إهداء
المقدمة
1 - المنهج العلمي ... لماذا؟
2 - ما المنهج؟
3 - العلم والمنهج
4 - منهج العلم أم مناهج العلوم؟
5 - تطور نظرية المنهج العلمي
6 - المنهج العلمي في التاريخ القديم
7 - من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث
8 - المنهج العلمي والحداثة
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
إهداء
المقدمة
1 - المنهج العلمي ... لماذا؟
2 - ما المنهج؟
3 - العلم والمنهج
4 - منهج العلم أم مناهج العلوم؟
5 - تطور نظرية المنهج العلمي
6 - المنهج العلمي في التاريخ القديم
7 - من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث
8 - المنهج العلمي والحداثة
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
مفهوم المنهج العلمي
مفهوم المنهج العلمي
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
إلى الجيوفيزيائي الدولي عبد الله إبراهيم أبو العلا،
عقلية علمية ومنهجية من طراز رفيع،
شخصية جادة على طريق قويم،
نفس آمنة في أفق رحيب.
المقدمة
مفهوم المنهج العلمي في طليعة المفاهيم، التي يمثل استيعابها وتوظيفها وعدا حضاريا أكيدا؛ فكان مفهوما يتبوأ موقعه المرموق في الخطاب المعرفي والثقافي معا، ويراد له عن حق التوطين والتفعيل. المنهج العلمي باختصار أنجح آلية امتلكها العقل في مواجهة الواقع والوقائع، فيما يجسد نواتجها العملاق الماثل: العلم، أروع تجليات العقلانية في الحضارة الإنسانية، وأشدها إثباتا لحضور الإنسان؛ الموجود العاقل في هذا الكون، وقد بات العلم الحديث من أقوى العوامل الفاعلة الموجهة، بل المشكلة للفكر وللواقع معا، وفي النهاية يمكن القول دائما إن العلم أنجح مشروع ينجزه الإنسان.
مفهوم «المنهج» في حد ذاته يعني الطريق الواضح والطريقة الناجزة، و«المنهج العلمي» تمثيل وتجريد للعقلية العلمية والتفكير العلمي، لطريق العلماء في بحوثهم وطريقتهم في إنجاز كشوفهم، والإضافة إلى نسق العلم طابقا فوق طابق. وكما أكدنا مرارا، مهما تمخضت مسالك العلماء في النهاية - أو في تطبيقاتها - عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، غزو الفضاء والذرة، فك شفرة الحياة ولغز الثقوب السوداء، التحكم في النانو تكنولوجي وبه، تحويل مجاري الأنهار واخضرار الصحارى، هندسة الموروثات ومقاومة الأوبئة ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية ... إلى آخره، أو بالأحرى إلى غير آخر ... مهما تحققت إنجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، سيظل المغزى الأعظم للمنهج العلمي هو أنه تجسيد لطريقة في التفكير والفعل سديدة مثمرة، يمكن تسخيرها في كل تعامل مع واقع متعين، وليس في البحث العلمي فحسب. أجل، يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه يمكن أن ينصب في الواقع الثقافي كبلورة مستصفاة للتفكير المثمر الملتزم بالواقع والوقائع، بالانتقال من المشكلة لحلها، تعقيل السير نحو الهدف، التآزر بين العقل والحواس، تكامل القوى المعرفية التحليلية والاختبارية والنقدية والإبداعية معا ...
وسبيلنا الآن إلى تنضيد وتوصيف وتعريف هذا المفهوم النابض الشامخ، في مقاربات تحليلية وتتبعات تاريخية معا، تسفر عن رحلة مع العقل العلمي تمتد بطول التاريخ، ويتحاور فيها الشرق والغرب، نستهلها في الفصل الأول بعرض إيجابيات يحملها هذا المفهوم، قد تغري بخوض رحلة تعريفه والتعرف عليه. يتناول الفصل الثاني مفهوم «المنهج» أصلا، وكيف كان هاجسا ملازما للفلسفة، وكيف توالد عنه مفهوم محدد للمنهج العلمي. وتتوالى الفصول مبينة كيف نشأت فلسفة العلم، لتكون منشغلة أساسا بمفهوم المنهج العلمي، وكيف تطورت صياغته وتسير قدما نحو المزيد من النضج والفاعلية، وكيف سار مفهوم المنهج العلمي ذاته عبر التاريخ، وما الدور الذي قام به تراثنا في هذا الصدد، ثم ما الدور الذي قام به «المنهج العلمي» في خلق وتمثيل قصة الحداثة، وكيف تصاعدت منظورات مستجدة له أكثر خصوبة في ما بعد الحداثة، تمثيلا لما صاحب المفهوم بالانتقال من زمن الثورة الصناعية وصلابتها، إلى زمن الثورة المعلوماتية وسيولتها. ونصل في الختام إلى السؤال الأهم: كيف يمكن تفعيل المنهج العلمي وتوظيفه في واقعنا الحاضر وفي مستقبلنا.
هذه بعض تساؤلات كبرى تضوي تحت لوائها تساؤلات جانبية وفرعية، تتواتر مناقشاتها ومحاولات الإجابة عنها إبان مصاحبتنا لمفهوم المنهج العلمي، ومتابعة عقلانيته التجريبية، عبر الصفحات المقبلة.
يمنى الخولي
جامعة أحمد بلو، نيجيريا
26 ديسمبر 2014م
الفصل الأول
المنهج العلمي ... لماذا؟
(1) مدى واسع ممتد
قبل الخوض في تعريف مفهوم المنهج العلمي والتعرف على أبعاده وآفاق عالمه، نسأل قبلا: لماذا هذا الخوض؟ لماذا يعد طرح مفهوم المنهج العلمي مهمة وأمانة ورسالة ؟ ولماذا يعد اكتساب هذا الطرح تنمية عقلية حقيقية ومبتغاة؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة على هذا، تأتي توا من حلبة المنهج العلمي؛ أي البحث العلمي ذاته كقوة عظمى امتلكها الإنسان، وأهم منتج مؤثر في واقعه، لتكون الإجابة: إن الطرح المتكامل لمفهوم المنهج العلمي، المستشرف للآفاق والمستقصي للجذور - على نهج الطرح الفلسفي - إنما يجعل العلماء أكثر ألفة بعالمهم، يضع النقاط على الحروف، فيزداد طريق التقدم العلمي وضوحا، وتزداد معدلاته صعودا.
ربما يكون هذا جانبا من الإجابة على السؤال المطروح، ولكنه ليس الإجابة كلها ولا حتى أهم ما فيها، الفلسفة حين تعمل على تعريف وتقنين مفهوم المنهج العلمي، فإنها لا تجرد محض طريقة يتبعها العلماء في بحوثهم، كأدوات فنية خاصة بأهل حرفة بعينها وإن علا شأنها، إنما تبلور أسلوبا من أساليب التفكير الملتزم والمثمر، هو أنجع طريقة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل مشكلاته. يقول جان فوراستيه
Jean Fourastie : «إن للمنهج العلمي مدى يمتد من العالم إلى الإنسان المتوسط، ومن الميكانيك الموجية إلى الأحداث المبتذلة في الحياة اليومية؛ فليس هناك مجالان منفصلان: مجال العلم ومجال الحياة. والمنهج العلمي ليس تقنية خاصة بذوي الاختصاص، كما يختص خبراء التأمين بنظام الاحتمالات، والقضاة بالقانون، وعلماء الآثار المصرية بالهيروغليف، بل هو أحد الوسائل المعطاة لكل إنسان، وأكثر هذه الوسائل سهولة وضمانا لمعرفة العالم، الذي انتظم فيه الإنسان: الكون والأرض والنباتات والحيوانات والأشخاص.»
1
المنهج العلمي في جوهره آلية إيجابية فعالة، لتعامل الإنسان مع وقائع عالمه، تقوم على التآزر والتحاور بين قدرات الذهن ومعطيات الحواس، وهذه آلية كامنة في كل عقل بشري، وتبلغ أقصاها في البحث العلمي، تماما كما نقول إن القدرة الفنية كامنة في كل إنسان، وأي طفل لا بد أن يمارس الرسم، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها مع الفنانين العظام، أو أن القدرة على الكتابة كائنة لدى البشر أجمعين، وأي تلميذ لا بد أن يكتب موضوع الإنشاء، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها لدى الكتاب العظام. كذلك آلية الحوار الإيجابي المثمر بين الذهن ووقائع العلم كائنة في كل العقول ، في مدى واسع ممتد، وينبغي العمل على تنميتها دائما، وهذه الآلية تبلغ أقصاها وذروتها في العلم والبحث العلمي.
وإذ نستقي خلاصة طريق وطريقة العلماء في معاملهم نشدانا لتقنين هذه الآلية، نجدها تقوم على فرض أبدعه عقل الإنسان/العالم، يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدله أو يرفضه، ليكون مسير ومصير الفرض في نسق العلم وفقا لشهادة التجريب على كفاءته في حل المشكلة المطروحة للبحث، وأداء المهام المعرفية التي وضع من أجلها. إنه الحوار الخصيب والتآزر الجميل المثمر بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع؛ لذا كان المنهج العلمي صورة مثلى لما يمكن أن نسميه: العقلانية التجريبية. وفي تفعيل هذا نتعلم تكاملا بين ملكتين إدراكيتين أو القوتين المعرفيتين، فلا جنوح لطرف ولا إقصاء لآخر.
في المنهج العلمي يتجلى العقل حين يرسم سبلا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل، ملتزمة بالواقع بما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تقبل أو تلغى وفقا له. المنهج العلمي التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلاف لذلك الخطأ، يعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد ... وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدا. البحث العلمي فعالية مستمرة، تحمل في صلب ذاتها عوامل لتناميها وتقدمها المتواصل دوما. كل إجابة يتوصل إليها تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدم فلن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدا، بل يزداد حمية ونشاطا في سعيه الدءوب المتخطي دوما لحاضره، مغيرا إياه.
إن العلم صنيعة الإنسان، فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك ليس العلم بناء مشيدا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة . كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة - تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
وفي خضم هذه الحركية التقدمية الجبارة، ينتصب مارد المنهج العلمي، بوصفه الثابت الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكل ما يتواتر من تغيرات. في رحاب هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس، لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ؛ دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ: إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي.
ولعل تفعيل المنهج العلمي في مداه الواسع الممتد، يمكن أن يأتي بأبسط نواتجه في أن نضطلع بشيء من هذه المسئولية إزاء الواقع والوقائع، مما يؤدي إلى كبح جماح الاسترسال في الإنشائيات والخطابيات، والخوض في لغو القول، والأغاليط، والمكابرة، والدفاع عن القضية ونقضيها، فضلا عن الدفاع عن قضية خاسرة، تشهد الوقائع ببطلان أسانيدها ... أو استمرار وسائل فاشلة تشهد الوقائع بعجزها عن بلوغ غاياتها؛ إنه مدى واسع ممتد. (2) تقدمية والروح نقدية
نلاحظ كيف فرضت مقولة التقدم والتقدمية ذاتها، منذ مستهل حديثنا عن المنهج العلمي، ويحق القول إن البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حضارة البشر، والمضمار الوحيد فيها الذي يملك ضمانات كافية، تشهد بأن غده سيكون أثرى وأقوى من يومه، مثلما جاء يومه أثرى وأقوى من أمسه.
