولانا السلطان أعلم بها من جميع العلماء، ثم قرأنا الفاتحة.
الجواب:
قال مولانا السلطان: إنه وقع نكاح الشبهة بين الأب والبنت فولد منهما ولد، ثم تزوج هذا الولد أمه أيضا بالشبهة، ثم أسلمت الأم واشترت ابنه.
السؤال الثامن:
قال مولانا السلطان: لأي حكمة سموا الإمام الشافعي بالشافعي؟
قلت: هذا السؤال بعينه سأله السلطان شاه رخ في العجم.
الجواب:
قيل ماتت امرأة وهي حبلى، فأمر الإمام مالك بدفنها؛ فلما خرجوا من عند الإمام مالك لقوا الإمام الشافعي، وكان في ذلك الزمان شابا يقرأ على الإمام مالك، قال الشافعي: ادفنوها ولكن اعملوا على لحدها قصبا مجوفا وانتظروا ثلاثة أيام.
فلما عملوا بقول الشافعي ولدت الميتة في اليوم الثاني، فأخرجوا الولد من القبر، فلما كبر وقرأ القرآن دخل هذا الصبي يوما عند الإمام مالك، فأعجب الإمام قراءته، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا الذي أمرت بدفني مع أمي. فقال الإمام: كيف جرى؟ فقالوا: دلنا محمد بن إدريس على هذا. فقال الإمام: هو الشافعي.
السؤال التاسع:
قال مولانا السلطان: هذا الجواب مردود؛ لأنه على هذا التقدير لا بد ألا تدفن الميتة الحبلى الآن عند مالك، ومع هذا المسألة عندهم على خلاف هذا الجواب، بل الحق أن الشافعي اسم لجده، كما أن (الحنبل أيضا اسم لجده ومنسوب إليه).
السؤال العاشر:
قال الله تعالى في كتابه العزيز:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، إنا صلينا - مثلا - ركعتين فيجازينا في القيامة بعشرين ركعة، ولا شك أنا محتاجون في القيامة إلى الجنة والرحمة، لا إلى الصلاة.
قال مولانا السلطان: المراد عشرة أمثال التي كتبتها الملائكة في الجزاء، أو نقول باعتبار رجاء العبد يعني التي هم يرجون من الله فلهم عشر أمثالها.
السؤال الحادي عشر:
لأي حكمة قال:
عشر أمثالها
وما قال: عشرة مثلها؟
الجواب:
حتى لا يتوهم أن الجزاء منحصر بعشرة فقط، بل يمكن أن يزيد إلى سبعمائة.
فائدة
قال مولانا السلطان، ما فات مني إحياء ليلة القدر من حين أدركت وبلغت.
ورأوا في بلاد جركس في ليلة القدر لا يجري الماء، ولا يتحرك الهواء.
المناسب بهذا المجلس.
حكاية
قيل: جاء سائل إلى باب رابعة العدوية، وكان عندها رغيفان، فأعطتهما السائل.
ثم بعد هذا جاء واحد فدق الباب وجاب عشرين رغيفا، وسرقت جاريتها من الباب رغيفين وجابت قدام الست ثمانية عشر رغيفا؛ فلما رأت رابعة هذا قالت: رغيفين آخرين في أين؟ قالت الجارية: أي رغيفين؟ قالت رابعة: قال الله تعالى في كتابه الكريم :
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
وأنا تصدقت برغيفين، فجزاء ذلك إنما يكون عشرين.
فلما سمعت الجارية هذه المقالة من رابعة باست رجلها وأخرجت الرغيفين اللذين سرقتهما في الأول.
ونختم هذا المجلس بقول إسكندر:
قال: ينبغي للملك إطاعة الله تعالى؛ لأن سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة الله. (3) من المجلس الثالث
طلعت ليلة الجمعة في سلخ رمضان المبارك، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي، وقعدوا في البيسرية أربعين درجة، وجاء الشيخ ابن أم أبي الحسن مع كتابين، واحد منهما (سيرة الملك الظاهر بيبرس ودخوله إلى الفرنج)، والكتاب الثاني (أحاديث في فضل المسلم)، ويريد أن يقرأ جميع ما في الكتابين، مع أنه لا يمكن قراءتهما في شهر كامل!
قلت: ما مناسبة قراءة هذين الكتابين في تلك الليلة؟ أما (سيرة الملك الظاهر) فلأنه لو كان الملك الظاهر حيا يتمنى أن يسمع سيرة مجلس مولانا السلطان.
وأما مناسبة الكتاب الثاني في ليلة العيد فبعيد، بل المناسب في هذه الليلة الشريفة ذكر فضل رمضان وأدائه، وفضل العيد وصلاته.
ووقع في ذلك المجلس مسائل:
السؤال الثاني:
شخص رأى هلال العيد، وما رآه غيره، هل هذا الشخص يفطر أو يصوم؟
قال مولانا السلطان: لا ينوي الصوم ولا يأكل الطعام أيضا؛ موافقة للمسلمين.
السؤال الرابع:
قال سلطان شروان: معنى العيد في اللغة هو السرور؛ فسرور المسلمين لأجل رواح رمضان الذي كل يوم يغفر فيه ذنوبهم وتستر عيوبهم، وأبواب جهنم مقفولة، وأبواب الجنة مفتوحة، فالقياس أن لا يفرح المؤمن برواح مثل هذا اليوم؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: فرح المؤمنين لأجل أنهم أدوا هذه الفريضة أداء كاملا ووصلوا إلى درجة الصائمين الكاملين لا بواسطة رواح رمضان.
السؤال السابع:
بعض البلاد نهارها ستة أشهر وليلها ستة، فكيف يصوم المسلم في ذلك البلد؟
قال مولانا السلطان: الواجب عليهم أن يقيسوا بالمنكاب بقياس ليل مكة ونهارها، ويصوموا ويصلوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قياسا على مسألة يوم خروج الدجال.
جوهرة
جاء خبر موت النشيلي في تلك الساعة: وقرأ مولانا السلطان لأجل روحه ثلاث مرات سورة الفاتحة وقال: الله تعالى يرحمه، ما تكلم أبدا عندي في شر أحد، غير أنه قال: فلان يحبك، وفلان يبغضك.
الروضة الثامنة في مجالس شوال
(1) من المجلس الأول
السؤال الخامس:
رجل مكره على سب النبي فالأولى له أن يرتد باللسان، أو يصبر على الضرب حتى يموت؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: الأولى الصبر؛ لأن الإقرار شرط الإيمان أو شطره، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
وقال حضرة مولانا السلطان: لو وقعت أنا، والعياذ بالله، مجبورا مكرها على سب النبي نختار الموت وما نسب النبي.
قيل عليه: قال الله تعالى:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ظاهر الآية يدل على أن المختار السب؟
قلت: المراد من الآية الكريمة الرخصة في الجملة لا أن السب واجب عليه، بل الأولى ترك السب والصبر على الضرب كما ذكره النووي في الروضة. (2) في آخر المجلس السادس
وفي يوم الجمعة واحد وعشرين من شهر شوال انتقل قطب فلك الإرشاد، وخلاصة العباد والزهاد، شيخ الإسلام حسين جلبي من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وفي ذلك اليوم الشريف حسين أيضا وصل إلى رحمة الله. (3) من المجلس السابع
جوهرة
وفي آخر المجلس طلب مولانا السلطان الشيخ عبد الرزاق الإمام وقال: والعجب أن العلماء والصلحاء، ما عملوا الدعاء لدفع الطعن والوباء، قال الإمام: الوباء رحمة من الله تعالى ويحصل بسببها لهذه الأمة درجة الشهادة.
قال مولانا السلطان: لا شك أن المطر أيضا رحمة من الله تعالى؛ فإذا جاوز حد الاعتدال ففي الشرع رخصة الدعاء في تلك الحالة. (4) من المجلس الثامن
السؤال الرابع:
الفصحاء يذكرون الكلام بلا مؤكد، وإذا أنكر المخاطب يؤكدون بإن، ثم باللام، فما حكمة التأكيدات الثلاث أولا في قوله تعالى:
إنا إليكم لمرسلون ؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: قاعدة علم البيان أن أداة التأكيد على قدر إنكار المخاطب، فالله يعلم ما تكن صدورهم فذكره بحسب إنكارهم. (5) المجلس التاسع
طلعت يوم السبت سلخ شوال، وما خرج حضرة مولانا السلطان في تلك الليلة بسبب ضعف ابنه، وأمر أن يختم له الحفاظ، وفرق على كل واحد دينارا من الذهب.
وفي يوم الجمعة سادس شهر ذي القعدة، درة درج الخلافة، ودري برج اللطافة، ثمرة شجرة العدالة، وشجر ثمر الإبالة، الواصل إلى جوار رحمة الصمد (السلطان محمد) الذي تفاخرت الأرض بسبب تربته الشريفة على صوامع الفلك، وتبختر الثرى بواسطة مقبرته اللطيفة على حظائر الملك، لما سمع نداء (أجيبوا داعي الله) تلقى بسمع القبول والطاعة، وانتقل من دار غرور الدنيا إلى دار سرور العقبى في الساعة - سقى الله ثراه، وجعل الجنة مثواه.
والفقير الحقير، المعترف بالذنب والتقصير، طعنت في ذلك اليوم، وكنت محروما من ملازمة العتبة الشريفة مدة أربعين يوما، ونظمت تاريخ وفاته الشريفة باللسان التركي.
سويلمك كم أوغلي أولدي حضرة سلطان مصر
بر مؤمن أولمدي في كل أرض العامره
مالك أولدي كل دنيا بالعدالة آتسي
كتدي أوغلي تاكه دوتسون ملك دار الآخره
عقل مندن صردي تاريخ وفاتن، سويلدم
يتشر تاريخه أعلى القصور «الفاخره»
1
الروضة الثالثة في ذكر المجالس التي وقعت في ذي الحجة
(1) من المجلس الأول
طلعت ليلة الأحد عشرين ذي الحجة الحرام، وقعدوا في الأشرفية خمسة وعشرين درجة، والإمام في تلك الليلة كان الشيخ عبد الرزاق، ووقع البحث في الألغاز.
اللغز الثاني
ألا فاخبروني أي شيء رأيتمو
من الطير في أرض الأعاجم والعرب
فيؤكل مطبوخا لذيذا وتارة
فيؤكل مشويا إذا اشتد في اللهب
وليس له أيد وليس له فم
وليس له رجل وليس له ذنب
وليس له مخ وليس له دم
وليس له عظم وليس له زغب
الجواب:
قال مولانا السلطان: هو البيض.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: جماعة من الشعراء اجتمعوا في خدمة سيف الدولة وقصدوا إيذاء المتنبي وقالوا: إنا نبيض في هذا المجلس. وكان مع كل واحدة بيضة مخفية، فلما جاءت نوبة المتنبي صاح صيحة الديك، فقال السلطان: ما هذا؟ قال: لا بد لهذه الدجاجات من ديك.
خاتمة
قال بهرام بن بهرام: أسد حطوم خير من ملك غشوم، وملك غشوم خير من فتنة تدوم. (2) من المجلس الثامن
طلعت يوم الخميس سابع عشر المحرم، وقعدوا ثلاثين درجة في المقعد، فلما دخل سيدي علي الأخميمي قال له مولانا السلطان: يا إمام الأعظم.
ولهذه العبارة معان:
الأول:
أنت إمام أعظم سلاطين الدنيا أو أنت أعظم أئمة السلطان.
الثاني:
أو أنت الإمام الأعظم في هذا العصر، يعني أنت أبو حنيفة الوقت.
ووقع في تلك الليلة مسائل:
السؤال الأول:
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : سبحانك ما عرفناك حق معرفتك.
وقال علي رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. ولا شك أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الولاية، فقول النبي
صلى الله عليه وسلم
يدل على عدم المعرفة، وقول الولي على كمال معرفته، فما التوفيق بينهما؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: ليس بينهما تناقض؛ لأن مراد النبي
صلى الله عليه وسلم
كنه الذات، ولفظ حق معرفتك يدل على هذا، ومعرفته بالكنه لا تحصل للبشر، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة.
وقول الولي يدل على أن المعرفة التي يمكن تحصيلها حصلناها في الدنيا ولا يزيد في الآخرة شيء؛ لأن الدنيا دار تحصيل الكمالات ومزرعة الآخرة.
درة
قال مولانا السلطان: ادعت جماعة محبة السلطان محمد القلاوون، فقال لهم: إن كنتم تحبونني ارموا أرواحكم من القصر! فقالوا: بسم الله. وجروا من أول سطوح القصر إلى نهاية طرف القصر، فوقفوا وقالوا: يا مولانا السلطان، محبتنا لك إلى هذا الموضع، فمن يزيد علينا قدما فالمحبة له.
الروضة الخامسة في المجالس التي وقعت في شهر صفر
(1) من المجلس الخامس
طلعت يوم الخميس خامس عشر شهر صفر وقعدوا سبعة وعشرين درجة في المقعد ووقع فيه مسائل إلخ.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: في أيام المعتصم وقع في شبكة صياد مخلاة فيها كف مخضب بخواتم الذهب، فلما سمع المعتصم نظر في الخاتم فرأى أنه ما هو من شغل بغداد، فطلب المخلاتيين فقال واحد منهم: اشترى هذه المخلاة مني مباشر في هذه الأيام. فسأل عن هذا المباشر، فقيل له: هو رجل يشرب الراح ويحب الملاح، وفي الليل والنهار في الخمر والزمر . ففتش عن أحواله من جيرانه، فقالوا: إن هذا المباشر هوى جارية وكانت من المغنيات وقصد بيعها ووقع الخلاف في قيمتها، فصاحب الجارية خلاها عند المباشر فأنكرها، وحلف أنها خرجت من عنده إليه، ثم راحوا واشتكوا إلى الديوان، فأمر بتفتيش بيت المباشر، وهو من الخوف قتلها، ثم أمر الخليفة بإحضار سيد الجارية، فلما رأى ذلك قال: هذا كف جاريتي؛ فأحضر الخليفة المباشر وقال له: يا ولد الزنا يا فاسق، ما قنعت بهذه الأفعال الذميمة حتى قتلت نفسا محرمة، فأمر بشنقه على باب داره والمخلاة في عنقه. (2) من المجلس السادس
طلعت يوم السبت سابع عشر شهر صفر وقعدوا في المقعد سبعة وعشرين درجة، ووقع فيه مسائل إلخ.
المناسب لهذا المجلس
أنه كان شيخ نصاب في العجم يدعي دعوة الجن، فبعث إلى السلطان تمور
1
وقال له: للجن عرس ويطلبون منك شيئا من الذهب لأجل الزفة، قال تمور في الجواب: سلموا على الشيخ وقولوا له: ما باب في الدنيا إلا وهو مفتوح عليهم، فلا بد هم يدخلون في ذخيرتي ويأخذون من الذهب مهما شاءوا. (3) من المجلس السابع
طلعت يوم الثلاثاء عشرين شهر صفر وقعدوا في المقعد ثمانية وعشرين درجة، والإمام كان الشيخ عبد الرزاق، وفتح مولانا السلطان في تلك الليلة لغزين، ووقع فيها مسائل:
السؤال الثاني:
قال الشيخ عبد الرزاق: هل معرفة الله بالقلب أو بالنقل؟
الجواب:
قلت: معرفة الله بالقلب ما تكلم به العلماء، وفساده ظاهر؛ لأنه إذا كان مناط المعرفة القلب يلزم أن يكون جميع الحيوانات العجم والأطفال والمجانين كلهم مكلفين؛ لأنهم أصحاب قلوب وليس كذلك، بل قالوا: معرفة الله تعالى إما واجبة شرعا أو عقلا.
قلت: عند الحنفية واجب عقلا؛ بدليل قوله تعالى:
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض .
وعند الشافعية واجب شرعا بدليل:
وما كنا معذبين
إلى آخر الآية.
2
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: أسلم ابن وزير ملك الصين واشتكت الأمراء والمباشرون وقالوا للملك: قد آمن ابن وزيرك بسيد المرسلين؟ قال الملك في جوابهم: بدنه مأمور لأمرنا، ومحكوم تحت حكمنا، وقلبه ما هو تحت أمرنا ، خلوه يرتبط بأي شخص يشتهي خاطره. (4) من المجلس الثامن
طلعت يوم الخميس ثاني وعشرين شهر صفر وقعدوا في المقعد ثلاثة وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين الحلبي، ووقع فيه الألغاز والمسائل:
اللغز الأول:
وميت بقبر طعمه عند رأسه
إذا ذاق من ذاك الطعام تكلما
يقوم ويمشي ناطقا بفصاحة
ويأوي إلى القبر الذي كان قيما
قال: هو القلم.
اللغز الثاني:
خليلان ممنوعان من كل لذة
يبيتان طول الدهر مجتمعان
إذا أمسيا كانا على الناس حارسا
وعند طلوع الفجر يفترقان؟
قال: هو الباب. (5) من المجلس التاسع
طلعت يوم الثلاثاء سابع وعشرين شهر صفر وقعدوا في المقعد ثلاثا وعشرين درجة، ووقع فيها مسائل ولغزان.
اللغز الأول:
وذي سفر لا يحب المقام
ولا يسأم السير في كل حال
يبيد الليالي في مره
وتضنيه في مرهن الليالي
قال: هو القمر. (6) من المجلس العاشر
طلعت يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر صفر وقعدوا في المقعد عشرين درجة، ووقع فيه مسائل إلخ.
الخاتمة
سئل الإسكندر: ما أحسن حال الرعية؟
قال: إذا كان ملكهم لطيف العقل صحيح الرأي عالما بالحكمة.
وسئل: ما أسوأ حال الرعية؟
قال: إذا عدم من الملك هذه الخصال.
في الدعاء
الحمد لله والمنة؛ إن هذه الخصال موجودة كلها في حضرة سلطان العرب والعجم، أشرف ملوك العالم، وارث ملك يوسف الصديق، خليفة الأرض بالحق والتحقيق، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف أبي النصر، عزيز مصر، قانصوه الغوري، اللهم خلد ظلال معدلته ورأفته في بسيط الأرضين، وأيد أنوار سلطنته وخلافته على كافة المسلمين إلى يوم الدين، آمين.
الروضة السادسة في مجالس ربيع الأول
(1) المجلس الأول
طلعت يوم السبت ثاني ربيع الأول وقعدوا في المقعد عشرين درجة، ووقع فيه لغز ومسائل:
اللغز الأول:
وآكلة بغير فم وبطن
لها الأشجار والحيوان قوت
إذا أطعمتها نعشت وعاشت
وإن أسقيتها ماء تموت
قال: هو النار.
السؤال الأول:
قال مولانا السلطان: لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، فلأي حكمة ما بين حقيقة الروح في جواب:
ويسألونك عن الروح ؟
الجواب:
قال الشيخ برهان الدين بن أبي شريف: اليهود قصدوا تعجيز النبي وتغليطه؛ فسألوا عن مشترك بين المعاني، وقصدوا أنه مهما يقل لهم النبي يقولوا في الجواب: ما قصدنا هذا المعنى. وأما اشتراك الروح فإنه قد يطلق ويراد به جبرائيل وقد يطلق ويراد به عيسى أو الملك، وقد يطلق ويراد به قوة في الحيوانات وهي مبدأ الحس والحركة، فقال الله تعالى في جوابهم شيئا يصلح لجميع هذه المعاني.
الجواب الثاني:
قال مولانا السلطان بعد قراءتنا الفاتحة: جواب آخر: وهو أن يقول الله: ما ينفعكم معرفة حقيقة الروح؛ لأنه لا يتعلق به أحكام الشريعة، والأولى لكم معرفة مسائل يتوقف عليها التكليف. (2) من المجلس الثاني
طلعت يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأول وهذه الليلة كانت ليلة كسر النيل، وفي تلك السنة أوفى البحر عشرين ذراعا وعشرة أصابع، ووقع في تلك الليلة ألغاز، والمماليك الصغار في تلك الليلة قرءوا قدام مولانا السلطان.
قال ابن النحاس: كنت في خدمة قاضي كاتب السر فقال لي: تعال إلي تفرج كسر النيل، وأنا ما رضيت؛ لأن مولانا السلطان هو البحر الكبير، وبحر النيل بحر الكسر في هذه الليلة، وهذا البحر له جبر الخواطر.
قال مولانا السلطان:
اللغز الأول:
أي شيء تلف محض بلا نفع؟ عجزوا عن الجواب فقرأنا الفاتحة.
الجواب:
قال مولانا السلطان: تودير
1
المصريين في هذه الليلة.
اللغز الثاني:
وطائرة أمست عديمة أربع
عظام ولحم والدماء وريش
فيؤكل منها البعض والبعض طائر
ويحرق منها البعض وهي تعيش؟
قال: هو النحل.
اللغز الرابع:
ما اسم شيء قد غدا نزهة
للنفس، محبوب لدى الأزمنه
وإن ترد تصحيف مقلوبه
تجده شهرا من شهور السنه
قال: هو البحر.
2
المناسب لهذا المجلس
قيل لإسكندر: إن في عسكر داراب الملك ثلاثمائة ألف رجل. فقال إسكندر في الجواب: بكثرة الغنم لا تخوفوا القصاب.
قيل لأنوشروان: إن في عسكر سلطان الحبوش والسودان أربعمائة ألف رجل. فقال أنوشروان لهم: لا تخافوا؛ لأن النار القليل تفني الحطب الكثير.
المناسب لهذا المجلس
أنه سئل أفلاطون : ما علة ملوحة البحر؟
فقال لهم: بينوا لي فائدة العلم بهذا حتى أبين لكم علته.
وتوقيعه من كلام سيد الأنام عليه السلام أنه قال: من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه.
الخاتمة
قال إسكندر: ينبغي للعاقل أن يكون مع سلطانه كراكب سفينة البحر؛ إن سلم جسمه من الغرق لم يسلم قلبه من الخوف. (3) من المجلس الثالث
طلعت نهار الخميس سابع شهر ربيع الأول، وقعدوا في المقعد ثلاثين درجة، ووقع فيه المسائل ولغز:
اللغز الأول:
ألا خذ وعد موسى مرتين
وضع أصل الطبايع تحت ذين
وركب بيت شطرنج فخذها
فركبها
3
خلال الموعدين
فذاك اسم لمن يهواه قلبي
وقلب جميع من في الخافقين
الجواب:
قال مولانا السلطان: وعد موسى أربعين وهو بحساب الجمل ميم، وأصل الطبايع أربعة وهي دال، وبيت الشطرنج ثمانية وهي الحاء، والمجموع هو اسم محمد، وهو حبيب قلوب من في الخافقين.
المناسب لهذا المجلس
أنه قال الشيخ الرباني علاء الدولة السمناني قدس الله روحه، وكتب في وصيته: إذا دخل الكافر أيضا في زاويتي فأطعموه؛ لأن كل من يستحق عند الله التشريف بجوهر الروح اللطيف، فهو يستحق عندنا أيضا قرص الرغيف.
وتوقيع هذا: أكرموا الضيف ولو كان كافرا.
الخاتمة
قال المأمون لأمرائه: عليكم بأهل السخاوة والشجاعة، فإنهم من أهل حسن الظن بالله تعالى، ومنع الجود سوء الظن بالمعبود.
إنعام حضرة السلطان
نزلني في المدرسة الغورية وأعطاني وظيفة التصوف فيها، اللهم كما سلمت بيده زمام الدين، وجعلته من أفضل الملوك والسلاطين، شرف مسامع مجامع المسلمين، بصيت فتحه المبين، يا رب العالمين، آمين.
واقعة
في يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول دخل في القاهرة مفخر الأمراء والأكابر، صاحب المناقب والمآثر، الواثق بالملك الحي، أمير سيباي، وشرف بتقبيل العتبة العلية، الغورية، شيد الله أركان قواعدها. (4) من المجلس الرابع
طلعت يوم السبت تاسع ربيع الأول وقعدوا في الأشرفية عشر درجات، ووقع فيها المسائل والألغاز.
اللغز الأول:
مولاي شمس الدين يا رب الحجا
ما اسم ثلاثي له وجه يسر
لم يبق لي في العشق لو ما قلبه
صحف وذق إن لم يكن حلوا «فمر»
قال: هو القمر.
اللغز الثاني:
أتى بلغز ثلاثي يعجزني
وظن ذلك بحرا لست أسلكه
وقال فسره شمس الدين قلت له
مولاي لغزك ليس الشمس تدركه
4
قال: هو القمر.
مولد السيد الأعظم
صلى الله عليه وسلم
الليل لما عسعس، والصبح حين تنفس، خرج سلطان ممالك الأفلاك من خيمته الأزرق،
5
وهربت منه جيوش حبوش الليل الغسق، ونزل عساكر أنواره على وجه الأرض، واستولى على جميع الممالك بالطول والعرض، أمر السلطان الأعظم، والخاقان المعظم، سليمان الزمان، إسكندر الدوران، وارث ملك يوسف الصديق، خليفة الحق
6
بالحق والتحقيق، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري خلد الله تعالى ملكه وسلطانه، وأفاض على العالمين بره وإحسانه - رب كما جعلت شموس معدلته رافعة لظلام الظلم عن كافة الأنام في العالم، اجعل خيام بقائه مشيدة بأوتاد الأبد، وأطناب الدوام المؤبد، بجاه محمد، يا واحد يا أحد - أمر
7
بضرب خيمته الزرقاء، على فرش مسطح الغبراء، التي كان الفلك الأطلس يتمنى أن يكون من سقوف قبابها، وترتجي النجوم والكواكب أن تكون من مسامير أبوابها، ما كانت الكواكب في تلك الليلة ظاهرة، بل كانت عيون الملائكة من الملأ الأعلى لأجل تفرجها ناظرة، وبواسطة هذه الخيمة السلطانية صارت السموات السبع ثمانية، وكأن أشارت سماء الدنيا بأنملة الأهلة إلى الملك، وقالت: هل رأيتم مثل هذا الفلك؟ والشمس والقمر يدوران حولها ويرميان روحهما من المنافذ حتى يتفرجا المجلس العالي، وفلك القمر فتح أعين الكواكب الثواقب، حتى ينظر وجوه الأكابر والأهالي.
ثم سلطان الحرمين الشريفين، في يوم الاثنين، عمل مولد سيد الكونين، ورسول الثقلين، وسلطان قاب قوسين.
وكان هذا اليوم مصداق:
ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ؛ لأنه يوم معراجه
صلى الله عليه وسلم
ووفاته، ويوم المولود.
8
وكان هذا اليوم موكب عظيم، لا فيه لغو ولا تأثيم، وفي هذا اليوم اكتسبت السماء من الأرض استفاضة النور، وهذا الخبر عند أهل الأثر معروف ومشهور.
وكان مولانا السلطان في الخيمة كالشمس في وسط سماء الدولة، أو بدر كامل في فلك أطلس السعادة، في طرفيه اثنا عشر منزلا، وفي كل منزل مقام مقدم ألف، وهو كقمر كامل بلا نقصان، أو بدر لامع بلا خسران، فأمر حضرة مولانا السلطان بإحضار السادات العظام، والعلماء الأعلام، وقضاة الإسلام، والأمراء الكرام، ووزراء الأنام، ووجوه الناس من المباشرين والحكام، والصلحاء والفقراء والمشايخ والزهاد، والعباد من جميع البلاد، والفقهاء والفضلاء والمدرسين، وأجواق القراء والحفاظ والمؤذنين، من العرب والعجم، والترك والديلم.
ومد سمطا عجيبة كبيرة، مع أطعمة غريبة كثيرة، بحيث لا يقدر لسان الإنسان على ذكر بيانه، أو كأن:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
نازل في شأنه، أو نزلت مائدة من السما، على جميع من في الدنيا.
لما فرغوا من الطعام، وقرءوا كلام الملك العلام، وذكروا مولد سيد الأنام، عليه السلام، بالكمال والتمام، ألبس أعظم سلاطين الإسلام الخلع على الجميع، من الشريف والوضيع، وصار الحوش من مآثر الأولياء، وميامن بركات الأتقياء، ومن كثرة ازدحام الخلق، شبيها بموقف عرفات، بل بعرصة العرصات.
9
وأنعم عليهم إنعامات بلا غاية، وإحسانات بلا نهاية، (درر الكواكب، لو ما كانوا متوهمين أن يبخششهم مثل الليالي، على الأهالي الأعالي، لكانوا منتظمين في خزينته العامرة، والشمس والقمر، لولا كان خوف أن يفرقهم بدل النقدين، بوجه إنعامات القراء، لكانا منسلكين في ذخيرة القاهرة، الدر والدري، خافا من جوده فتحصنا بالبحر والأفلاك.)
10
وأنا كنت قاعدا في الدهيشة، في دهشة عجيبة من مشاهدات الرايات السلطانية، ومطالعات غرائب الألطاف السبحانية؛ لأني رأيت مجلسا لا عين رأت، وسمعت مولدا لا أذن سمعت، فخطر ببالي ما لم يخطر ببال أحد، وهو أنه يمكن بحسب تخيلات الشعر، وموجب تصرفات الفكر، تشبيه هذا اليوم بيوم الجزا، وتشبيه هذه النعمة بنعمة تجزى، وتشبيه الخيمة الزرقاء بسماء يوم الدين، وتشبيه قرب شمسه بقرب سلطان السلاطين، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض، سبحانه منزه عن الشبه والنظير،
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ثم بعد الفراغ من المولد، وكان قريب وقت المغرب، جاء أسود الليل الغاسق، بزي السراق العائق، فسرق زر الذهب، من جيب الفلك الأطلس المذهب، فانهزم عسكر الروم من جيش الحبش،
11
وصار عين الفلك من هذا الهم أعمش، فنوروا القناديل والشموع، من أول الليل إلى وقت الطلوع.
