La Conception de la Méthode Scientifique
مفهوم المنهج العلمي
Genres
من هذا المنظور كانت نظرية المنهج العلمي الاستقرائية، التي ترتكز على البدء بالملاحظة، قد تصاعدت «مواكبة» لنشأة العلم الحديث في أعقاب عصر النهضة وبدايات العصر الحديث، كرد فعل عكسي على إفراط العصور الوسطى الأسبق، خصوصا العصر المدرسي في منهجية القياس الأرسطي. القياس شكل عقيم من أشكال الاستنباط الخالص، يهبط من مقدمات كبرى إلى نتائج جزئية، فيما يبدو كتحصيل لحاصل ومصادرة على المطلوب، من حيث إن النتيجة متضمنة قبلا في المقدمات، فضلا عن أن الأمر انتقال من قضية إلى أخرى، ولا مساس إطلاقا بآفاق المجهول الرحيبة، ولا تعامل مع الواقع والوقائع، ودع عنك استشهاد الحواس. كان القياس الأرسطي الذي مثل الروح المنهجية في العصر المدرسي، أمثولة على الاستنباط الخالص العقيم.
بدا لعقول الحداثة الناهضة آنذاك - في القرن السابع عشر - أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث، يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طرا، وسلك الطريق العكسي وهو الاستقراء؛ أي البدء بالملاحظة والصعود منها إلى نتائج عامة.
وزاد من حدة هذا، ذلك الصراع الدامي آنذاك بين العلم الحديث، وبين السلطة المعرفية التي كانت لا تزال في يد رجال الكنيسة، وقد استمدوا سلطانهم - لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضا جريئة - بل فقط لأنهم أقدر البشر طرا على قراءة الكتاب المقدس. ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصراح والخسران المبين، إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطاء القاصر في المواجهة مع رجال الكنيسة المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر، على قراءة كتاب آخر لا يقل عظمة أو دلالة على بديع صنع الرب، ألا وهو كتاب الطبيعة المجيد، محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، محض مشاهدة لوقائع التجريب ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض.
تمخض الصراع آنذاك عن انتصار قراءة كتاب الطبيعة، والاقتصار عليها نبذا لقراءة الكتاب المقدس، فكانت الحضارة الغربية العلمية العلمانية المقتصرة على المادي والوضعي. يقول برتراند راسل: «لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعا بين الاستنباط والاستقراء.»
4
انتهى الصراع مع سلطة رجال الكنيسة بانتصار رجال العلم، واستقلال حركة العلم التجريبي بفضل قوتها المعرفية المتنامية الرافعة للواء الاستقراء.
ترسخت دعائم المنهج العلمي الاستقرائي، ثم شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء، خصوصا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في القرن التاسع عشر، وبات من المسلم به أن عماد مفهوم المنهج العلمي شقان: الفرض والملاحظة، ولكن ظلت الأسبقية للملاحظة والبدء منها لتثار مشكلة الاستقراء. •••
أما عن الظروف المعرفية فتعني الولوج إلى قلب نسق العالم وعوامله الداخلية المنطقية والمنهجية . وفي هذا نجد أن المنهج الاستقرائي التقليدي كان يتواكب مع إبستمولوجيا العلم الحديث في مرحلته الكلاسيكية؛ أي مع نظرية المعرفة العلمية وطبيعتها وخصائصها في تلك المرحلة، التي تحددت معالم نسق العلم فيها بفيزياء نيوتن الكلاسيكية. ونظرية نيوتن بدورها تصور الكون ككتل مادية قابلة للملاحظة المباشرة، وتتحرك على سطح مستو عبر الزمان والمكان المطلقين، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، إذن فالكون بالتأكيد نظام ميكانيكي حتمي خاضع للسببية الشاملة والحتمية، فضلا عن أن مكوناته قابلة لأن تدركها الحواس. في مثل هذا العالم من الملائم جدا أن نلاحظ وقائعه ثم نعممها، ويتقدم العقل العلمي بتفسير للتعميم إلى آخر خطوات المنهج الاستقرائي التقليدي.
وكانت كل خطوة يحرزها العلم آنذاك إنما هي نجاح ملموس، يؤكد فرضية الاستقراء والبدء بالملاحظة، ويتأكد بها. وفي هذه الأجواء المشبعة بنشوة الظفر والنجاح العلمي الحديث، جاء هيوم ليثير التساؤل حول السببية، ويفجر مشكلة الاستقراء.
وكان هذا حدسا عميقا لأن الظروف الحضارية والقصورات المعرفية، هي التي أملت البدء بالملاحظة، في حين أن العقل هو سيد الموقف العلمي: يبدأ بفرض ما يتجه منه إلى الملاحظة. وانقشعت أوهام الاستقراء والمصادرة على البدء بالملاحظة باقتحام عالم الذرة وما دون الذرة؛ حيث يتعامل العلم التجريبي مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلا، فلا يمكن رصد جسيمات الذرة لكي نخرج بتعميم استقرائي لما لاحظناه أو رصدناه، يمكن فقط رصد آثار الجسيمات على الأجهزة المعملية. إذن لا بد من فرض قبلا لنستنبط منه ما يلزم عنه، نصمم التجربة على أساس الفرض، أو بالأحرى نصممها لاختبار الفرض عن طريق المقارنة بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين الآثار المرصودة معمليا. هكذا يأتي دور الملاحظة المعملية التجريبية بعد الفرض، وانتبهنا أخيرا إلى أن أحدا من العلماء - قديما أو حديثا - لم يدخل البتة معمله، إلا بناء على فكرة أولية أو فرض ما مطروح قبلا. بدون فكرة مبدئية، كيف ولماذا يدخل المعمل؟ لقد انقلبت نظرية المنهج العلمي رأسا على عقب، ليغدو الفرض قبل الملاحظة، يختبر وينقح ويعدل عن طريقها ... فيما يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي. (3) المنهج فرضي استنباطي
Page inconnue