التقدم
يعني السير قدما إلى الأمام، وهذه الكلمة الإنجليزية مأخوذة من الكلمة اللاتينية
، التي تعني قطع حيز إلى الأمام، سواء في الزمان أو في المكان؛ قطع مسافة في السير، وأيضا تقدم في العمر. وقد برز مفهوم «التقدم» كمصطلح فلسفي مهم في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، ليفيد قيمة إيجابية تمثلها حركة خطية، ليست دائرية وليست تراجعية. وقامت مقولة التقدم بدورها المعروف في الفكر الغربي، وكانت من مقدمات عصر التنوير في القرن التالي. وأخيرا جاء عصر ما بعد الحداثة في النصف الأخير من القرن العشرين ، وطرح مفهوم التقدم لمناقشات مستجدة في الفكر الغربي. ومن ناحية أخرى، كان الفكر الإسلامي في المشرق، قد شهد الحركة الوهابية، التي أكدت أن التقدم حركة قهقرية. ثم ظهرت تيارات فلسفية لا تمانع في أن ترى التقدم عودة إلى الوراء، إلى عصور مضت بدت لهم لا تبارى ولا تمارى. وبصرف النظر عن هذا وذاك، رب قائل إن الفن التشكيلي في عصر النهضة أفضل منه الآن، أو إن تأثيث المنازل على الطراز الكلاسيكي أجمل من تأثيثها على الطراز الحديث، أو إن طعام الأجداد أشهى من طعامنا اليوم، أو إن العمارة في مرحلة ما كانت تحمل زخما جماليا، افتقدناه الآن وكانت مريحة أكثر ... إلخ، ولكن لا يقولن أحد البتة إن العلم في أية مرحلة سابقة كان أفضل منه الآن، أو في أية مرحلة لاحقة.
من أجمل جمالات العلم والمنهج العلمي، أن قيمة التقدم فيه محسوسة تماما، ولا مجال لخلاف أو جدال بشأنها. نعم تموج فلسفة العلم بمناقشات عاصفة حول طبيعة التقدم العلمي، وهل هو تراكم متوال: كشف فوق كشف ونظرية بجوار نظرية، أم هو ثورة مستمرة: استيعاب وتجاوز مستمر لما هو كائن، انسياب دورات جديدة بمنطلقات جديدة، تتيح دائما رؤية أوسع وسيطرة أعلى ... أم إن التقدم العلمي حوار جدلي بين التراكم والثورة، بمعنى تراكم تراكم ثم ثورة ... تراكم تراكم ثم ثورة.
2
وأيضا ثمة الجدال حول معايير التقدم العلمي: هل هي معرفية نظرية أم براجماتية عملية، أم كلتاهما معا؟ ولكن التقدم في حد ذاته؛ مثوله في العلم ومثول العلم فيه، واعتماد المنهج العلمي طريقا مفضيا له، مسألة محسومة، قيمة منطقية لها مقاييسها الكمية وتحديداتها الدقيقة.
من أية زاوية التقدم في العلم غاية منشودة ومأمولة ومتحققة، ببساطة تعني حذف قصورات وأخطاء، تعني مزيدا من الاقتراب من الصدق/الحقيقة، تعني توصيفات أوفى وقوى تفسيرية أعلى وتنبؤات أدق، وبالتالي مزيدا من السيطرة على الظاهرة، ومزيدا من حلول لمشاكل وتحقيق أهداف، والأجمل أن التقدم ليس فقط غاية منشودة في العلم، ثاو في منهجه، بل هو واقع ماثل متحقق دائما . •••
وكما اتفقنا، المنهج العلمي في جوهره هو العقلانية التجريبية؛ فلا تجريبية فجة غشوم تنحصر في معطيات الحواس، تسوخ فيها بغير أن تشرئب عنها، ولا تحليق للعقل في سدم الفكر الخالص المنذرة بالتشتت والتهاويم والجنوح. إنه حوار مستمر وضابط بين الطرفين؛ بين الفكر والواقع. وكما ذكرنا لا جنوح لطرف ولا إقصاء لآخر؛ فيقي من مغبة التطرف المتصلب والمنفلت نحو حد أو طرف بعينه، تماما مثلما يقي المنهج العلمي من وبال القبول الأعمى، لمراسم جاهزة والتصلب بين أطرها، ما دام كل شيء فيه خاضعا للاختبار والنقد والتمحيص؛ خاضعا لمحكمة التجريب.
ليست التجربة معينا نغترف منه الفرض العلمي، بقدر ما هي ساحة اختبار الفرض العلمي واستنطاقه واستشهاده واستجوابه وتمحيصه؛ بعبارة: موجزة التجريبية العلمية في جوهرها هي الاختبارية والقابلية للاختبار
testability ، وأن تكون العبارة تجريبية فهذا يعني أنها قابلة للاختبار، وأن تكون العبارة التجريبية علمية، فهذا يعني أن المنهج العلمي هو اختبارها اختبارا عسيرا لأقصى درجة ممكنة. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر» مرادفا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. إن التجريبية هي الاختبارية، وهي النقدية. الاختبارية النقدية هي سر التقدم المستمر في العلم. والروح العلمية روح نقدية على الأصالة. •••
يتقدم الآن كارل بوبر
Karl R. Popper (1902-1994م) فيلسوف المنهج العلمي الأكبر، الذي قيل عنه: «إنه المفرد العلم الذي يشار إليه بالبنان، حين طرح السؤال عن المنهج العلمي.»
3
وقد مثل كارل بوبر نقطة تحول بأن استندت فلسفته على أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم، هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة واكتشاف الخطأ؛ اكتشاف موطن الكذب والتعارض مع الواقع؛ لتصويبه والاقتراب أكثر من الصدق/الحقيقة، فيتأتى التقدم المستمر. وضع بوبر معالجته الشاملة للمنهج العلمي ومنطقه، على أساس الاختبارية التكذيبية، التي لا تعدو أن تكون أسلوب النقد المختص بالعلم، والذي يجعله دائم التقدم، مؤكدا أن النقد دماء الحياة للتفكير العقلاني وللتقدم في العلم، وفي الحضارة على الإجمال. إن بوبر في فلسفته الرائدة للمنهج العلمي يعول التعويل الأكبر على مفهوم النقد، وقيمة النقد والدور العلمي للنقد، حتى وضع بطاقة لفلسفته هي «العقلانية النقدية».
التفكير العلمي هو ذاته التفكير النقدي، والمنهج العلمي منهاج نقدي. النقد بمعناه الحرفي؛ أي بمعنى الحرص الدائم على تصيد الأخطاء، وتعيينها من أجل تصويبها، هو لا سواه روح العلم والأنفاس المترددة في صدره، هو معلمه. قد يتبدى التفكير العلمي بوصفه المقابل للتفكير الأسطوري، ولكن يمكن القول إن العلم له هو الآخر أساطيره. وقد يقدم تصورات يصعب على الحس المشترك، والإنسان العادي في حياته العادية، أن يتقبلها أو يتعايش معها؛ أشهر الأمثلة على هذا نظرية النسبية لآينشتين، حيث تتغير الكتلة بتغير السرعة، والزمن بعد رابع يتباطأ هو الآخر بزيادة الكتلة، ويسير بسرعات واتجاهات مختلفة. والعلم يقدم أفكارا وتصورات حاشدة ومحملة بالكثير، تقوم بدور كبير وتتحمل مسئوليات معرفية جسيمة، ثم يقلع عنها وتذوي جانبا، وأشهر الأمثلة على هذا فرض «الأثير» لتفسير انتقال الضوء والإشعاع؛ لذا أمكن القول بشكل ما إن العلم هو الآخر يصنع أساطير. يظل الفارق الحقيقي الحي بين الفكر العلمي والفكر الأسطوري، أن الأساطير تظل ثابتة على حالها دائما، وقد يضفي عليها التفكير الإيقاني المتزمت (الدوجماطيقي) مزيدا من الثبات. أما المنزع النقدي في العلم والمنهج العلمي، فيغير دوما من أساطيره في اتجاه التقدم، والاقتراب الأكثر من الصدق؛ لأن النقد يحذف الخطأ ويقلل دوما نطاقه.
إن المنهج العلمي هو أسلوب التفكير النقدي، هو عقلانية نقدية بقدر ما هو العقلانية التجريبية. وتبقى ملاحظة أنه في الآن نفسه أسلوب التفكير المبدع، ولما كان هذا الإبداع مسئولا أمام محكات المنطق وقياسات الواقع، أمكن أن نسميه أيضا العقلانية الإبداعية. (3) إبداع ومسئولية
حين يقال المنهج العلمي بألف ولام العهد كمفرد علم، يكون المقصود عادة هو المنهج التجريبي. وقد اشتهر العلم الحديث بتجريبيته، وبات القول إن العلم تجريبي يشبه القول إن الشمس تشرق في النهار والماء هو الماء. على أن التجريبية كما أشرنا ليست معينا نغترف منه الفرض العلمي، بل ساحة لاختباره. في المنهج العلمي يجتاز الفرض والتمحيصات المنطقية، والقياسات الكمية الدقيقة والاختبارات التجريبية، ليحصل على جواز المرور إلى نسق العلم، فيمثل إضافة وحصادا علميا وحصيلة معرفية. الفرض الناجح هو اللبنة والإنجاز الملموس. والسؤال الآن: من أين يجيء الفرض أصلا؟
لعل هذا السؤال يناظر السؤال: من أين يجيء الحب؟ فلا إجابة محددة على أي منهما، وإذا كان هذا سؤالا عن المصدر؛ «فليس هناك مصدر معين لا سواه للمعرفة. والمعرفة لا تتمتع بأية مصادر غير قابلة للخطأ، لا في الحواس ولا في العقل».
4
كل فرض وكل اقتراح وكل مصدر على الرحب والسعة، ما دام كل اقتراح يمكن تعريضه للنقد، للاختبار واكتشاف أخطائه وتصويبها، والانتقال إلى وضع أفضل في صيرورة التقدم المستمر. والمنهج العلمي بعقلانية النقدية، تأطير لمنطق الكشف العلمي والتقدم الدائم.
وليس المنهج العلمي في هذا خطوات محددة أو طريقا مرسوما للوصول إلى الفرض الجديد، إنه ليس طريقا للكشف، بل منطق له؛ لا يرسم طريق الوصول إلى فرض جديد، بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج العلمي تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص فلسفة المعرفة (= الإبستمولوجيا) أو فلسفة المنهج (= الميثودولوجيا)، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرس ظاهرة الإبداع.
لا يمكن الوصول إلى الفرض العلمي الجديد عن طريق خطوات محددة. الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وإبداع، تأتي من الذكاء الإنساني في تفاعله مع الحصيلة المعرفية، الخيال الخصيب والعبقرية الخلاقة، الإطار الثقافي الملائم الذي يهب العالم محفزات للإبداع ... كل هذه عناصر فاعلة. ولا يمكن الوصول إلى الإبداع الأصيل في الفن أو في الفكر، أو في أي موقف حياتي عن طريق خطوات محددة. والعلم بدوره أكثر المناشط الإنسانية حيوية وإبداعية.
لا يأتي الفرض العلمي الجديد إلا بعد إلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، وهذا هو ما نسميه: الدرس الجاد، ويجسد الطابع الجمعي التعاوني، الذي يميز عالم العلم. ثم يقدح العالم ذهنه ليتوصل إلى حل للمشكلة المطروحة للبحث. هذا الحل حدس، تنبته الموهبة العلمية الفردية والعبقرية الخلاقة في انشغالها العميق بالمشكلة المطروحة، وإحاطتها بهذه المشكلة درسا وبحثا. لقد أكد هنري بيرجسون
H. Bergson (1859-1941م) على الجهد العقلي العظيم المبذول في كل إبداع، فما بالنا بالإبداع العلمي!
عني العالم/الفيلسوف هنري بوانكاريه
H. Pioncaré (1854-1912م) بالطبيعة الإبداعية الحدسية للكشف العلمي، وأضفى عليه طابع المفاجأة والتركيز، وأنه يأتي إلى ذهن العالم كومضة. وقد كانت أبحاث بوانكاريه من الخطوط التمهيدية، والمقدمات العامة التي تأدت إلى نظرية النسبية الخاصة مع آينشتين. ويظل فرض الكوانتم العبقري، وقد نما وتطور في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بفعل رعيل من العلماء المبدعين هم بحق فرسان الكوانتم؛ يظل هذا الفرض مكمن الجمر، وهيكل النور في التعملق الراهن للعلم، واقتحامه الواثق المقتدر الفعال لعالم ما دون الذرة. الأب الشرعي لفرض الكوانتم هو العالم الألماني ماكس بلانك
M. Plank (1858-1947م)، طرح عام 1900م فرض اعتبار الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرار كسيل، بل على «كوانتمات»، و«كوانتم» وهو المصطلح الذي اختاره، كلمة لاتينية تعني مقدارا أو كمية أو وجبة.