وفي تلك الليلة، كان وجه الأرض أنور من السما، من كثرة الشموع والثريا؛ لأن شمس فلك السعادة من برج الإقبال كانت فيها طالعة، وكواكب عساكره المنصورة من مدارج الجاه والجلال لامعة.
ثم قام مقدمو الألف، وجاءوا كالملك صفا على صف، بالطول والعرض، كلهم باسوا الأرض، فقدم عليهم أكبر أولاد قريش، ووارث المملكة والجيش، ابن عم النبي العربي، الهاشمي المطلبي، أمير المؤمنين يعقوب المستمسك بالله، خليفة مصر، باس الأرض، كفرض العين وعين الفرض، وقال الخليفة:
إن الخلافة ثوب قد خصصت به
12
إذا لبست فلم يفضل ولم يعز
ما أودع الله في أحداقنا بصرا
إلا لنفرق بين الدر والخرز
فميزه مولانا السلطان بجبر الخاطر، وفضله على جميع الأفاضل والأكابر.
ثم جاء من أصحاب اليمين، ذو التمكين، أتابك العساكر المنصورة، في أعظم بلاد المعمورة، صاحب الرأي والتدبير، الأمير الكبير، وباس الأرض، كأداء الفرض، وفتح اللسان
13
بمدح مولانا السلطان، وقال الأمير الكبير:
إن الفضائل في الدنيا مشتتة
وما جمعن مرور الدهر في فقر
لكنهن بحمد الله قد جمعت
14
أشتاتها عندكم في أحسن الصور
قال حضرة مولانا السلطان: الحمد لله الذي جعل شكره سببا للمزيد، وأجرى من ينابيع القلوب إلى مجاري الألسنة زلال الشكر والتحميد.
ثم جبر خاطره بتحسينات وافرة؛ وتعريفات متكاثرة، بحيث تنفس أمير قرقماش شمائم روائح جبر الخاطر، ونسيم امتيازه على البادي والحاضر.
ثم جاء خلاصة الأمراء والأخيار، وحاكم البلدان والأمصار، الواثق برحمة الملك الحي، الأمير سيباي، باس الأرض وقال هذا النظم:
الحمد لله على كل حال
قد ذهب الهجر وجاء الوصال
وصلت من لم ينله المنى
وكنت أرضى بطواف الخيال
ثم حضرة مولانا السلطان جبر خاطره، فزين باطنه وظاهره، ثم جاء الأمير عالي القدر، أمين الملوك والسلاطين، مقبول الخلائق أجمعين، حافظ الأسلحة والأرماح، محب أهل الصلاح أمير السلاح، باس الأرض وقال هذا الشعر:
يا من أعاد رميم الملك منشورا
وضم بالعدل شملا كان منشورا
لا زال قاليك بالمنشار منشورا
وصدر واليك للزوار منشورا
فامتازه مولانا السلطان، بجبر الخاطر بين الأعيان.
ثم جاء الأمير رفيع المقدار، مغيث المظلوم عند الاضطرار، مهندس قواعد المملكة والمؤسس، وأمير المجلس، باس الأرض وفتح اللسان، بثناء مولانا السلطان وقال:
جنابك فردوس جرى من خلاله
كياس أياديك العزيزة كوثر
سأشكرها ما دمت حيا وإن مت
فإن رميم العظم في اللحد يشكر
فجبر خاطره، وزين ظاهره.
ثم جاء الأمير الأعظم الأكرم عماد الدولة، وناظر أمور المملكة، الواثق بالملك القدير، أمير آخور الكبير، باس الأرض وقال هذا النظم:
توجه وفد الفتح والنصر حيثما
توجه في عين الإله لواؤه
وكل مكان مس حافر خيله
تخلص من داء الفناء فناؤه
فجبر مولانا السلطان خاطره.
وبسبب هذا انشرح صدره، وازداد قدره.
ثم جاء الأمير الأشجع، الأرفع، حامي شرع أحمد المختار، المؤيد بتأييد الملك الغفار، أمير دوادار، باس الأرض وقال هذا الشعر:
ولو أن البحار لنا مداد
ودجلة والفرات وكل وادي
ونبت الأرض أقلاما جميعا
نخط بها إلى يوم التنادي
إذن أستطع إحصاء ما بي
من الشكر المدخر في فؤادي
فامتازه حضرة مولانا السلطان، من بين الأقران، بتحسينات لائقة، وتمديحات شائقة. (بعده)
ثم جاء الأمير الأعظم، الأكرم، حافظ أبواب الملوك والسلاطين، مقرب أمير المؤمنين، صاحب العز والرفعة، نائب القلعة، باس الأرض وقال أمير طقطباي:
بقيت مدى الأفلاك ملكك راسخ
وظلك ممدود وبابك عامر
يرد سناك البدر والبدر زاهر
ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
فجبر خاطره حضرة مولانا السلطان، فامتازه من بين الأقران. (بعده)
ثم جاء الأمير الواقف، العارف، خلاصة الأمراء والأعيان، مقرب حضرة السلطان، زين الحجاج، أمير الحاج، باس الأرض وقال الشعر:
أيا كعبة الآمال وجهك حجتي
وعمرة نسكي إنني فيك والع
بمزدلفات في طريق غرامكم
عوائق من دون اللقاء قواطع
فامتازه بتحسينات لطيفة، وتمديحات شريفة. (بعده)
ثم جاء تاج رأس أرباب العمائم، ورأس تاج أركان الأعاظم، سلالة الأكابر في العالم، صاحب السيف والقلم ، مفتاح أبواب البر، ومصباح مشكاة الخير، كاتم سر حضرة الإله، وكاتب سر ظل الله، صاحب الرياستين، ناظر الديوانين، المختص بعناية الملك الودود، القاضي محب الملة والشريعة والحقيقة، والتقوى والفتوى والدين، محمود، صانه الله تعالى من شر كل حسود، وضر كل حقود، وكان جميع أكابر الأعاظم، وجمهور أرباب العمائم، في حوالي المخدوم العالي القدر، كالهالة حول البدر في ليلة القدر، ووقف في موقف العرض، وباس الأرض، وفتح اللسان، بمحامد مولانا السلطان، وقال القاضي:
سجاياك من طيب أعراقها
تباري النجوم بإشراقها
وما للعفاة غياث سواك
كأنك ضامن أرزاقها
قال حضرة مولانا السلطان: الحمد لله الذي فضلنا على عباده، وخصصنا بتشبث أهل وداده، فجاء له جبر الخاطر من سلطان السلاطين، ما لم يؤت أحد من العالمين. (بعده)
ثم جاء قضاة الإسلام، والعلماء العظام، الذين هم خلاصة أمة محمد، وأساس بناء دين أحمد، فحركوا ألسنتهم بالثناء، وفتحوا الأيادي بالدعاء، ثم فتح اللسان، بثناء مولانا السلطان، قاضي القضاة الشافعي الذي هو كان صاحب الرفعة، وخطيب القلعة، وقال شعرا:
ففي كل عضو في كل صبابة
إليكم وشكر جاذب لزمامي
أصلي فأشدو حين أتلو بشكركم
وأطرب في المحراب وهو أمامي
فباسوا الأرض، ثم حضرة مولانا السلطان كان كالصبح الصادق على وجوه الوجوه متبسما، وهم برياح أنفاسه الشريفة متنسما. (بعده)
ثم جاء المخدوم المعظم، زين الوزراء في العالم، أسعد أولاد عثمان ذي النورين، وناظر جيش سلطان الحرمين الشريفين، آصف العهد والزمان، أشرف ذرية عثمان بن عفان، المختص بعناية الملك القاهر، القاضي عبد القادر؛ باس الأرض، وأمر
15
بخطيب اللسان، بثناء مولانا السلطان، وقال: نظم:
وإنك للمولى الذي بك أقتدي
وإنك للنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي بلغتني كل رتبة
مشيت إليها فوق أعناق حسدي
فامتازه بجبر الخاطر بين الأعيان، حضرة مولانا السلطان. (بعده)
ثم جاء أعظم الوزراء والمباشرين، مفخر الأمناء والمعتمدين، مقرب سلطان السلاطين، صاحب العز والاختصاص، القاضي ناظر الخاص، وباس الأرض بالصدق والإخلاص، وقال: نظم:
اشكر مآثره ولسن مآثرا
لكنهن قلائد الأعناق
والثم أنامله ولسن أناملا
لكنهن مفاتح الأرزاق
فامتاز حضرة السلطان القاضي ناظر الخاص، من بين الخواص. (بعده)
ثم جاءت العساكر المنصورة حزبا بعد حزب، وفوجا بعد فوج، كلجي البحر في الموج، بعد أقطار الأمطار، وأوراق الأشجار، من أمراء الألوف الأربعينيات، والخاصكيات والعشروات، الذين عجز بنان البيان عن إظهار شمائلهم، ولا يقدر لسان الإنسان على بيان فضائلهم، جاءوا بأدعية وافرة، وأثنية متكاثرة، فجبر خاطرهم، بقدر مراتبهم.
وأيضا: ثم بعد العشاء أمر حضرة مولانا السلطان أولاد الرقاع، بالسماع؛ فلبسوا خرقة واسعة الأكمام والذيل، ورقصوا إلى نصف الليل، لما وصل غلغلة
16
الرقص بمسامع الملك، فرقص معهم سكان صوامع الفلك، ولبس شيخ الفلك
17
بزيهم خرقة المرقع الأزرق، وتشدد بشد الأحمر من الشفق، ورقص معهم، ودار حولهم، حتى طلع النهار، بأمر فاطر الليل والنهار.
لما فرغوا من السماع، قرب طلوع الشمس والارتفاع، اجتمعت المشايخ والعلماء والفقهاء، والزهاد والعباد والفقراء، وقالوا: اللهم أيد دولة هذا السلطان الأعظم، وشيد أركان معدلة الخاقان المعظم، واجعل راياته مرفوعة فوق خيمة الفلك الزرقاء، وأحكامه نافذة إلى أصقاع بقاع الغبراء، بحق محمد عين أعيان الإنسان، وآله وصحبه أصحاب الشهود والعيان. (5) من المجلس الخامس
طلعت نهار الثلاثاء ثاني عشر شهر ربيع الأول وقعدوا في صفة الدهيشة خمسا وعشرين درجة، ووقع فيه المسائل والألغاز.
اللغز الأول:
ما اسم شيء حسن شكله
تلقاه عند الناس مخزونا
تراه معدودا فإن زدته
واوا ونونا صار «موزونا»
قال: هو الموز.
اللغز الثاني:
ما اسم شيء طاب أكلا
ناعم في الحلق لين
كيف يخفى عنك هذا
وهو في التصحيف «بين»
قال: هو التين.
18 (6) من المجلس السادس
طلعت يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الأول، وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وخسف القمر، ووقع فيه مسائل:
السؤال الأول:
قال مولانا السلطان: ما الحكمة في الكسوف والخسوف؟
الجواب:
قلت: هما آيتان من آيات الله، كما ورد في السنة.
الجواب الثاني:
قيل: سبب الخسوف حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، والقمر مظلم، فبقي القمر بلونه الأصلي أسود.
قلت: هذا مخالف لقوله تعالى:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا .
السؤال الثاني:
قال: ما الفرق بين الضوء والنور؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: الضوء هو النور الغالب القاهر المحرق بخلاف النور، فإنه يطلق على غير المحسوس أيضا كنور القلب ونور الإيمان، دون الضياء.
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: لأي حكمة وقت الخسوف يضربون الطاسات؟
الجواب:
قلت: لأن المنجمين حكموا بخسوف القمر في ليلة معينة عند هلاكو خان، وكان الخان منتظرا لتفرجه، ولما انخسف القمر كان هلاكو خان نائما، فعمل المنجمون حيلة لأجل استنباهه ودقوا الكاسات وقالوا: دق الكاسات عند الخسوف واجب. ثم بعد ذلك صار هذا بدعة في الدنيا. (7) من المجلس التاسع
طلعت يوم السبت سلخ ربيع الأول، وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق، ووقع فيه المسائل والألغاز:
اللغز الأول:
أتعرف طائرا في الأرض يلفى
وفي جو السماء مع الجواري
به عجب لأن الرأس حوت
وآخره ترى ذنب الحمار؟
قال: هو النسر.
اللغز الثاني:
لي جمع أصحاب أعشقهم وأهواهم
ولا أشتهي قط أنظرهم ولا راهم
أقسم بما خلقهم ثم سواهم
ما طاب لي عيش في الدنيا برؤياهم
قال: هو الأسنان.
اللغز الثالث:
وذات ذؤابة تنجر طولا
تراها في المجيء وفي الذهاب
وما لبست مدى الأيام ثوبا
وتكسو الناس أنواع الثياب؟
قال: هو الإبرة.
درة
قرأ مولانا السلطان لروح صاحب العقائق سورة الفاتحة ثلاث مرات.
خاتمة
قال إسكندر: أفضل الملوك من بقي بالعدل ذكره، واستملى من بعده فضائله.
والحمد لله والمنة أن هاتين الصفتين موجودتان في السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، حاكم بسيط الأرض، بالطول والعرض، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، عزيز مصر، الملك الأشرف أبي النصر، قانصوه الغوري، اللهم اجعل شجرة رجائه مثمرة المراد، وأظهر صورة عدله في مرايا قلوب العباد.
الروضة السابعة في مجالس ربيع الآخر
(1) من المجلس الأول
طلعت يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية خمسا وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي، ووقع فيه المسائل:
السؤال الرابع:
قال السلطان بيقرا
1
نصره الله: لا شك أن الملائكة معصومون، وكمالاتهم بالفعل، ولا يزيد في أعمالهم شيء من الكمال، فما فائدة بعثة الرسل فيهم؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: معنى رسل الملائكة أنهم جاءوا بالرسالة إلى أنبيائنا لا بمعنى أن جبرئيل صاحب أمة ويكمل النواقص، فالرسالة لفظ مشترك بين الملك والإنس.
جوهرة
وقع البحث في شب جراغ.
2
قال مولانا السلطان: ما هو موجود في خزينتنا.
قلت: فعلى هذا شب جراغ ليس بموجود في الدنيا؛ لأن الجواهر النفيسة العجيبة ينسبونها إلى خزانة مصر، وحب ملوك مصر الجواهر النفيسة مشهور. (2) من المجلس الثاني
طلعت يوم الخميس خامس ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية ثمانيا وعشرين درجة، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق، ووقع فيه المسائل إلخ.
درة
قال حضرة مولانا السلطان في آخر المجلس: إنه جاء في زمن السلطان السعيد الشهيد المرحوم قايتباي رحمه الله ستة عشر مراكب من الروم وظهرت على شاطئ البحر في طرابلس قريب العصر، وجاء من جانب مصر الأمير الكبير مع عسكر كثير لأجل المقابلة والمقاتلة، قلت لبعض أصحابي: تعالوا حتى نقرأ الفاتحة لدفعهم، فقرأنا الفاتحة بعد العصر فغرق الجميع بأمر المقدر في تلك الليلة، فلما طلع الصبح بعثنا المراكب الصغار مع الرجال لأجل ضرب رقاب الذين تخلصوا بالأخشاب، وفتحنا بسورة الفاتحة هذا الفتح المبين، وصرنا من المقاتلة آمنين، والحمد لله رب العالمين. (3) من المجلس الخامس
طلعت يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي ووقع فيه المسائل.
السؤال الأول:
سأل مولانا السلطان عن الشطرنج من قاضي قضاة الحنفية.
الجواب:
قال القاضي: عند الشافعية مباح بثلاثة شروط؛ الأول: ألا يكون بالرهن. والثاني: ألا تفوت الصلاة بسببه. والثالث: ألا يزيد على ثلاث لعبات.
حكاية
قال مولانا السلطان في آخر المجلس: إن أمير تمور كوركان كان مشتاقا لصحبة السلطان أحمد البغدادي؛ فدخل السلطان أحمد بزي القلندري
3
على تمور، ولعب معه الشطرنج فأخرج من عبه ثلاث قطع من الياقوت البهرماني وقال: إنا وصلنا إلى سرنديب، وأعطانا سلطان سرنديب أرضا بطول ذراعين وقال: هذا ميراث أبيكم آدم ؛ أحفروا ومهما يطلع منه خذوه. وهذه اليواقيت منه، وقدم واحدا منها إلى تمور، فأمر تمور بإحضار ثلاث قطع مثلها، فلعبا بالشرط، فغلب السلطان أحمد على تيمور مرتين، فأخذ منه ياقوتين بحكم الشرط، وخلى مكتوبا تحت بساط أمير تيمور أن السلطان أحمد وصل إلى خدمتك وخرج، لما رأى تيمور هذا الورق وقع في ندامة عظيمة.
درة
في آخر المجلس قال مولانا السلطان: فضائل خواجه عبد القادر صاحب فن الموسيقى.
منها: أنه أسر في عسكر أمير تمور عند الجمالين، فعمل جلاجل الجمل بحيث تخرج صوتا ملائما، فلما عبر تمور إليهم بالليل سمع صدى هذه الجلاجل فأخرج عبد القادر من بينهم فرباه تربية عظيمة فوق الحد والوصف. (4) من المجلس السادس
طلعت يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي ووقع فيه المسائل إلخ.
درة
قال مولانا السلطان: ما في الدنيا أحسن من الأدب، الأدب جوهرة والعقل معدنها، ولهذا؛ السلطان محمود في وقت لعب الشطرنج مع إياس الخاص
4
كان يقول له: يا سيدي العب، ويا أمير العب. قال إياس: يا مولانا السلطان، ما أنا مستحق لهذا التعظيم! فقال له السلطان: قصدي مداومة لساني على الكلام المليح، والاجتناب عن
5
الكلام القبيح. (5) من المجلس السابع
طلعت يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر، وقعدوا أربعين درجة في الأشرفية، وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي ووقع فيه المسائل:
السؤال الثاني:
إذا دخل أربعون نفسا على مولانا السلطان، والذي دخل أولا أخذ دينارا، والذي دخل ثانيا أخذ دينارين، والذي دخل ثالثا أخذ ثلاثة دنانير، إلى الأربعين، فالمجموع كم يكون عدده؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: المجموع سبعمائة وثمانون. (6) من المجلس العاشر
طلعت يوم الثلاثاء ثالث عشرين شهر ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، والإمام كان سيدي علي الأخميمي، وطلع الشيخ عباس مع مملوكين؛ واحد منهما حفظ عبادات مذهب أبي حنيفة
6
رحمه الله، والآخر حفظ القرآن، ووقع في تلك الليلة مسائل وألغاز:
السؤال الثاني:
سأل مولانا السلطان من الشيخ عباس
7
لأجل مناسبة بحث العبادات: ما تقول في صلاة العريان: السجود والركوع واجب عليه أو يكفيه الإيماء؟
الجواب:
قال الشيخ عباس: الواجب عليه أن يركع ويسجد دون الإيماء.
الرد:
قال له مولانا السلطان: أخطأت؛ لأن علماء الحنفية صرحوا بالإيماء؛ لأن ستر العورة شرط، وانتفاء الشرط مستلزم لانتفاء المشروط.
السؤال الثالث:
قال مولانا السلطان له: أي صورة تصح الصلاة بثوب نجس وبدونه لا تصح؟
الجواب:
قال الشيخ عباس: المصلي إذا كان عريانا وما معه إلا ثوب فيه نجاسة.
قال مولانا السلطان: هذا يؤيد كلامنا؛ لأن المصلي لا تصح صلاته عريانا وإن كان الثوب نجسا.
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: إذا كان بينهم قميص واحد من أولى بلبسه؟
الجواب:
يلبس الإمام ويتقدم على الكل والباقي في صف واحد.
السؤال:
إذا كان بينهم قميص واحد فصلاتهم بالفرد أولى أو بالجماعة؟
الجواب:
الأولى ترك الجماعة إذا كانوا قادرين على أداء الصلاة فيلبس هذا الثوب كل واحد منهم ويصلي به. (7) من المجلس الحادي عشر
طلعت يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الآخر وقعدوا في الأشرفية ثمانيا وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي، وجاء ابن عفريت مع المماليك الصغار وعرضهم على المقام الشريف ثم أنشد موشح قاضي القضاة الحنفي في العزال الذي كان مطلعه:
يا بلائي بأعين الحبشي
وقال مولانا السلطان الموشح في جوابه:
ما بلائي من أعين الحبشي
بل من الجركسي
وذكر ابن عفريت: أن عند قاضي القضاة جارية حبشية فأنشد القاضي هذه القصيدة لأجلها، ووقع فيه المسائل إلخ.
الخاتمة
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : السلطان ظل الله في الأرض، فمن نصحه اهتدى، ومن غشه ضل. (8) من المجلس الثاني عشر
طلعت يوم السبت ثامن عشرين ربيع الآخر، قعدوا في وسط الدهيشة الأشرفية أربعين درجة، وكان في خدمته الشريفة الشيخان الكاملان الفاضلان العالمان العاملان شمس الضحى، بدر الدجى، اللذان يرتجي البحر أن يكون قطرة على خضرة حديقة جودهما، ويفتخر الفلك في هذا الزمان بوجودهما، يعني حضرة محمود الخصال، مسعود الإقبال، مفتح أبواب الخير والبر، القاضي كاتب السر ، لا زال عاقبته كاسمه محمودا، وظله إلى الأبد ممدودا، والثاني أسعد أولاد عثمان ذي النورين، وناظر جيش سلطان الحرمين الشريفين، ملجأ أعاظم الأكابر، القاضي عبد القادر، لا زال أقدام أقلامه على هامة الأنام، إلى آخر الشهور والأيام، وكان الإمام فيها الشيخ محب الدين الحلبي، وصنف باسمه الشريف كتابا في وصف مدرسته ومئذنته الشريفة، وهو من هذه الحيثية كتاب شريف؛ لأن فيه أوصاف المقام الشريف، ثم قرءوا وأنشدوا موشح مولانا السلطان في نغمة العشاق، وموشح قاضي القضاة الحنفي في العزال.
درة
قال حضرة مولانا السلطان: إنا مدحنا الترك، وقد مدحهم جميع شعراء العرب والعجم والترك والديلم، وما مدح أحد من الشعراء قديما وحديثا الحبوش؛ لأنهم ليسوا في درجة المدح.
8
نكتة
قلت: إن الله تعالى مدح الحور بالبياض في قوله تعالى:
كأنهن الياقوت والمرجان .
ووقع في تلك الليلة ثلاثة ألغاز إلخ:
المناسب لهذا المجلس
قول إسكندر: إنه لا يعرف أربع إلا عند أربع:
لا يعرف الحلم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الصديق إلا عند الحاجة، ولا العالم إلا عند البحث والتصنيف.
الخاتمة
قال أنوشروان: حسن النية من العبادة، وحسن الجلسة من الرياسة، وحسن الاستماع من الحلم، وحسن البحث والجواب من العلم.
الحمد لله والمنة، هذه الصفات موجودة في السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، عزيز مصر، الملك الأشرف أبي النصر، قانصوه الغوري.
اللهم خلد دولته إلى يوم القيام، وأظهر معدلته على الخواص والعوام، بالنبي عليه الصلاة والسلام، آمين.
الروضة الثامنة في مجالس جمادى الأولى
(1) من المجلس الأول
طلعت يوم الثلاثاء ثاني شهر جمادى الأولى وقعدوا ثلاثين درجة في الأشرفية، والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي، وعرض ابن خواص المؤذن كتابين، الأول منهما المختار في مذهب أبي حنيفة، وابن مالك في النحو.
قال حضرة مولانا السلطان: يا خواص أخذت مذهبين: ابنك حنفي وأنت شافعي؛ يا خواص أنت طماع.
ووقع في تلك الليلة مسائل إلخ.
لطيفة
قال مولانا السلطان: إن ابن عثمان أمر
1
لناصر الدين
2
أن يشوي له وزا؛ فشوى وأكل منه رجلا، فسأل السلطان عن رجل الوز، فقال: ما يكون للوز إلا رجل واحد! فسكت السلطان، فركب السلطان وركب معه الشيخ فإذا طائفة من الوز واقفة على رجل واحد، فقال ناصر الدين للسلطان: انظر كل واحد منها برجل واحد! فدق السلطان طبل بازه
3
فمدوا أرجلهم، قال السلطان لناصر الدين: أكلت الرجل وكذبت.
قال أيضا ناصر الدين: يا فلان، لإيش ما دقيت طبل بازك ذلك الوقت حتى يمد الوز المشوي رجله الملتم.
حكاية
لما خطبوا بنت ناصر الدين فقال للمخاطبين: لا آخذ منكم لأجل مهرها أقل من خمسين دينارا. فقالوا له: هذا كثير! فقال: كيف كثير وبنتي حبلى؟! فقالوا: يا ناصر الدين، كلامك رديء وأتلفت المجلس. فقال لهم: كلامي في غاية الحسن؛ لأن الأمس باعوا فرسا بعشرة دنانير ذهبا فلما ظهر عليها الحمل زادوا في الثمن أشرفيين، فبنتي أقل من الفرس؟! فضحكوا من كلامه فوزنوا خمسين دينارا.
خاتمة
قال بعض الحكماء: الهزل في الكلام كالملح في الطعام. (2) من المجلس الثاني
طلعت يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى وقعدوا في الأشرفية خمسا وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي، ووقع فيه لغز ومسائل إلخ.
محمدة
مدح جماعة من الأفاضل خبز مدرسة المقام الشريف بالخبز المسلم وفيه ثلاثة وجوه:
4
الأول:
أن قلبه كقلب المسلم أبيض.
والثاني:
أن هذا الخبز خبز أعظم المسلمين في هذا الزمان؛ لأن أشرف الخلق الملك، وأشرف ملوك الأرض وأعظمهم سلطان الحرمين الشريفين، وسلطان مصر، ويمكن أن يراد به مثل:
أنا أبو النجم وشعري شعري
5
والثالث:
أن هذا الخبز يفرق على المسلمين الصالحين القائمين بوظائفهم.
ثم حضرة مولانا السلطان بعد أن ذاق الخبز أمر بزيادة الملح حتى يأكله الفقراء مع السعتر بالهين.
قلت: يا أمير المؤمنين، ويا خليفة المسلمين، ويا أفضل ملوك الدنيا، ويا سلطان معمورة الغبراء، جاء في خاطري حكاية إن كان الدستور فنحكي.
6
فقال لي: احك. قلت: عمل جهانشاه
7
التبريزي مدرسة بالخبز الأسود ، وفحمية بلا لحم، أخذ فقير زبدية من هذا الطعام والخبز وجاء به قدام السلطان فقال للسلطان: كل. ما قدر السلطان أن يأكل منه اللقيمة، فقال الفقير: خف من يوم يقول الله تعالى لك: كل عشرة مثل هذه الزبدية. قال السلطان: من شأن إيش؟! قال: لأجل قوله تعالى:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
مع أنك ما تقدر أن تأكل لقيمة، فارتعد بدن السلطان من هذا البيان، فأمر بسماط المدرسة مثل سماط العادة السلطانية، وزاد فيه كثيرا من الأطعمة والحلاوات، ومن جاء بعده من السلاطين اقتدوا به وعملوا في مدارسهم سماطات عظيمة. يا أمير المؤمنين، الخبز والسعتر من عادة الفقراء، فلا بد إذا وصلوا إلى السماط السلطاني أن يغتنموا أنواع الأطعمة. فلما سمع مولانا السلطان هذه الحكاية انشرح صدره وقال: إن شاء الله تعالى أعمل في مدرستي مثل هذا.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: ملك الهند ذهب سمعه وصار أطروشا، فاشتد حزنه لما دخل عليه أهل مملكته لتعزيته عن سمعه، قال: حزني ما هو من فوت هذه الجارحة، بل حزني بسبب أني ما أقدر على سماع استغاثة المظلوم، ولكن إذا ذهب سمعي ما ذهب بصري، فأمرت لكل مظلوم أن يلبس الأحمر حتى إذا رأيته عرفت أنه مظلوم فأقربه فأنصفه فينتصف. (3) من المجلس الرابع
طلعت يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى وقعدوا في الأشرفية ثمانيا وعشرين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي ووقع فيه مسائل.
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: زكاة أربعين شاة واحدة، فما زكاة ثمانين شاة؟
الجواب:
قيل: شاتان. فضحك السلطان وقال: هذه مسألة تعبدية لا قياسية حتى يبلغ مائة وإحدى وعشرين فشاتان.
المناسب لهذا المجلس
قيل: وقف ناصر الدين
8
على باب مسجد والمؤذن ينادي: حي على الصلاة، والناس يسارعون من كل مكان، فقال: والله لو قال: حي على الزكاة أو على الصدقة ما جاءه من كل عشرة واحد.
الخاتمة
سئل أنوشروان، أنت شيخ وتجمع المال؟! فقال: الإنسان إذا مات ويخلف لأعدائه، خير من أن يحتاج في حياته إلى أصدقائه . (4) المجلس الخامس
طلعت يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى وقعدوا ستة عشر درجة في الأشرفية، والإمام كان الشيخ كمال الدين البرقوقي.
قال حضرة مولانا السلطان: إيش الخبر في المدينة؟ قال المؤذنون يدعو لكم جميع من في البلد.
قال مولانا السلطان: وما سبب الدعاء؟ فخافوا إظهار سببه لئلا يغتاظ السلطان.
قال سيدي إسماعيل: لأجل رواح الحج. قال: السلطان كل سنة يروح الحج.
ثم ذكر مولانا السلطان: أريد أن أبعث هذه المراكب مع العسكر إلى مكة وأبني قلعة في جدة وقلعة في ينبع.
قلت: أهل البلد يدعون لمولانا السلطان لأجل هذا.
ثم سأل مولانا السلطان: هل بطل الحج في الزمان القديم أم لا؟
فقيل: مذكور في تاريخ الملك الظاهر بيبرس أن مدة عشر سنين بعد قتل خليفة بغداد بطل الحج، ومهما بعث الملك الظاهر القفل يأخذه العرب، بعد هذا بعث ألف مملوك مع الكسوة، وفي هذه السنة أيضا بعث هلاكوخان كسوة مكة مع عشرة آلاف طاطر
9
من عسكره، فألبسوا كسوة الملك الظاهر تحت وكسوة هلاكو فوق، فاتفق الططار مع أمير مكة أن ينهبوا قافلة الحج المصري؛ لما عرف أمير المحمل اتفاقهم راح نصف الليل وقتل أمير الطاطر في خيمته، فركب أمير مكة مع بقيتهم وفعل بالمسلمين ما فعل، ثم بعث أمير المحمل إلى أمير مكة مكتوبا مضمونه: العجب أنتم تساعدون الكفار! ثم قال أمير مكة: رح فهات سلطانك حتى تنتقم منا بشرط أن يركب عسكره الخيل البلق، ونهب القفل، ثم جاء أمير المحمل وذكر القصة التي وقعت من أولها إلى آخرها عند الملك الظاهر، فأمر بجمع الخيول البلق من البلاد فوجدوا سبعة آلاف فركب عليهم سبعة آلاف من الفرسان الشجعان، وبعث في السنة الثانية إلى الحج، ففي عاشر شهر ذي الحجة جاء الخبر أن هلاكوخان بعث ثلاثين ألفا إلى مكة في هذه السنة، فركب الملك الظاهر بنفسه مع هجين ووصل إلى مكة بعشرين يوما، ولما التقى الجمعان وقع بينهما قتال عظيم وركب مع الطاطر نائب مكة، وكان في الآخر الظفر مع الملك الظاهر، وقتل أمير مكة ونهب عسكر الططر، فرأى الملك الظاهر شيخا شريفا يبارز مع هؤلاء، فسأل الملك الظاهر هذا الشريف: من أنت؟ فقال: أنا رجل شريف ظهر عندي عدم حقية أمير مكة لأجل مساعدة الكفار فأغزيت فيهم. فأعجب الملك الظاهر كلامه وألبسه خلعة النيابة، وكان اسمه الشريف عجلان، وهو جد الشرفاء الآن.
10
المناسب لهذا المجلس
أنه قال كسرى: إذا أراد الملك أن يستخدم عاملا في شيء فالواجب أن يحقق أخلاقه وصبره وتدبيره لنفسه ومنزله، فإن كان حسن الخلق شديد السياسة صابرا على المشاق فليستخدمه، وإن كان ضد ذلك فليحذر منه.
الخاتمة
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. (5) من المجلس السابع
طلعت يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية خمسا وعشرين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي، ووقع فيه لغزان ومسائل إلخ:
المناسب لهذا المجلس
أنه سئل إسكندر: أي سلطان أطهر السلاطين؟ فقال: الذي أمن في ظل عدله الطاهرون، وخاف منه المذنبون.
الخاتمة
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : إذا دخل أحد في بلد ليس فيها سلطان فلا تقعدوا فيه جزافا.
قال أم أبو الحسن:
11
لكل عضو موكل به ملك.
قال مولانا السلطان: أي ملك موكل بالبطن؟
حادثة
جاء خبر ضعف الشيخ جلال الدين السيوطي، فقرأ مولانا السلطان سورة الفاتحة ثلاث مرات لأجله، وتوفي في الجمعة. (6) من المجلس الثامن
طلعت يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية خمسا وخمسين درجة، والإمام كان الشيخ عبد الرزاق، وحضرة مولانا السلطان مدح السعتر في تلك الليلة كثيرا ووقع فيه مسائل إلخ.
المناسب لهذا المجلس
قيل: لما قرب موت إسكندر كتب إلى أمه من بلاد الططر: أما بعد؛ يا أمي، اتركي سنة النساء من البكاء والجزع، كما تركت سنة الرجال من القبائح والبدع. والمقصود من هذا الكتاب ألا تحزني ولا تبكي لأجلي ولا تخالفي قولي، وقد علمت أن الموضع الذي أروح إليه خير من الموضع الذي أنا فيه، يا أمي اطهري واستعدي لاتباعي ؛ فقد انقطع بالموت من الدنيا ذكري بالرأي والتدبير، فتحيي ذكري بأن تصبري وترضي بالتقدير، فلا تعملي بي إلا ما أحبه؛ لأن علامة المحب أن يعمل بما يحب حبيبه، ويدع ما يكرهه. يا أمي، بعض الناس يدلك إلى المصيبة؛ ليعرف طاعتك من المعصية، ويجرب قبولك قولي من الخلاف، يا أمي، في وقت هذه البلايا كان فكري مشغولا بأحوال الرعايا، واعلمي أن الخلائق تحت الكون والفساد من الابتداء إلى الانتهاء، والإنسان بعد انتهائه لا بد أن يرجع إلى مقامه الأصلي، فاعتبري يا أم بمن مضى من القرون الماضية والأمم السالفة، فانظري إلى أبنيتهم العالية، ومساكنهم الخالية، واعلمي يا أمي أن ابنك ما رضي أن يكون مثل الملوك الصغار، فالواجب أن تكون أعمالك مثل أمهات الملوك الكبار، وليكن صبرك بقدر قدرك، واعلمي أن كل شيء أوله صغير ثم يكبر، إلا المصيبة فإن أولها كبير ثم تصغر، يا أم، ارضي بالتقدير، وخليني للعليم القدير.
الخاتمة
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : الموت هدية المؤمن. (7) من المجلس التاسع
طلعت يوم السبت عشرين جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية أربعين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين الحلبي.
قال صاحب العقائق: إن هارون الرشيد جمع الحكماء، وطلب منهم مدح قلة الكلام.
قال الأول: الكلام جوهر إذا تكلمت به بقي مثل الخرز.
وقال الآخر: الكلام سيف إذا تكلمت به خليته في يد الغريم.
قال الآخر: الكلام فرس فإذا تكلمته أركبت عليه غيرك.
درة
قال مولانا السلطان: كثرة الكلام مطلقا ما هو مذموم؛ لأن كثرة بحث العلم وكثرة النصح محمودة.
ثم قال: يا رأس أسود كثرة الكلام ما هو مليح؟ قلت له: اسمع كلام حضرة مولانا السلطان فقال: السلطان ما قال إلا لأجلكم لا لأجلي،
12
قال مولانا السلطان: ما قلت يا شيخ أحمد إلا لأجلك.
المناسب لهذا المجلس
ثلاث كلمات من الملوك الثلاثة:
قال كسرى:
ما ندمت أبدا من كلام ما تكلمته، وندمت من الكلام الذي تكلمت به.
قال قيصر الروم:
الكلام الذي تكلمت به خرج من تحت حكمي وتصرفي، والذي ما تكلمت به هو تحت تصرفي.
قال خاقان الصين:
كثرة الكلام لا يخلو من الغلط والأسقام.
الخاتمة
قيل: جمع ملك الهند أربعين حملا من الكتب فأمر بتلخيصه؛ لخصوه بأربع كلمات:
الأولى:
دلالة السلاطين بالعدالة.
الثانية:
وصية الرعايا بالإطاعة.
الثالثة:
التكلم بقدر الحاجة.
الرابعة:
الأكل بقدر قوة البدن والطاقة. (8) من المجلس العاشر
طلعت يوم الثلاثاء ثالث عشرين جمادى الأولى وقعدوا في الأشرفية اثنتين وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ كمال الدين البرقوقي، ووقع فيها الألغاز ومنام الشيخ شهاب الدين المحلي:
المنام
رأى الشيخ شهاب الدين المحلي في المنام أنه جاءت جماعة لابسين الحديد بهيئة التركمان وقصدوا ملك مصر، ثم جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقال: أنا ضامن سلطان مصر، ارجعوا. وقال لي: رح وكلم السلطان وقل له ليذكر ليالي العادة في الدهيشة مع الشيخ تمرتاش والشيخ صانتباي والشيخ شاهين.
بعد عرض المنام قال حضرة مولانا السلطان: الحديد هو القوة بدليل أني يوما من الأيام رحت إلى بيت الأمير يشبك الدوادار ورأيت فيها أميرا وقال لي: يا أمير قانصوه، رأيتك البارحة في المنام وأنت في طوق كبير من الحديد ثم في النوم عرضت هذه الواقعة على الأمير يشبك الدوادار فقال لي في الجواب: الحديد هو القوة يحصل له دولة عظيمة وقوة كبيرة بدليل:
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
لا بد أن تحصل لك السلطنة، وهذه الحكاية كانت قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: دخل شخص عند السلطان شاه رخ
13
وقال: رأيت البارحة في أذنك درا بقدر البطيخ الصيفي! فقال شاه رخ: استحي من هذا الكلام؛ هل يوجد الدر أولا بقدر البطيخ في الدنيا، وهل يسع في أذن شخص؟
14
قال الفقير في جوابه: احمد لله واشكر له؛ لو رأيته بقدر قبة الصخرة في أذنك إيش عملت به؟!
الخاتمة
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : نوم الأنبياء على ظهورهم، ونوم المؤمنين على أيمانهم، ونوم الكفار والمنافقين على شمائلهم، ونوم أهل النار على وجوههم . (9) المجلس الحادي عشر
طلعت يوم الخميس خامس عشرين جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية اثنتين وثلاثين درجة، وكان الإمام الشيخ شمس الدين السمديسي، ووقع فيه حكايات ومسائل، وكمل شاه نامه في هذه
15
الأيام.
قلت: من عجائب دولة مولانا السلطان إتمام هذا الكتاب باسمه الشريف بالتركي.
حكاية
قال مولانا السلطان: قصد السلطان محمود بقاء اسمه إلى يوم القيامة، قيل له: ابن العمارات العالية. فقال: تخرب بعد ثلاثمائة أو أربعمائة سنة. فاتفق رأيهم على تصنيفات الكتب باسم السلطان محمود، فأمروا بنظم كتاب شاه نامه وواعدوا الفردوسي بإزاء كل بيت مثقالا من الذهب؛ فلما كمل قال وزيره: يكفي لشاعر في كل بيت مثقال من الفضة، وكان عدد أبياته ستين ألفا، فبعث السلطان ستين ألف مثقال فضة إلى الفردوسي، وكان في الحمام فأعطى عشرين ألفا أجرة الحمامي، وبعشرين ألفا شرب فقاعا، وعشرين ألفا أعطى لمن جاء بها، فلما سمع السلطان غضب عليه وأمر بقتله بعذاب أليم، واختفى الفردوسي؛ فأنشد هجو السلطان وراح نصف الليل عند خزين دار،
16
وكان صاحبه وطلب كتاب الشاهنامة ليطالعه، فأخذ الكتاب وكتب فيه هجو السلطان محمود، وهرب منه، وكان السلطان في الصيد يوما من الأيام فطلب كتاب شاهنامة، فلما فتح رأى هجوه فيه فانغاظ غيظا عظيما وأمر بقتل الوزير، وبعث ستين ألف مثقال ذهبا إلى مدينة الفردوسي؛ لما وصلت هذه الفلوس إلى باب مدينة طوس خرج تابوت الفردوسي من باب آخر، فعرضوا هذا الذهب على بنته ما قبلته؛ فأمر السلطان بصرف الفلوس على العمارة لأجل روح الفردوسي فعملوا قنطرة عظيمة وهي الآن موجودة.
17
حكاية
قال مولانا السلطان: اشتكوا عند السلطان محمود أن إياسا يروح كل يوم إلى بيت خلوة وفي هذا البيت جوار بيض، فجاء السلطان إلى بيت إياس ودار جميع بيوته ثم قصد الدخول في البيت المعهد، فامتنع إياس فبالغ السلطان فقال: أنا أستحي أن تدخلوا إلى هذا البيت. قال السلطان: لا بد أن أدخل. قال إياس: إذا كان كذلك فادخل أنت وحدك؛ ففتح باب المخزن ودخل مع السلطان فرأى خرقة مقطعة في البيت، قال السلطان: ما هذا؟ فقال: هذه الخرقة كانت لباسي قبل خدمتكم آجي كل يوم وأنظر إليها حتى لا أنسى فقري أولا، وأعرف قدر خدمتك ونعمتك ثانيا.
حكاية
قال مولانا السلطان: طلب السلطان محمود المماليك فجابوهم فقال إياس الخاص: يا سلطان، اشترني لله تعالى، وعندي معرفة بالأحجار والدواب والإنسان، فاشتراه وخلاه في الطبقة، فوقع عند السلطان لؤلؤ كبير كثير الثمن فوقع الاختلاف في ثمنه، فقال السلطان: هاتوا إياسا؛ فلما نظر إياس إلى اللؤلؤ قال: في جوفه دود. فأمر السلطان بكسر اللؤلؤ، الأمراء امتنعوا، وأمر إياسا فأخذه وكسره فخرج الدود من جوفه، ثم قال الأمراء حسدا عليه: يا قليل العقل، بأي سبب كسرت هذا الجوهر؟ فقال: أنا ما كسرت الجوهر؛ بل كسرت الحجر، وأنتم كسرتم الجوهر الحقيقي؛ وهو كلام الملك. فتعجب محمود من قوله وزاد في رزقه كل يوم رغيفين، ثم جاء فرس هدية، قال السلطان: هاتوا إياسا لينظر الفرس أيضا. لما نظر إليه قال: هذا الفرس شرب لبن البقر، فسألوا صاحبه قال: نعم، ماتت أمه وهو صغير، فربيناه بلبن البقر. قال الملك: يا إياس، بأي شيء عرفته؟! قال: بأن رواحه مثل رواح البقر. فزاد في رزقه كل يوم رغيفين، ثم طلبه بعد هذا وقال: يا إياس أنت قلت: أنا أعرف الإنسان، فاكشف حالي. قال: أخاف أن أقول. قال: لا تخف. قال: العفو يا مولانا السلطان، ما أنت إلا ابن الخباز لا ابن سبكتكين! فانغاظ السلطان، فراح عند أمه وسألها: ابن من؟ وقال: إن صدقت خلصت من يدي وإلا أقتلك في الساعة. قالت: أنا كنت زوجة بسبكتكين وكان عقيما، وكان يريد ألا يرث ملكه أحد من غير بيته، وعملت حيلة وقلت: أنا حامل. بعد تسعة أشهر أخذت ابنا من خباز وقلت: ولدته. ثم قال الملك لإياس: بأي شيء عرفت أني ابن خباز؟! قال بزيادة الخبز في وظيفتي. فرباه تربية عظيمة فوق الحد والوصف.
المناسب لهذا المجلس
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : شرف الشخص بالعلم والأدب ، لا بالأصل والنسب.
الخاتمة
قال عمر بن عبد العزيز: لو كان في الدنيا جوهر أعلى من الكلام، لأنزل من السماء على الأنبياء عليهم السلام. (10) من المجلس الثاني عشر
طلعت يوم السبت سابع عشرين جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية سبعا وثلاثين درجة، ووقع فيه مسائل، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي.
السؤال الثالث:
ما معنى الجركس؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: أصل الجركس هو صاركس؛ جاء ببني غسان في خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وأسلموا وحجوا، وكان سلطانهم في الطواف وقدم فقير عليه فدفعه فوقع ومات الفقير؛ فجاء جماعة الفقير وطلبوا من القاتل الدم فحكم عمر بقتل القاتل أو يرضيهم وما رضوا منه إلا بقتله.
قال السلطان: أمهلوني ثلاثة أيام. وفي ذلك الليل هرب وجاء عند هرقل القيصر وتنصر فبعثهم هرقل إلى بلاد الدشت، والجركس من نسلهم.
18
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: كان رجل طويل الأنف ومدح نفسه عند جماعة بأنه رجل متحمل المكاره، قيل له: لو ما كنت صابرا على المكاره لما قدرت أن تحمل هذا الأنف ستين سنة.
الخاتمة
قال النبي عليه السلام: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن كان سلطانكم عبدا حبشيا. (11) من المجلس الثالث عشر
طلعت يوم الثلاثاء سلخ جمادى الأولى، وقعدوا في الأشرفية ستا وثلاثين درجة، والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي، ووقع فيه مسألة إلخ.
الخاتمة
قال الغزالي: اطلبوا العلم والعمل والمال حتى تجدوا رياسة العام والخاص وعند الله.
الحمد لله والمنة؛ هذه الصفات موجودة في سلطان العالم، خليفة العرب والعجم، يوسف مصر، شمس الخلافة، فلك الدولة والسعادة، أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، الملك الأشرف، عزيز مصر، أبي النصر، قانصوه الغوري عز نصره.
رب كما جعلت أغصان اللسان في بساتين أفواه الإنسان مثمرة لذكر خيره الذي هو خارج عن الوصف؛ اجعل مدى خلافته أكثر من ألف ألف، والملائكة نظارة بمواكبه الشريفة صفا بعد صف.
الواقعة
وفي يوم الخميس ثاني جمادى الآخرة انتقل القاضي شهاب الدين ابن فرفور، من دار الغرور إلى جوار رحمة الرب الغفور، خفف الله حسابه يوم النشور.
الروضة التاسعة في مجالس جمادى الآخرة
(1) من المجلس الأول
طلعت يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة، وقعدوا في الأشرفية خمسا وأربعين درجة، وكان الإمام الشيخ محب الدين الحلبي، ووقع فيه مسائل وحكاية إلخ.
مرحمة
ثم سألني مولانا السلطان فقال: أنت حجيت يا شريف؟ قلت: لا. فقال: ألا تحج؟ قلت: نعم.
ثم قال: أنت دخلت بلاد الأكراد؟ قلت: خفت أن أدخل.
قال مولانا السلطان: لإيش؟ قلت: دخل شريف إلى بلادهم فعززوه وعظموه غاية التعظيم والتكريم، ثم جاءوا وقالوا له: إن بلادنا ليس فيها تربة شريفة شهيد وأنت رجل في غاية الديانة؛ مقصودنا أن نقتلك ونبني على قبرك تربة عظيمة، هل نقتلك بسيف أو بخنجر؟! فلما سمع الشريف هذا الكلام منهم هرب في نصف الليل وترك حوائجه عندهم.
حكاية
قال مولانا السلطان: إن الأكراد يضيفون الضيف غاية الضيافة، وإذا خرج الضيف من بينهم يجيئون قدامه ويقولون له: إن الأكراد يعرونك، فنحن أولى بالتعرية فإنك أكلت خبزنا وملحنا.
قال أيضا: هم بعكس العرب، قيل: أعرابي قصد قتل واحد وجاءت زوجته بغيبة الرجل فأعطته رغيفا، فلما رأى العرب أنه أكل من رغيفه قال: دمك ومالك صار حراما علينا، من ناولك هذا الخبز؟
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: دخل لصوص الكرد إلى بيت رجل فقير (مهما فتشوا ما وجدوا فيه شيئا).
1
قال صاحب البيت: يا فتيان، هذا الذي تطلبونه بالليل قد طلبناه بالنهار فلم نجده.
2
الخاتمة
قيل: حضر أعرابي في سماط الحجاج فجابوا الحلاوة، قصد الأعرابي أكلها، قال الحجاج: من يأكل من هذا نضرب رقبته؛ فامتنع الناس كلهم، وكان الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرة وإلى الحلاوة مرة، وقال: أيها الأمير أوصيك بأولادي خيرا. فمد اليد إلى الحلاوة فأكل منها، وضحك الحجاج حتى استلقى وأمر له بصلة. (2) من المجلس الثاني
طلعت يوم الأربعاء ثامن جمادى الآخرة في الديوان مع حضرة مفتاح أبواب البر، القاضي كاتب السر والقاضي ناظر الجيش وطلبت إجازة السفر.
قال حضرة مولانا السلطان: ما سبب سفرك؟ قلت: قولكم البارحة أولا، وصلة الرحم ثانيا. فقال: البارحة مزحت؛ تروح من البر أو من البحر؟ قلت: أروح من البر، فقال: ما نبعثك إلا من البحر وبلا حج ما نخليك أن تروح. وفي الآخر رضيت بالبحر.
قال مولانا السلطان: الغالب أن الشريف مفلس في هذه الأيام. قلت: وكيف لا؟! أعطيتني وظيفة التصوف في المدرسة وما وصل إلي جديد واحد منه.
3
قال مولانا السلطان: أعطيت الوظيفة نعم. قلت: اسمع يا قاضي عبد القادر وأنا من المائة.
قال السلطان: ما معنى هذا؟ قلت: القاضي يقول لي: أنت
4
خارج عن جماعة المتصوفة.
قال مولانا السلطان: أنت من المائة بدل شهاب الدين الرملي، وزاد عليها من الجوالي بمصر كل يوم نصف فضة.
ثم قرأنا الفاتحة ونزلنا. (3) المجلس الثالث
طلعت يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة وقعدوا ثماني عشرة درجة في الأشرفية، وكان الإمام سيدي علي الأخميمي، ووقع فيه مسائل:
السؤال الأول:
قال الله تعالى في حق يحيى:
سيدا وحصورا .
وقال في حق مالك يوسف:
وألفيا سيدها لدى الباب .
كيف يجوز مدح كافر بمدح نبي؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: وصف الله تعالى مالك يوسف بالسيد؛ لأنه ما التفت إلى شكوى زليخا وحكم بينهما بالحق؛ ولهذا وصفه بالسيد.
السؤال الثاني:
ما حكمة وصف مالك يوسف بوصف العزة في قوله:
امرأت العزيز
مع أنه قال في حق نبيه:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز ؟
الجواب
قال مولانا السلطان: بسبب إعزاز يوسف في قوله:
أكرمي مثواه
وصل إلى درجة العز.
السؤال الثالث:
يوسف الصديق هل وصل إلى درجة السلطنة أم لا؟
الجواب:
قيل: نعم، بدليل
رب قد آتيتني من الملك ، وضعفه ظاهر.
حكاية
قال مولانا السلطان: إن الريان كان سلطانا ذا شوكة وكان له في مصر ثلاثمائة وستون مقعدا ويجلس كل يوم في مقعد؛ وفي سنة كاملة يدور جميع المقاعد، وسافر إلى بلاد الحبشة اثنتي عشرة سنة، وكان يوسف نائبا عنه في مصر، وما تغير حال مملكته قط بغيبته.
قال صاحب العقائق: القميص الذي لبسه يوسف في الجب لما لبسه أبوه ارتد بصيرا، وبعد هذا كل من يلبس هذا القميص لو كان شيخا يصير شابا.
درة
قال مولانا السلطان: يا ليت هذا كان في خزينتنا حتى نلبس به ابن عبد العزيز ليصير شابا. قلت: هو صار شابا بسبب التفات مولانا السلطان.
حكمة
قال مولانا السلطان: ملوك الصين يسمونهم بالخاقان قديما، وبالفغفور حديثا.
وملوك الترك العظام يسمونهم خان، ودونهم يسمونهم بكوركان.
5
وملوك العجم يسمونهم قبل الإسلام بكسرى، وبعد الإسلام يسمونهم بادشاه.
وملوك الروم في الجاهلية بقيصر، وفي الإسلام يسمونهم بخوانكار.
6
وملوك الهند يسمونهم قديما براي، وحديثا يسمونهم بفور.
وملوك اليمن يسمونهم في الجاهلية بتبع، وفي الإسلام يسمونهم بالمشايخ.
وملوك مصر يسمونهم في الكفر بفرعون، وفي الإسلام يسمونهم بالعزيز.
وملوك الحبشة يسمونهم بالنجاشي.
وفي جميع بلاد الإسلام الآن يسمون ملوكهم سلطان وبك.
المناسب لهذا المجلس
قول سيد العرب والعجم
صلى الله عليه وسلم : سيد الكلام العربية، وسيد كلام العربية القرآن، وسيد القرآن آية الكرسي. وسيد الجبال طور سينا، وسيد الأشجار طوبى، وسيد البلدان مكة، وسيد السودان لقمان، وسيد فارس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد القوم خادمهم.
الخاتمة
اشترى رجل شيئا فمر بسلمان الفارسي رضي الله عنه وهو لا يعرفه، وكان أمير المدائن، وقال له: احمل هذا يا علج. ولقيه واحد وقال: ادفعه إلي أيها الأمير. فقال: لا، والله ما يحمله إلا العلج. (4) من المجلس الرابع
طلعت يوم السبت حادي عشر جمادى الآخرة، وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق، ووقع فيه مسائل إلخ.
حكاية
قال صاحب العقائق: خرج رجل من مصر ودار البلاد مدة مديدة، ولما وصل إلى الصالحية ومعه خرج من الأقمشة جاء لص نصف الليل وربط رجله بحبل إلى مسمار وأخذ الخرج من تحت رأسه؛ فجاء اللص إلى مصر ودق بابا وخلى الخرج عندهم أمانة، ثم خرج الخواجة
7
إلى بيته مهموما فلقي خرجه فسأل امرأته؛ فقالت: أمانة لجماعة غرب. فبعد يوم جاء اللص ودق الباب، فبعث الخواجة له الحبل والمسمار.
المناسب لهذا المجلس
قيل: رجل اشترى الأحجار لأجل البناء فجاء اللص وأخذها؛ فالتقى بصاحب الحجر فقال له اللص: والله ما عرفت أنها لك! فقال صاحب الحجر: هب أنك ما علمت أنها لي؛ أما علمت أنها ليست لك؟!
الخاتمة
سرق خرج لشخص وفيه ثيابه وأسبابه؛ قيل له: وجب أن تقرأ سورة يس وتعملها تعويذا. قال: المصحف الكامل كان أيضا في الخرج وسرقوه. (5) من المجلس الخامس
طلعت يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة، وقعدوا خمسين درجة في الدهيشة، والشريف ما كان حاضرا في خدمته، فسأل عنه السلطان، فقلت: الشريف مريض. ثم قال: هل عنده أحد يخدمه؟ فقلت: عنده جارية سوداء. قال السلطان: ليله ظلام ونهاره ظلام. وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي، ووقع فيه حكايات إلخ. (6) من المجلس الثامن
طلعت يوم الخميس ثالث وعشرين جمادى الآخرة، وقعدوا في الأشرفية خمسا وأربعين درجة، ووقع فيه مسائل، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق.
حكاية
قال في التاريخ: ذكر الحاكم بأمر الله.
8
لطيفة
قال مولانا السلطان: ينبغي أن يقال: ذكر الحاكم بغير أمر الله.
غريبة
ووقع البحث في نهاية زيادة النيل، قيل: اثنين وعشرين ذراعا. قال أم أبي الحسن: أنا رأيت الماء في القرافة.
قال مولانا السلطان: هذا جزاف؛ لأنه لو زاد الماء خمسة وعشرين ذراعا ما يصل الماء إلى القرافة.
عجيبة
ذكروا في التاريخ زيادة شط بغداد وتخريبه ووصول الماء إلى دار الخلافة؛ فركب الخليفة على مركب وما وجد طعاما يأكله أياما.
السؤال الأول:
قال مولانا السلطان: هل يجوز الزكاة على اليهود والنصارى في المذاهب الأربعة؟
قلت: عند الإمام أحمد يجوز أن يكون العامل نصرانيا أو يهوديا.
السؤال الثاني:
قيل: هل يجوز للشريف أن يأخذ زكاة؟
الجواب:
قالوا: لا.
قال مولانا السلطان: ولا الصدقة أيضا؛ لأنهم من أولاد أشرف المخلوقين؛ فبسبب أخذ الزكاة والصدقة تكسر حرمتهم، بل لا بد من رعاية الأشراف من جهة الخمس.
9
السؤال الثالث:
هل تجوز الزكاة لليتيم؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: لا بد من رعاية الأيتام مثل أولاد الصلب.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: الأمير نصر أحمد الساماني
10
كان من كبار سلاطين سمرقند، وكان له فقيه وهو صغير، فلأجل التعليم ضربه كثيرا، وكان في خاطر السلطان أنه إذا تولى المملكة فأول حكمه أن يأمر بضرب الفقيه، لما تسلطن بعث طواشيا مع الفلق والعصا، لما رأى الفقيه هذا عرف أنه يوم الانتقام والجزاء، فأخذ سفرجلا وراح إلى خدمته، قال له الملك: كيف حالك؟ وما بالك؟ فأخرج الفقيه السفرجل وقال: هذه الفاكهة اللطيفة لا تحصل إلا من العصا، وهذه الصفات المرضية والأخلاق الحميدة التي فيك من هذا، وذلك الوقت الأمر أمرك والحكم حكمك. فأمر له بخلعة فاخرة.
الخاتمة
قال إسكندر: ينبغي للعاقل أن يخاطب الخصم مخاطبة الطبيب المريض. (7) من المجلس العاشر
طلعت يوم الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الآخرة، وقعدوا في الدهيشة أربعين درجة، وكان الإمام الشيخ كمال الدين، ووقع فيه مسائل:
مناقشة في الخلافة والسلطنة
السؤال الأول:
قال مولانا السلطان: إذا كان السلطان في الجنازة حاضرا من الأولى بالإمامة؟
الجواب:
قلت: السلطان في مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي القديم ومالك وأحمد رحمة الله عليهم.
السؤال الثاني:
ثم من؟
الجواب:
قلت: القاضي.
قال أم أبي الحسن: الأولى هو الخليفة.
قلت: اسم الخليفة ما هو مذكور في كتب الفقه.
قال أم أبي الحسن: لا تصح أنكحة المسلمين في بلاد ما لبس سلطانهم خلعة الخليفة، وأولادهم أولاد الزنا.
قلت: فعلى هذا أولاد بلاد الروم والعرب والعجم كلهم أولاد الزنا؛ لأن سلاطينهم ما لبسوا خلعة الخليفة قط.