5
كشهادة حاسمة يقول ماكس بلانك: «كل فرضية تظهر في عالم العلم تعرض نوعا من الانفجار المفاجئ، وقفزة في الظلام لا يمكن تفسيرها منطقيا، ثم تدق ساعة ميلاد نظرية جديدة، وبعد أن ترى نور العالم تسعى جاهدة إلى النمو والتقدم باستمرار، ويتوقف مصيرها أخيرا على المقاييس.»
6
كل كشف علمي يحوي عنصرا إبداعيا حدسيا قائما على الحب العقلاني لموضوع البحث. تتواتر سير وأقاصيص العلماء أنفسهم، وهم يقررون أنهم توصلوا إلى النظريات العلمية، بالعديد من الطرق المختلفة وليس بأية خطوات محددة، قد تظهر النظرية العلمية كومضة إلهام، في حالات الحلم أو ما يشبه الحلم. أثناء النوم رأى كيكوليه تخطيطه لجزيء البنزين، ورأى مندليف ملامح الجدول الذري، ورأى نيلز بور النظام الشمسي كنموذج للذرة. تشرق النظرية العلمية في الذهن كما يشرق أي إبداع إنساني آخر؛ فقد تومض فجأة، وقد تهبط رويدا كضياء الفجر.
لذلك نجد مماثلة بين روح العلم وروح الفن، شاعت في فلسفة العلم في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وعمل شيخ فلاسفة العلم في فرنسا جاستون باشلار
G. Bachelard (1884-1962م) بالذات على أن يفلسف العلم والفن معا من المنطلقات القيمية نفسها. عالم الفن من خلق الإنسان، جميع الأعمال الفنية صنعها الإنسان الفنان، وكذلك عالم العلم من خلق الإنسان، وجميع النظريات العلمية من صنع الإنسان العالم، يخلقها ثم يحاول فرضها على العالم لتفسره، فهي «شباك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود مستمرة دائما لجعل ثقوبها أضيق وأضيق».
7
ولا يمكن وجود منطق ومنهج لعملية الخلق والإضافة في العلوم أكثر من إمكانية وجوده في الفنون. وكما قيل عن حق: «كعبقرية خلاقة يقف جاليليو ونيوتن وآينشتين على قدم المساواة مع مايكل أنجلو وشكسبير وبيتهوفن.»
وكشأن الإبداع في الفن، نجد الإبداع في العلم يشترط هو الآخر الخيال الخصيب، بدون الخيال لا إبداع علمي، ولن تكون المحصلة أكثر من بيانات إحصائية. الفنان مبدع والعالم مبدع، الخيال شرط الإبداعية، هو الفارق بين الإنسان المبدع القادر على إضافة تصورات مستجدة، وبين الإنسان العادي الذي يظل محصورا فيما هو كائن، دون قدرة على الارتفاع عنه والإضافة إليه. الفنان والعالم كلاهما قادر على الإبداع؛ لأنه مسلح بالخيال، كلاهما ينطلق مع خياله الخصيب إلى أقصى الآفاق، ولكن الفنان يظل وعمله أو إبداعه الفني هنالك في آفاق الخيال، التي مكنته موهبته من الصعود إليها، بل إن الفنان القدير ينتزع المتذوق من عالمه ويجذبه هو الآخر هنالك. أما العالم فسوف ينطلق مع خياله أقصى انطلاقة، تتيح له التوصل إلى فرض جسور. وبقدر جرأة وقوة الخيال، تكون جرأة وقوة الفرض العلمي. وعلى خلاف موقف الفنان نجد العالم عليه أن يعود مجددا إلى عالم الواقع والوقائع، ليختبر الفرض ويحدد مسيره ومصيره. ولن يدخل فرضه عالم العلم أصلا إلا إذا كان قابلا للاختبار التجريبي الجاد، الذي يحكم بكذبه حال تناقضه مع وقائع. بتعبير كارل بوبر، الفرض العلمي لا بد أن يكون قابلا للتكذيب، يحمل في تضاعيفه تنبؤات منطبقة على العالم الذي نحيا فيه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، قد تقوم المحكات المنطقية والرياضية في العلم بدور يناظر دور المحكات الجمالية في الفن، ولكن استشهاد الوقائع والالتزام بهذه الشهادة ينفرد بها العلم التجريبي، وتميز الإبداع العلمي. المسئولية إزاء الواقع هي التي تميز انطلاقة الخيال الإبداعي العلمي عن أية انطلاقة سواها. •••
القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب كخاصة منطقية مميزة للقضية العلمية، تبرز لنا أيضا كيف يتميز المنهج العلمي بدور كبير للأمثلة النافية والوقائع المكذبة. إن مواجهتها والتصويب بهديها وجه من وجوه قصة التقدم العلمي المتواصلة دوما. المنهج العلمي ملتزم بالبحث عن وقائع مكذبة وأمثلة معارضة إن وجدت، مقابل أنماط التفكير الأخرى التي لا تبحث إلا عن الأمثلة المؤيدة والشواهد على صدقها، إن لم تلو عنق الوقائع لتكون شاهدة في كل حال.
مجمل القول، إن التجريبية هي القابلية للاختبار، هي القابلية للتكذيب ... والتقدم المستمر، هي استشهاد الواقع والالتزام بهذه الشهادة، هي الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي ومنهجه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، التي تتجلى بوصفها جوهر التجريبية العلمية. ويمكن القول إن هذه المسئولية هي رسالة المنهج العلمي.
المنهج العلمي يستحث العزم على السير في طريق الإبداع واستغلال قوى الخيال المنطلق، ولكنه الإبداع المسئول وخيال تحاسب سبحاته حسابا دقيقا. المنهج العلمي إبداع ومسئولية، عقلانية تجريبية تتآزر فيها الملكات المعرفية، روح نقدية تقدمية تحمل بين شطآنها قيما منشودة من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم، والتنافس لحل المشكلات في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا كله البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دوما للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية؛ فلا شيء مطلق أو يقيني. نعم هناك التزام ولكن ليس ثمة حقيقة نهائية، تتخذ مبررا لكبح انطلاق العقول والسيطرة، وفرض الوصاية على العقل.
هذه بعض ملامح ناضرة للمنهج العلمي، لاحت لتغري بمزيد من التعريف به والتعرف على عالمه. وطريق التعارف المترسم يقتضي أن نطرح الآن التساؤل: ما «المنهج» أصلا؟
الفصل الثاني
ما المنهج؟
(1) مفهوم «المنهج»: تعريف وتحليل
بادئ ذي بدء نلاحظ أن الدور الاستراتيجي لمفهوم «المنهج العلمي» خصوصا، تكمن من ورائه أهمية استراتيجية أكثر شيوعا لمفهوم «المنهج » عموما، وللمنهجية في كل فكر وفي كل فعل نظاميين. إن المنهج بشكل عام آية دقة، ومفهوم محوري ومرتكز أساسي في كل ما ينزع إلى الجدوى والجدية والانضباط.
وبإزاء هذا الرصيد الهائل، لا بد أن نصل إلى «المنهج العلمي» عبر تعريف مفهوم «المنهج» في حد ذاته، وتحليل دلالته وتطوراته ومتغيراته؛ لكي ننتقل من هذا انتقالا مشروعا إلى مفهوم «المنهج العلمي» تحديدا. إنها تحليلات أولية، تعمل على تمهيد الطريق وتحديد معالمه.
نبدأ بتحليل الدلالة اللغوية والاشتقاقية للفظة «منهج» من حيث الأصول في اللغة العربية والمقابل في اللغات الأوروبية، ثم ننتقل من «المنهج» كلفظة إلى «المنهج» كمصطلح.
وإذا كانت الإتيمولوجيا
Etymology
هي علم البحث في الأصول اللغوية للفظة، فإن التحليل الإتيمولوجي للفظة «المنهج»، على سبيل استكناه الأصول وعمق الدلالات، يقودنا توا إلى صلب في اللغة العربية، وذلك قبل المراسي الشائعة الذائعة في اللغات الأوروبية، التي درجنا على أن نتعلم منها حديث المنهجية!
وقد كانت اللغة العربية وعلومها أولى الدوائر المعرفية في البنية العقلية، التي حملها التراث العربي الإسلامي، وكان لها الدور الفخيم، فلا غرو أن تحمل أصول الألفاظ فيها، وفي مقدمتها لفظة «المنهج»، الكثير الجم من كنوزنا الحضارية المذخورة، التي تنتظر البحث والتنقيب والسبر ... أوليست اللغة العربية هي البحر في أحشائه الدر كامن؟ على أية حال، فإن أصول وتطورات لفظة «المنهج» في اللغة العربية وفي اللغات الأوروبية، معا، تلقي الضوء الكثيف على طبيعة المفهوم ودلالاته ودوره، وكيفية الاستفادة منه.
لفظة المنهج والمنهاج ومرادفاتهما معروفة في لغة العرب، وهي من ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن المنهج لفظ قرآني، ومصطلح تراثي بامتياز. «المنهج» في اللغة العربية هو الطريق الواضح المستقيم، الذي يفضي بصحيح السير فيه إلى غاية مقصودة،
1
بسهولة ويسر. ومن هذا الأصل جرى استعمال لفظ المنهج، لتعني بوجه عام «وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة».
2
نهج نهجا تعني اتخذ منهاجا أو طريقا للوصول إلى غاية.
3
ومن عبقرية اللغة العربية نجد اللفظة «نهج»؛ أي تلاحقت أنفاسه من سرعة الحركة لوضوح الطريق ويسره (ومن هذا الأصل تستعمل اللفظة أيضا على عمومها، فيقال نهج من السمنة، أو من سواها). هكذا تتضمن أصول لفظة «المنهج» الإسراع في السير في الطريق لوضوحه، أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته، ويأتي أصل هذه الألفاظ لغة من الجذر نهج وأنهج، ونهج الطريق نهوجا بمعنى وضح واستبان، وصار نهجا واضحا بينا، ونهجته وأنهجته أوضحته، وأيضا سلكته. الطرق الناهجة هي الطرق الواضحة. النهج والمنهج: الطريق المستقيم، والمنهاج: الطريق المستمر.
4
وخير مفتتح لورود اللفظة في تراثنا قوله تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (سورة المائدة: الآية: 48)، وفي حديث ابن عباس، رضي الله عنه: «لم يمت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى ترككم على طرق ناهجة.» وقال يزيد بن الخذاق العبدي:
ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت
سبل المكارم والهدى تعدي
تعدي معناها أن تعين وتقوي،
5
أما «أنهجت أو أنهج» فتعني الاتضاح، وشق الطريق الواضح: اتخذه وسلكه.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن المنهج - كما ذكرنا - هو الطريق والطريقة، لكان بنظرة أعمق أكثر ظهورا في القرآن الكريم؛ إذ ورد عشرات المرات لفظ الطريق والطريقة، وأيضا السبيل والصراط، «كما ارتبط السياق الذي وردت فيه هذه الألفاظ بالهدى والضلال؛ فالله يهدي إلى سواء السبيل؛ أي الطريق المستقيم، والمؤمنون يدعون الله أن يهديهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم فاهتدوا إلى الطريق، غير المغضوب عليهم، الذين عرفوا الطريق وتنكبوه، ولا الضالين الذين ضلوا وتاهوا فلم يعرفوا الطريق».
6
اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (سورة الفاتحة، الآيتان: 6-7)،
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (سورة الأحقاف، الآية: 30)، الضلال يحمل الزلل المنطقي والزلل الأخلاقي معا، المعرفي والقيمي.