المكابرة
قيل: أي شيء في بلاد العجم صحيح حتى تكون سلطنتهم أيضا صحيحة؟
الجواب:
قلت: من يقول هؤلاء خلفاء؟ ومن ولاهم؟
11
حكاية
قبل هذا التاريخ بأربعين سنة
12
بعث خليفة مصر خلعة إلى سلطان العجم جهانشاه
13
فقعد في بابه القاصد مدة ستة أشهر فذكروه عند السلطان. لما دخل القاصد وذكر قصة الخلعة قال الملك: لو ما كنت غريبا لقطعت لسانك. ثم قال الملك: البس خلعة خليفتك أنت، وأعطاه ثلاثمائة دينار؛ وقال: ما أعطيتك هذا الفلوس لأجل الخلعة، ولكن أعطيتك لأنك جئت إلى أبوابنا الشريفة. والعلماء ما أنكروا على السلطان.
حكاية
بعث خليفة مصر خلعة إلى بلاد ابن عثمان لأجل السلطان محمد
14
الرومي، لما دخل في مجلسه العلي وذكر قصة الخلعة قال السلطان: أنا خليفة الأرض ينبغي أن ألبس الخلعة جميع سلاطين الدنيا. فقطع خلعة الخليفة وقال: ما يستحيي ذلك الشويخ أن يتكلم بهذا الكلام! وانغاظ يومين، وعلماء الروم ما أنكروه.
15
الجدل:
قال أم أبي الحسن: ما تقولون في حديث عباس: الخلافة فيك وفي أولادك إلى يوم القيامة؟
الجواب:
قلت: هذا حديث موضوع؛ لأنه لو كان هذا الحديث صحيحا لما تقدم أبو بكر على عباس رضي الله عنهما؛ لأن هذا نص في العباس، وأيضا إذا كان الخلافة بالإرث فلا بد بعد أبي بكر أن يكون الخليفة ابنه، ويلبس الخلعة عمر من ابن أبي بكر رضي الله عنه.
وأيضا قال أهل السنة: الخليفة الحق بعد النبي عليه السلام أبو بكر. وقال الشيعة: الخليفة علي. وما شك أحد من الفريقين في خلافة عباس.
السؤال الثالث:
قيل: وصى النبي عليه السلام بالخلافة لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي رضوان الله عليهم أجمعين.
الجواب:
قلت: هذا مخالف لقوم المتكلمين؛ لأنهم قالوا: ما وصى النبي عليه السلام بالخلافة لأحد من الصحابة؛ بل صار الأمر بعده بالمبايعة؛ فبايع الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه ثم وصى لعمر، فعمل عمر أمر الخلافة بالشورى بين طلحة والزبير وعثمان وعلي وعبد الرحمن وسعد، وقال: لو اتفق هؤلاء الستة على واحد فهو الخليفة، ولو اتفق أربعة على واحد فاعملوه، ولو اتفق ثلاثة على واحد وثلاثة على واحد فاعملوا من ابن عوف معه، واتفق الثلاثة مع ابن عوف على عثمان فعملوه الخليفة، ثم بعد عثمان بقي أمر الخلافة مهملا فاختار المسلمون علي بن أبي طالب.
التحقيق
وأنت تعلم أن معاوية ما لبس خلعة الخلافة من العباسيين ولا يزيد، وكذلك مروان والوليد، مع أن عبد الله بن عباس كان في زمانهم.
أعلم أن الخلفاء العباسية ما ولاهم إلا أبو مسلم الخراساني.
السؤال:
قال مولانا السلطان: ما مقصودك من هذا البحث؟
الجواب :
قلت: أريد أن أخرج نفسي من بين أولاد الزنا؛ لأن سلاطين بلادنا ما لبسوا خلعة الخليفة قط.
السؤال:
قال مولانا السلطان: أنت دخلت مجالس سلاطين العجم ورأيت مجالسنا؟
الجواب:
قلت: إشكالي ما هو إلا هذا، لأنهم بطول النهار في الخمر والزمر؛ ومع هذا لا يشك أحد في صحة توليتهم؛ فكيف يجوز أن يشك أحد في سلطان الحرمين الشريفين وعزيز مصر ويقول: توليته بغير إذن الخليفة لا تصح؟!
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: كم تكبيرة في صلاة العيد؟
الجواب:
قلت: يرتعد بدني وما أقدر أن أتكلم.
قال مولانا السلطان: خفت؟ قلت: لا.
الجواب:
قلت: خمسة في مذهب الشافعي في الركعة الأولى بغير تكبيرة الإحرام وتكبير الركوع، وخمسة في الركعة الثانية، وعند أبي حنيفة رحمه الله في الركعة الأولى خمسة مع تكبيرة الافتتاح وأربع في الثانية فالمجموع ثمانية.
16
المجادلة:
قال كمال الدين البرقوقي: يا مجنون.
الجواب:
قلت: المجنون ما هو إلا أنت.
قال مولانا السلطان: لا تتكلم مع الشريف بالخرق.
جدل:
قال خواص المؤذن: يا مولانا السلطان، من ولد في بلاد ما لبس سلاطينهم خلعة الخليفة لا يليق بهذا المجلس.
الجواب:
قلت: اسكت. قال مولانا السلطان: تخلصت لو جبت الفتوى من الأئمة الأربعة. قلت: لو ما جبت ليضرب رقبتي حضرة المقام الشريف.
المناسب لهذا المجلس
قول سلطان الأنبياء عليه أفضل الصلاة والسلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا وإمارة.
الخاتمة
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أعدل الناس يستحق أن يكون أميرا عليكم. (8) من المجلس الحادي عشر
طلعت يوم السبت ثامن عشرين جمادى الآخرة، وقعدوا في الدهيشة أربعين درجة، وكان الإمام الشيخ شمس الدين السمديسي، وجاء المماليك الصغار وقرءوا قدام مولانا السلطان جوقا بعد جوق، وما وقع البحث في تلك الليلة.
الخاتمة
قال أفريدون الملك: لا بد أن يكون السلطان تام الخلقة، عظيم البطش والقوة، جهير الصوت؛ لأنه أوقع في النفوس، تام القامة، سليم الأعضاء والحواس.
وكان العجم يصورون صور سلاطينهم ووقائعهم في جدران بيوتهم؛ تخليدا لذكرهم.
وهذا موافق للشريعة الغراء المحمدية (عليه الصلاة والسلام) وهو أنهم قالوا: شرط الإمام أن يكون عاقلا بالغا مسلما حرا ذكرا مجتهدا شجاعا ذا رأي وكفاية سميعا بصيرا ناطقا سليم الأعضاء قرشيا، وإن لم يوجد قرشي مستجمع للشروط فكناني، وإن لم يوجد فمن ولد إسماعيل، وإن لم يوجد يولى المستجمع من العجم أو من ولد إسحاق.
الحمد لله والمنة؛ أصل الجركس من بني إسحاق، وجميع هذه الشرائط موجودة في السلطان الأعظم، الخليفة المعظم، عمدة سلاطين الآفاق، وقدوة الملوك بالاستحقاق، مظهر أسرار
جعلناكم خلائف في الأرض
سلطان الأقاليم السبع بالطول والعرض، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف أبي النصر، عزيز مصر، قانصوه الغوري، اللهم كما محوت راية الظلم وجعلت آية النهار مبصرة، وصيرت هجوم عصاة دولته عند ارتفاع شعاع صولته كحمر مستنفرة فرت من قسورة، اجعل ذيل مدة بقائه إلى الأبد، وزين ملكه بزينة «ما لم يؤت أحد»
17
بجاه محمد يا واحد يا أحد، إنك بالإجابة جدير يا فرد يا صمد.
الروضة العاشرة في مجالس شهر رجب
(1) المجلس الأول
طلعت يوم السبت ثالث شهر رجب المرجب، وقعدوا في الدهيشة أربعين درجة، وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي، وسأل حضرة مولانا السلطان جواب مسألة الخلافة؟
قمت وبست الأرض وقعدت في وسط المجلس وأخرجت الفتاوى، وكان المكتوب فيها:
ما قول سادة العلماء رضوان الله تعالى عليهم في رجل يقول: لا تصح أنكحة المسلمين ولا ولاية حضرة سلطان مصر ثبته الله تعالى على قواعد مملكته بلا استخلاف أمير المؤمنين يعقوب المستمسك بالله خليفة مصر العباسي، ويصر بهذا القول ولا يرجع بفتوى الأئمة الأربعة، هل للحاكم أن يعزره أم لا؟
الجواب:
كتب الشيخ برهان الدين بن أبي شريف في الجواب: الحمد لله الهادي للصواب؛ ليس الأمر كما قال هذا القائل، ومن عاند في ذلك وأصر على المعاندة يعزر، والله أعلم.
وفي آخره: كتب إبراهيم بن أبي شريف الشافعي.
الجواب:
وصححه الشيخ كمال الدين الطويل.
الجواب:
وصححه القاضي عبد البر بن الشحنة قاضي قضاة الحنفي.
وصححه أيضا الشيخ برهان الدين الدميري قاضي قضاة المالكي.
وصححه قاضي قضاة الحنبلي.
الجواب:
وصححه أيضا الشيخ بدر الدين الديري الحنفي.
هذيان
ثم قال أم أبي الحسن: فخر سلطان مصر على سلاطين الدنيا بأنه هو نائب الخليفة.
الجواب:
قلت: بقي عليكم شيء وهو أن سلطان اليمن مستقل في السلطنة بلا نيابة أحد؛ فكيف يجوز أن يكون سلطان مصر والحرمين الشريفين نائبا، ولا يفتخر أحد بالنيابة غير الشرعية.
المسألة:
قال حضرة مولانا السلطان: ما تقول في الملك بيبرس الظاهر أنه لبس خلعة الخليفة؟
الجواب:
قلت: لأجل جبر خاطرهم لأنهم كانوا أولاد الخلفاء العباسية وكانوا مكسوري الخاطر؛ فقصد الملك الظاهر تعظيمهم ولبس منهم خلعة، وفخر الخليفة أنه لبس منه سلطان مصر، ولا يفتخر سلطان مصر بخلعته.
هذيان
قال أم أبي الحسن: لو تكلم الشريف هذا الكلام في زمن السلطان قايتباي لضرب رقبته!
ثم غضب حضرة مولانا السلطان وقال: أنت جئت لتضرب رقبة الناس؟ ما لنا بك حاجة وبالذي يضرب رقبة أصحابنا؛ كنت في لعنة الله لولا تضرب رقبته بكرة بالشرع.
1
درة
وفائدة كلامك أن قايتباي كان ظالما بهذه المرتبة؛ متى رأيت السلطان قايتباي ومتى دخلت مجلسه؟ أنت تحسب أنا ما أعرفك؟
درة
وقال له: أنت تقعد في وسط المجلس بسبب إيش، وتتكلم كثيرا؟ قم.
درة
ثم التفت حضرت مولانا السلطان إلى اليمين وإلى اليسار وقال: ما أنتم شاهدون على أنه قال رأس أسود: لا تصح أنكحة المسلمين في بلاد ما لبس سلطانهم خلعة الخليفة وكلهم أولاد الزنا، ولا يصح أيضا تولية سلطانهم، روحوا بكرة مع الشريف واشهدوا عند القضاة الأربعة، ومهما يجئ عليه بالشرع اعملوا به.
هذيان
قال: أنا قلت: لا تصح أنكحة المسلمين في مصر إلا باستخلاف الخليفة.
فغضب عليه مولانا السلطان ثانيا وقال: بلاد مصر ليست ببلاد المسلمين! أو سلطانها أقل من سلاطين الدنيا؟
فحضار المجلس قالوا له: قم من مقابلة السلطان. فصار كالميت.
جوهرة
قال حضرة مولانا السلطان: يا شريف، أنت وأولاد الروم والمغرب والعجم واليمن كلكم روحوا معه عند القضاة وعزروه.
عجز
وفي آخر المجلس راح أم أبي الحسن وباس رجل الشيخ محب الدين الإمام فشفعوا فيه.
فطلبني حضرة مولانا السلطان وقال: اصطلحوا ولا تذكروا من هذا الكلام.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل لأنوشروان: ما بال الرجل يتحمل حمل الثقيل ولا يتعب به، ولا يتحمل مجالسة الثقيل؟!
الجواب:
قال أنوشروان في الجواب: لأن حمل الثقيل تساعده فيه جميع الجوارح، ومجالسة الثقيل تنفرد فيها الروح.
الخاتمة
قال إسكندر: أضيق الحبوس مجالسة الثقيل. (2) من المجلس الثالث
طلعت يوم الخميس ثامن شهر رجب، وقعدوا في الدهيشة سبعا وعشرين درجة، والإمام كان الشيخ محب الدين الحلبي، ووقع فيه مسائل.
ذكر في التاريخ كتاب دارا إلى إسكندر وهو هذا:
من داراب ملك ملوك الدنيا الذي أنور من السماء إلى ذي القرنين اللص، أما بعد؛ اعلم أن ملك السماء جعلني ملك ملوك الأرض، وقد بلغني أنك جمعت لصوصا لتفسد في أرضنا، واعتقدت أن تغلب على بلادنا، فارجع إذا نظرت إلى كتابنا من غير مؤاخذة بسفك الدماء، فإنك غلام حقير ليس مثلي مقابلك، أبق على نفسك وبلادك وإلا كنت أول مشئوم على ديارك.
جواب الكتاب
من ذي القرنين بن الفيلفوس الملك إلى الذي زعم أنه ملك الملوك وأن جند السماء له، وأن جنود الدنيا منه.
وبعد؛ فقد كتبت أن إضاءتي كإضاءة الشمس؛ فكيف يجوز أن يهابك إنسان صغير مثل ذي القرنين؟! فلا تظنن نفسك ملك الملوك أن نور الدنيا منك، وإنما ملك الملوك هو الله الذي خلق الملك والملك، يؤتي الحكمة من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وإنما أنت إنسان مترف أظهر لك جهلك، سميت نفسك باسم الإله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، ويجب عليه الغضب ممن تسمى باسمه، وكيف يكون ملك الملوك من يموت ويذهب سلطانه ويترك دنياه بغيره، وما أنت إلا ضعيف من الضعفاء، ولا تطيق مساواة ذوي القوة والبأس.
والآن أنا متوجه لقتالك؛ لأذيقك مثل ما يذيق الميت ملك الموت، وأرجو النصرة من الإله الذي خلقني وإياه أعبد وبه أستعين.
واعلم أنك غلوت في نفسك ، وسطوت في سلطانك.
وأرجو أن يساعدني الله بقدر ما رفعت نفسك حتى يسمع أهل الأرض، وعليه توكلت وإليه أنيب.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها صاحبها، وبلاء لا يرحم عليه صاحبه؟ قال: نعم، أما النعمة فهي التواضع، وأما البلاء فهو الكبر.
الخاتمة
قال جمشيد الملك: هلاك المرء في العجب والكبر. (3) من المجلس الرابع
طلعت يوم السبت عاشر شهر رجب، وقعدوا في الدهيشة عشرين درجة، وكان الإمام سيدي علي الأخميمي، وفي تلك الليلة ما غير حضرة مولانا السلطان قماشه، وقعدوا في الدهيشة من أول طارئ إلى آخر المجلس، ووقع فيه مسائل، وجابوا مماليك الصغار وقرءوا في المجلس، وكان كثير من الأمراء واقفين في خدمته، وأم أبي الحسن أيضا كان واقفا بينهم. •••
فراح حضرة مولانا السلطان إلى المبيت فطلب قاضي غزة، فدخل أم أبي الحسن مع القاضي بلا سؤال.
قال حضرة مولانا السلطان: من طلبك يا شيخ أحمد؟ فقام على حيله، وبعد ساعة تكلم وقال: في يوم بنى الجامع عمرو بن العاص عمل فيه ثمانمائة زوج من البساط أقل طول كل واحد منه عشرون ذراعا في عرض عشرة، فتعجب الحضار.
جوهرة
قال حضرة مولانا السلطان: هذا الكذب قطرة من نهر كلامه. قلت: أولا قد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم ما صلوا على البساط.
درة
قال حضرة مولانا السلطان: على تقدير الوجود هذا يملأ عشرة مثل هذا الجامع فما حكمة الإسراف في البسط؟
المناسب لهذا المجلس
قيل: خرج ضرير في ليل مظلم وفي يده لحم على الساج وفي يده الأخرى السراج، قيل له: حمل سراج الضرير من صقاعة الذقن وسوء التدبير؛ لأن الليل والنهار متساويان عند الضرير، فضحك الأعمى وقال: اسمع؛ فائدة حمل هذا النور لأجل مثلك أعمى القلب المغرور، حتى لا يدفعوني ويكبوا طعامي لا لأجل نفسي.
الخاتمة
قال الخليفة لابنه: إذا أردت المهابة فلا تكذب؛ لأن الكاذب لا يهاب ولو كان معه مائة ألف سيف. (4) المجلس الخامس
طلعت يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب ، وقعدوا في الدهيشة ثمانيا وثلاثين درجة، وما خرج حضرة مولانا السلطان بعد المغرب من الدهيشة، وكان الإمام في تلك الليلة الشيخ شمس الدين السمديسي، ووقع فيه مسائل.
السؤال الأول:
قال مولانا السلطان: ما معنى أشتاتا في اللغة؟
الجواب:
قال أم أبي الحسن: إن في القيامة يمطر أربعين يوما مني الآدمي! الرد: قلت: لا دخل لهذا الكلام في جواب سؤال مولانا السلطان.
تحقيق
قال مولانا السلطان: يا شيخ أحمد، تريد أن تتوه كلامي وسؤالي؟!
السؤال الثاني:
قال مولانا السلطان: ما معنى قوله تعالى:
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، ما شجرة بهذه الصفة في الدنيا؟!
الجواب:
قلت: المراد من السماء هو العلو. أو نقول: المراد من الشجرة النخل. أو نقول: يمكن أن يفرض شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشبهت الكلمة الطيبة بها مثل قول القائل:
أعلام ياقوت نشر
ن على رماح من زبرجد
ولا يلزم أن يكون المشبه به موجودا.
السؤال الثالث:
قال مولانا السلطان: ما معنى لفظ الحين في آخر هذه الآية الكريمة؟
الجواب:
فيه اختلاف بين المفسرين؛ قيل: المراد من الحين ستة أشهر. وقيل: شهران.
قال السمديسي: الحين يطلق ويراد به أربعون سنة كقوله:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر .
وقد يطلق ويراد به ستة أشهر بدليل:
تؤتي أكلها كل حين
وقد يطلق ويراد به الآن.
السؤال الرابع:
قال مولانا السلطان: لفظ الحين في هذه المعاني مستعمل على الحقيقة أو على المجاز؟ وعجز الشيخ عن الجواب.
الجواب:
قلت: قد يطلق الحين أيضا على القيامة مثل:
تمتعوا حتى حين .
وقد يطلق بمعنى الموت كقوله تعالى:
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين .
التحقيق
قلت: هذه المعاني الثلاث التي ذكرها الإمام في اصطلاح الفقهاء، وأما عند أهل التفسير فاستعمالات لفظ الحين كثيرة.
واقعة
وفي هذه الأيام خرج ثيران السلطان إلى برسيم، ونهب خدام الثيران بعض الدكاكين، وكانت هذه عادة مستمرة، وبدعة مستقرة، في زمن السلاطين السالفة مثل بيبرس وقلاوون.
لما سمع حضرة مولانا السلطان أنهم نهبوا أمر بالنداء برفع هذه البدعة القبيحة والعادة السيئة.
وأمر أيضا بالنداء: من ضاع منه شيء بسبب هذه الجماعات لا بد أن يجيء ويأخذ من حاجي بركات المحتسب، وخلى عنده ألف دينار.
ثم كتب أصحاب الدكاكين فكان كل ما ضاع منهم ثلاثمائة دينار، فأخذوها من المحتسب.
العدل
قال حضرة مولانا السلطان: لو ضاع منهم والله عشرة آلاف لأعطيتهم.
سياسة
وقال للجماعة الذين اشتكوا: لأي شيء ما قتلتم هذه الجماعة البقارة؟!
مرحمة
وقال حضرة مولانا السلطان: ولو كان ابني يظلم الناس ما لي حاجة به.
الإنصاف
ثم أمر حضرة مولانا السلطان بصلبهم، فشنقوا أربعا منهم وجرسوا البواقي.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: خرج ليلا السلطان محمود بزي فقير، فرأى عجوزا مهمومة فقال: ما سبب همك؟ قالت: يجيء جندي ويزني ببنتي. قال: ما لباسه، وما زيه؟ قالت: كذا وكذا. قال الملك: مهما يجيء أخبري فلانا الطواشي.
لما أخبرته خرج السلطان بهيئته الأولى وفي يده سيف، فجاء إلى بيت العجوز وقال: يا عجوز، أطفئي السراج. فقتل الجندي، ثم قال السلطان: هل عرفت من هو؟ قالت: لا. قال: هذا ابني، وأنا السلطان محمود، وأنا أمرتك بإطفاء السراج حتى لا أنظر وجهه فأرحمه.
الخاتمة
قال أنوشروان: إصلاح الرعية أحسن من كثرة الجنود والمملكة. (5) المجلس السادس
طلعت يوم الخميس خامس عشر شهر رجب، وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي، وعمل حضرة السلطان مولدا جمع فيه السادات والعلماء والقضاة والمشايخ والأمراء، وحضره المخدوم تاج الأكابر القاضي كاتب السر، والقاضي عبد القادر القصروي، ولبس الأمير الكبير بعد العشاء خلعة بدن مولانا السلطان، وقعدوا في الدهيشة خمسا وسبعين درجة.
المناسب لهذا المجلس
قيل: لما قصد إسكندر تسخير ملك الصين جاء رسول من الخاقان إلى إسكندر وقال: أمرني الخاقان أن أتكلم في الخلوة، فربطوا يديه وطلعوا به إليه، قال إسكندر: ما رسالتك؟ فقال: أنا ملك الصين جئت إليك، مهما تحكم أطاوع، ومهما تأمر أسمع. قال له إسكندر: ما خفت من هذه الجرأة؟! فقال الخاقان: قد عرفت أنك ملك صاحب دولة، وما بيني وبينك نفاق، ولا بين آبائي وآبائك خناق، ولو تقتلني قتلت شخصا واحدا من عسكري، فيولون شخصا آخر في موضعي.
لما سمع إسكندر عظمه تعظيما عظيما، ثم قال إسكندر لخاقان الصين: نطلب منك أن تبوس الأرض، وخراج ثلاث سنين، فقبلها بالسرعة.
ثم قال إسكندر: فكيف حالك بعد هذا؟ قال: في غاية المذلة؛ أخرب أنا والرعية.
ثم قال: لو نقنع بخراج سنتين فما حالك؟ قال: أحسن من الأول.
ثم قال: لو نأخذ خراج سنة فما حالك؟
قال الخاقان: تفرغ ذخيرتي ولكن ما تستأصل مملكتي ورعيتي. لما رأى إسكندر منه هذا الرأي والتدبر رضي منه بخراج ستة أشهر.
فحمده ملك الصين وقال لإسكندر: إذا قرر هذا الأمر مقصودنا أن نأكل معكم لقيمة، ونقعد في خدمتكم لحيظة، فعملوا ميعادا لأجل الضيافة، فباس الأرض، وخرج في الساعة.
وما ذكر إسكندر هذه القصة لأحد من العسكر، ولما جاء ميقات اليوم الموعود ركب إسكندر مع جميع عسكره وراح إلى المحل المعهود، وخرج سلطان الصين مع عسكر الأولين والآخرين، فلما التقى الجمعان كان عسكر إسكندر بين عسكر الخاقان كالنقطة بين الدائرة، أو حلقة في وسط البادية، فاستعد إسكندر للحرب وقصد الهرب، فحينئذ خرج من عسكر الصين الخاقان، قال له إسكندر: غدرت بي! قال ملك الصين: الغدر ما هو شغل السلاطين عالي القدر، الخدع إنما هو صنعة الفجار، لا الملوك ذوي الاقتدار، مقصودي من عرض العسكر أن يعرف إسكندر أن إطاعتنا ما هي من العجز، بل لأجل أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، ومطاوعتي بناء على هذا. قال إسكندر: ما نأخذ منك ولا جديدا. فمد الخاقان سماطا لعسكر إسكندر ما رأت مثله عين البشر، ونزل الخاقان مع إسكندر في موضع آخر، فقعدوا من البكرة إلى العصر بلا طعام، فمد سماطا لهم صحونهم ملأى باللآلئ، وأقداحهم ملأى من اليواقيت الغوالي، وعمل أقراص الخبز من الذهب، وأحضر من الجواهر الأشياء العجب، فقال الخاقان لإسكندر: باسم الله في هذا لما حضر. قال إسكندر: في هذه البلاد يأكلون هذه الأشياء ؟ قال الخاقان: فأهل الروم يأكلون ماذا؟ قال إسكندر: الخبز واللحم والأرز والدجاج والماموية (؟) والوز. قال الخاقان: لو كان أكلكم هذه الأشياء لما خرجتم من الروم إلى ههنا، ما كان في الروم الخبز واللحم والتين والعنب، حتى تجيء إلى الصين وتأكل بهذا التعب؟! فبكى إسكندر، فقال لأعيان دولته: حصل لنا فائدة هذا السفر، وبواسطة هذا ما لقينا من سفرنا هذا نصبا؛ وباس يد الخاقان، وقال درويشي درويشان.
2
الخاتمة
قال الضحاك الملك: إذا أرسلت رسولا إلى حاجة فابعث حكيما؛ فإن لم تجده فاذهب أنت بنفسك. كذبك على نفسك أحسن من كذب الغير عليك. (6) المجلس الثامن
طلعت يوم الثلاثاء عشرين رجب، وقعدوا في الدهيشة أربعين درجة، وكان الإمام الشيخ محب الدين الحلبي، وأهل المجلس مدحوا عمارات حضرة مولانا السلطان.
قال مولانا السلطان: لو كانت الدهيشة في زمن السلطان قايتباي بهذه الهيئة لما خرج من القلعة، وما راح إلى القبة.
تنبيه
قلت: ومن جملة عجائب عمارات السلطان عمارة الميدان، الذي تحير فيه عقل الإنسان، ومنها تجديد البيسرية، ومنها الدهيشة الأشرفية، وتجديد القصر الأبلق، الذي في البلاد مثله ما خلق.
ومنها جامع الغورية، ومنها المدرسة الأشرفية مع القبة الزرقاء، الذي ليس مثلها في القبة الإسلام تحت قبة الزرقاء.
ومنها عمارات الأشرفية والطبقات التي حولها، وهي كجبل شامخ في مصر جامع، وعمارات القلعة الشريفة وأطرافها التي هي كبناء مصر جامع في الجبل.
ومن عجائب دولته عمارات كثيرة، في مدة يسيرة، عمل في ست سنين، الذي لا يمكن مثله في ستين.
والمشهور بين الجمهور أن شداد بن عاد بنى الأهرام التي لم يخلق مثلها في البلاد في مدة ست سنين؛ لا شك لو جمع هذه العمارات يجيء بقدر الأهرام مع بعد عماراته الشريفة عن الجبل، وتعب الحمل بالجمل، وكان بناء الأهرام في وسط الجبل.
المناسب لهذا المجلس
قيل: الملك كالجبل الشامخ فيه الثمار والمياه، وفيه الوحوش والطيور، وفيه الانخفاض والارتفاع.
الخاتمة
قال إسكندر: زائر السلطان يرفع قدره، ويعلو ذكره، ويبلغ إلى حصول مقصوده إذا كانت الزيادة على السنة المرضية. (7) من المجلس التاسع
طلعت يوم الخميس ثاني عشرين شهر رجب، وقعدوا في الدهيشة أربعين درجة، وكان الإمام سيدي علي الأخميمي، وقرءوا في تلك الليلة تواريخ عجيبة.
قال صاحب التاريخ: زوج السلطان ملك شاه السجلوقي بنته بالخليفة، وكان مائة ألف جمل تحت جهازها.
3
درة
قال مولانا السلطان: هذا مثل البلخش
4
بقدر رأس الجمل.
غريبة
قال في التاريخ: دخل الفارابي في مجلس سيف الدولة؛ قال له الملك: اقعد. فقال: أقعد في مكاني أو مكانك؟! قال: اقعد في مكانك. فقعد فوق الكل بحيث يخرج سيف الدولة من السرير.
تأديب
قال حضرة مولانا السلطان: ما عمل الفارابي مليحا؛ لأنه مستلزم لقلة الأدب مع ظل الله.
فقصد مماليك سيف الدولة قتل الفارابي وتكلموا باللسان العجمي، أن هذا رجل قليل الأدب خفيف العقل، قال لهم الفارابي باللسان العجمي: اصبروا إنما الأعمال بالخواتيم. فبحث مع علماء المجلس وغلب على الكل، وتعجب سيف الدولة من هيئته وهيبته، قال له: تأكل لقمة؟ فقال: لا. قال: أتسمع نغمة؟ قال: نعم. فأحضروا المغنيات، فما أعجب الفارابي شغلهم وقال: لو كان مرسومكم لنضرب قليلا. قالوا: لا بأس، فأخرج قطعة من الخشب وركب عليه الأوتار وضرب، فضحك جميع من في المجلس، ثم ضرب فبكوا، فأمر له سيف الدولة بدينارين في كل يوم.
ومات الفارابي في الشام.
الحكمة
قال حضرة السلطان: ما خلص الفارابي من القتل عند سيف الدولة إلا اللسان العجمي، ولهذا قيل: اللسان مع الإنسان شخص ثان.
حكاية
قال في التاريخ: إن المأمون رأى جارية فصيحة على ظهرها قربة، قالت: يا أبتي أدرك فاها، غلبني فوها ولا طاقة لي بفيها. قال المأمون: أنت تريدين عشرة آلاف معجلة أو مائة ألف مؤجلة، قالت: يا أمير المؤمنين بقي قسم آخر؛ وهي مائة ألف معجلة، فتعجب المأمون من كلامها.