والسنة أيضا لفظ قرآني تبوأ موقعا فريدا في الدين الإسلامي وفي التراث العربي، لارتباطه بالدلالة النبوية أو الطريق النبوي، وهو الآخر يعني في أصله اللغوي الطريق، والسنن هي الطرائق، وبالتالي يقترب في دلالاته من لفظة المنهج. والخلاصة أن ثمة دلالات مشتركة في ألفاظ المنهج والمنهاج والطريق والسبيل والصراط والسنة،
7
جميعها تشير إلى طريق مستقيم واضح ميسر لسعي الإنسان ليبلغ به غاية مقصودة، تقع في مستويات مختلفة تبعا للمقاصد المختلفة، ومساعي الإنسان الشتى نحو الغاية النهائية وهي حسن المآل، في الدنيا وفي الآخرة، وتظل «قيمة المنهاج هي اتخاذه طريقا إلى المقصد، والحركة في اتجاه ذلك المقصد».
8
وفضلا عن هذا يحفل القرآن - كما أشار طه جابر العلواني - بألفاظ منهجية في المقام الأول، لا تنفصل عن نمط ومهام وسبل التفكير المنتج، من قبيل: التعقل، التفكر، التفقه، التبصر، الاعتبار، التدبر، النظر، التذكر ... ولكن مقصدنا الآن لفظة «المنهج» تحديدا وتعيينا. •••
وفي خطابنا العربي المعرفي المعاصر توضع لفظة منهج كمقابل سديد للفظة
Method
في الإنجليزية، و
méthode
في الفرنسية و
die Methode
في الألمانية، وسائر البدائل في اللغات الهندوأوروبية، وهي تعني الطريقة والمنهج، وتعود أصولها إلى الكلمة الإغريقية
μεθ0δ05 ، وهي كلمة يستعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر، كما نجدها كذلك عند أرسطو أحيانا كثيرة بمعنى بحث، والمعنى الاشتقاقي الأصلي لها يدل على الطريق، أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.
9
إن المنهج هو الطريق والطريقة، الأسلوب والوتيرة، الديدن والسبيل، المسار والشرعة، الطبع والناموس ... وهو كمفهوم مقنن في الخطاب المعرفي، يراد به تجسيد أسلوب سديد منظم ومثمر، ملتزم بالانتقال من المشكلة إلى حلها ومن المقدمات إلى الغاية.
وقد بات «منهج البحث» هو الاستعمال الأكثر للفظة المنهج في سياق اللغة التداولية المعاصرة في خطابها المعرفي، حيث يفيد «عموم الطريقة، وتتولد منه الإجراءات والأدوات، وتتعلق به الغايات أو المقاصد والقيم الحاكمة».
10
وإذ يغدو المنهج هو «منهج البحث» أو مناهج البحث، فقد بتنا بإزاء مبتغانا ومقصدنا الذي هو؛ أي منهج البحث، منجم أو مناجم نستخرج منها فرائد العلم والمعرفة. دلالة لفظة «المنهج» هنا تشير إلى استراتيجيات العمل العقلي وأركانه وأداته الكبرى، القوة الحقيقية والمجد الحقيقي للإنسان، الذي جعله تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، فهل لحكمته - سبحانه وتعالى - أن ورد الجذر «نهج» في القرآن مرة واحدة، وورد الجذر «بحث» أيضا مرة واحدة، وكلاهما في سورة واحدة هي سورة المائدة؟! رأينا «المنهج»:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (سورة المائدة، الآية: 48)، وسبيلنا الآن إلى «البحث ».
في القرآن الكريم:
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض (سورة المائدة، الآية: 31) بمعنى حفرها وطلب شيئا فيها. وفي «المعجم الوسيط»: «البحث» لغة هو الحفر والتنقيب، ويأتي بمعنى الاجتهاد وبذل الجهد في موضوع ما، وجمع المسائل التي تتصل به. وفي «المعجم الوجيز»: بحث عن الشيء؛ أي طلبه وفتش عنه أو سأل عنه واستقصى، وبحث الأمر وبحث في الأمر: اجتهد فيه ليعرف حقيقته، وباحثه: أي بحث معه فيه، وتباحثا: أي تبادلا البحث. والبحث في اللغة التداولية المعرفية هو بذل الجهد في موضوع ما وجمع مادته، وهو ثمرة هذا الجهد ونتيجته، ليشمل الاستعلام والاستقصاء، الذي يقوم به الباحث بغرض الوصول إلى نتيجة جديدة، أو تطوير وتصحيح أو تنقيح أو تحقيق نتائج كائنة بالفعل. والخلاصة في «كتاب التعريفات» للجرجاني، حيث: «البحث لغة هو التفحص والتفتيش، واصطلاحا هو إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين الشيئين بطريق الاستدلال.»
11
يفيد «منهج البحث» طريق الدرس والمعرفة والتفكير، ويعني طريقا محددا منظما، وهو مفهوم محوري والمرتكز في أية دراسات مقننة، ومقدمة أولية للجهد المعرفي الرصين الجدير بالاعتبار. منهج البحث يلفت الأنظار إلى مفهوم «المنهج» من حيث هو أكثر من مجرد لفظة؛ إنه مصطلح.
ولئن كان المنهج
Method
كلفظ يعني «الطريق والطريقة»، فإن المنهج كمصطلح في أشد معانيه عمومية يعني طريقة تحقيق الهدف، والطريق المحدد لتنظيم الجهد والنشاط.
واللافت حقا هو دور كبير لعبه «المنهج»، كمفهوم وكمصطلح في تراثنا، أو بالأحرى دور لعبه تراثنا في مضمار المنهج والمنهجية، وبالوقوف على هذا نخرج بأساس لنظرة أكثر شمولا وإطلالة على التاريخ المعرفي لمفهوم المنهج، في التراث العربي، وفي التراث الغربي؛ أي لدن الأنا ولدن الآخر. (2) مفهوم المنهج في التراث الإسلامي
لم يغب عن أعلام التراث الإسلامي في عصره الذهبي، أن طريق البحث والمعرفة على رأس الطرق طرا؛ فورد مفهوم «المنهج» كمصطلح؛ أي كطريق للبحث والنظر والعمل. وجاء في «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي ليعني: «ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره، ولا بد أن يكون متعلقا بكيفية تحصيله، فهو متعلق بكيفية عمل.»
12
وتصدر مصطلح المنهج عناوين مصنفات عديدة رائدة في تراثنا، ونضرب مثالا بواحد من غلاة العقليين هو ابن رشد وكتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وواحد من غلاة النقليين هو الإمام ابن تيمية، لنجد مثلا كتابه «منهج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة القدرية» وسواهما. وليس الأمر مجرد ورود لفظة أو مصطلح؛ فقد شهدت الحضارة الإسلامية منذ بواكير نهضتها نشأة واعدة للمنهجية والفكر المنهجي والممنهج، وفي هذا أهم عوامل تفسير الدور المعرفي الناهض، الذي لعبته في مرحلتها التاريخية.
ولا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتت في مجال المنهج والإنجازات المنهجية. وبخلاف مناهج المتكلمين الجدلية، ومناهج الفلسفة الإسلامية الأفلاطونية المحدثة من ناحية، والبرهانية من الناحية الأخرى، ومناهج المتصوفة الذوقية العرفانية، ومن قبل ومن بعد مناهج العلوم الرياضية والتجريبية عند العرب، التي كانت المقدمة الشرطية المفضية منطقيا وتاريخيا وجغرافيا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا، بخلاف كل هذا الرصيد المنهجي يتقدم علم أصول الفقه بموقعه الفريد في منظومة علومنا النقلية/العقلية، لنجده في جوهره لا يعدو أن يكون علما لمناهج البحث.
كان موضوع هذا العلم رسم الطريق المؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية من الأدلة التي نصبها الشارع؛ أي منهج استنباط الأحكام الشرعية، فأخرج مدرسة كبرى في منهجية الاستنباط، تجعل علم أصول الفقه يتقدم كعلم منهجي بامتياز، يمثل في تراثنا جذرا للعقلية المنهجية ذاتها، وأصول روحها المنبثة في أعطاف حضارة، أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها.
13
وعن طريق بحث واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسس لها علم أصول الفقه، يكشف هذا العلم عن منهجيات مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطن الروح المنهجية في ثقافتنا؛ هذا بخلاف المناهج الفرعية التي قام بصياغتها، أو بنقلها من العلوم الأخرى أو بتشغيلها وتطويرها، من قبيل الكلام على التواتر والآحاد، والقراءة الشاذة وحكمها، والأحوال الراجعة إلى متن الحديث أو طريقه، والجرح والتعديل، والناسخ والمنسوخ ... إنها تعطينا تمثيلات لمناهج بحث وطرق استدلالية دقيقة، وتبقى واسطة العقد المنهجي فيما أسماه الأصوليون مناهج الاستدلال على العلة، فضلا عن المنهجية الاختبارية في «السبر والتقسيم» وفي مبحث القوادح، والألية التقنينية في تقسيمات الأحكام ... إلخ. على الإجمال يكشف علم أصول الفقه كما يقول حسن حنفي عن «قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج».
14
وكان التطور اللافت في علم أصول الفقه وصورته العامة، بعد مرحلة التأسيس على يد الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204ه/820م)، إنما في استفادته من العلم الوافد: المنطق الإغريقي الذي أسهم في أن يكتمل أصول الفقه كمنظومة ممنهجة، يعنى بالترتيب والتقديم والتأخير، وتحديد الأصول والفروع، وفي أن يبدأ بجهاز مفاهيمي يتحدد بالتعريفات الدقيقة، اللغوية والمنطقية معا. وشبيه بهذا ما حدث في علم الكلام/علم أصول الدين، أواصر القربى وثيقة بين هذين العلمين أو الأصولين اللذين تشاركا في كثير من الطرق، وقد التقيا على الطريق المنطقي المفضي إلى الفلسفة.
كان مبحث الألفاظ والتعريفات، أو المفاهيم بمصطلحاتنا، هو الذي استفاد فعلا من المنطق وتأثر به، أكثر من مبحث القياس؛ لأن القياس الأصولي يختلف عن القياس المنطقي، مهما استفاد منه وسخره، وفي هذا نستطيع القول إن الإسلاميين لم يتعلموا المنهجية من المنطق الإغريقي، بل إن منهجيتهم الخاصة بهم - والتي تتبلور في علم أصول الفقه - استفادت منه، فألقوا درسا في كيفية الاستفادة من الوافد، وتوظيفه وتشغيله في إطار حضارتهم. •••
لقد كان المنطق الأرسطي أول ما نقله العرب من علوم اليونان، وظل حاضرا في الحضارة الإسلامية في استيعابه وتطويره ونقده. يزدهر المنطق في الأوساط المعنية باللغة، وعناية الحضارة الإسلامية باللغة العربية كانت غير مسبوقة، بسبب لغوية الحدث القرآني؛ الحدث الأكبر في تاريخها. وقديما قالوا المنطق هو نحو العقل، والنحو هو منطق اللغة.
15
ويظل المنطق في مراحله وتطوراته المختلفة هو الظهير المتين، وركن ركين لمناهج البحث في تطوراتها وتحولاتها.
وفي رحاب الحضارة العربية الإسلامية قام المسيحيون السريان في سوريا والعراق، في أواسط القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري بترجمة الكتب الأربعة لأرسطو في المنطق إلى اللغة العربية، راجعها على الأصل اليوناني ونقحها وهذبها الجيل الثاني من المترجمين، وعلى رأسهم حنين بن إسحاق وولده إسحاق بن حنين، وترجموا أيضا شروحا وتعليقات. أصبح المنطق الأرسطي مطروحا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وانفتح المجال لتوالي جهود العرب وإسهاماتهم المنطقية، دشنتها دراسات الكندي - أول الفلاسفة العرب - وتوالت إنجازات المناطقة العرب من فرق شتى، ونذكر في هذا الصدد الجهود المتحمسة لابن رشد في شرح منطق أرسطو. ومنذ البداية أرسي هذا العلم في الحضارة العربية تحت اسم «المنطق»، وهو علم الميزان إذ به توزن الحجج والبراهين، يقول التهانوي: «إنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة، ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ويسلك بالثاني مسلك السداد، ويحصل بسببه كمالات الثالث، اشتق له اسم منه وهو المنطق، وهو علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها، بحيث لا يعرض الغلط في الفكر.»
16
وهكذا فإنه في إطار انفتاح الثقافة العربية الإسلامية النادر على منجزات الآخر، على ميراث الحضارات والثقافات الأخرى، جاءت العناية المشهورة لأعلام التراث العربي آنذاك بنقل المنطق الأرسطي، الذي يمكن اعتباره أول محاولة متكاملة لمنهجة الاستدلال والتفكير. وأيضا انفتح أسلافنا على ما طرحه المنهج الأرسطي في أخص خصائص العرب؛ أي فن القول في مجالي الشعر والخطابة. الخلاصة ومن المنظور التاريخي الإنساني بشكل عام، أو من حيث المشترك العام، أن مثل المنطق العربي مدرسة كبرى في تاريخ المنطق،
17
وانعكست محصلة هذا الوعي المنطقي في مزيد من تقنين المنهجية في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، وانتظمت في تراثنا مفاهيم ومصادرات وفروض أولية وقواعد وأصول استدلالية وسواها من عناصر فاعلة في منهج البحث، فاكتملت لديهم آليات للبحث وطرائق للتفكير، وكان التراث الرائع الذي خلفوه في شتى مجالات الدرس النظامي، مرة أخرى بسبب هذا الدور الكبير ل «المنهج» في حضارتهم كمفهوم وكمصطلح.
يكتسب هذا المصطلح - وأي مصطلح - موقعا متميزا ويناط به أدوار مترامية النطاق، حين يغدو مصطلحا فلسفيا. (3) المنهج كمصطلح فلسفي
كانت الفلسفة قد نشأت وتطورت في منطقة حوض البحر المتوسط وأقاليم متاخمة، على مدى ما يربو على خمسة وعشرين قرنا من الزمان، ومثلت الفلسفة الإسلامية حقبة هامة من حقبها وجانبا متينا من جوانبها. إن الفلسفة في جملتها تجريد وتجسيد لمسار الحضارة الإنسانية، وفي مراحلها المتعاقبة هي دائما الانعكاس المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية. وقد عنيت الفلسفة أيما عناية بمصطلح المنهج، ومنهج البحث تحديدا. هذا من حيث إن الفلسفة معنية دائما بالمعرفة وطرائقها، وذلك في واحد من أهم مباحثها وهو مبحث الإبستمولوجيا (= نظرية المعرفة)، وكما هو معروف يمكن اعتبار المباحث الكبرى الثلاثة للفلسفة بجملتها، هي نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيمة (أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا والأكسيولوجيا). «المنهج» كمصطلح فلسفي على وجه الخصوص يعني: وسيلة المعرفة، طريقة الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، والطريقة المتبعة في دراسة موضوع ما للتوصل إلى قانون أو نتائج أو محصلة عامة. والمنهج في الفلسفة هو أيضا فن ترتيب الأفكار ترتيبا دقيقا، بحيث تؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة.
18
هكذا نجد التعريف الفلسفي لمصطلح المنهج، لا يخرج عن التعريف المعمول به في شتى العلوم، أوليست تنعت الفلسفة بأنها أم العلوم.
والواقع أن سبل الفلسفة خير السبل لتحديد المفاهيم والمصطلحات، هذا من حيث إن وظيفة الفلسفة أصلا هي توضيح وتقنين المفاهيم، حتى قيل إن الفلسفة ليست «حب الحكمة»
19
بقدر ما هي «صداقة المفاهيم». وهذا تعبير أثير في الفلسفة الفرنسية الراهنة على وجه الخصوص. وفي عصرنا الثائر المضطرب، الملبد بالغيوم والضباب الكثيف، لم تعد الفلسفة تستطيع مواصلة الزعم بأنها حب الحكمة، أين هي الحكمة التي يتجلى حسنها وبهاؤها وضياؤها؟ لنتبتل في محرابها ونتصبب بوجدها، ونحن نحيا في عصر التعددية والنسبوية وانهيار المطلقيات. انهار مطلق نيوتن والمطلق في المعرفة إجمالا، والمطلق في الفن وفي الأخلاق وفي السياسة ... وفي أعقاب انهيار المطلق انهارت يقينيات عديدة. إننا في عصر اللايقين واللاحتمي واللاتعين والاحتمالية والشواش ... في مثل هذه الأجواء حري بالفلسفة أن تكتفي بصداقة المفاهيم.
إن الفلسفة كمبحث نظامي ومنشط دراسي محدد وتخصص أكاديمي، إنما ينصب موضوعها ومجالها على المفاهيم تاركة الوقائع للعلوم التجريبية؛
20
فلئن كانت الفلسفة بشكل عام تعبيرا عن مجمل قصة الفكر البشري، في سعيه الدءوب المتواصل نحو المعرفة، وكانت الفلسفة هي الانعكاس المجرد الواعي لسيرورة وصيرورة الحضارة الإنسانية، فإن «المفاهيم» هي لبنات هذه القصة ومرتكزات هذا الانعكاس المجرد ووحداته الأولية.
وقد بات مفهوم المنهج على العموم، ومفهوم المنهج العلمي على أخص الخصوص، في صدارة هذه المفاهيم أو اللبنات، منذ القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وذلك حين أنجبت أم العلوم/الفلسفة مؤخرا، أو في مرحلة حديثة نسبيا من تاريخها الطويل، واحدا من أعز بنيها، المعبر عن روح التقدم المعرفي التي نحياها الآن؛ أي «فلسفة العلوم».
والمبحث الذي يتصدر مباحث فلسفة العلوم, وهو علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا
Methodology ، إنه المبحث الفلسفي المعني بالمنهج العلمي على وجه التحديد، ويمكن اعتباره من أهم فروع الفلسفة المعاصرة، وفي الآن نفسه يمكن أن يفيد شتى العلوم.
لقد بات السبيل ممهدا لأن ندخل في صلب الموضوع: العلم ومنهجه.
الفصل الثالث
العلم والمنهج
(1) تعريف العلم الحديث ومعالمه
الرياضيات ملكة العلوم وهدية الله للعقل العلمي، وكان التآزر بين دقة لغة الرياضيات وصرامة وقائع التجريب، مفتاحا من مفاتيح النجاح المتوالي للعلم الحديث. على أن مفهوم «المنهج العلمي» حين يرد كمفرد علم بألف ولام العهد، يكون المقصود عادة هو المنهج التجريبي؛ منهج العلم التجريبي أو العلوم التجريبية. فهل يمكن قبلا تحديد مفهوم «العلم التجريبي» ذاته؟ ليس المنشود تعدادا وحصرا لفروعه ولشتى العلوم التجريبية، بل تحديدا للمفهوم يبلور طبيعته ويعكس ماهيته.
يمكن وضع تعريف للعلم التجريبي الحديث بأنه: منظومة ممنهجة من الأبحاث، التي تنتج وتعيد إنتاج وتطور وتعمم وتدقق وتنقح، قضايا ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري، ومقدرة توصيفية وقوة تفسيرية وطاقة تنبؤية، منصبة على ظواهر العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، كمتمايز عن عالم الغيب، وأيضا عن عالم الفن وعالم الأيديولوجيا، وعالم التجارب العاطفية والشخصية ... إلخ.
1
وفقا لهذا التعريف، نجد العلم منظومة؛ أي نسق، و«النسق»
system
كل متكامل، يتميز بأن لكل جزء من أجزائه موضعه المحدد، وعلاقاته المنطقية المحددة التي تربطه بالأجزاء الأخرى. وبهذا نتفهم لماذا يمكن أن نستخدم مصطلح العلم كمفرد علم، ليدل على مجموعة هائلة من العلوم الرياضية والفيزيائية، والكيميائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية ... تعد فروعها بالآلاف (وكذلك يقال فلسفة العلم أو فلسفة العلوم). أما أنه منظومة ممنهجة أو نسق ممنهج، فذلك يعني ببساطة أن العلم في تكونه وتناميه المطرد، يشكل كيانا مستقلا يحمل في صلب ذاته حيثياته، وإمكانيات تناميه وفاعلية عوامل تقدمه المطرد. النسقية تعني إحكام المشروع العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات ومحكات وقياسات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد لظاهرة العلم تخوما تخصصية واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار. البحث العلمي يتبع طرقا وأساليب مترسمة لإنتاج معرفة لها خصائصها المنطقية. وإنتاج معرفة هو إنتاج قضايا إخبارية؛ أي وضع عبارات تعطينا خبرا عن ظواهر العالم وتوصيفا لها، ثم تفسيرا، فتمكننا من التنبؤ بالوقائع المقبلة، وبالتالي السيطرة التقانية (التكنولوجية) عليها وعلى مسارها، أو على الأقل توجيهها وفقا لما يعظم المنافع ويقلل المضار والخسائر.
على أن العلم لا ينتج معرفة أو قضايا فحسب، بل الأهم أنه دائما يعيد الإنتاج. معنى إعادة الإنتاج
prolification
أن كل قضية علمية أو معرفة علمية محرزة، يمكن دائما تصويبها وتعديلها، ولا إنجاز أو إنتاج معرفيا علميا يعني أن البحث في موضوعه قد انتهى، ومهما كان الإنجاز رائعا يظل الباب مفتوحا دوما لمواصلة البحث العلمي، والوصول إلى ما هو أفضل؛ أي إعادة الإنتاج، بعبارة أخرى إعادة الإنتاج هي قابلية العلم المستمرة للتقدم، لإنتاج معرفة أفضل. إنه التقدم المتقد الجبار الذي لم يعد ممكنا تفسيره، كمحض تراكم ونظرية تلو نظرية وكشف بجوار كشف، بل احتل مفهوم الثورة الميدان، وتصدر الواجهة في تفسير طبيعة التقدم العلمي، وأصبحت فلسفة العلم تدور حول التقدم والثورة منذ كارل بوبر
K. Popper (1902-1994م) وتوماس كون
T. Kuhn (1922-1996م) وخلفاء لهما.
والمعرفة العلمية في كل هذا تنصب فقط على العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، العالم المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالم الشهادة، كمتمايز عن عالم الغيب المطلق، الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويؤتى من مصادر معرفية مختلفة عن المنهج العلمي. إن عالم الشهادة بظواهره ووقائعه، وأحداثه الشتى العديدة المتكثرة والمتداخلة، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، هو فقط مجال العلم ومنهجه، وهو العالم الأولي الذي ينبغي فهمه والسيطرة عليه لكي يتيسر وجود الإنسان، فيستطيع الانطلاق إلى العوالم الأخرى أو المستويات المختلفة للتجربة الحضارية والوجودية: العاطفية والشخصية والقومية والفنية ... إلخ. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بتعدد الأبعاد والمستويات والعوالم، ربما لا يكون العالم المادي التجريبي، هو أهم العوالم، ولكنه بلا جدال مستوى أولي مهم، التمكن منه والسيطرة عليه مقدمة ضرورية شرطية، للانطلاق إلى ما هو أعلى وأبعد. والعلم التجريبي هو سبيل العقل البشري لمثل هذا التمكن والسيطرة. •••
العلم
Science
معرفة ونشاط معرفي. وعن الأصول الإتيمولوجية؛ أي اللغوية والاشتقاقية للفظة «العلم»، نجد في اللغة العربية أولا أن لفظ «علم» تعود إلى العلام والعلامة، فهي في أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العلام أي الحناء لما يترك من أثر باللون. والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به. ومن هذا العلم: لما يعرف به الشيء أو الشخص، كعلم الطريق، وعلم الجيش (الراية)، وسمي الجبل علما لذلك، ومنه: علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية للعلم.
2
وهذه المعاني تفيد ضربا من المعرفة الوثيقة المثبتة، تقوم على الإدراك والتعقل وحصول صورة الشيء في الذهن، فنقول «علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه»، وفي لغتنا الدارجة نقول: «ربنا يعلم»، ولا نقول أبدا «ربنا يعرف»؛ فالله هو العالم والعليم وليس العارف فحسب. وفي المقابل نقول: «عرفت الله»، ولا نقول علمت الله. هذه الحدود بين المعرفة بشكل عام والعلم بشكل خاص أمر له قيمته، لكنه لا يصنع تعريفا وتحديدا للعلم الحديث المقصود الآن على وجه التعيين.