نادرة
قيل في التاريخ: كان اسم أم خليفة شرارا، واسم امرأته قطرا.
درة
قال حضرة مولانا السلطان: الشرار اسم موحش، وأعجبه اسم القطر، قال: تسمية الحبيب بالأشياء اللطيفة لطيف.
موقف
قرءوا التاريخ إلى أن ذكر أن اسم أم الخليفة كان زمردا.
درة
قال مولانا السلطان: الزمرد مناسب لختم المجلس والخاتم.
سؤال:
سأل مولانا السلطان في كل وقت أكل الفالوذج: ما اسمه باللسان العجمي؟
قلت: بالوده. (8) من المجلس العاشر
طلعت يوم السبت رابع عشرين شهر رجب، وقعدوا أربعين درجة في الدهيشة، والإمام كان الشيخ عبد الرزاق، ووقع فيه أشياء.
نكتة
قال صاحب العقائق: إن حسن الدنيا كان عشرة، فجاء تسعة ليوسف، وواحد لجميع الدنيا.
قلت: يشكل بقوله عليه السلام: أنا أملح؟
الجواب:
قال مولانا السلطان: المراد أن حسن يوسف تسعة أعشار حسن الدنيا التي في زمانه، ونبينا كان الأحسن الحقيقي ويوسف الأحسن الإضافي.
عجيبة
قال في التاريخ: ولد ولدان ملتصقان بالظهر، وكانا متخانقين في كل يوم.
وذكر أيضا أن في تلك السنة وقعت مخانقات كثيرة.
درة
قال مولانا السلطان: إذا كان أخوان ملتصقان يتخانقان فالمخانقة بين الناس بطريق الأولى.
درة
قال مولانا السلطان للقاضي شمس الدين الغزي: عقلك عقل العامي.
ومعنى هذا الكلام أنه لما قصد دولتباي العصيان على مولانا السلطان قال له القاضي: العصيان مع هذه الدولة مثمر للندامة، وموجب البعد عن طريق السلامة، قال له: اسكت، عقلك عقل العامي. فغضب عليه، فهرب القاضي منه، فسمع مولانا السلطان هذا الخبر، وقال له إذ حضر: عقلك عقل العامي.
ثم قال مولانا السلطان: أنا أعرف كثيرا من الألسن. فتكلم في كل لسان مثل فصحائهم، الأول العربي، والثاني اللسان العجمي، والثالث التركي، والرابع الكردي، والخامس الأرمني، والسادس الجركسي، والسابع أوزه وأخوخ واسى.
اتفاقية
قال في التاريخ: إن المتنبي وقع عليه الحرامي في طريقه ليلا من الليالي فقصد الهرب، قال له العبد: أنت ما أنشدت في قصيدة وما قلت:
الخيل والليل والبيداء تشهد لي
والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟
فرجع المتنبي وقتل.
5
درة
قال حضرة مولانا السلطان: العبد قصد التفرج.
حكمة
قال مولانا السلطان: دخل جانبك الحبيب إلى الروم وكان قاصدا، قيل له: من أنتم حتى تحكموا بيت الله الحرام يا أولاد الكفرة، وهذا الملك يليق بسلطاننا وهو السلطان ابن السلطان ابن السلطان ؟ قال جانبك في جوابهم:
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم
من كان أبا سيدنا إبراهيم، ومن كان أبا محمد عليه وعليهم السلام؟
وأيضا ورد أن شرف الشخص بالعلم والأدب لا بالأصل والنسب.
قال الشيخ كوراني: لا تتكلموا في حق سلاطين مصر؛ فإنكم تفضحون أنفسكم، فتعجب السلطان بايزيد من كلامه فأنعم عليه إنعامات كثيرة دقيقة.
قلت: والعجب أن إسكندر باشا لما أمسكه السلطان قايتباي خلاه في الطبقة بسبب عدم معرفته بواجبات الشريعة.
ثم حضرة السلطان طلب مني أشعار الملوك، قلت: يقول سلطان حسين البيقرا:
6
شعر.
وه نه حالتدركه من هرنيجه كور كرسم نياز
أي بت بدمهر! سندن ظاهر أولمز غير ناز
المناسب لهذا المجلس
أن ملوك الفرس يتكلمون في يوم الحرب بالتركي، وفي الأمر والنهي بالفهلوي، وفي المنادمة والمجالسة بالفارسي.
الخاتمة
قال عبد الملك بن مروان: ثلاثة أشياء تدل على مقدار أربابها: الكتابة تدل على مقدار كاتبها، والهدية تدل على عقل مهديها، والرسول يدل على مقدار عقل مرسله. (9) من المجلس الحادي عشر
طلعت يوم الثلاثاء سابع عشرين شهر رجب، وقعدوا في الدهيشة زمنا قليلا، وكان الإمام الشيخ محب الدين المكي، ووقع فيه المسائل.
حكاية
قال صاحب العقائق: إخوة يوسف لما وصلوا إلى الجب لكموا ولطموا يوسف وقصدوا قتله فمنعهم يهوذا من القتل، ويوسف يبكي ويبوس أيدي وأرجل الكل.
السؤال:
قال مولانا السلطان: والعجب أنهم ارتكبوا بيوسف هذه الأفعال الشنيعة، وفي الآخر صاروا أنبياء!
الجواب:
قلت: يا مولانا السلطان، ما ثبتت نبوتهم.
جدل
قال الخواص: أنا رأيت في الكتاب أنهم أنبياء.
قلت: أنت قرأت شيئا من العلوم؟! وفي أي كتاب رأيت؟! فليس للعامي أن يتعرض للعلماء، ويتكلم مثل هذه الأشياء. قال القاضي محمود الخليلي: لا بد أن يكون إخوته أنبياء؛ لأن ولد النبي نبي!
الجواب:
قلت: يلزم أن يكون جميع الناس أنبياء بناء على هذا حتى الكفرة؛ لأن كلهم أولاد آدم صفي الله، ونوح نجي الله، وأنت تعلم قصة قابيل ولد صلب آدم الصفي، وقصة ابن نوح النجي اللذين نزل في التنزيل قصتهما.
7
تربية
قال مولانا السلطان: يا شريف؛ خلاف الجماعة ما هو مليح.
قيل: رأى حاتم شخصا فقال له: (كنت في أين؟) فقال: كنت في ضيافة حاتم، فذبح لأجلي الوز والغنم، وطبخ أنواع الأطعمة وأحضر الفواكه والأشربة! قال له حاتم: أنا حاتم (في أين رأيتك؟)
8
ومتى ضيفتك؟ فقال في الجواب: أنت مشهور في الدنيا بالجود والكرم، وما قدرت أن أخالف أهل العالم.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: ذكر عند السلطان بابر وهو سبط تمور
9
وكان كريما وأنفق جميع خزائن جده على الناس، وقال: إن حاتما ما أنفق معشار ما أنفقت أنا. وقال: ما نهاية كرم حاتم عند أهل العالم؟ قيل: إنه عمل بيتا بأربعين بابا، وجاء سائل في الكل وفي كل باب أعطاه شيئا.
قال السلطان بابر: هذا يدل على بخل حاتم، لا على كرمه؛ لأنه لو كان كريما لأغناه في الباب الأول بحيث لا يحتاج الرواح إلى الباب الثاني.
الخاتمة
قال إسكندر: لا تلوموا المرء على بخله ولوموه على بذله؛ لأنه لا خير في المرء لو لم يكن حافظا لما يحفظه. (10) من المجلس الثاني عشر
طلعت يوم الخميس تاسع عشرين شهر رجب، وقعدوا في الدهيشة أربعا وستين درجة، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق وجاب القاضي محمود كراسا من الكشاف في تفسير:
سوف أستغفر لكم .
10
قال صاحب الكشاف: استغفر يعقوب ذنبهم في الآخر فصاروا أنبياء.
ترغيب
قال مولانا السلطان: ما تقول يا شريف في جوابه؟ قلت: كنت مريضا يومين ولكن أقول: إن هذا النقل موقوف على شيئين:
أما الأول:
هل بيننا وبين المعتزلة موافقة في عصمة الأنبياء أم لا؟
والثاني:
كلام صاحب الكشاف ما يعارض القرآن؛ مع أن ذنبهم ثابت في كتاب الله من عقوق الوالد، والكذب، وبيع المسلم في بلاد الكفر، وترقيق المسلم، ونسبة صديق الله إلى السرقة في قولهم:
فقد سرق أخ له من قبل ؛ كل هذه الأشياء كبيرة، ولا تليق بمرتبة النبوة!
قال حضرة مولانا السلطان: ما تقول يا قاضي في الجواب؟ وقول الشريف إن في الكشاف مذهب الاعتزال هل صحيح أم لا؟ قال في الجواب: نعم.
قال حضرة مولانا السلطان: يا قاضي مجنون، إذا عرفت أن الكشاف على مذهب الاعتزال فلأي شيء استدللت به؟ تجيء بالنقل وتحط عليه
11
يا قليل العقل؟ ليس مقصودك إلا المكابرة، لا البحث والمناظرة.
قال القاضي محمود: صاحب الكشاف كان معتزلي المذهب في الأول، ثم تاب في الآخر من الاعتزال.
الجواب:
قلت: توبة صاحب الكشاف لا تخرج مذهب الاعتزال من الكشاف، فكلامنا في الكشاف لا في صاحب الكشاف؛ فإن الناس قد يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
نصيحة
قال لي حضرة مولانا السلطان في الخلوة: لو ما جبت النقل وفتوى العلماء على عدم إثبات نبوة إخوة يوسف لأحلق ذقنك! قلت: لو أجيب الفتوى؟ فقال: أنت تكون من الخواص.
المناسب لهذا المجلس
قيل: صاحب الكشاف مسك حلقة باب الكعبة، وقال: أنا الشويخ المعتزلي من يجادلني؟ قال إمام الحرمين في جوابه:
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .
خاتمة
قال بعض الأفاضل:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد
وليس فيها لعمري مثل كشاف
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته
فالجهل كالداء والكشاف كالشافي (11) من المجلس الثالث عشر
طلعت يوم السبت غرة شهر شعبان، وكان الإمام الشيخ محب الدين الحلبي، وقال لي حضرة السلطان علي الطارئ:
12
يا عدو صاحب الكشاف ويا دشمن
13
الزمخشري.
قال قاضي القضاة الحنفي: من هو عدو صاحب الكشاف؟ فتبسم حضرة السلطان وقال: الشريف. ثم قال: جبت الفتوى؟ قمت وبست الأرض وقلت: نعم.
صورة الفتوى
ما قول علماء الدين، رضوان الله عليهم أجمعين، في شخص يقول: لم تثبت نبوة إخوة يوسف الصديق عليه السلام، هل يقع في محذور مع أن القاضي عياضا قال في الشفا: وأما إخوة يوسف فلم تثبت نبوتهم، ومال إليه القرطبي والإمام الفخر الرازي، وابن كثير قال: لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف؟
ثم قال في الجواب أعلم العلماء المحققين، وبرهان الفقهاء المدققين، أستاذي أستاذ العالم، شيخ إسلام العرب والعجم، برهان الملة والشريعة والحقيقة، والتقوى والفتوى والدين ، إبراهيم بن أبي شريف:
الحمد لله الهادي للصواب، لا يجيء على قائل ذلك محذور، ومن قال بخطأ هؤلاء
14
فهو غير مصيب، والمسألة خلافية.
وصححه أعلم علماء الحنفية، ومحب الحضرة الأشرفية، المحقق المدقق الذكي، الشيخ برهان الدين الكركي.
وصححه شيخ الإسلام السالك، وأعلم علماء مذهب الإمام مالك، الشيخ برهان الدين الدميري.
وصححه شيخ الإسلام، أستاذي وأستاذ البشر، العالم العامل الولي، قاضي القضاة الحنبلي.
وصححه مجتهد العصر، وشافعي الدهر، صاحب الوصف الجميل، الشيخ كمال الدين الطويل.
لما وقع نظر مولانا السلطان على القاضي محمود في تلك الليلة، وفهم منه أن مقصوده الغلبة بالجدل والسفسطة، ومطلوبه من البحث ما هو إلا المكابرة، لا إظهار الصواب والمناظرة، وقصده الغلب المطلق، وإن كان على غير الحق، وأنه يفشي أسرار المجالس العلية عند الناس، ويفتخر به بين العوام والخواص، غلب أسماء القهرية على الحضرة الغورية، واتصف السلطان صاحب النصر والفتوح، بصفة سيدنا نوح عليه السلام،
15
فأمر بطرد الجميع، من الشريف والوضيع.
المناسب لهذا المجلس
أنه قيل: في آخر دولة أنوشروان ظهر خارجي ذو شوكة في بعض البلدان واجتمع عليه عياق كثير، فصار صاحب عسكر كبير، فطلب خطبة ابنة أنوشروان، وكان أنوشروان خائفا من شوكته، وكان من رسوم كسرى أن يزوج البنات بالأقرباء لا بالغرباء، فشاور أركان دولته وأعيان مملكته فاتفق رأيهم على أن للملك بنتا صغيرة فيأخذ الملك بنتا بقدرها وفي الحريم يربيها، وحين تكبر يزوجها به، ففرح أنوشروان من هذا البيان فأخذوا بنتا من الأكراد، وكان لبزرجمهر بنت من الجياد، وفي بعض الأوقات تجتمع مع الكردية، فقالت لأبيها من سوء خلقها، فانغاظ بزرجمهر وقال ما هي بنت الملك، بل من الكرد جابوها. ولما ظهرت الأفعال القبيحة ثانيا من الكردية، قالت بنت بزرجمهر: يا ابنة الكرد كم تؤذيني؟ فبكت الكردية واشتكت عند أنوشروان، فعرف الملك أن بزرجمهر أظهر بنته على هذا السر، فأمر بإحضار موبذ موبذان (يعني أعلم علماء ذلك الزمان)، فقال أفتوني فيمن أفشى سر السلطان، فقالوا: جزاؤه القتل عند أهل العقل والنقل. فأخذوا من رأس بزرجمهر تاج الوزارة، وحلوا من وسطه منطقة الإمارة، فشنقوه وعروا بنته ودوروها حوله، وكانت البنت حين تمر تحت المشنقة تغطي عورتها بيديها وتغمض عينيها، لما ذكروا ذلك عند الملك طلبها وسأل منها حكمة ستر العورة تحت المشنقة، فقالت: لأن الإنسان الكامل في عسكرك كان أبي، لو كان إنسان آخر لشفع عند الملك، وخلص أبي من الهلك. فأعجب أنوشروان كلامها فتزوج بها. لما نزلوا بزرجمهر رأوا تعويذا مربوطا على يده وكان المكتوب فيه: لو كان القضاء والقدر حقا فالحذر باطل، ولو كان الموت حقا فربط القلب بالدنيا عين الحماقة. لما رأى أنوشروان هذا بكى بين الجمع، بحيث خرج من عينيه الدمع، فندم كثيرا.
خاتمة الكتاب
يقول محرر هذا الكتاب، ومقرر هذا الخطاب المستطاب، العبد الفقير، المعترف بالذنب والتقصير، الواثق بالملك الغني، حسين بن محمد الحسيني.
اللهم خلد دولة السلطان الأعظم، خليفة جميع من في العالم، مبارز ميدان
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، واسطة قلادة الصورة والمادة، صاحب توقيع
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم ، وارث منشور
جعلناك خليفة في الأرض فاحكم ، أمير المؤمنين، خليفة المسلمين، الملك الأشرف، عزيز مصر، أبي النصر قانصوه الغوري.
اللهم أدم سبحات فيضانه على أغصان بستان الإمكان، وعمم إنعامه وإحسانه على أزهار أشجار الأكوان؛ ليجتني من إرم كرمه، وروضة نعمه، أقاص وأدان إلى آخر الزمان يا حنان، يا منان. (1) الاعتذار
ونرجو من مكارم الأخلاق والشيم، ونلتمس من علماء العالم، أن من اطلع منهم على سهو أو خطأ أو نسيان، وهو لازم لنوع الإنسان، أن يغمض العين، ويستره من البين، وأن يكون ساترا للمعايب، لا مظهرا للمثالب، ونستغفر الله لي ولكم وجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم. (2) صورة القصة
ثم بعثت كتابا على يد ملك التجار في العالم، صاحب الجود والكرم، أعز عباد الله عند سلطان أعظم بلاد الله، خواجة محمد بن عباد الله، زاد الله فضائله وكمالاته؛ فإنه آية من آياته:
على كل حال أنا المذنب
وما يحكم الشرع مستوجب
وإن شئتمو سامحونا بما
جنينا وإن شئتمو عذبوا
قال الله تعالى في كتابه العزيز:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
وقال شفيع المذنبين، وحبيب التوابين: لكل شيء حيلة وحيلة الذنوب التوبة.
يا سلطان السلاطين، ويا ظل الله في الأرضين، ويا حليم عند الغضب، ويا أشرف ملوك العجم والعرب، اغفر لي ذنبي، واستر لي عيبي.
من أشعاره حضرة الغوري نصره الله تعالى:
لا تؤاخذ ثم اغفر ذنبنا وهو عظيم
وهدى منك ولطفا للصراط المستقيم
لو تعذبني بعدلك
وإن تسامحني بفضلك
أقول: أستغفر الله من الذنب الذي أعلم، ومن الذنب الذي لا أعلم
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا
يا كشاف القلوب، ويا علام الغيوب، ويا ستار العيوب.
أيها الريح الصبا رح بكرة
عند باب خسر وصاحب قران
حضرة السلطان أمير المؤمنين
قانصوه الغوري عزيز مصر وقان
1
حكمه وملكه وعدله
يوسف واسكندر ونوشيروان
بعد بوس الأرض استغفر كثير
لأجل ذنب العبد مكسور الجنان (تم بعون الله تعالى وحسن توفيقه.)
اعتذار من كلام حضرة السلطان
يا إلهي بن كنه كار أنت غفار الذنوب
عيبمني يوزيمه أورمه أنت ستار العيوب
قامو اشلر ساكه معلوم أنت علام الغيوب
بن فقيره قل عنايت إنني أرجو غناك
يا إلهي كجدي عمرم بالخطايا والزلل
دنيايه مشغول أولدم غرني طول الأمل
دون كون شر اشلمكده ما اكتسب خير العمل
سندن أوز كه يوق أميدم لا ولا مولى سواك
يا إلهي حضر تكده حين نقف عريان ذليل
بغري بشلو كوزي يشلو دمعه قاني يسيل
عفو قيل أول كونده صوجم إن أوزاري ثقيل
آني محروم أتمه أنده يوم يرجو الناس لقاك
يا إلهي أول حبيبك هاشمي المصطفى
هم أبو بكر عمر عثمان علي المرتضى
مسعى ومروة حقيحون والمشاعر والصفا
غورنك بغشله صوجن ما له إلا عطاك
يا إلهي غوري قولك ذنبه ذنب عظيم
سن بغشله صوجلريني يا كريم يا رحيم
رحمتوكه در رجائي للخلائق ذا عميم
هم غضب أودينه يقمه كلنا نرجو رضاك
الكوكب الدري في مسائل الغوري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نور بنور رحمته قلوب الملوك والسلاطين، وطهر بماء التوبة سواد وجوه المذنبين المجرمين، سبحانك إني تبت إليك وأنا أول المؤمنين، سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين، اللهم إنك أنت العفو تحب العفو، فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ولا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين، أرجو رحمتك بقولك:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وأعوذ بك من غضبك وسخطك، وأعوذ بك من همزات الشياطين، ذنوبنا كثيرة، وطاعتنا يسيرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين، كلنا تحت الزلة والتقصير، وما اعتصم غير الأنبياء والمرسلين، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، بجاه أشرف النبيين، اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، يا حليم عند الغضب، ويا سلطان السلاطين، لولا ذنب المذنب لما ظهر صفة عفو الكريم، ولولا تقصير المقصر لما بان الغفران وحلم الحليم، في كل ليلة يقول حبيب التوابين: هل من تائب، هل من مستغفر من المؤمنين؟ والصلاة والتسليم على سلطان الأنبياء والمرسلين، وشفيع المذنبين في يوم الدين، الذي نزل في حقه:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
الكوكب الدري
وبعد؛ فإني لما رزقني الله تعالى سعادة الدارين، تشرفت مدة عشر سنين بخدمة سلطان الحرمين الشريفين، خان الأعظم، وخاقان المعظم، مولى ملوك الترك والعرب والعجم، حافظ بلاد الله، ناصر عباد الله، وارث ملك يوسف الصديق، إمام الأعظم بالحق والتحقيق، مظهر الآيات الربانية، مظهر الأسرار الروحانية، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف ذو الفيض النوري، أبي النصر قانصوه الغوري، اللهم أدم سبحات فيضانه على أغصان بستان الإمكان، وعمم إنعامه وإحسانه على أزاهر أشجار الأكوان؛ ليجتني من إرم كرمه، وروضة نعمه، قاص ودان، إلى آخر الزمان.
اللهم أمن بلده، واحفظ ولده، اللهم انصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا ، وكن له حافظا وناصرا ومعينا.
ويرحم الله عبدا قال: آمينا.
قصدت أن أجمع درر فوائد مجلسه في سمط العبارة والكتابة، وأنظم جواهر زواهره في سلك الاستعارة والكناية؛ لأنه ورد عن بعض الأنام: كلام الملوك ملوك الكلام. سيما إذا كان المبحوث عنه تفسير كلام الملك العلام، ونكات أحاديث سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، ومباحث سلطان الإسلام، لو يقول البشر في حق هذا المظهر: إنه سلطان العلماء العاملين، ما هو قليل في حقه، أو يقول في وصفه: إنه سلطان العارفين، ما أفرط في وصفه.
قال أنوشروان: إذا أراد الله بقوم خيرا جعل العلم في ملوكها والملك في علمائها.
وجمعت شيئا يسيرا وفات مني شيء كثير؛ لأن جنابه العالي مرجع للأفاضل، وبابه العظيم مجمع الفضائل والفواضل.
هذا مع ما خصه الله تعالى من الفضائل النفيسة، والمناقب الشريفة اللطيفة؛ أعطاه من العلم أشرفه، ومن الحلم أوفره، ومن الرتب أعلاه، ومن الملك أقواه، ولهذا ارتقى سلطاننا إلى المقام العالي، الذي كان نهاية درجات الأفاضل والأهالي.
وفضل هذا السلطان على سلاطين الدنيا كفضل السلاطين على الرعايا.
فجمعت من بحار فوائده قطرة، ومن شموس محاسنه ذرة، لم أقدر أن أجمع إلا واحدا من ألف، بل من مائة ألف؛ لأني كنت فقير الحال، متزلزل الأحوال، مكسور الخاطر، من الأول إلى الآخر، وقد انضم مع هذا ضعف الجسد، وكثرة أهل الحسد، وقلة ما في اليد.
فجمعت بقدر طاقتي، وبحسب فقري وفاقتي، من مشكلات تفسير كلام الله، ومعضلات أحاديث رسول الله، وألغاز المسائل الفقهية، وأسرار العلوم العربية.
فجمعت من المسائل المشكلة، ألفي مسألة، وسميته: بالكوكب الدري، في مسائل الغوري.
ونرجو من مكارم الأخلاق والشيم، ونلتمس من علماء العالم، أنهم إن يطلعوا على سهو أو خطأ أو نسيان، الذي هو لازم لبني نوع الإنسان، أن يغمضوا العين، ويستروه من البين، وأن يكونوا ساترا للمعايب، لا مظهرا للمثالب؛ لأن أشرف الكلام بعد كلام الملك العلام، الحديث الشريف، ومع هذا لم يسلم من الموضوع والضعيف، مع وجود الصحابة الكرام.
وها أنا أشرع في المقصود، مستمدا بتوفيق الملك المعبود.
1
سؤال:
في قوله تعالى:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام .
قال ابن ملك الروم أمير قرقد: لأي حكمة قال:
سبحان الذي أسرى بعبده ، ولم يقل: بنبيه أو برسوله؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لأنهم لم يسلموا نبوته، ولم يصدقوا رسالته، وكان في أول الأمر وبداية نبوته، والعرب منكرة لرسالته ونبوته، لو يقول: بنبيه أو برسوله، فيقول الكفار نبيه موسى أو عيسى، وليس لك في هذا دخل، فعبر بعبارة لم يشك العرب فيها.
سؤال:
في قوله تعالى:
إنه هو السميع البصير .
قال أعظم سلاطين الدنيا: ضمير إنه، راجع لماذا؟ قيل: إلى الله تعالى.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان خلد الله أيامه، ونصر أعلامه: هذا الكلام ليس مناسبا للمقام؛ لأنه ليس مرتبطا بالكلام السابق، وهو قوله:
لنريه من آياتنا ، بل المناسب أن يكون الضمير راجعا إلى سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي لما تشرف بالوصول إلى هذا المحل، ووصل إلى ما وصل، فالمناسب أن يكون سميعا لكلامه تعالى، بصيرا لصنعه.
قال شيخ الإسلام نقلا من تفسير الإمام: قال صاحب التفسير: يجوز إرجاع الضمير إلى الملك القدير، ويجوز أن يرجع إلى البشير النذير، وهو أقرب.
سؤال:
في قوله تعالى:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .
أول هذه الآية الشريفة يدل على أن الصدقة في الظاهر أولى، ويؤيده ما ذكره الفقهاء أن إظهار الزكاة أولى من إخفائها؛ لأن الإظهار مزيل لشك المشككين في حقه، وأيضا الغير لما ينظر ذلك يميل إلى الخير، فما معنى قوله:
وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ؟ لأنه يدل على أن الإخفاء خير من الإظهار، فما وجه التوفيق بينهما؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لا شك أن إظهار الزكاة أولى إن لم يكن هناك مانع، كالحكام والظلمة الطامعين في أموال الناس، فإخفاء الزكاة أولى؛ لأن الإظهار يحصل منه الضرر، وهو تبيين وجود المال وإظهار عدده.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: في أي صورة قراءة القرآن مبطلة للصلاة؟
الجواب:
قلت : لو حصل للمصلي حدث، فراح حتى يتوضأ، فإذا قرأ في رواحه وهو محدث بطلت صلاته.
درة
كتب ملك الروم، يعني السلطان أبا يزيد،
2
إلى صاحب مصر، يعني السلطان المرحوم قايتباي، لأي سبب تكتبون في أوائل مراسيمكم: بسم الله الرحمن الرحيم؟
قال السلطان المرحوم تغمده الله برحمته في الجواب: نحن متمسكون بالسنة بقوله عليه الصلاة والسلام: كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر. فلأي سبب لا تكتبون أنتم في أول مراسيمكم: بسم الله الرحمن الرحيم؟
سؤال:
لا شك أن بسم الله الرحمن الرحيم أيضا ذو بال، فيحتاج إلى بسم الله أخرى، وينقل الكلام في بسم الله الثانية، فيحتاج بسم الله ثالثة، وينقل الكلام في بسم الله الثالثة؛ لأنه أمر ذو بال، فيحتاج إلى رابعة وهلم جرا، فعلى هذا لم يقدر أحد أن يبسمل في أمر ذي بال أبدا؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: متمم المتمم هو نفسه ولا يحتاج إلى غيره.
سؤال:
قال أهل التفسير: إن سورة الفاتحة مدنية يعني نزلت في المدينة الشريفة، والصلاة إنما فرضت في مكة؛ فما وجه التوفيق بينهما؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لا يرد هذا السؤال إلا على من هو قائل بفرضية الفاتحة في الصلاة، أما عند الحنفية فلا إشكال.
سؤال:
قلت: ما الدليل على عدم فرضية فاتحة الكتاب في الصلاة عند السادة الحنفية؟
3
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: قول الملك الديان
فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، والقرآن أعم من الفاتحة وغيرها.
سؤال:
إن قلت: ما دليل السادة الشافعية والمالكية وأحمد على فرضية الفاتحة في الصلاة؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: قول النبي
صلى الله عليه وسلم : لا صلاة إلا بالفاتحة.
سؤال:
إن قلت: فما تقول السادة الحنفية في جواب هذا الحديث؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: إن القرآن لا ينسخ بالحديث، ولا يخصص أيضا؛ لأن الحديث ما ثبت إلا بخبر الواحد، وخبر الواحد لا ينسخ النص القطعي، فلا يرد هذا الحديث علينا.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان : هل يجوز أن يقرأ في الصلاة بلسان الفارسي أم لا؟
الجواب:
من قرأ بالفارسية في الصلاة يجزيه عند أبي حنيفة، أما عند صاحبيه فلا يجوز له إلا عند العجز؛ موافقا لمالك رحمه الله والشافعي وأحمد.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: هل يجوز أن يقرأ في الصلاة بغير لغة الفارسية عنده أم لا؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: القياس يقتضي الجواز بأي لغة كان، ولكن خصص أبو حنيفة لسان الفارسي من بين الألسنة؛ لأنه لغة مقررة مضبوطة، بخلاف اللغات الأخرى؛ فإنها لا ضبط لها.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: إذا قرأ شخص في الصلاة التوراة أو الإنجيل يجزيه أم لا؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: إذا كان ترجمة آية من الآيات القرآنية يجزيهما في الصلاة، وإلا فلا.
سؤال:
قال الله تعالى في كتابه الكريم وكلامه القديم:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون .
قال حضرة مولانا السلطان: لا شك أن الويل واد في جهنم أو جب فيها على اختلاف الروايات، فكيف الذين سهوا في الصلاة يستحقون الويل، مع أن الشارع أمر لجبر السهو بسجدتي السهو؟
وأيضا ورد في الحديث الشريف عن سيد الأنبياء: رفع عن أمتي السهو والخطأ.