وفي اللغة الإنجليزية أيضا كلمة
Science
تعود إلى الكلمة اللاتينية
Scientia ، وهي الأخرى تعني «المعرفة» على عمومها. ولكن اللافت حقا هو أن مصطلح العالم
Scientist ، قد صيغ فقط في عشرينيات القرن التاسع عشر، حين اقترحه الفيلسوف/العالم وليم ويول
W. Whewell (1866-1794م) على زملائه من أعضاء الجمعية الملكية للعلوم في لندن، لتعيين ذلك النشاط المعرفي الاحترافي النامي مؤخرا؛ أي البحث العلمي تحديدا؛ فقد ترسمت حدود العلم ومعالمه كنشاط تخصصي مستقل ومتميز، له آليات متعينة ووسائل نافذة تحكم عملية إنتاج منتظمة ومتواصلة للمعرفة. ومعنى هذا أنه منذ ذلك الحين قد ترسمت حدود البحث العلمي بوصفه نشاطا ذا منهج معين، وبات «العلم» مصطلحا محدثا اتفقنا على تعريفه، من حيث هو منظومة ممنهجة من القضايا الإخبارية. والجدير بالذكر أنه منذ ذلك الحين فصاعدا أيضا، بات العلم أول ما يعلم البشر معنى التخصص. •••
والعلم في هذا له وظيفة معرفية محددة بالوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. الهدف من أي علم تجريبي يتمثل في الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ في المرحلة الوصفية يجيب العلم عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة، كيف تتبدى؟ وليس الوصف العلمي أمرا يسيرا أو هينا، إنه بمثابة اكتشاف للظاهرة موضع البحث، ومعيار وجود العلم الذي يبحثها. لكن الوصف ليس كل ما في الأمر؛ فإحكام الطريق إلى السيطرة على الظاهرة عن طريق التقانة (= التكنولوجيا)، يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ وهنا العلوم الأساسية أو البحتة التي تمثل محاولة العقل العلمي، للإحاطة بالظاهرة موضوع الدراسة.
أما التنبؤ، فهو محك نجاح الوصف والتفسير. وظيفة التنبؤ تمثل المعلم المميز للقوانين في العلوم التجريبية، حيث كل قانون - مهما كان بسيطا - له قدرة تنبؤية، مثلا «الماء يغلي في درجة مائة مئوية»، يحمل تنبؤا بحدوث الغليان حين يصل التسخين بالماء إلى الدرجة مائة، عدم حدوثه يعني تكذيبا للنظرية وضرورة تعديلها. لن يحدث الغليان مع درجة الحرارة مائة، إذا كان المرجل مغطى أو فوق جبل ومعدل الضغط الجوي منخفضا، هنا يكون التكذيب وتصويبه لنصل إلى العبارة «الماء يغلي في درجة مائة مئوية تحت مستوى الضغط الجوي الكائن عند سطح البحر»، وتعطي هذه العبارة تنبؤا أدق نسبيا، قابلا للاختبار والتعديل بدوره، وهكذا دواليك. إن التنبؤ هو المواجهة مع الواقع، والمحك الذي تختبر به العبارات العلمية، حدوث ما تتنبأ به النظرية هو البينة التجريبية عليها ومبرر قبولها، وعدم حدوثه مبرر لرفضها أو تعديلها.
وحين يتحقق وصف وتفسير يشهد على نجاحهما تنبؤ، ترتب على هذا أداء أكمل للوظيفة الرابعة من وظائف العلم؛ أي السيطرة أو التقانة وهي غاية منشودة، والمحصلة والقوة الملموسة للعلم التي تجسدها العلوم التطبيقية. روعة العلوم التجريبية تتبدى في أنها معرفة تترجم إلى تطبيقات عملية ... إلى قوة وسلطان، إلى سيطرة على الظاهرة، فضلا عن أنها تعطينا في نمائها المتصاعد دوما، التمثيل العيني لمقولة التقدم في حياة البشر؛ التقدم المعرفي والتقدم التطبيقي.
هكذا تجمع وظائف العلم الأربع المذكورة بين جانبين جرى العرف على التمييز بينهما، وهما «العلم البحت»
pure Science ، الذي يبحث الإشكالية المعرفية في حد ذاتها، وبغض النظر عما إذا كانت ستفضي فيما بعد إلى تطبيقات عملية أو تقانية (= تكنولوجية)، وبين «العلم التطبيقي
applied science » الذي يضطلع بالاستخدامات العملية والهندسية والتكنولوجية للمعرفة العلمية. على أنه كثيرا ما تتحقق إنجازات علمية عظمى بروح العلم البحت؛ أي لخلق معرفة جديدة، حل مشكلة مطروحة للبحث وإجابة على سؤال ملح، فقط من أجل تفهم الظاهرة أو طرح تفسير لها، ثم يظهر لها فيما بعد أهمية علمية أو تطبيقية كبرى.
لا ينبغي التعويل كثيرا على تفرقة بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية؛ لأنهما في واقع الأمر لا يفترقان، والعلوم التطبيقية تستند إلى حصاد هائل من العلوم البحتة التي هي الأساس، فتسمى العلوم الأساسية، وطبعا توجد التطبيقات التكنولوجية بفضلها. وكما قال لويس باستير، ليس هناك علمان تطبيقي وبحت، بل يوجد العلم وتطبيقه، مثلما توجد الشجرة وثمرتها.
كل هذا فضلا عن دخول التكنولوجيا، حصاد العلوم التطبيقية، كقوة منتجة للمعرفة العلمية ذاتها. إنه عامل حاسم في إجرائيات المنهج العلمي التجريبي، يتمثل في أجهزة البحث العلمي الدقيقة أو العملاقة، وتجهيزات المعامل والمختبرات، وكأننا بإزاء الأمة التي تلد ربتها. (2) المنهج آية العلم
أثبت العلم الحديث نجاحا فريدا في أداء هذه الوظائف، تعاظم نجاحه وتصاعد بشكل غير مسبوق، يعد دائما بالمزيد، بالتقدم.
وكما أوضح الفصل الأول مفهوم المنهج العلمي آية التقدمية المتواصلة، يرتد في القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، التي هي خاصة منطقية قائمة في صلب النظرية العلمية، تجسد طبيعة العلم التقدمية، حين تجعله دائما يعين مواطن قصور أو كذب، فيتجاوزها إلى ما هو أقدر وأجدر، ولا يرتكن أبدا إلى نظرية ما بوصفها حقيقة مطلقة، مهما أحرزت من نجاح في مواجهة العلم المتنامية واللامتنامية للواقع.
منهج العلم التجريبي منهج تقدمي من حيث هو حامل لمنطق اختبار وتصحيح ذاتي. ويرتهن التقدم العلمي بحدوسات جريئة تمثل قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا. روح العلم ومنهجه هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها، إنه منطق التصحيح الذاتي. «هذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي.»
3
وهذا يعني أن الفكر العلمي فكر قلق، فكر يترقب الشيء، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية.
4
ومثل هذا هو الفكر المبدع، ألم نصادر على أن المنهج العلمي تقدمية من حيث هو إبداع وروح نقدية؟
فينتهي جاستون باشلار إلى أن المنهج العلمي يتنكر دائما لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه وتنقيحه. العلم لا يخرج من الجهل لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق. هذا التصحيح الذاتي هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية وتوالي بحوثهم المنهجية ... يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقا أوسع، فيمثل البحث العلمي دائما التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. ولا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب وإنجاز، فيؤكد الإبداع العلمي - بتعبير باشلار - حدس «اللحظة» التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث إنها الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة والمسئولية العلمية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن نجعل منها منبعا متدفقا نحو معرفة، تكون دائما أفضل وأوضح وأجدر وأقدر ... أكثر تقدما.
ويظل العلم إبداعا إنسانيا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناء مشيدا، أو كشفا عن حقائق مطلقة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة ... تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر؛ إنه تقدم ذو طابع ثوري متقد.
العلم ممارسة إنسانية وفعالية حية نامية ومتطورة دائما، التقدم مفطور في صلبه، لم يعد العلم الآن هو البحث عن السبب أو العلة، بل عن التفسير، حساب الاحتمال هو لغته الدقيقة، ولا يقين في العلم التجريبي البتة، إنه بحث عن سنن الكون، ولكنه بحث إنساني لا يملك أبدا حق الزعم، بأنه أمسك عليها بجمع اليدين واطلع على سرها المكين، بل فقط يحاول أن يقترب من حقيقتها، منتقلا من محاولة إلى محاولة أنجح ... حتى تقوم الساعة. لن يتوقف البحث العلمي مهما أنجز من نجاح، ومهما قدم من إجابات ناجعة على الأسئلة المطروحة، كل إجابة يطرحها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم يليه.
ومهما أنجز العلم من تقدم، فسوف يظل هذا الإنجاز يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. كل إجابة تكون مثمرة بقدر ما تطرح أسئلة أبعد، وكل نظرية تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لنظريات أخرى أكفأ وأقدر، ولن يتحول العلم التجريبي لنشاط ترديدي أبدا، ولن تدعي أية نظرية علمية لنفسها الخلود، أو أنها أمسكت بالحقيقة وختمت البحث في ميدانها. كل نظرية علمية خاضعة للتعديل والتنقيح والإبدال، وأن يحل محلها الأكفأ والأقدر. تتطور النظريات العلمية في متوالية متصاعدة دوما، لا تتوقف أبدا. قد تحقق نظرية ما نجاحا يطبق الخافقين، ثم تذوي وتقبع في متاحف التاريخ؛ لأن الأفضل أو الأشمل أو الأدق قد حل محلها، والحكم على النظريات العلمية دائما نسبي، النظرية «ك» أفضل من «ق»، أدق من «ن» ...
من هنا لا يكون سر عظمة العلم في هذه النظرية أو تلك، بقدر ما تكون في القوة المثمرة الولود لكل هذا النجاح المتدفق المتتالي؛ أي المنهج العلمي الذي هو كما قال أستاذ الجيل الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1994م):
5
المنجم الذي نستخرج منه النفائس. فإذا كان العلم وتطبيقاته التكنولوجية بمثابة فرائد القلائد التي تزين صدر الحضارة المعاصرة، فإن المنهج العلمي هو المنجم الذي نستخرج منه الفريدة تلو الفريدة (الفريدة هي الجوهرة). لكل هذا النجاح الفريد احتل المنهج العلمي موقعه المرموق، كوسيلة وكغاية، كطريقة وكآية. •••
المنهج العلمي هو آية العلم، والعلم آيته، وقد يقال في تعريف العلم إنه: ضرب من المعرفة الموضوعية المختبرة، نصل إليها عن طريق المنهج العلمي التجريبي، وكما يقول جون كيمني: «تعريف العلم على أساس منهجه، أمر يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب سأستعمل كلمة علم للدلالة على المعرفة، التي يصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي.»
6
ولكن يسهل ملاحظة أن تعريف العلم على أساس منهجه فيه دوران؛ إذ يمكن تعريف المنهج على أساس العلم، فنقول إنه طريقة البحث والتفكير الخاصة بالعلم. والحق أن العلاقة بين العلم ومنهجه علاقة وثقى، قد لا تترك مسافة كافية بينهما، أو يسمح بتعريف أحدهما بالآخر. التقنين منطقي يمكن أن يفتح الباب للخروج من هذا الدوران. وقد مر علينا تعريف للعلم بأنه منظومة ممنهجة، والمطلوب الآن تعريف المنهج العلمي. •••
قبل أن يستقل ويتعاظم العلم الحديث، وقبل أن يتصدر حديث المنهج العلمي الساحة في عصر النهضة وما تلاه خصوصا في القرن السابع عشر، قبل هذا بزمان طويل نجد مفهوم «المنهج العلمي» ماثلا بشكل ما في رحاب الفلسفة، يتخذ عبر عصورها معاني متطورة، أو قل تعريفات متتالية، جاءت متقاربة غير متباينة، تتحدد تبعا لروح التفلسف العلمي في العصر المعني. ويمكن إجمال تطور مفهوم المنهج العلمي عبر تاريخ الفلسفة، على النحو التالي:
هو مجموعة القواعد التي توضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفة عامة (الفلسفة القديمة).
هو مجموعة القواعد التي توضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة الطبيعية التي تعرف بوصفها معرفة علمية (بدايات الفلسفة الحديثة).
هو المبادئ التي نجردها من الممارسات العملية للأفراد، الذين عملوا بنجاح في عملية اكتساب المعرفة العلمية. وهذا هو مفهوم المنهج العلمي المأخوذ به، منذ نشأة الميثودولوجيا وفلسفة العلوم في أواسط القرن التاسع عشر. على أن هذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل يتضمن تقييما للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك، أو كما عبر كارل بوبر عن هذا قائلا: إن نظرية المنهج العلمي تقويم لمباراة العلوم التجريبية.
7
وإذ نستشهد كارل بوبر فقد دخلنا أنضر ساحات فلسفة العلم، الساحة المخولة قبل سواها بتعريف مفهوم المنهج العلمي ومعالجته، الموسومة باسم الميثودولوجيا. (3) المنهج العلمي في فلسفة العلوم
ننتهي الآن إلى حيث بدأنا في المقدمة، إلى أن جوهر مفهوم المنهج العلمي يتلخص في: أسلوب التفكير العلمي وطريقة سير العلماء في عملهم أو في بحوثهم، وسنرى الآن أن هذا أبعد ما يكون عن تحصيل الحاصل، كما قد يبدو للوهلة الأولى.
كما ذكرنا، جعلت الفلسفة/أم العلوم من «فلسفة العلوم» أهم فروع الفلسفة المعاصرة، والأكثر تجسيدا وتجريدا لروح العصر، الحاملة لأبرز الإشكاليات المعرفية الشاغلة في الحقبة الراهنة. وعلم مناهج البحث أو الميثودولوجيا؛ أي نظرية المنهج العلمي في صدر مباحث فلسفة العلوم، بل عمادها وعمودها الفقري.
ولا غرو أن يستقطب سؤال المنهج العلمي الفلسفة، وأن تكون الفلسفة هي الأقدر على طرحه. إن فلسفة العلوم بشكل ما امتداد لسؤال فلسفة المعرفة (الإبستمولوجيا) العريق، حول ماذا يمكن أن يعرف الإنسان، ما شروط المعرفة، وما طبيعتها ووسائلها؟ وما ممكناتها؟ وحين جاء القرن التاسع عشر كان قد استقام نسق العلم الحديث، عملاقا يتصدر بامتياز واقتدار مسيرة المعرفة الإنسانية، ويمثل حالة فريدة لنجاح المشروع المعرفي للإنسان، فأصبح سؤال الإبستمولوجيا الملح هو سؤال حول سر أو عوامل هذا النجاح. وبدت الإجابة تفرض نفسها على الفور في كلمة واحدة: المنهج العلمي، الذي هو تجريد وتجسيد لما يمكن اعتباره «العقيدة العلمية المركزية؛ أي التجريبية».
8
وهنا نشأت إرهاصات فلسفة العلوم، لتبحث في المنهج العلمي التجريبي ، كبحث في معامل ذلك النجاح اللافت وحيثياته ... في آلية التقدم المتوالي في هذا المشروع المعرفي المطرد النجاح: العلم الحديث. بدأت فلسفة العلوم تتشكل وتتحدد معالمها في إنجلترا وفرنسا خصوصا، مع بضعة إسهامات لاحقة من ألمانيا والنمسا، كمبحث تخصصي مستقل، وتوالت أدبياتها بوصفها نشاطا يهدف إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية، أو نظرية عن النظرية العلمية من حيث آلياتها وطرائقها وأسلوبها ... من حيث منهجها العلمي.
وفي هذا الوقت نفسه - أواسط القرن التاسع عشر - تصاعد التساؤل حول أسس الرياضيات وطبيعتها وفروضها القبلية وبالتالي منهجها، وهو السؤال الذي أدى في العام 1847م إلى نشأة المنطق الرياضي أو المنطق الرمزي الحديث، على يد جورج بول
G. Boole (1815-1864م)، ليمثل قفزة عقلية نوعية، استوعبت المنطق الأرسطي التقليدي، وتجاوزته إلى منطق العلاقات والترميز الرياضي.
لقد اشتبكت الفلسفة بالمنهج العلمي، وهي تملك رصيدها الهائل وميراثها الضخم في قضية المنهج والمنهجية، وقضايا الاشتباك بين العقل والوجود، وسبل التفكير والاستدلال والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
هكذا نشأت فلسفة العلم في القرن التاسع عشر، معنية بسؤال المنهج أو تدور حول الميثودولوجيا، وتحديدا حول قطبي المنهج العلمي التجريبي، وهما الفرض والملاحظة والعلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر، وعادة ما يؤرخ لهذا بالمناظرات بين وليم ويول
W. Whewell (1794-1866م)، الذي انتصر للفرض، وجون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873م)، الذي انتصر للملاحظة.
وإبان النصف الأول من القرن العشرين تنامى سؤال المنهج، وأصبحت فلسفة العلم معالجة إبستمولوجية شاملة لمنهج العلم ومنطقه، لا سيما من خلال مبحثها الموسوم باسم الميثودولوجيا.
وسبيلنا الآن إلى المعالم الأساسية، لما أنجزته فلسفة العلوم في هذا الصدد، ليلقي الضوء الكثيف على مفهوم المنهج العلمي ومضامينه.
الفصل الرابع
منهج العلم أم مناهج العلوم؟
(1) سؤال الميثودولوجيا
علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا
Methodology
الذي يقبع في سويداء فلسفة العلوم، هو علم بيان طرق البحث العلمي واستقصاء أمرها، موضوعه المنهج والمناهج وآلياتها ومصادراتها ومتضمناتها. إنه منطق تطبيقي فعال، يفيد شتى العلوم المعنية بظواهر الكون الفلكية والفيزيائية والكيمائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية، بقدر ما يفيد البنية الحضارية بشكل عام من حيث هو بلورة لأساليب التفكير المثمرة السديدة، ولوسيلة فعالة امتلكها الإنسان لمواجهة الواقع والوقائع.
الميثودولوجيا؛ أي مناهج البحث العلمي، تبلور الخلاصة المستصفاة من الملحمة الباهرة المتصاعدة، التي أحرزها العلم التجريبي الحديث، كنجاح متوال وصيرورة دائمة. تعود صياغة مصطلح «الميثودولوجيا
Methodology »، إلى شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط
I. Kant (1724-1804م)، وكتابه العمدة «نقد العقل الخالص» (1781م)، حيث ميز كانط بين المنطق العام، الذي يبحث في المبادئ العامة وشروط المعرفة الصحيحة، وبين المنطق العملي الذي قصد به علم المناهج وهو «الميثودولوجيا» ... المناهج الممكنة التي تنظم العلوم العملية، والتي يتكون عن طريقها أي علم.
1
من هنا أصبح موضوع الميثودولوجيا هو المنهج العلمي؛ طريقة اكتساب المعرفة العلمية بالعالم الذي نحيا فيه. وقبل أن ينتصف القرن العشرون أصبح المنهج العلمي هو المبادئ، التي نجردها من الممارسات الفعلية للعلماء في محاولاتهم الناجحة، لاكتساب المعرفة العلمية والإضافة إليها، و«هذا التجريد ليس مجرد توصيف لما يفعله العلماء أو لسلوك العلماء، بل يتضمن تقويما للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك».
2
واستخلاص دلالاته، من دون أن يعني هذا التقويم معيارا صوريا، يفرض على العلماء فرضا، بعبارة أخرى: النظرية الفلسفية الميثودولوجية؛ أي نظرية المنهج العلمي، لا هي وصفية خالصة ولا هي معيارية خالصة، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية، لا تنقل خطوات البحث العلمي أو مراحله، بقدر ما تنقل روحه ومعالمه وخصائصه وطبائعه ومحكاته. •••
وبهذه النظرة الرحيبة المستوعبة يبرز السؤال: هل هناك منهج علمي شامل لكل فروع العلم، أم أن ثمة مناهج عديدة بتعدد فروع العلم، ونوعيات الظواهر التي يبحثها؟ بعبارة أخرى منهج العلم واحد أم كثير؟
حين أجابت فلسفة المنهج العلمي أو الميثودولوجيا عن هذا السؤال، تقدمت طبعا بإجابة فلسفية، والفلسفة تنزع للوقوف على الوحدة من وراء التنوع، واستكناه الكل في واحد، فكان المنهج العلمي الذي تنزع الفلسفة - أو الميثودولوجيا - إلى بلورته وصياغته هو منهج واحد. أجل، تختلف العلوم في موضوعاتها وطبيعة الظواهر التي تدرسها، وبالتالي تختلف أيضا في طرائقها إن قليلا وإن كثيرا؛ لأن طريقة البحث لا بد أن تتكيف مع موضوع البحث، لكنها مع هذا الاختلاف تلتقي في أسس عامة، يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة باختلاف فروع العلم العديدة، لتكون أسسا منطبقة ، لا على الفيزياء دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل أسسا منطبقة على كل بحث يستحق أن يسمى علما. وعلم مناهج البحث هو علم طبائع وقواعد أي بحث علمي، من حيث هو علمي. من هذا المنطلق نجد المنهج العلمي واحدا، ولكنه أيضا كثير! إنه واحد على مستوى النظر الفلسفي، وكثير متعدد على مستوى التطبيقات العينية.
العالم التجريبي للبكتريا - مثلا - مختلف عن العالم التجريبي لحركة الكواكب، وغير العالم التجريبي للظاهرة الاجتماعية ... إلخ، فلا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علم إلى علم، تبعا لاختلاف طبيعة مادة البحث في هذا العلم أو ذاك، بل إن المناهج تختلف داخل العلم الواحد تبعا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه، وأيضا تبعا لدرجة تقدمه؛ فإمبيريقيات أي إجراءات قياسية لمجال معين الآن، تختلف كثيرا عن تلك التي كانت في أواسط القرن العشرين للمجال نفسه، وتختلف تماما عن تلك التي كانت في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر.
على هذه الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين، كل يسخره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه، بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى. بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث، ملحقة بفروع العلوم المختلفة، لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية، المتكيفة مع موضوع البحث، ومادته التي تختلف من علم لآخر، فنجد مثلا «مناهج البحث في علم الاجتماع» و«مناهج البحث في علم الفلك» و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية» و«مناهج البحث في علم النفس» ... إلخ، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي» و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية» و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينكي» ... إلخ. مناهج البحث هنا مسائل متعلقة بنوعيات الإمبيريقيات، وأساليب الممارسة الإجرائية وتفصيلياتها الدقيقة والمرسومة بعناية، وخطواتها وتوصيفاتها. وهذه مسائل تخصصية يعالجها كل علم وفقا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر، ولكنهم جميعا يستندون فيما يفعلونه على أساس كلي، يتمثل في مبادئ عمومية مشتركة، يستندون إلى ثابت بنيوي في مفهوم المنهج العلمي، من حيث هو منهج علمي. هذا الأساس الكلي المشترك أو الثابت البنيوي، هو المنهج العلمي الذي تبحثه الميثودولوجيا، وتصوغ نظرية له. وفي هذا يكون المنهج العلمي واحدا، لا تستوقفه اختلاقات الإجرائيات. (2) في الرياضيات والعلوم التجريبية
هما قطبا العلم الحديث، والتآزر بينهما هو مرتكز نجاحه اللافت. إننا - إذن - بإزاء معاملين، اثنين متقابلين ومتآزرين. هذه الثنائية البينة توضح أن الميثودولوجيا ليست تتجاهل الفوارق بين العلوم المختلفة أكثر مما ينبغي؛ فالميثودولوجيا انعكاس لنسقية العلم الحديث، الذي يشكل بمختلف فروعه وحدة متآزرة، يمكن أن تتمثل في الشكل التالي:
3
ثمة أولا الرياضيات، إنها كما قال كانط الحظ السعيد، أو هدية الله للعقل البشري. وسر أسرار العلم الحديث، هو التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب، والحوار الداخلي العميق والبديع بينهما. وكانت الرياضيات وتظل دائما تاج العلم وأقنومه، لغته الدقيقة التي لا تخل ولا تحيد أبدا ورمزه المبجل، تتبارى العلوم في الاقتراب منها والتسلح بلغتها، وتأمل أن تبلغ ما بلغته الفيزياء في هذا. على أن العلوم الرياضية علوم صورية
Formal Sciences ، تعنى بصورة الفكر دون محتواه، إنها قالب يملؤه التطبيق بالمضمون. وتبقى الرياضيات البحتة ملكة العلوم، والمبحث الرفيع المترفع عن شهادة الحواس ولجة الواقع والوقائع، فلا تغوص فيه وليس مطلوب منها أن تأتي بخبر عنه.