الجواب:
قال المفسرون: المراد بالساهون أي التاركون.
قال حضرة مولانا السلطان: حمل (الساهون) على (التاركون) خلاف الظاهر؛ لأن الترك من باب العمد لا من باب السهو.
قال صاحب الكشاف: المراد من الساهون أي المنافقون.
قال حضرة مولانا السلطان: هذا الجواب أيضا ليس بسديد؛ لأن المنافقين لا يصلون؛ لأن الصلاة لا تجوز إلا بالنية، والمنافق لا ينوي الصلاة.
قال حضرة مولانا السلطان: اللهم إلا أن يقال: عمل المنافق شبيه بالصلاة.
الجواب:
قال البغوي: فرق بين السهو في الصلاة والسهو عن الصلاة، أما السهو في الصلاة فهو مختص بالمؤمنين، ويجبر بسجدتي السهو.
وأما السهو عن الصلاة وهو الغفلة عن الصلاة والتأخير عن وقتها فهو من عمل المنافقين.
قال ابن عباس: الحمد لله الذي قال: عن صلاتهم. ولم يقل: في صلاتهم.
الجواب:
قال مولانا السلطان: هذا الجواب لا يدفع السؤال؛ لأن الذي سها عن صلاته وغفل عنها حتى خرجت عن وقتها لا يستحق الويل وهو يجبر بالقضاء.
قال قاصد الهند:
4
إن المراد بقوله تعالى:
عن صلاتهم ساهون
إذا انضم معه الرياء ومنع الماعون، فإذا اجتمع هذه الصفات في شخص استحق الويل.
قال حضرة مولانا السلطان: لا شك أن الرياء ومنع الماعون مرتكبهما يستحق الويل بغير انضمام السهو عن الصلاة، ولا يحتاج إليه انضمام السهو عن الصلاة، فسؤالنا في السهو عن الصلاة لا عن الرياء ومنع الماعون.
5
قال الإمام الجليل أعني الشيخ كمال الدين الطويل: سؤال حضرة مولانا السلطان في غاية القوة، وجوابنا في غاية الضعف.
قال شيخ الإسلام، وكهف الأنام، الرئيس ابن الرئيس إلى آدم الصفي، أقضى القضاة الحنفي، عامله الله بلطفه الخفي: نحن معترفون بعجزنا أنه لا يمكن الخروج عن عهدة هذا السؤال إلا بالتأويل، ولا يمكن أن يقال جوابه بوجه التفسير.
قال: قال حضرة مولانا السلطان: بل الصواب في الجواب أنه من المشكلات القرآنية، ومعضلات الآيات الفرقانية، وهو من قبيل
وما يعلم تأويله إلا الله
ورسوله.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: لأي شيء جعل الله الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين، والماء في المنخرين، والعذوبة في الشفتين؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: إن الله تعالى خلق العينين فجعلهما شحمتين وخلق الملوحة فيها؛ لحفظ العين، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا، وجعل المرارة في الأذنين؛ لأنه لو لم يكن كذلك لهجمت الدواب وأكلت الدماغ، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل ويجد منه الروائح الطيبة من الروائح الكريهة، وجعل العذوبة في الشفتين؛ ليجد ابن آدم لذة المطعم والمشرب.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: فكيف يمكن تطهير هذا الإناء الخزف الجديد بغير الغسل؟
قلت: إذا انقلب الخمر خلا في الإناء فيطهر بغير غسل.
سؤال:
سأل قرقد بك
6
ابن بايزيد خان عن كراهة لبس الأحمر، وكراهة لبس الأصفر؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لأن لبس فرعون أحمر، ولبس النمرود كان أصفر، وهما اللذان ادعيا الألوهية، ولهذا صار الأحمر والأصفر مكروهين في شرعنا.
سؤال:
قال شيخ الإسلام: ثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه لبس الأحمر، وكثير من الصحابة أيضا لبسوا ذلك؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: مقصود سيدنا علي والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من لبس الأحمر المهابة في قلوب الكفار، والمهابة بأي وجه تحصل يجوز للمسلمين القيام به.
سؤال:
هل ورد عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه عمل الخضاب أم لا؟
الجواب:
ثبت في الصحيح أنه فعل ذلك بالحناء والكتم، وأمر مشايخ الصحابة بالخضاب؛ حتى يهابهم الكفار.
حكاية
لما بعث حضرة مولانا السلطان المماليك والجواري إلى قرقد بك فلم يقبلهم، وبعث كتابا إلى حضرة مولانا المقام الشريف، والمكتوب في كتابه هو هذا:
قال الجويني: في زماننا هذا لا يجوز وطء السراري ولا استخدامهن ولا استخدام العبيد؛ لأنه ما ورد الخمس بالطريق الشرعي في بيت مال المسلمين فلا يخلو (إما أن يسرقون النصارى من النصارى، وإما يروحوا المسلمون فيجيبونهم، وكلا التقدير لا يزنون خمس بيت المال ففيه حق الغير).
7
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: أما أخذ النصارى من النصارى أو النصارى من اليهود فيجوز لنا استخدامهم كما ورد في زمنه
صلى الله عليه وسلم
أن المقوقس أخذ من النصارى أو قبط مصر فتصرف النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتصرف أيضا؛ قياسا على عمله.
وأيضا لا يجب علينا التفتيش، ويجب علينا في حق المسلمين ظن الخير.
وأيضا يرد عليكم في كل ما يطلع من الأرض: هل وزنوا خراج بيت المال بالتمام والكمال، ولم يكن مزروعا في الأرض المغصوبة، وما ظلموا الفلاحين؟
فجوابنا في المماليك والجوار مثل جوابكم في هذا.
فبعث الجواب مولانا السلطان إلى قرقد بك، فأفحم عن الجواب، وغلب بعد هذا، فجابوا من فتاوى السبكي نقلا؛ وهو هذا:
قال الجويني من كتاب التبصرة في الوسوسة باب الإيضاح والاحتياط فيها:
أصول الكتاب والسنة والإجماع متطابقة على تحريم وطء السراري اللاتي يجلين من الروم والهند والترك إلا أن ينصب في الغنائم من جهة الإمام من يحسن قسمتها من غير حيف وظلم.
ثم بسط الكلام في الدليل على ذلك.
فما حكم هذه الجواري التي تجلب اليوم من تلك البلاد إذا قلنا بما جعل الرافعي المذهب من أن الجماعة اليسيرة إذا دخلوا دار الحرب متلصصين وأخذوا شيئا كان غنيمة مخمسة؛ فإن الغالب أن ما يجلب اليوم إنما يوجد على هذا النحو. نعم الإمام رحمه الله وجماعة جعلوا المذهب أن ذلك يختص به السارق ولا يخمس، فعلى هذا لا إشكال فيما أخذ سرقة، والمسئول بيان ذلك، وما الراجح دليلا في أن ذلك غنيمة مخمسة أم لا؟ مع أن ترجيح الإمام الرافعي بأنه غنيمة يخالف قوله، فإن الغنيمة مال حصل بالقتال؛ إذ الفرض أن ذلك أخذ خفية على وجه السرقة.
الجواب:
قال السبكي: كتاب التبصرة للشيخ أبي محمد من أحسن الكتب، وهو فرد في نوعه، ولا شك أن الذي قاله الورع؛ وأما الحكم اللازم فأقول: الجارية المجلوبة إما أن يعلم حالها أو يجهل، فإن جهل فالرجوع في ظاهر الشرع إلى اليد إن كانت صغيرة، وإلى اليد وإقرارها إن كانت كبيرة. فاليد حجة شرعية والإقرار، ولا يخفى مع ذلك أن الورع مستحب.
وإن علم حالها فهو أنواع:
أحدها:
من تحقق إسلامها في بلادها وأنه لم يجر عليها رق قبل ذلك، فهذه لا تحل بوجه من الوجوه إلا بالزواج بشرطه.
الثاني:
كافرة ممن لهم ذمة وعهد فكذلك.
الثالث:
كافرة من أهل الحرب مملوكة لكافر حربي أو غيره، فباعها فهي حلال لمشتريها.
الرابع:
كافرة من أهل الحرب قهرها أو قهر سيدها كافر آخر، فإنه يملكها كلها ويبيعها لمن يشاء، وتحل لمشتريها.
وهذا النوعان الحل فيهما قطعي، وليس محل الورع، كما أن النوعين اللذين قبلهما الحرمة فيهما قطعية.
النوع الخامس:
كافرة من أهل الحرب لم يجر عليها رق، وأخذها مسلم، فهذا على أقسام:
أحدها:
أن يأخذها جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل أو ركاب فهي غنيمة أربعة أخماسها للغانمين، وخمسها لأهل الخمس المذكورين في الأنفال، وهذا لا خلاف فيه.
وغلط الشيخ تاج الدين الفزاري فقال: إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام، يفعل فيه ما يراه مصلحة وصنف في ذلك كراسة وسماها: (الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة).
وانتدب له الشيخ النواوي فرد عليه في كراسة أجاد فيها. والصواب معه، وقد بين غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم
وسراياه كلها مما حصل فيه غنيمة أو فيء قسم وخمس على ما دل عليه كتاب الله.
وكذلك غنائم بدر وإن كانت قد جعلها لله ولرسوله بقوله:
قل الأنفال لله والرسول
وقسمها
صلى الله عليه وسلم
وأعطى منه سبعة أو ثمانية لم يحضروا الواقعة؛ لأنها كانت له.
قيل: إنما أعطاهم من نصيبه.
وقال الشافعي: إن الأول هو الرواية الظاهرة عنده، ونزل بعد ذلك قوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم
الآية، فما أعطى النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك أحدا لم يشهد الوقعة بينهم من أربعة أخماس الغنائم، ولا أخرج الخمس عن أهله، ومن تتبع السير وجد ذلك فيها مفصلا.
ولو قال الإمام: من أخذ شيئا فهو له، لم يصح القسم.
الثاني:
أن ينجلي الكفار عنها من غير إيجاف من المسلمين أو يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة وما أشبه ذلك، فهذه يصرف لأهله الذين ذكرهم الله في سورة الحشر، والخمس منه لأهل الخمس، والأربعة الأخماس للشافعي فيها اليوم قولان، أصحهما أنهما للمقاتلة والثاني أنها للمصالح.
فالجارية التي توجد من الفيء على هذا الحكم؛ فكل جارية علم أنها من الغنيمة، أو من الفيء، أو من المتولي عليهم، أو الوكيل عنهم، أو ممن انتقل الملك إليه من جهتهم، ولو بقي فيها قيراط لا يحل تملكه ممن هو له.
والقسم الثالث:
أن يروح واحد أو اثنان بإذن الإمام، فما حصل لهما من الغنيمة يختصان بأربعة أخماسه، ويأخذ أهل الخمس الباقي.
هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، فلا فرق بين أن تكون السرية قليلة أو كثيرة؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث ابن أنيس سرية وحده، وبعث عمرو بن أمية الضمري مع أنصاري سرية وحدهما.
وبوب الشافعي على ذلك في الأم: «الرجل يغنم وحده».
وذكره الأصحاب الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والجرجاني والروياني وغيرهم.
القسم الرابع:
أن يغزو واحد أو اثنان أو أكثر بغير إذن الإمام، فالحكم كذلك عندنا وعند الجمهور فيما يتعلق بالغنيمة وإن كان الغزو بغير إذن الإمام مكروها.
الخامس: (أن يدخل الواحد) أو الاثنان أو نحوهما ليسوا على صورة الغزاة بل المتلصصين. وقد ذكر الأصحاب إذا دخلوا يخمس ما أخذوه على الصحيح وعللوه بأنهم غرروا بأنفسهم وكان كالقتال.
وهذا التعليل يقتضي أنه لم يقطع في الجملة عن الغزو؛ والإمام في موضع حكى هذا وضعفه وقال: إن المشهور عدم التخميس. وفي موضع ادعى إجماع الأصحاب على أنه يختص به ولا يخمس، وجعل مال الكفار على ثلاثة أقسام: غنيمة وفيء وغيرهما كالسرقة فيملكه من أخذه؛ قياسا على المباحات، فوافقه الغزالي على ذلك وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال البغوي: إن الواحد إذا أخذ من حربي شيئا على جهة السوم فجحده أو هرب به اختص به.
فيما قاله نظر: يحتمل أن يقال: يجب رده؛ لأنه كان ائتمنه، فإن صح ما قاله البغوي وافق الغزالي بطريق.
قال أبو إسحاق: إن المأخوذ على جهة الاختلاس فيء.
وقال الماوردي: إنه غنيمة، وما قاله الماوردي موافق لكلام الأكثرين، وما قال أبو إسحاق: إن أراد بالفيء الغنيمة حصل الوفاق وإلا فلا، وإن زعم أنه تبرع من المختلس ويعطي خمسه لغيره من المقاتلة وأهل الخمس فبعيد.
ورأيت في كتب المالكية من العتيقة عن ابن القاسم في عبد لمسلم أبق من سيده، فدخل بلاد العدو وخرج طائعا بأموال أنها كلها له ولسيده ولا يخمس، وفي عبد دخل قرية من قرى العدو متلصصا فأخذ مالا يخمس.
فقيل له: ما الفرق؟ فقال: إن الذي أبق لم يدخل ليصيب مالا ولا خرج ليقاتل، فلذلك لم أخمس ما أخذه بخلاف المتلصص، وهذا فرق حسن لو قيل بأن من لم يكن على صورة الغزو ولا قصده إليه يختص بما أخذه، ومن كان كذلك يخمس ما أخذه كان له وجه، ولكن قوة كلام الشافعي وجمهور أصحابنا يأباه، ويجعلون مال الكفار كله قسمين: إما فيئا وإما غنيمة، ولا ثالث لهما إلا على ما قاله الإمام الغزالي، وهو وجه لبعض أصحابنا.
وقال سحنون من المالكية: إن ما أخذه العبد لا يخمس مطلقا؛ لأن المخاطب بقوله:
واعلموا أنما غنمتم
الأحرار. وعلى قياسه يكون ما أخذه النساء والصبيان كذلك، فهذا القسم الخامس من النوع الخامس قد اشتمل على صور ولم يفردها الأصحاب؛ بل ذكروها مندرجة مع القسم الرابع، فالجارية المأخوذة على هذه الصورة فيها هذا الخلاف، واجتنابها محل الورع.
سؤال:
لو قتل شخص بين جماعة فما حكمه؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: إن ظهر القاتل وأثبت عليه أنه قتله بآلة الجرح قتلناه، وإن ظهر أن بعضهم ضربوه بآلة الجرح، وبعضهم بغير آلة الجرح نأخذ الدية؛ لأن الحدود تسقط بالشبه، وإن ظهر أن الكل ضربوه بآلة الجرح فنقتل الكل. أما دية المسلم الحر البالغ فألف دينار، ودية المرأة نصف دية الرجل، ودية الذمي ثلث دية المسلم، ودية الذمية نصف الثلث، ودية المجوسي خمس الثلث.
سؤال:
لو قتل عبد مسلم حرا ذميا فما حكمه؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: نقتل العبد المسلم بالذمي في الشرع في مذهبنا؛ لأنه تعالى قال:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين .
وأما قوله:
الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فاستدل به الشافعي؛ لأن عنده لا يجوز قتل المسلم بالذمي وإن كان مرقوقا.
قال أبو بكر الرازي في كتابه وكان معاصرا للبخاري: إن عمر وعليا وعمر بن عبد العزيز قتلوا المسلم بالكافر.
سؤال:
فعلى هذا لو يقتل الوالد ولده، فهل يقتل الوالد به أم لا؟ مع أن آية:
أن النفس بالنفس
شاملة لهما؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: نخصص الآية الشريفة ولا نقتل الوالد بالولد لأجل حرمة الأبوة، ونظيره لا يجوز قتل السيد بعبده.
سؤال:
إذا قتل ذمي ذميا ثم أسلم القاتل، فما حكمه؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: نقتله وندفنه في مقابر المسلمين؛ لأن الإسلام يرفع حق الله لا حق الناس.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: في بلاد بلغار كيف يصلون العشاء؛ لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا بقدر ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع؟
الجواب:
قال صاحب الكنز: نحن نقيس هذه المسألة بمسألة شخص مقطوع الرجلين من الكعبين أو مقطوع اليدين من المرفقين، فلا شك أنه لا يجب عليهما غسل اليدين ولا غسل الرجلين، فلا يجب على أهل بلغار أيضا صلاة العشاء؛ لفقد الوقت عندهم!
وقيل: يقاس على خروج يوم الدجال؛ لأنه قال
صلى الله عليه وسلم : يوم كسنة، ويوم كشهر، اقدروا له. حين سأله الصحابة عن الصلاة والصوم في يوم الدجال.
فنقول: نعتبر صلاتهم وصومهم بأقرب البلاد إليهم.
وقيل: نعتبر صلاتهم وصومهم بمكة.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: والمشكل في بلادهم أيضا مسألة الصوم؛ لأن الشمس لا تغيب عندهم إلا بمقدار أداء الصلاة، فهل يشتغلون بالأكل حتى يقووا على صوم الغد في شهر رمضان أو بالصلاة؟
فنقول في الجواب: نعتبر صومهم وصلاتهم، ونقدر بأقرب البلاد إليهم أو بمكة.
سؤال:
سأل ملك التتر شاهي بك خان لما سأل علماء خراسان: وهو أنه إذا أخبر شخصا مخبر صادق وبشره بالفوز والنجاة لم يبق له بعد هذا خوف، فما تقولون في عمر رضي الله عنه مع أنه من العشرة المقطوع لهم بالجنة، وأخبرهم المخبر الصادق بذلك؛ فكيف بعد هذا يجتهد في العبادة غاية الجهد؟ وما سبب خوفه رضي الله عنه من أهوال القيامة حتى قال: ليتني كنت حشيشا يابسا، وليت أمي لم تلدني، مع أنه ليس عنده شك في بشارة سيد المرسلين؟
الجواب:
قال سلطان العارفين عز نصره: لا شك أن عمر من العشرة المبشرة بالجنة، وجزم بقول النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولكن خاف السيد عمر من مكر الله
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
سؤال:
سأل شاهي بك خان علماء سمرقند وخراسان: هل يرث ابن الابن مع وجود الابن من ميراث أبيه شيئا؟
الجواب:
قالوا: لا يرث.
سؤال:
قال الملك: والقياس أن يرث حصة أبيه؛ لأن ابن الابن يرث مع وجود البنت حصة أبيه؛ فما الفرق بين هاتين الصورتين؟
الجواب:
قيل: إن ابن شريح عمل بهذا، ويجوز للملك أن يقوي قولا ضعيفا.
قال شاهي بك: أنا أقوي قول ابن شريح، فأمر الملك أن يكتبوا مراسيم ويبعثوها إلى عمال جميع مملكته أن لا تمنعوا ابن الابن مع وجود الابن من ميراث أبيه، فإذا قتل الملك قبل نفوذ المراسيم في البلدان.
8
جواب:
قال حضرة مولانا السلطان: أما سمع شاهي بك حديث البخاري، ومضمونه أنه لا يرث ابن الابن مع وجود الابن؟ فهذه المسألة أخذت من السنة لا بالقياس، فكيف غفل شاهي بك عن هذا؟
سؤال:
إذا غابت الشمس في ثغر إسكندرية ولم تغب على من برأس المنار الذي بها، فهل يجوز أن يفطر المؤذن الذي عليه بعد أذانه؟
الجواب:
لا يجوز الفطر للمؤذن ولا من كان حاضرا مع المؤذن على المنار، ويفطر أهل البلد بأذانه. ذكره في الخلاصة.
سؤال:
في قوله تعالى:
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر
الآية، فلأي حكمة قدم لفظ الكوكب على الشمس والقمر مع أن النيرين أحق بالتقديم؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: هذا من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
سؤال:
قلت: فعلى هذا المناسب أن يقدم لفظ القمر على الشمس؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: بل الصواب في الجواب أن يوسف عليه السلام رأى في المنام على هذا الترتيب، يعني رأى أولا الكواكب، ثم رأى الشمس، ثم رأى القمر.
سؤال:
قوله تعالى:
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
لأي حكمة ذكر لفظ رأيت مرأتين، فهلا اكتفي بلفظ واحد؟
الجواب:
لأن الرؤية الأولى بمعنى رؤية المنام، والرؤية الثانية بمعنى رؤية العين.
سؤال:
لأي حكمة ذكر الله تعالى قصة نوح في القرآن في خمسة وعشرين موضعا، وذكر قصة موسى في تسعين موضعا، ولم يذكر قصة يوسف إلا في موضع واحد، مع أنه قال تعالى في حقها: إنها أحسن القصص؟
الجواب:
قيل: لأن سورة يوسف متضمنة التشبيب بالنساء، وورد الحديث في النهي عن تعليمهن سورة يوسف!
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: حديث النهي غير معقول؛ لأن اللواط أقبح من تشبيب النساء، فعلى هذا لا بد من نهي الرجال عن قراءة آيات السيد لوط وفعل قومه. وأيضا يستلزم هذا نهي النساء عن قراءة قوله تعالى:
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ، فإذا كان ذكر التشبيب منهيا عنه فالنهي عن ذكر الكفر والخيانة مع الأنبياء أولى.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: بل الحق أن يقال: إن يوسف الصديق نبي ابن نبي ابن نبي، كما ورد في حقه: الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وما وقع التشاجر له مع أحد إلا مع إخوته، وكانت مهابة إبراهيم الخليل في قلوب الناس بخلاف نوح عليه السلام فإنه كان ابن أخنوخ، ولم يكن أبوه نبيا، وكان فقير الحال في الصورة الظاهرة، فوقع له مع قومه تشاجر كثير بسبب الدعوة، فذكر الله تعالى كل واقعة في موضع من القرآن.
وأما حكمة تكرار قصة موسى فهي أنه لما نشأ موسى في بيت فرعون عليه لعنة الله، فأنكر فرعون وقومه غاية الإنكار عليه وابتلي بنو إسرائيل بذبح الأولاد واستحياء النساء بسببه قبل ولادته مع أن موسى معه تسع آيات بينات كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والثعبان واليد البيضاء، وقال قوم فرعون في كل منها لما ابتلوا:
لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل
فلما كشف عنهم العذاب ردوا إلى كفرهم وقالوا:
مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين
فوقع لموسى مع بني إسرائيل وقائع.
وقالوا له:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، فذكر الله تعالى كل واقعة في موضع، وهذا سبب ذكره في تسعين موضعا في القرآن.
قال شيخ الإسلام: والله ما في الدنيا مثل ذهن مولانا السلطان، ولا مثل استحضاره وفهمه، وقام على قدميه وقبل الأرض بين يديه، وقال: لولا دهشة السلطنة وحرمة المملكة لرقصت من الفرح في هذا المجلس بسبب سماع هذه الأجوبة الدقيقة ، واستماع هذه الفوائد العجيبة.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: اللعب بالشطرنج مباح أو لا؟
الجواب:
ورد أن أبا هريرة وعلي بن حسين زين العابدين وسعيد بن المسيب وإبراهيم بن سعد وإبراهيم بن طلحة كانوا يلعبون الشطرنج.
وأيضا الشطرنج فيه تدبير الحروب فأشبه اللعب بالحراب، فلم يثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم
نهي صحيح عن اللعب به، وأما إذا ضم إليه اشتغال عن الصلاة أو غيرها من العبادات فهو حرام إذ ذاك ليس للشطرنج نفس الحرمة، وإن لم يواظب فهو مكروه، وإن واظب صار صغيرة، ذكره الدميري.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: إذا وقف شخص وقفا على الفقراء، وفي آخر ذلك حصل له فقر شديد، فهل يجوز له أن يأكل شيئا من وقفه أم لا؟
الجواب:
في هذه المسألة خلاف، قيل: ليس يجوز له أن يدخل نفسه مع الفقراء؛ لأنه حين وقف وقفه ما كان في نيته أن يدخل نفسه.
وقيل: يجوز له أن يدخل نفسه في ذلك.
وهذه المسألة مذكورة في كتب الأصول في بحث الاستثناء.
سؤال:
الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟
كتب شيخ الإسلام (يعني) الإمام الأعظم قدوة الأنام في العالم (أعني) برهان الدين بن أبي شريف، وقد تصدى لهذا، الجواب الشريف، وهو هذا.
الجواب:
الحمد لله على ما ألهم، من كشف ما أوهم، وبيان ما أشكل وأبهم، ووفق للدقائق وفهم، وفاوت بين الأفهام فبعض من بعض أفهم.
أحمده على ما منح من معارف بها الكريم فتح، ووسع لها الصدر وفسح، ففي رياضها الطرف سرح، ومن حياضها نهل طرف الأسرار ومرح، خاض المعاني لجج بحر المعاني لما لمشكلها شرح، كم نشأة أدام مدامها وللقلب شرح.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أنزلنا منازل الأمان، بالتحلي بجواهر الإيمان، فإقرارنا بألفاظنا، وتصديقنا بجناننا من جملة أفعالنا، وصفات من أقررنا له بالتوحيد والتقديس والتمجيد لها وصف القدم، فمن حقق لم تزل منه القدم.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الذي جلى الظلم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا من بالشرك ظلم.
وبعد؛ فقد طرق المسامع، ما لا يرضاه السامع، من حمل كلام الأئمة، على ما لا يرضى إطلاقه علماء الأمة، بما لا يورد في كل الأمكنة، إلا ذوو الأفهام المتمكنة، فبعض من قصد إدراكه ربما أخطأ في فهم المراد، فخاض بحار الحيرة ولم يجد له من راد، فإنه نقل عن بعض مشايخ الحنفية مقالة ذكرها، وغفل أن كلا من محققيهم أنكرها، من أن الإيمان غير مخلوق بل قديم، وأن من قال بحدوثه فهمه غير مستقيم، وأنه يخشى عليه الكفر، وإطلاق هذا القول من أشد النكر.
وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه حين سألوه في وصية يذكرها في مرض الموت ويسمعونها منه: نقر بأن العبد مع جميع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق، فأشعر أنه مسبوق بالعدم غير موصوف بالقدم.
وفي آخر كلام أبي الليث السمرقندي آخر مقدمته كلاما لنفي الخلاف يؤدي.
قلت: ومن حقق وأورد الكلام موارده، جعل المسألة على حالين واردة، فالإيمان الذي هو قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، كل ذلك أفعال العباد، ولا ينكر حدوثه إلا مكابر ذو عناد.
وأما الإيمان الذي هو وصف لله دل عليه اسمه المؤمن؛ فالقائل بقدمه محسن متقن؛ بمعنى أنه المصدق في:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
الناطق بأحديته، فلا خلاف أن ذلك ليس موضع خلاف ولا محله، وأن القائل بحدوث ذلك خارج عن الملة.
وليس الخلاف في أصل المسألة مختصا بالحنفية، بل حكى الأشعري الخلاف لغيرهم في مقالة مفردة، هي لنا بالإجازة مروية.
وممن ذهب إلى القول بخلق الإيمان من أهل النظر حارث المحاسبي، وجعفر بن حرب، وعبد الله بن كلاب وطوائف أخر.
وذكر القول بقدمه الإمام أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث معتبرة، ومال إليه الإمام الأشعري، وكل قال بحسب ما فسره.
فمن ظن أن بين هذه الأمة تكفيرا ضل ضلالا بعيدا، ولا يجد له على مقالته معينا.
معاذ الله أن يكون من المرجع في الدين إليهم يكفر بعضهم بعضا، ذلك اجتراء وافتراء عليهم.
فالأئمة منحهم الله علم الباطن والظاهر معا، ولسهولة الظاهر كان الكل فيه لهم تبعا.
وإنما سهل عندهم أمره ما في القضاء والإفتاء من محبة الأمرة، هلا قلدوا أبا حنيفة في ورعه وهجره وسنه، وفي إحياء الليل كان يصلي الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة.
علت هممهم فنالوا الولاية الأخروية، فهم أبعد الناس من ملاحظة ولاية دنيوية، وهذا شأن بقية الأئمة في المراقبة، والتدقيق في قمع النفس والمحاسبة.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: الإيمان الذي هو التصديق؛ هل هو نظري يحتاج إلى فكر، أو بديهي أي لا يحتاج إلى نظر وكسب؟
الجواب:
قال أقضى قضاة العالم، شيخ الإسلام في العرب والعجم، قدوة أئمة المحققين، قبلة العلماء في العالمين، الشيخ كمال الملة والشريعة والحقيقة والتقوى والفتوى والدين، محمد القادري أدام الله أيامه:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد؛ فهذه مسألة لطيفة، ذكرت في الحضرة الشريفة، حضرة مولانا الإمام الأعظم، والهمام المعظم، من فاق ملوك الزمان بعلمه، وفضلهم بجودة فكره ودقة فهمه، إن ذكرت لديه المشكلات بادر إلى حلها، وإن عرضت عليه المعضلات أوضحها لأهلها، كم من فائدة جليلة يفيدها، ونكتة بديعة يبديها ويعيدها، مجالسه بأرباب الفضائل مشحونة، ومجالسه لا يرضى أحدا دونه.
اللهم زده من لدنك علما، وتوفيقا وحلما، وأدم به نفع العباد، وأصلح بوجوده فساد البلاد، آمين يا رب العالمين.
الإيمان عند بعض المشايخ كسبي يثبت باختيار المصدق؛ ولهذا يثاب عليه، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، واستشكل بأن التصديق أحد قسمي العلم، والعلم من جملة الكيفيات النفسانية دون الأفعال الاختيارية، فلا يصح تفسيره بالفعل الاختياري في قولهم: التصديق أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر. وقول بعض المشايخ: التصديق عبارة عن ربط القلب على ما علم من إخبار المخبر أنها تعم تحصيل تلك الكيفية، يكون بالاختيار في مباشرة الأسباب في صرف النظر، ورفع الموانع ونحو ذلك.
وبهذا الاعتبار يقع التكليف بالإيمان؛ إذ التكليف إنما يكون بالأمر الاختياري، والكيفيات النفسية ليست أمورا اختيارية ، فالتكليف بها معناه التكليف بمباشرة أسباب حصولها، وكان هذا المراد بكونه كسبيا اختياريا، ولو كان الإيمان من الأفعال لما صح الاتصاف به حقيقة إلا آن المباشرة والتحصيل؛ لأن هذا النوع من العرض لا يبقى عند الحكماء بخلاف الكيف.
ولا يخفى أنه لا يشترط أن تكون تلك الكيفية حاصلة دائما بالفعل، بل الشرع اعتبر وجودها دائما ما لم يحصل ما ينافيها سواء حصلت الغفلة بنوم أو غيره، على أن شارح المقاصد يميل إلى بقاء العرض من القطع بأن إيماننا الآن هو إيماننا من قبل بعينه.
فإن قيل: أطفال المؤمنين مؤمنون مع عدم التصديق؟
الجواب:
أن الحاصل لهم إيمان حكمي لا حقيقي. والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: إطلاق لفظ المحال على الممتنع؛ هل هو على الحقيقة أو على المجاز؟
الجواب:
قال أقضى القضاة أعني العالم الرباني الشافعي الثاني: نحمدك على كل حال يا شديد المحال، ونشكرك يا ذا الإفضال على عدم تكليفنا بالمحال، ونصلي على نبيك محمد الهادي من الضلال، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.
وبعد؛ فإن خير المجالس ما جليت فيه عرائس النفائس، وتليت فيه آيات القرآن العظيم، ورويت فيه أخبار النبي الكريم، وذكرت فيه المعارف الدينية، والعوارف اليقينية، والرقائق الأدبية، والدقائق العربية، ومما هو مختص بذلك، وشاع ذكره في الممالك، مجلس يفخر على سائر المجالس، ويزهو بأجلى حلل الملابس، مجلس سلطان الإسلام، وزمام الأنام، وحامي الزمام، مجلس قد سما وتشرف، حين حله الملك الأشرف.
قد كسى منه بهجة وجمالا
وعلوا بين الورى وكمالا
وسما وارتقى وحل محلا
من يرم مثله يروم محالا
كم فيه من مسائل لطيفة، وأبحاث شريفة، يطرحها الإمام على الأقوام؛ ليختبر ما عندهم من الأحكام؛ اقتداء بخير الأنام. كم فاضل ناظره وجادله، وسائل أفاده وجاد له، ملك فاق ملوك الآفاق، وحاز في حلبة الفضائل قصب السباق، غواص على استخراج المعاني الدقيقة، فحاص عن معرفة المجاز من الحقيقة، قريب من رعيته، ناظر إليهم ببصره وبصيرته، كثير السؤال عن أخبارهم؛ لينظر في مصالح كبارهم وصغارهم، قائم في عمارة البلاد، عازم على نصرة الدين وآمر بالجهاد.
بلغه الله آماله، وختم بالصالحات أعماله.
هذا؛ ومما صدر بين يديه، وكان هو المعول فيه عليه، حين ذكر لفظ المحال، ما وقع عنه حينئذ السؤال: هل له أصل في كلام العرب منقول، أو هو مما اصطلح عليه أهل الأصول؟
وحاصل ما ظهر في الجواب، بفضل الكريم الوهاب، أن له أصلا مأخوذا هو منه، وإن كان قد نقل في اصطلاح آخر عنه؛ إذ لا ريب أنه في الأصل اسم مفعول من أحال أو من الإحالة على اختلاف القولين، من أهل المصرين،
9
ويرادفه المستحيل، وهو ما استحال من الاستقامة إلى الاعوجاج، فالمحال والمستحيل ما ليس بمستقيم على ما يؤخذ من كلام الجوهري، ولا ينافيه تفسير القاموس له بما عدل عن وجهه، ثم استعمله الأصوليون في الممتنع عقلا وعادة كالجمع بين السواد والبياض، أو عادة لا عقلا كالمشي من الزمن والطيران من الإنسان حقيقة عرفية خاصة ومجازا لغويا، وكذلك استعمله الفقهاء في تعليق الطلاق وزادوا على الأصوليين المستحيل شرعا كنسخ صوم رمضان، وأبقوه على حقيقته في نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه إلى المحال، فسموا المحال بدينه على آخر محالا، وقد جمع ابن بنت الأعز بين الأمرين مع التجوز على ما لا يخفى فقال:
ومن رام في الدنيا حياة خلية
من الهم والأكدار رام محالا
وهاتيك دعوى قد تركت دليلها
على كل أبناء الزمان محالا
اللهم زد سلطاننا علما وفهما وتواضعا وحلما وإيمانا وتصديقا وتوفيقا وتحقيقا، واجعل أعلام عزه مرفوعة، ورايات أعدائه مخفوضة وموضوعة، ومتع المسلمين بدوامه، وبارك اللهم في لياليه وأيامه، وأسبغ عليه نعمك الوافرة، واجعله من سعداء الدار الآخرة.
جوهرة
قال حضرة مولانا السلطان: جماعة من العلماء جاءوا إلى خدمتي ومعهم قصة وفي عنوانها مكتوب:
والله الغني وأنتم الفقراء ، فقلت في جوابهم: فإذا عرفتم ذلك فلماذا تركتم الغني وطلبتم من الفقير، بل المناسب أن تكتبوا على قصتكم: «إن أعطيتم فالإعطاء من الله، والأمر مسوق إليك، وإن منعت فالمنع من الله والعتب عليك.» قال عز نصره: رأيت هذه العبارة مكتوبة على حائط فحفظتها.
سؤال:
قال قرقد بك بن أبي يزيد خان لما رأى مصحفا بخط عثمان بن عفان، وفيه أثر دمه رضي الله عنه، قال: لا شك أن الدم في الشرع نجس، فكيف تركتم هذا الدم في المصحف الشريف ولم تغسلوه؟!
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: هذا المصحف إمام لمصاحف الدنيا، ورسم الخط العثماني سند على العلماء والفقهاء والقراء، ولو غسلناه لفات هذا المقصود، فارتكبنا أمرا يسيرا حتى لا يفوتنا هذا الخير الكثير، والحال أن القليل من الدم معفو عنه، وفي بعض المذاهب جواز أكثر من الدرهم.
جوهرة
لما تشرف الشيخ إبراهيم الأواه بالوصول إلى خدمة مولانا السلطان، خلد الله ملكه فقال:
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور .
قال حضرة مولانا السلطان في الجواب: أما سمعت قوله تعالى:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ ثم قال: ويمكن أن يقال: خوف الأولياء جائز؛ لأن الأولياء على ثلاثة أقسام: قسم يعرفون أنفسهم بالولاية، وقسم لا يعرفون أنفسهم ولا يعرف الخلق أنهم أولياء ولا يعرفهم إلا الله تعالى، وقسم يعرفهم الخلق والحق تعالى وأنفسهم بأنهم أولياء، فالولي الذي لا يعرف نفسه بالولاية يمكن أن يكون له خوف من الله تعالى.
أو نقول: هذه الآية الشريفة وإن دلت على عدم خوفهم وحزنهم، ولكن لا يليق بمرتبة العبودية إلا الخوف والحزن والعجز.
سؤال:
في قول الشيخ عمر بن الفارض:
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
قال حضرة مولانا السلطان: لا شك أن المخاطب بهذا الكلام هو الله تعالى، فما معنى قوله: أم لم تعرف؛ لأنه تعالى عالم بالجزئيات والكليات؟
الجواب:
ذكرت العلماء أن المراد بالمعرفة ههنا المجازاة، أي روحي فداك سواء تجازيني أو لم تجازني.
ونظيره موجود في القرآن العظيم:
ويدخلهم الجنة عرفها لهم .
سؤال:
ما السبب في تسمية الإمام الشافعي بالشافعي؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: قيل لما سافر الشافعي إلى نحو المدينة حتى يقرأ على إمام دار الهجرة فدخل ذلك الوقت عند الإمام مالك ولازم مجلسه، فإذن جاء عند الإمام مالك شخص وقال: يا إمام ماتت زوجتي، وكان قريب وضع حمل الولادة فما حكمه؟ فأمر بالدفن مع الأم، لما خرجوا من عنده وكان الشافعي في دهليزه فسألوا منه وقال لهم الشافعي: امضوا إليها وشقوا عن بطنها وأخرجوا الولد. وقيل: أمرهم بدفنها، وأن يدفنوا معها قصبة طويلة، وفي كل يوم امضوا لنحو القبر واسمعوا من جوف القصبة؛ فإن سمعتم حس الولد فانبشوا عن قبرها وأخرجوا الولد، فعند ذلك فعلوا ما قال لهم الإمام الشافعي فسمعوا حس الولد فأخرجوه؛ فبعد مدة دخل صبي صغير على الإمام مالك، وكان من أجمل أولاد ذلك الزمان وقرأ عنده القرآن فتعجب الإمام من قراءته وحسن لفظه وعبارته، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي أمرت بدفني بالحياة! فارتعد بدن الإمام من ذلك، وذكر الصبي حكاية محمد بن إدريس الشافعي وتعليمه لهذا، وكان هو في المجلس فقال: أنت شافعي.
وقيل: الشافع اسم لجده، فضعفه ظاهر؛ لأنه في أول أمره وبداية عمره ليس مشهورا بهذا الاسم، ولكن يدعى بمحمد بن إدريس.
10
سؤال:
في قوله تعالى:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي .
قال حضرة مولانا السلطان: لأي حكمة ما ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة تفسير الروح، مع أن تفسيره من أهون الأشياء؛ لأن المتكلمين قالوا: إن النفس والروح واحد، وهو جسم لطيف سار في البدن لا يتبدل ولا يتحلل. وعند الحكماء: جوهر مجرد متصرف في البدن كتصرف الملك في المملكة؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: إن اليهود لما جاءوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وسألوه عن الروح، أضمروا في أنفسهم أن كل ما يقوله محمد في ذلك نقول: عندنا تفسير الروح بخلاف ما تقول. فذكر الله تعالى ذلك بوجه لم يقدروا على رده، فعند ذلك دخلوا في الإسلام.
أو نقول: لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
ما بعث إلا لأجل تبليغ الأحكام الشرعية، وحقيقة الروح لا يتعلق بها الأحكام الشرعية.
سؤال:
ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا راد له؟
الجواب:
قال الغزالي: اعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، وكما أن الترس سبب لدفع السهم، والماء سبب لخروج النبات، كذلك الدعاء سبب لرد البلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء عدم حمل السلاح؛ لأنه تعالى أمرنا بحمله بقوله:
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم .
سؤال:
إذا وقع من يد شخص لؤلؤة فابتلعتها نعامة، فما الحكم في ذلك؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: ينظر في ذلك؛ فإذا كان قيمة اللؤلؤة أكثر من قيمة النعامة تذبح، وإن كانت قيمة النعامة أكثر من اللؤلؤة تترك.
سؤال:
في قوله تعالى:
وآتت كل واحدة منهن سكينا ، لا شك أن زليخا كانت عاشقة ليوسف عليه السلام؛ فلأي حكمة ما قطعت يدها في يوم قطعن أيديهن؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لأن زليخا كانت، على ما بها، أصبر منهن، فكان لسان حالها يقول: أنا مع هذا الصبر لمتنني مع أنكن لم تقدرن على نظرة واحدة،
فلا تلوموني ولوموا أنفسكم .
جوهرة
قال حضرة مولانا السلطان: إن كان نسوة المدينة قطعن أيديهن فزليخا قطعت قلبها.
سؤال:
قال شيخ الإسلام: هل منزل السيد أبي بكر وعمر في الجنة أعلى من منزل السيد علي أو منزله أعلى من منزلهما رضي الله عنهم أجمعين؟
قلت: لا أدري.
الجواب:
قال شيخ الإسلام: «منزل السيد علي أعلى من منازلهم؛ لأنه متزوج بفاطمة ابنة النبي
صلى الله عليه وسلم
التي ورد في حقها أنها بضعة مني. ولا يلزم من علو المنزل في الجنة الأفضلية مع أن المحدثين يكتبون لفاطمة: صلى الله عليها وسلم.»
سؤال:
قلت: فما تقولون في عثمان رضي الله عنه؛ لأنه متزوج ببنتي النبي
صلى الله عليه وسلم
فيلزم أن يكون أعلى منزلا من الجميع؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: لم يصل أحد من أولاد النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى درجة فاطمة رضي الله عنها؛ لأنه ورد في حقها أنها سيدة النساء.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: امرأة كان معها شخص، فلما سئلت عنه قالت: هذا زوجي وعبدي وابني وأخي ... فعجز الناس عن جواب ذلك!
الجواب:
أفاد مولانا السلطان: أنه وقع نكاح الشبهة بين الأب والبنت فولد بينهما ولد فافترق الولد من أمه، ثم تزوج هذا الولد أمه بالشبهة، ثم بعد مدة أسلمت الأم واشترت ولدها.
11
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: هل كان أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل دخولهم الإسلام، في الجاهلية، هل كان لهم حرف أم لا؟
الجواب:
نعم، كان لهم حرف، قال التوحيدي في كتاب بصائر القدماء وسرائر الحكماء: صناعة كل من علمت صناعته من قريش فقال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازا، وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وكان عمر رضي الله عنه دلالا يسعى بين البائع والمشتري، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يبري النبل، وكان الوليد بن المغيرة حدادا، وكذلك أبو العاص أخو أبي جهل. وكان عقبة بن أبي معيط حمارا، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسا يبيع الجواري، وكان النضر بن الحارث عوادا يضرب بالعود، وكان الحكم بن العاص خصاء يخصي الغنم، وكذلك حريث بن عمرو والضحاك بن قيس الفهري وابن سيرين، وكان العاص بن وائل السهمي بيطارا يعالج الخيل، وكان ابنه عمرو بن العاص جزارا، وكذاك أبو حنيفة صاحب الرأي والقياس.
12
وكان الزبير بن العوام خياطا، وكذلك عثمان بن طلحة الذي دفع له النبي
صلى الله عليه وسلم
مفتاح الكعبة وقيس بن مخرمة. وكان مالك بن دينار وراقا، وكان المهلب بن أبي صفرة بستانيا، وكان قتيبة بن مسلم الذي فتح بلاد العجم إلى ما وراء النهر جمالا، وكان سفيان بن عيينة معلما، وكذلك الضحاك بن مزاحم وعطاء بن أبي رباح والكميت الشاعر والحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الحميد بن يحيى صاحب الرسائل وأبو عبيد القاسم بن سلام والكسائي، هذه صناعة الأشراف.
سؤال :
قال حضرة مولانا السلطان : من بنى الأهرام، ولأي شيء بني؟
الجواب:
ذكر الشيخ جلال الدين في تاريخ مصر: بنيت الأهرام قبل الطوفان؛ لأنها لو بنيت بعده لكان علمها عند الناس.
قيل: بناه شداد بن عاد. وقال جماعة من أهل التاريخ: الذي بنى الأهرام سوريد بن سلهوق، وكان ملك مصر، وكان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، وكان ذلك أنه رأى في منامه كأن الأرض انقلبت بأهلها، وكأن الناس هاربون على وجوههم، وكأن الكواكب تساقطت ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فأهمه ذلك وكتمه، ثم رأى بعد ذلك كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض، وكأنها تخطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة، فانتبه مذعورا، فجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهنا، وكبيرهم يقال له: إقليمون. فقص عليهم فأخذوا ارتفاع الكواكب وتأنقوا في استقصاء ذلك، فأخبروا بأمر الطوفان. قال: أويلحق بلادنا؟ قالوا: نعم، ويخربها. فأمر عند ذلك بعمل الأهرام وملأه طلسمات، وعجائب، وأموالا وغير ذلك، وزبر فيها جميع ما قالته الحكماء في جميع العلوم الغامضة كعلم العقاقير ومنافعها ومضارها، وعلم الطلسم والحساب والهندسة والطب، وكل ذلك مفسر لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم، وجعل أبوابها تحت الأرض بأربعين ذراعا، وجعل ارتفاع كل منها مائتي ذراع بالذراع الملكي وهي خمسمائة ذراع بذراعنا الآن، وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد، فلما فرغ من بناء الأهرامات كساها ديباجا ملونا من فوق إلى أسفل وعمل لها عيدا حضره أهل مملكته كلهم، ثم عمل في الهرم الغربي ثلاثين مخزنا مملوءة بالأموال الجمة والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة والسلاح من الحديد الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، وأصناف العقاقير المفردة والمركبة، والسموم القاتلة وغير ذلك.
وعمل في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمل أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرب بها إليها ومصاحفها، وجعل في الهرم الملون أجساد الكهنة في توابيت من صوان أسود مع كل كاهن مصحفه، وفيها عجائب صنعته وعمله وسيرته، وما عمل في وقته وما كان وما يكون من أول الزمان إلى آخره، وجعل لكل هرم خازنا؛ فخازن الهرم الغربي صنم من الحجر الصوان واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية مطوقة من قرب منه وثبت إليه من ناحية قصده وطوقت على عنقه وقتلته، ثم تعود إلى مكانها، وجعل خازن الهرم الشرقي صنما من جزع أسود وله عينان مفتوحتان وهو جالس على كرسي ومعه شبه حربة إذا نظر إليه ناظر سمع من جهته صوتا يفزع قلبه ولا يبرح حتى يموت، وجعل خازن الهرم الملون صنما من حجر اليشم من نظر إليه اجتذبه الصنم والتصق به، ولا يفارقه حتى يموت.
وذكر القبط في كتبهم أن عليها - أي الأهرام - كتابة منقوشة تفسيرها بالعربية: أنا سوريد الملك بنيت الأهرام في وقت كذا وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين؛ فمن أتى بعدي وزعم أنه مثلي فليهدمها في ستين سنة، وكسوناه حريرا فاكسوه حصرا.
قيل: لما دخل المأمون إلى مصر، قصد فتح الأهرام، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك. قال: لا بد من فتح شيء منها. فاجتهد في ذلك بعد أن جمع فعلاء المدينة ومهندسيهم وحداديهم وجمع أرباب الصنائع اللائقة بذلك في مملكته، وصرف مالا كبيرا بسببه، وأقاموا على ذلك أشهرا؛ ففتح لهم بذلك ثلمة صغيرة، وهي المفتوحة الآن، ووجدوا خلف النقب مطهرة من زبرجد أخضر، وفيها ألف دينار زنة كل دينار أوقية من الذهب الخالص الذي لا يوجد على وجه الأرض منه شيء؛ فلم يعرفوا معناه، فقال المأمون رحمه الله: ارفعوا إلي حساب ما أنفقت في ذلك. فضبطوا ذلك وحسبوه، فإذا هو قدر الذي وجدوه، ووجدوا إذ ذاك في داخله بئرا مربعة في تربيعها أبواب يفتح كل باب منها إلى بيت فيه أموات بأكفانهم ووجدوا في رأس الهرم بيتا فيه حوض من الصخر، وفيه صنم كالآدمي من الدهنج، وفي وسطه إنسان عليه درع من ذهب مرصع بالجواهر، وعلى صدره سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت كالبيضة، ضوءه كضوء النهار، وعليه كتابة بقلم الطير لم يعلم أحد في الدنيا ما هو، فلما فتحه المأمون رحمه الله أقام فيه الناس مدة سنين يدخلونه وينزلون فيه من الزلاقة؛ فمنهم من يسلم، ومنهم من يموت.
وقيل: إنهم حسبوا خراج الدنيا مرارا فلم يف بهدمها. قال صاحب المرآة: هذا وهم؛ فإن صلاح الدين بن أيوب أمر بأن تؤخذ منها حجارة لأجل القناطر والجسور فهدموا منه شيئا كثيرا، والظاهر أنها قبور الملوك الأوائل وعليها أسماؤهم وأسرار الفلك والسحر وغير ذلك.
واختلفوا فيمن بنى الأهرام، فقيل: يوسف الصديق عليه السلام. وقيل: نمرود. وقيل: دلوكة الملكة.
حكى بعض شيوخ مصر أن بعض من يعرف لسان اليونان حل بعض الأقلام التي عليها، فإذا المكتوب: بني هذان الهرمان والنسر الواقع في السرطان.
ومن ذلك الوقت إلى زمن نبينا
صلى الله عليه وسلم
ستة وثلاثون ألف سنة، وقيل: اثنان وسبعون ألف سنة. وقيل: إن القلم الذي عليها تاريخه قبل بناء مصر بأربعة آلاف سنة. قيل: في زمن أحمد بن طولون وجدوا في باب الأهرام قطعة مرجان مكتوبا عليها أسطر باليوناني؛ فأحضر من يعرف ذلك القلم ففسره بهذا الشعر:
أنا باني الأهرام في مصر كلها
13
ومالكها قدما بها والمقدم
تركت بها آثار علمي وحكمتي
على الدهر لا تبلى ولا تتثلم
وفيها كنوز جمة وعجائب
وللدهر لين مرة وتهجم
وفيها علومي كلها غير أنني
أرى قبل هذا أن أموت فتعلم
ستفتح أقفالي وتبدو عجائبي
وفي ليلة في آخر الدهر تنجم
ثمان وتسع واثنتان وأربع
وسبعون من بعد المئين فتسلم
ومن بعد هذا مر تسعين برهة
وتلقى البرابي صخرها ويهدم
تدبر فعالي في صخور قطعتها
ستبقى وأفنى قبلها ثم تعدم
فجمع ابن طولون الحكماء وأمرهم بحساب هذه المدة؛ فلم يقدروا على تحقيق ذلك فأيسوا من فتحها.
وقيل: إن بانيها جعل لها أبوابا على أدراج مبنية بالحجارة في الأرض طول كل حجر منها عشرون ذراعا، وكل باب من حجر واحد يدور بلولب، إذا أطبق لم يعلم أنه باب، يدخل من كل باب منها إلى سبعة بيوت كل بيت منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة، وكلها مقفلة بأقفال، ولكل بيت صنم من ذهب مجوف إحدى يديه على فيه، وفي جبهته كتابة بالسندية إذا قرئت انفتح فوه فيوجد مفتاح ذلك القفل فيفتح به.
والقبط تزعم أنها قبور؛ فالشرقي قبر سوريد، والغربي قبر أخيه هوجيب، والهرم الملون فيه أفريبون بن هوجيب.
والصابئة تزعم أن أحدهما قبر شيث، والآخر قبر هرمس (أي إدريس) والملون قبر صاب بن هرمس، وإليه تنسب الصابئة، وهم يحجون إليها ويذبحون عندها الديكة والعجول السود ويبخرون بدخن.
وأما أبو الهول فهو صنم بقرب الهرم الكبير يقال: إنه طلسم يمنع الرمل عن المزارع، وسجن يوسف عليه السلام شمالي الأهرام على بعد منه في ذيل خرجة من جبل في طرف الحاجر، وبدهشور من أعمال الجيزة أهرام بناها شداد بن عديم بن نودشير بن قفطيم بن مصرايم باني مصر.
وقيل: الأهرام بناها شداد وقومه، وكانوا يقولون بالرجعة. وعدد الأهرامات ثمانية عشر هرما: منها ثلاثة بالجيزة، وعند مدينة فرعون يوسف عليه السلام هرم دوره ثلاثة آلاف ذراع وعلوه سبعمائة ذراع، وعند مدينة فرعون موسى هرم آخر، وآخرها هرم يعرف بهرم ميدوم كأنه جبل، وهو خمس طبقات؛ الطبقة العليا كأنها قلعة على الجبل.
أما الهرم الذي بذيل أبي هرميس؛ فإنه قبر شخص كان فارس أهل مصر وكان من الشجعان، وكان يعد بألف فارس؛ فمات، فجزع عليه الملك جزعا، فدفنوه بذيل أبي هرميس، وبنوا عليه الهرم مدرجا.
وأما قبر ملكه؛ فإنه الهرم الكبير بذيل هرميس، وعلى بابه لوح مكتوب عليه باللازورد طوله ذراعين في ذراع، مملوء من الكتابة بخط البرابي.
وفي أيام أحمد بن طولون وجدوا في الهرم الكبير في أحد بيوته جاما من الزجاج غريب اللون والتكوين؛ فلما خرجوا به فقدوا منهم واحدا، فدخلوا في طلبه فخرج إليهم عريان وهو يضحك ويقول: لا تتعبوا في طلبي. ودخل إلى داخله، فعرفوا أن الجن قد استهوته، فبلغ ابن طولون فمنع الناس من الدخول فملأ الجام ماء ووزنه، فإذا وزنه فارغا كزنته ملآن.
وكانت مصر قديما موضع الحكماء وأصحاب الطلاسم والحيل، قيل: دخل شخص في آخر أيام بني أمية إلى بربا فرأى سراجا مركبا على رأس غزال، فكسره وأخذه ليجعله سراجا، فلما وضع فيه فتيلة وصب فيه دهنا أضاء أياما، ففي بعض الأيام وقع له غلط بين قارورة الزيت وقارورة الخمر، فصب من الخمر فيه فاشتعل كما يشتعل بالزيت، وقصد أن يقدمه لبعض أكابر مصر وأخبره أنه يضيء بالخمر، فجربه الأمير فإذا هو يضيء بكل الرطوبات، فطلب بيعه فقال: ما أبيعه إلا بثمن كثير. قال: قبلت بالميعاد. قال: ما أبيع إلا بالنقد. فغضب الأمير وأمر بإخراجه، فضربه الغلمان فمات، فارتفع الخبر إلى ملك ذلك الوقت فأنكر على الأمير وأخذ السراج منه، فغضب الأمير ودخل إلى البربا وكسر كثيرا من هذه الصور، وقلع بعضها وهشم الباقي.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: من كان سبب عبادة النار في الدنيا؟ ومن عبدها أولا؟
الجواب:
ذكر المسعودي في مروج الذهب أن أفريدون الملك دخل خوارزم فرأى جماعة يعبدون النار ويعتكفون حولها فسأل عن سبب تعظيمهم، فذكروا أدلة، فأمر أهل مملكته بتعظيم النار؛ ليتقربوا بها إلى الله.
قال في الملل والنحل: سبب تعظيم النار أنه لما وضع إبراهيم عليه السلام في النار لم تحرقه فمن ثم عظموها، وكان ذلك أول عبادتهم لها.
قال بليناس في سر الخليقة: سأل كسرى جماعة خاقان: ما تعبدون؟ فقالوا الثلج؛ لأنه يهلك الحرث والنسل! فطلب كسرى عند ذلك النار وذوب بها الثلج فصار الجماعة قسمين: قسم يعبدون النار، وقسم يعبدون الثلج. وقيل: كان سبب عبادة النار أنه تكلم مع جمشيد الملك شخص النار وهو إبليس وقال: اعبدني وعظمني حتى أوصلك إلى الله تعالى.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: ما معنى لفظ المصدر في اصطلاح النحويين؟
الجواب:
قال ابن الحاجب: اسم الحدث الجاري على الفعل، وهو من الثلاثي سماع، وفي غيره قياس، تقول: أخرج إخراجا واستخرج استخراجا. ويعمل عمل فعله ماضيا إذا لم يكن مفعولا مطلقا، فلا يتقدم معموله ولا يضمر فيه ولا يلزم ذكر الفاعل.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: كيف يجوز لأهل مصر في أيام النيل المبارك السكنى في الخلجان وغيرها مثل بركة الرطلي وما شاكلها؟
فأخبر مولانا السلطان أن كثيرا من أكابر مصر من العلماء وغيرهم في تلك المواضع.
فقال مولانا السلطان في جواب ذلك: هذا من عدم مروءتهم.
الجواب:
سئل الشيخ عمر البلقيني رحمه الله وغفر له عن ذلك؛ وهو أنه قد تظاهر أهل الفساد في البركة المعروفة ببركة الرطلي بأنواع من المنكرات، وتجاهروا بذلك بحيث أدى ذلك إلى افتتان كثير من النساء والرجال والشبان والصبيان، وإضاعة المال، ووقوع القيل والقال، واختلاط النساء بالرجال، ومنكرات كثيرة من شرب خمر وأكل الشهدانج المسكر، وتظاهر بذلك مقالات منكرة.
ومما يحصل من الفساد المنكر أن يستأذنوا لفرح البركة المذكورة ويزوجوها بالخليج الناصري، ويخطبوا خطبة ويعقدوا عقد التزويج، ويرموا الحلوى والحناء وغير ذلك في البركة المذكورة، ويجتمع عند ذلك من الأوباش وغيرهم خلق كثيرة؛ بحيث ينشأ عن ذلك فساد كثير، والنساء يخرجن مكشفات الوجوه، والنساء اللواتي في الطاقات أو في الزربيات كلهن بارزات بما عليهن من الحلي وفيهن فاسدات وغير فاسدات، وقد يحصل لغير الفاسدات فساد أيضا؛ وذلك مشهور عند الجمهور.
ومما يفعل أنهم يعلقون قناديل كثيرة ويوقدونها في الليل ويخرجون خرقا فيها دم يشبهون ذلك بدم البكر، ويلبسون الخاطب خلعة، ويحصل فساد عريض، فماذا يجب على ولي الأمر إذا اتصلت به هذه المفاسد القبيحة؟ وماذا يجب على من يعين على هذا الفساد وبقاء هذه المنكرات وتعارض أهل الخيرات؟
وإذا لم تندفع هذه المفاسد إلا بردم البركة المذكورة ومنع الساكنين الوصول إليها، فهل يفعل ولي الأمر ذلك أم لا؟
وإذا كان هناك بيوت معدة للفساد فهل يزال ما فيها من الفساد وإن أدى ذلك إلى هدمها إذا تعين ذلك طريقا لدفع المفاسد المنكرة الظاهرة؟
وهل يثاب ولي الأمر على إزالة ما ذكر من المنكرات ومساعدة أهل الخيرات؟
وكذلك هل يثاب الساعي في إزالة هذه المنكرات؟ وهل يأثم من يعارضهم؟
الجواب:
قال رحمه الله: قد اشتملت هذه القضية على أمور كثيرة من الفساد وأنواع الكبائر لا يرضى بها أحد من أهل الدين ولا يجوز تقريرها بين المسلمين، فيجب على ولي الأمر إزالة جميع المنكرات بحيث تزول هذه المفاسد القبيحة، فإن بقاء ذلك فضيحة وأي فضيحة. وإن هذه المصائب تؤدي فاعلها والراضين بها إلى حالة عجيبة من أحوال أهل الفسوق بحيث نخاف عليهم من سوء الخاتمة، والخروج عن دين محمد
صلى الله عليه وسلم ، فإن فيما ذكر من التزويج وغيره من الاستهزاء بأمر الشرع الشريف ما يقتضي ذلك، فنعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ويجب على من يعين على هذا الفساد وبقاء هذه المنكرات التعزير الشديد الزاجر له ولأمثاله عن الإقدام على ذلك، وهو شريك في هذه المعاصي بتقريره إياها ورضاه بها.
والواجب علينا إنكار ما ذكر والقيام لله تعالى في إزالة هذه المفاسد؛ فلقد لعن الله قوما بعصيانهم واعتدائهم وعدم نهيهم عن المنكر يظهر بينهم ويفعلونه، فقال تعالى:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
ويجب على من فعل هذه المناكر وساعد على تقريرها ورضي بها المبادرة إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى من هذه الذنوب.
وأما ما يتعلق بالبركة المذكورة فينظر ولي الأمر في أمرها، فإن كانت هذه المفاسد تزول بطريق من الطرق؛ ومن ذلك عمل قنطرة بحيث تمنع الشخاتير
14
من الدخول إليها، فإن زال الفساد بذلك اكتفى به؛ وإن لم يزل إلا بردم البركة وتعين ذلك طريقا لدفع هذه المفاسد فعل ذلك ولي الأمر.
وأما المواضع المعدة للفساد فيزال ما فيها من المنكرات بالطريق الشرعي، فإذا ظهر ما فيها من الفساد ولم يمكن زوال تلك المفاسد المنكرة إلا بهدم تلك الأبنية هدمها ولي الأمر.
والعجب من ولاة الأمور كيف تبلغهم هذه القضايا ويسكتون، وعلى أنفسهم يلبسون، ولا التفات إلى ما به يعتذرون
والله يعلم ما تسرون وما تعلنون .
سؤال:
لما جاء تمرلنك إلى حلب جمع العلماء وسألهم: قتل منا ومنكم في الحرب قتلى في أخذ البلد، فمن الشهداء في ذلك: قتلانا، أم قتلاكم؟
الجواب:
قال جد قاضي القضاة الحنفي ابن الشحنة: أنا مجيب بما أجاب به نبينا
صلى الله عليه وسلم . (قال لي صاحبي شرف الدين الأنصاري: ما دخل في عقلي هذا الجواب؛ مع أنه رحمه الله محدث زمانه)، وألقى تمرلنك إلي سمعه وبصره، وقال: كيف سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكيف أجاب؟ قلت: جاء أعرابي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، إن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليرى مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد. فقال تمرلنك: خوب.
15 (وقال عبد الجبار: يعني ما أحسن ما قلت)، وانفتح باب المؤانسة وقال: إني رجل نصف آدمي،
16
وقد أخذت بلاد كذا وكذا، وعدد سائر ممالك العراق والعجم والهند وسائر بلاد التتار، فقلت: اجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة ولا تقتل أحدا. فقال: والله إني لم أقتل أحدا قصدا، وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب، والله لا أقتل أحدا، وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم.
سؤال:
قال تمرلنك: ما تقولون في علي بي أبن طالب ومعاوية ويزيد؟
الجواب:
قال القاضي علم الدين القفسي: إن الكل مجتهدون. فغضب لذلك غضبا شديدا وقال: قل علي رضي الله عنه على الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيديون قتلوا الحسين. فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي.
فأعاد السؤال عن علي رضي الله عنه ومعاوية، فقلت له: لا شك أن الحق مع علي في نوبته، وليس معاوية من الخلفاء؛ لأنه ورد: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة.» وقد تمت الخلافة بعلي رضي الله عنه.
فقال تمرلنك: قل علي على الحق ومعاوية ظالم.
قلت: قال صاحب الهداية: يجوز تقلد القضاء من ولاة الجور، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية وكان الحق مع علي في نوبته.
فلما سمع هذا الجواب حصل بشاش كبير.
جوهرة
17
لما خرج تمرلنك من حلب توجه إلى نحو الشام فطلب أكابر العلماء وقال: أريد الفتوى منكم في قتل نائب دمشق الذي قتل رسولي. وأحضروا عدة رءوس القتلى حتى يبعثوا بها إلى نائب دمشق، فقلت هذه رءوس المسلمين تقطع وتحضر إليك بغير استفتاء مع أنك حلفت أنك لا تقتل أحدا صبرا؟ فقال: هذه رءوس القتلى، ولا قطعنا رءوس المسلمين.
سؤال:
سأل قرقد بك في المولد الشريف بحضرة المقام الشريف: هل الإيمان يزيد وينقص، أم لا؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: عند الشافعي يزيد وينقص، وأنكره أبو حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء كإمام الحرمين؛ لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، ولا يتصور فيه الزيادة والنقصان، وإنما يتفاوت إذا دخل فيه الطاعات، ولهذا قال الإمام الرازي: إن الخلاف فرع لتفسير الإيمان.
قال صاحب المواقف: والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بحسب القوة والضعف. قولكم: الواجب اليقين، والتفاوت لا يكون إلا لاحتمال النقيض. قلنا: لا نسلم أن التفاوت لذلك الاحتمال فقط. والظاهر أن الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين في كونه إيمانا حقيقيا.
سؤال:
رجلان معهما ظرف فيه ثمانية أرطال زيت ومعهما وعاءان؛ أحدهما يسع ثلاثة أرطال، والآخر يسع خمسة أرطال، فيراد أن يقسم الزيت بينهما، فكيف يقسم ذلك؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: أن يملأ الذي يسع الثلاث ويسكب في الوعاء الذي يسع الخمس؛ ثم يملأ ويسكب فوقه فيفضل رطل في الوعاء الصغير فيسكب في الوعاء الكبير ثم يملأ الثلاثة ويسكب عليه.
سؤال:
رجل معه شاة وذئب وحشيش مر على نهر فيه مركب صغير لا يسع فيه إلا اثنين ويخاف أن يأكل الذئب الشاة، والشاة الحشيش، فما حيلته؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: يركب أولا ومعه شاة ويقطع النهر فيضعه، ثم يرجع ويأخذ الحشيش ويقطع النهر، ثم يرد الشاة، ويأخذ الذئب.
18
سؤال:
هل يجوز أن يقال للملك: خليفة، أم لا؟
وسبب هذا السؤال أنه بعث الصوفي
19
تاريخ التتر إلى حضرة مولانا السلطان، وكان في ترجمة شاهين بك خان «خليفة الرحمن».
الجواب:
قال صاحب الأنوار: يجوز أن يقال للملك: أمير المؤمنين، وخليفة الرسول؛ ولا يجوز أن يقال خليفة الله، أو خليفة الرحمن.
سؤال:
لأي حكمة طلب إبراهيم عليه السلام كيفية إحياء الموتى؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لأنه لما قال للنمرود:
ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت
أحضر النمرود شخصين أحدهما يستحق القتل فأطلقه، والآخر لا ذنب له أمر بقتله، فاشتبه على إبراهيم عليه السلام معنى لغة الإحياء، فطلب ذلك من الله تعالى حتى يكشف له لغة الإحياء، وإلا كيف يجوز لنبي أن يشك في البعث؟ وأيضا:
قال أولم تؤمن قال بلى
يدل على أنه اشتبه عليه لغة الإحياء لا أنه أنكر البعث.
فائدة
قال الشريف نور الله لطف الله تعالى به: لما أحضر الأربعة من الطير دقهم السيد إبراهيم في الهاون.
نكتة
قال حضرة مولانا السلطان: ما سمعنا بهذه الدقة بل قطعهم، فلما أحضر الكشاف كان كلامه موافقا لكلام السلطان أيده الله تعالى.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: أفضل الصوم في شعبان أن يصوم في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره؟
الجواب:
قال الشيخ جلال الدين السيوطي والشيخ عثمان الديمي: من يصوم يوما من شعبان فله أجر تسعمائة سنة.
قال حضرة مولانا السلطان: هذا ضعيف، بل المناسب أن يقال: من صام يوما من شعبان فكأنما صام جميعه. فجاء شيخ الإسلام بنقل موافق لهذا.
قلت: هذا موافق للشرع الشريف؛ لأنه جاء في كتاب الله تعالى:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، وورد في السنة: إلى تسعمائة.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: ما معنى الأمانة في قوله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال
الآية؟
الجواب:
قال في الكشاف: قيل: فسرها بالصلاة.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: هذا الجواب ليس بسديد؛ لأنه على هذا لا بد أن يقول في آخر الآية: وحملها الجن والإنس؛ لأن الجن المسلم مأمور أيضا بالصلوات المفروضة.
قال بعضهم: المراد بها العبادة، بدليل قوله :
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
قال حضرة مولانا السلطان: فعلى هذا المناسب أن يقال: فحملها الإنس والجن والملائكة؛ لأنهم مأمورون بالعبادة بدليل قوله:
لا يعصون الله ما أمرهم
وقوله:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
الجواب:
قال الشيخ برهان الدين بن أبي شريف لطف الله به وفسح في أجله: إن المراد بالأمانة إنزال الكتب؛ بدليل قوله تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل
الآية، ولا شك أن الكتب ما نزلت إلا على الإنسان.
جواب آخر:
قال الشيخ جلال الدين السيوطي: المراد بالأمانة جواب
ألست
كما قال تعالى:
ألست بربكم .
جواب آخر:
قال جماعة من المحققين: إن الحمل المذكور في الآية المذكورة قد يفسر بمنع الأمانة والامتناع عن أدائها من قولك: فلان حامل للأمانة متحمل لها. بمعنى أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج من عهدتها، يجعل الأمانة كأنها راكبة على المؤتمن، كما يقال: ركبه الديون، والمعنى: إنا عرضنا الأمانة؛ أي الطاعة اللازمة الأداء على هذه الأجرام العظام من السموات والأرض والجبال فانقادت لأمر الله تعالى انقيادا يصح من الجماد وأطاعت طاعة تليق لها حيث لم يمتنع عما أراد به إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال منوعة، والإنسان مع صورته وكمال عقله وصلاحه للتكليف لم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق من الانقياد لأوامر الله ونواهيه مثل حال تلك الجمادات، بل أبى، أي أن لا يكون متحملا لتلك الأمانة غير مؤد إياها، ثم وصفه بالظلم؛ لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لأخطائه طريق السعادة؛ وهو أداء الأمانة.
سؤال:
في قوله تعالى:
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، لا شك أن محمدا رسول الله وخاتم النبيين فلأي حكمة كذبهم الله تعالى في هذا الكلام؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: أما قوله:
لكاذبون
أي في الشهادة، لا في صدق هذا الخبر.
قال في المطول: صدق الخبر مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقته للواقع ، هذا عند أهل الحق .
وقال النظام: صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطأ، وكذبه عدم مطابقته لاعتقاد المخبر ولو صدقا؛ بدليل قوله تعالى:
إن المنافقين لكاذبون ؛ لأنهم صادقون في نفس الأمر كاذبون بزعمهم.
قال الجاحظ: صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد بأنه مطابق للواقع، وكذب الخبر عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق للواقع؛ بدليل قوله تعالى:
أفترى على الله كذبا أم به جنة ؛ لأن الكفار حصروا أخبار النبي في الحشر والنشر، في الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، ولا شك أن المراد بالإخبار حال الجنة غير الكذب؛ لأن الثاني قسيم الكذب؛ إذ المعنى: أكذب، أم أخبر حال الجنة، وقسيم الشيء يجب أن يكون غيره وغير الصدق؛ لأنهم اعتقدوا عدمه، فعلى هذا ثبت واسطة بين الصدق والكذب.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: ما معنى العلم؟
الجواب:
قال في شرح الإشارات: العلم حصول صورة الشيء في العقل. وقيل: الصورة الحاصلة عند العقل.
وقال في شرح المقاصد: الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع؛ قال في شرح العضد: صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض.
وقال في شرح المواقف: صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به. وقيل: إدراك المركب والمفرد.
قال في شرح المطالع: عبارة عن المسائل. وقيل: عبارة عن المحمولات المنتسبة؛ إن حصل صورة في الذهن فلا يخلو إن كانت خالية عن الحكم أم لا. الأول هو التصور، والثاني هو التصديق، إن كان طرفاه متساويين فهو شك، فهو من باب التصور، وإن غلب أحد طرفيه على الآخر فالراجح يسمى ظنا والمرجوح يسمى وهما، وإن لم يبق احتمال للغير فهو اليقين؛ وهو ينقسم إلى ستة أقسام: الأوليات، والمشاهدات، والتجريبيات، والحدسيات، والمتواترات، والنظريات.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: هل صلاة الجمعة في جامع القلعة المحروسة تجوز عند السادة الحنفية، أم لا؟
الجواب:
قال في الهداية: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى مصر، ولا يجوز في القرى؛ لقوله: لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع . والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، هذا عند أبي يوسف، وعند أبي حنيفة أنه (البلد الذي) إذا اجتمع (أهله)
20
في أكبر مساجدهم لم يسعهم، والأول اختيار الكرخي وهو ظاهر، والثاني اختيار البلخي.
قلت: فعلى كلا التقديرين لا تجوز صلاة الجمعة إلا في القلعة؛ لأن أقضى القضاة وقضاة الشافعية يصلون فيها، وأيضا يصلي فيها أعظم سلاطين الدنيا، ولا شك أن أهل القلعة لم يسعهم الجامع الواحد فكلا الروايتين لا يجوز صلاة الجمعة إلا في القلعة.
21
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: ما الذي ورد في فضائل النرجس وخواصه؟
الجواب:
روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: شموا النرجس فما منكم من أحد إلا وله بين الصدر والفؤاد شعبة من جذام أو برص أو جنون لا يذهبها إلا شم النرجس.
وقال علي رضي الله عنه: شموا النرجس ولو في السنة مرة؛ لأن في القلب داء لا يبرئه إلا شم النرجس.
وقال أبقراط الحكيم: كل شيء يغذو الجسم إلا النرجس فإنه يغذو العقل.
وقال جالينوس الحكيم: من كان له رغيفان فليجعل أحدهما في ثمن النرجس فإنه راعي الدماغ والدماغ راعي القلب، والخبز غذاء البدن والنرجس غذاء الروح.
وقال الحسن بن سهل: من أدمن شم النرجس في الشتاء أمن من البرسام في الصيف.
والنرجس صنفان: بري وبستاني، والبستاني هو العبهر.
قال صاحب كتاب الفلاحة: إذا أردت غرس النرجس فاقطع بصلة قطعا صليبيا وأدخل فيه شوكتين دخولا صليبيا ثم ازرعه فإنه ينبت نرجسا مضاعفا، ومن أخذ مسلة من ذهب ثم غرس بصلة كبيرة في رأس المسلة باليد اليسرى ثم يمسكها ويدور في الموضع خمس دورات وهو يضحك ثم يغرسها في متوسط الدورة الخامسة فإنها تنبت نرجسا أحمر مثل الشقيق، له رائحة زكية، ومن شق البصلة وجعل فيها حبة ثوم غير مقشورة حملت نرجسا مضاعفا، وإن كانت الثومة خضراء حملت نرجسا، ومن حرق السذاب وقشور الجوز على منابت بصلة أخرج النرجس في غير أوانه.
وقال كسرى: النرجس ياقوت أصفر، بين در أبيض، على زبرجد أخضر.
وقال: إني لأستحي أن أجامع في مجلس فيه النرجس؛ لأنه أشبه شيء بالعيون الناظرة.
والنرجس حار يابس، وقيل: معتدل في الحر واليبس.
الخواص: يفتح سدد الدماغ وينفع من الصداع عن سوداء أو رطوبة، ويصدع الرءوس الحارة ويجلو الكلف وينفع من داء الثعلب ويفجر الدماميل وأكله يهيج القيء، إذا شربت المرأة أربعة دراهم مع العسل أخدر الجنين الميت.
سؤال:
إذا أكره شخص على سب النبي
صلى الله عليه وسلم
هل يسب وقلبه مطمئن بالإيمان، أم لا؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: لو أكرهت على سب النبي
صلى الله عليه وسلم
لصبرت على القتل ولا أسب.
22
جواب:
قال قاضي خان: إن كلمة الكفر حال الإكراه رخصة لا مباح؛ وذلك لأنه لو لم يكفر لكان مثابا.
ويوافق هذا كلام النواوي رحمه الله في الروضة وزاد: والصبر أولى.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: كم يجيء من بدء التناسل إلى يومنا هذا، وهي عام تسع عشر وتسعمائة؟
الجواب:
قال في التوراة: إن من بدء الدنيا خمسة آلاف وسبعة وسبعين سنة.
وأما النصارى فيحكون عن التوراة التي عندهم: أن من ابتداء التناسل إلى هذه السنة سبعة آلاف وعشر سنين.
وأما عند المجوس خمسة آلاف وسبعة وستون سنة.
قال حضرة مولانا السلطان: لما لم يكن في الكتاب والسنة نقل شاف وبرهان واف لم نحكم بشيء من هذه الأعداد، بل يمكن أن يكون من ابتداء التناسل إلى يومنا هذا مائة ألف سنة أو مائتا ألف أو أكثر من ذلك، كما أن المنجمين يزعمون أن من أول الدنيا منذ سارت الكواكب من أول الحمل إلى يومنا هذا أربعة آلاف ألف ألف وثلاثمائة وعشرين ألفا وستمائة وثماني سنين.
قال شيخ الإسلام: ما رأيت نقلا صريحا من الكتاب والسنة يدل على ذلك أو أقل أو أكثر، والقدرة صالحة لذلك.
سؤال:
في قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين ، ما السر في هذا التعظيم أولا؟ وما الحكمة في تحقيره آخرا ووضعه أسفل سافلين؟
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: إظهارا لقدرته، وإفشاء لعظمته، وإجراء حكمه في ملكه كيف يشاء، لا راد لقضائه ولا مانع لعطائه.
سؤال:
في قوله تعالى:
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي .
قال الشريف نور الله: المراد بذلك إخراج الدجاجة من البيضة، وإخراج البيضة من الدجاجة.
فقال مولانا المقام الشريف: يا شريف نور! بالحق نورت لنا البيت، فالله تعالى يبيض وجهك في الدنيا والآخرة.
فقال الشريف نور الله: يا مولانا السلطان رأيت ذلك في التفسير.
فجاءوا بتفاسير كثيرة ولم يجدوا فيها شيئا مما ذكره الشريف، فضحك السلطان لذلك - شرح الله خاطره - فقمت وقبلت الأرض وقلت لمولانا المقام الشريف: نريد أن نستفيد ذلك من فوائد مولانا خلد الله ملكه.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: المراد بهذه الآية الشريفة يعني يخرج الولد الصالح من الأب الجاهل، ويخرج الولد الجاهل من الأب الصالح.
سؤال:
قال سلطان شروان: معنى العيد في اللغة السرور والفرح، ولا شك أن المؤمن لا يفرح بزوال هذا الشهر الشريف الذي كل يوم تغفر فيه الذنوب وتغلق فيه أبواب جهنم.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: سرور المؤمن لأجل أنهم أدوا هذه الفريضة أداء كاملا، لا لأجل زوال هذا الشهر الشريف.
23
سؤال:
إذا رأى هلال العيد القاضي وحده أو السلطان وحده مع أن الواجب في شهادة العيد شاهدان عدلان.
الجواب:
قال حضرة مولانا السلطان: يحكم القاضي أو السلطان بعلمهما.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: أي موضع يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه؟
الجواب:
لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه في مسألة إلا في الجرح والتعديل، وأما عند أبي حنيفة وأحمد والشافعي رحمهم الله لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في حق الناس، دون حق الله.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: ما سبب خضرة لون السماء؟
الجواب:
إنما جعلها خضراء؛ ليكون أوفق للبصر؛ لأن الأطباء يأمرون بإدمان النظر إلى الخضرة؛ ليكون فيه قوة للبصر.
وقيل: خضرتها من جبل قاف؛ لأنه من زمرد أخضر.
وقيل: من خضرة أشجار الجبل المذكور.
وقيل: خضرتها من الصخرة التي تحت الأرض التي تحت نون، وهي المشار إليها بقوله:
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله .
سؤال:
في قوله عليه السلام: لا يجوز قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزنى بعد الإحصان، والارتداد بعد الإسلام - الحديث.
قلت: يشكل بقطاع الطريق ومفسد السكة السلطانية؛ ليسا من الأخصام الثلاثة ويجوز قتلهما؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: أما قطع يد مفسد السكة عند الحنابلة فيرجع إلى السرقة؛ وهو أخذ المال خفية.
أو نقول: قطع أيديهما من قبيل السعي والفساد؛ ودليله قوله تعالى:
ويسعون في الأرض فسادا .
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: من هم الذين يسعون في الأرض فسادا؟
الجواب:
قال شيخ الإسلام: الجماعة الذين نافقوا بين عسكر وبين ملك.
سؤال:
قال حضرة مولانا السلطان: هل كيومرث كان قبل نوح عليه السلام أو بعده؟
الجواب:
اختلفت العلماء في هذه المسألة؛ قيل: كان قبل الطوفان اختبأ في غار. وقيل: من ذرية نوح. كذا ذكره في كتاب شاه نامه، وباتفاق المؤرخين لم يكن ملك قبله.
نادرة
حكى حضرة مولانا السلطان أنه يوما من الأيام طلع الخطيب على المنبر يوم الجمعة فتكلم شخص مع آخر فقال الخطيب لهما: اسكتا يا هذان أما سمعتما: «إذا صعد الخطيب على المنبر فلا يتحدث أحدكم، ومن تحدث فقد لغا.» فلما قضيت الصلاة قال حضرة مولانا السلطان: أنتم الثلاثة لغوتم! ونظير ذلك ورد في يوم فتح مكة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أقام بها خمسة عشر يوما يقصر الصلاة ويقول بعد السلام: يا أهل مكة أتموا صلاتكم. فقال بعض أهل مكة من الصف الأول، وهو محرم في الصلاة: لسنا نجهل ما قلت يا رسول الله. قيل له: يا ابن أخي لو كنت فقيها لما تكلمت في الصلاة.
حكاية مباحثاتي مع الشيخ صارو كرز
وكان أعلم علماء الروم وكان معه ابن كرز.
درة
قال حضرة مولانا السلطان: اترك كرزيته لابنه، لما دخل إلى جامع الأزهر، قال: سلوني ما شئتم سواء أن كان السائل عربيا أو عجميا أو تركيا أو ديلميا وأنا أغلبهم بمعونة الله تعالى. وكان مدة ثلاثة أشهر يطالع في أول كتاب البخاري ويجازف، ففي أواخر شهر رمضان سنة أربع عشر وتسعمائة عمل مجلس درس وحضر في الجامع، وكان معه من طلبة العلم الشريف من المستعدين نحو عشرين نفسا من أبناء جنسه، وأمر بإحضار جميع أولاد الروم
24
إن كان جنديا أو فقيها أو عاميا إلى غير ذلك فحضروا جميعا، فأعاد في المجلس القول وقال: أيها العلماء من جميع الدنيا سلوني ما شئتم، فبالأمر المقدر وحكم سلطان القضاء والقدر كنت جائزا من صوب الجامع الأزهر فدخلت مع الناس متفرجا فسمعته يقول: يا أولاد مصر، لا تستحيوا مني وسلوني ما شئتم؛ إن الله لا يستحيي من الحق. فشرع في تفسير الحديث الأول وهو قوله: إنما الأعمال بالنيات. وقال: إنما: حرف من أدوات الحصر، وما: ما الكافة، وإن: حرف المشبهة، يعني لا يجوز عمل من الأعمال إلا بالنية قطعا. فلما سمعت ذلك قلت: بدستور. فأذن لي في الكلام، فقلت: ما تقول السادة الحنفية في جواب هذه المسألة؛ لأنهم يقولون: إن النية ليست بفرض في الغسل والوضوء؟ قال في الجواب: يعني لا ثواب للعمل إلا بالنية. قلت: هذا عام، والعام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث؛ وهي المطابقة، والتضمن، والالتزام. فأفحم عن الجواب، ثم قلت: وما سبب عدول أبي حنيفة رحمه الله عن ظاهر هذا الحديث؟ ولأي حكمة لم يأمر بفرضية النية في الغسل والوضوء؟
الجواب:
قال: لأن الوضوء والغسل ليسا هما العمل بل وسيلة للعمل وهي الصلاة.
قلت: فما تقولون في التيمم؛ لأنه أيضا وسيلة للعمل وليست طاعة مقصودة بالذات مع أن النية في التيمم فرض عندكم؟
فأجاب بأن قال: إن التيمم طهارة ضعيفة بخلاف الوضوء.
قلت: فعلى هذا أنتم تفرضون الأشياء لا الشرع؛ لأن الفرض عندكم ما ثبت بدليل قطعي، فلا بد لكم لنية التيمم دليل قطعي من الكتاب والسنة؟
فأجاب وقال: لفظ تيمموا، يدل على النية .
قلت: تيمموا ليس بنص قطعي في نية التيمم مع أنه ورد في الوضوء:
إذا قمتم إلى الصلاة
الآية، وفسر جميع المفسرين، يعني قصدتم
25
فعلى هذا تكون النية فرضا في الوضوء عندكم. فأفحم في الجواب.
السؤال الثاني:
قلت: ذكر في شرح المفتاح: أن البلغاء لا يؤكدون الكلام إلا بحسب إنكار المخاطب، يعني أولا يطلقون الكلام بغير تأكيد، فإذا أنكر المخاطب فيؤكدون بإن، وإن أنكر فيزيدون في التأكيد باللام ثم بالقسم، مثلا يقولون: زيد قائم. فإن أنكر المخاطب فيؤكدون بإن؛ ويقولون: إن زيدا قائم. فإن أنكر فيقولون: إن زيدا لقائم. وإن أنكر فيقولون: والله إن زيدا لقائم. فعلى هذا ما حكمة قوله تعالى:
إنا أوحينا إليك
مع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ليس منكرا للوحي، فما وجه تأكيد الآية بقوله:
إنا .
جوابه:
فقال: تعال عندي واحضر إلى بيتي؛ حتى أكتب لك جواب هذا الكلام.
فقلت: أنا أباحث مع الحيوان الناطق لا مع الحيوان الكاتب.
فحصل بين هذه الخلائق لغط كثير وغوش عظيم وتعصبت أولاد الروم بأجمعهم، وبعثوا شخصا بطلب الخواجا
26
شمس الدين محمد بن عباد الله، وقالوا له: لئن لم تحضر وإلا هلك عالم بلادك! فحضر في الوقت والساعة فرأى هناك أمرا عظيما، فقال يا جماعة! الفاتحة، وأنا أقول: (أبقيت عندك سبع مسائل ولم تجبني عن شيء منهم، ويا ليتني كنت أعلم في أي وقت تدرس وفي المواضع تقري، وفي أي علم تقرر حتى كنت أحضر إليك بالمطالعة، ولكن جئناك على الفتح من غير قصد ولا مطالعة فلا تؤاخذوني. فقام قائما على قدميه ولمني إلى حضنه، وقال: لأي شيء ما تحضر إلى عندي وأنت أعز من ولدي؟ وكان إذ ذاك أهل الروم أرادوا هلاكي قهرا منهم وحسدا وغيرة وحمية الجاهلية، فحماني الله تعالى منهم ببركة مولانا السلطان خلد الله ملكه).
27
فلما وصل ذلك إلى المسامع الشريفة فقال نصره الله: علم لا يدخل مع الشخص الحمام ما هو بعلم.
28
لما دخل مصر الأمير علاء الدين والأمير سليمان وهما ولدا ملك الروم ابن عثمان حضر واحد منهما إلى المدرسة السلطانية لأجل صلاة الجمعة فسأل من الخطيب سؤالين:
السؤال الأول:
لأي حكمة أنتم تحمدون الله تعالى وتصلون على النبي
صلى الله عليه وسلم
وتدعون لمولانا السلطان في درجة واحدة من سلالم المنبر؟ لأن في الروم يحمد الخطيب الله تعالى في أعلى السلالم، فينزل درجة ثم يصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم ينزل درجة ويذكر الصحابة، ثم ينزل درجة ثم يدعو للملك.
السؤال الثاني:
لأي حكمة لم يدخل الخطيب عندكم بيت الخطابة؟
فلما وصل هذا الخبر إلى المقام الشريف أجابه؛ قال حضرة مولانا السلطان: لأنه ثبت عندنا أن منبر النبي
صلى الله عليه وسلم
كان درجتين ومجلسا، فعلى ذلك يلزم فعل أهل بلادكم على هذا الذي ذكرتم، بدعة.
ونقول في جواب السؤال الثاني: هل ثبت عندكم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
دخل بيت الخطابة وقت الخطبة أم لا؟ فعليكم بالبيان، مع أنه ورد: من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد.
والله أعلم بالصواب.
تم الجزء الأول من الكوكب الدري في مسائل الغوري بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ منه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع عشر وتسعمائة.
Page inconnue