الرياضيات تتلوها العلوم الإخبارية
Informative Science ، وهي العلوم التجريبية التي تأتينا بالخبر عن الواقع، فلا بد من الالتجاء إلى الواقع واستشهاده، لا بد من التجريب، ومن دون الاستشهاد التجريبي لا خبر معرفيا عن الواقع. وكما يوضح التخطيط الوارد عاليه، انتظمت العلوم الإخبارية التجريبية في ثلاث مجموعات كبرى هي العلوم الفيزيوكيماوية، ثم الحيوية، ثم الإنسانية. هذا التدرج المنطقي للعلوم إنما هو تبعا لدرجة عمومية موضوعها. المقصود بالعمومية
generality
سعة المجال الذي يحكمه العلم المعني، ودرجة العمومية تتناسب طرديا مع درجة البساطة؛ أي عكسيا مع درجة التعقيد، والمقصود بالتعقيد كثرة المتغيرات، والعوامل الفاعلة في الظاهرة موضوع الدراسة.
لهذا كانت الفيزياء في مقدمة العلوم الإخبارية؛ فموضوعها هو الأكثر بساطة وعمومية، إنه المادة في الزمان والمكان، مجمل عالم الظواهر، مجال شتى العلوم الإخبارية، فبدت قوانين الفيزياء البحتة كإطار لعالم العلم؛ لأنها الأكثر عمومية، تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فتسلم بها فروع العلم الأخرى، ما دامت تضطلع بالإخبار عن هذا العالم التجريبي. وننتقل في نسق العلم إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعا أعقد من مجرد المادة، إنه المادة التي أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة، فلا بد وأن تنضاف القوانين والفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها. الفيزياء علم أكثر أولية من البيولوجيا، يحكم حركة المادة بأسرها، بينما لا تحكم البيولوجيا إلا قطاعا محددا من المادة، هو المادة العضوية الحية فحسب، لكن قوانين الفيزياء تشمل المادة الحية وغير الحية على السواء، بينما تقتصر البيولوجيا على دراسة قوانين تسري على الكائنات الحية. لا تملك البيولوجيا استثناء للقوانين الفيزيائية؛ فالجسم الحي يسقط كالحجر تماما، ولا يمكنه أن ينتج طاقة من لا شيء، والعمليات الكيميائية تجري داخله كما تجري خارجه. ما يحدث هو مزيد من التعقيد. وتتكامل العلوم البيولوجية مع العلوم الفيزيوكيميائية في تفسير الظواهر، هاتان المجموعتان الفيزيوكيماوية والبيولوجية يمثلان معا مجموعة علوم المادة، الجامدة والحية، التي تقابل المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية، موضوعها أعقد وأعقد؛ فلن تكفي قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وإن كانت بالطبع تنطبق على الإنسان حين يسقط من عل وفقا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائفها وفقا لقوانين البيولوجيا. ومن أجل الإطاحة بالظواهر الإنسانية، لا بد أن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين أو فروض أو نظريات، تتناول ظواهر الوعي الفردي والجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته ونواتجه وخصوصياته الثقافية وأبعاده الحضارية ومتغيراته التاريخية، وهذه هي العلوم الاجتماعية أو الإنسانية
social sciences . •••
يمكن أن يتضح الآن كيف ولماذا ظلت فلسفة العلم ونظريته المنهجية، منذ نشأتها وعلى مدار القطاع الأكبر من القرن العشرين، تدور بصفة أساسية حول الفيزياء، حتى جاز القول إنها أساسا فلسفة للفيزياء، والصورة المثلى لمفهوم المنهج العلمي في أنه منهج العلوم الفيزيائية؛ فقد كانت الفيزياء أكثر العلوم تقدما، تعطي مثالا يحتذى للتقدم العلمي المنشود في النظرية وفي التطبيق. وكانت معاملات تقدمها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، التي شهدت تشكل نماء واكتساح ميكانيكا الكوانتم بمعية نظرية النسبية لآينشتين، معدلات متصاعدة بصورة غير مسبوقة في تاريخ العقل البشري، وبدت العلوم البيولوجية أقل تقدما لأنها أكثر تعقيدا، والعلوم الإنسانية أقل وأقل؛ لأنها أكثر وأكثر تعقيدا. في العقود الأخيرة شهدت البيولوجيا طفرات تقدمية هائلة في النظرية وفي التطبيق، لا سيما بعد اكتشاف «د. ن. أ» كشفرة الحياة وتنامي علم البيولوجيا الجزيئية، وتعاظم شأن الهندسة الوراثية وتقنيات حيوية أخرى، حتى بدت علوم الحياة الآن وكأنها تستقل بنموذجها الخاص، وتحتاج مناهجها لمنظورات ومعالجات خاصة. العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الأخرى لم تتوان، وشهدت تطورات منهجية أثرت مضامينها، وجعلت مناهج العلوم الإنسانية مبحثا مستقلا ولافتا.
وما دمنا معنيين بالعالم التجريبي، فإن العلوم التجريبية تتكامل معا من أجل تفسير الظواهر التجريبية. لنفترض مثلا أن شابا قرر الانتحار، فألقى بنفسه من النافذة ليهوي مسلما الروح، هذه ظاهرة نريد من العلم تفسيرها. تتقدم العلوم الفيزيائية لتفسيرها بحساب معاملات السقوط من حيث الارتفاع والكتلة والجاذبية والاصطدام أو الارتطام بالأرض، قوانين الفيزياء تسري وتساهم لكنها لا تكفي لتفسير الظاهرة. لا بد أن تتدخل العلوم البيولوجية لدراسة أثر الارتطام على الجسد الحي، والصدمة العصبية والكسور والنزف وما إليه ... تتكامل مع القوانين الفيزيائية ولكن هذا أيضا لا يكفي تماما لتفسير الظاهرة، ولا بد أن تتدخل العلوم الاجتماعية ليفسر لنا علم النفس سبب انهيار الشاب، والاكتئاب الذي يصل به إلى حد قرار الانتحار، ويفسر لنا علم الاجتماع ظروف البيئة الاجتماعية التي تفرز شخصيات منهارة على هذا النحو، ويتدخل علم الاقتصاد ليبحث عن عوامل لنشأة هذه البيئات المحبطة، وبهذا التكامل بين العلوم المختلفة، نخرج بتفسير أوفى نسبيا للظاهرة المطروحة للبحث.
إن العلوم التجريبية تتآزر لتفسير ظواهر هذا العالم، بأكمل وأجمل معاني التآزر. •••
نسق العالم على النحو المذكور عاليه والمرسوم تخطيط له، يرتكز على ثوابت بنيوية في كل متكامل، وتجدر الإشارة إلى أنه قد أسهمت فيه النظرة الوضعية، وأسهم هو أيضا فيها وفي ترسيخها. النظرة الوضعية تعني الاقتصار على ما هو موضوع في هذا العالم المادي، والبحث عن علاقاته السببية وارتباطاته الكمية. مصطلح الوضعية
كمعبر عن النظرة العلمية التجريبية، وعن عصر العلم التجريبي الذي يلغي ما عداه من عصور الجهالة، إنما يرتبط باسم الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت
A. Comte (1796-1857م) مؤسس علم الاجتماع. وفي القرن العشرين تسلح المنظور الوضعي بالمنطق الرياضي النامي حديثا، وظهرت في جامعة فيينا في أعقاب الحرب العالمية الأولى فلسفة الوضعية المنطقية، التي كانت أشهر مدارس فلسفة العلم وأعلاها صوتا، وأيضا الأكثر تطرفا في النظرة التجريبية، نبذت كل ما لا ينتمي إلى العلم ومنهجه؛ أي كل ما يخرج عن إطار نسق العلم المرسوم أعلاه، بوصفه تعبيرات انفعالية لا معرفية، أو هراء يخلو من المعنى فضلا عن الجدوى. ظلت الوضعية المنطقية طويلا، حتى أواسط القرن العشرين وكأنها المتحدثة الرسمية باسم العلم، وبلغ الأمر معها ذروته بفكرة العلم الواحد الموحد
unified science ، الذي يعني رد كل العلوم إلى الفيزياء، ومعالجة سائر الظواهر حتى الظواهر النفسية والاجتماعية في حدود ومصطلحات ولغة علم الفيزياء.
تعود أصول فكرة العلم الموحد إلى الموسوعيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وهم كوكبة من أقطار الفكر الفرنسي من التنويريين، وأدباء وفلاسفة وعلماء، التفوا حول التنويري الرائد دينس ديدرو
D. Diderot (1713-1784م) من أجل وضع موسوعة عامة للعلوم والفنون والصنائع، تضاهي الموسوعة الإنجليزية التي لاقت رواجا تجاريا كبيرا، وتقف على آخر تقدم للعلوم في العصر، أرادوا أن تحمل موسوعتهم مشروع علم موحد مجاله الطبيعة، وانهالت مقدمتها بنقد ضار للميتافيزيقا والدين ومحاولة إثبات عمقهما، كتأسيس للواحدية المادية والمشروع الوضعي. على العموم بلغ مشروع العلم الموحد أوج نضجه في صورته المنطقية المؤمثلة، مع قطب الوضعية المنطقية رودلف كارناب
R. Carnap (1891-1970م)، الذي عمل على صياغة البناء المنطقي للعلم الموحد عن طريق ما أسماه «لغة العلم». ترتكز لغة العلم الموحد على أساس مفاده أن العلم يتعامل فقط مع الخصائص البنائية للأشياء، في الزمان والمكان والعلاقات التي تربطها ببعضها، ووضع كارناب قواعد هذه اللغة، وهي قواعد تشكيل وصياغة الجمل والتعبيرات الفيزيائية، ثم قواعد استنباط جملة من أخرى.
4
تعمل هذه القواعد على أن تكون دقيقة، فتستوعب كل التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تماما ما سواها، وأي فرع آخر من فروع العلم يمكن صياغته في حدود هذه اللغة، وإلا كان علما زائفا؛ فكل ما لا يتحدث باللغة المنطقية للفيزياء ليس علما، إن لم يكن هراء ولغوا.
كانت النظرة الوضعية المنطقية أقوى تعبير عن فكرة العلم الموحد، وقد سادت في حينها، وبغض النظر عن تطورات عديدة أدت إلى دخول العلم وفلسفة العلم في مرحلة «ما بعد الوضعية»، المواكبة لمرحلة ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، فإن الاتجاه يميل الآن بشكل عام نحو اعتبار كل علم وحدة مستقلة، تدخل في علاقات منطقية وبينية مع العلوم الأخرى، لكنه يصول ويجول في موضوعه بما يلائم طبيعته النوعية بالفروض الجريئة المثمرة. باتت الميثودولوجيا الراهنة تتحدث عن نموذج إرشادي خاص بكل علم من العلوم، مستقل إلى حد ما عن نموذج إرشادي مشترك تتربع في سويدائه الفيزياء، خصوصا بعد ما حدث من تطورات مذهلة للبيولوجيا في العقود الأخيرة، وبحث العلوم الإنسانية المحموم عن منهجيات خاصة، تلائم طبيعتها النوعية وتخرج بها من أزمة تخلفها النسبي عن علوم المادة.
إن المطروح هنا - ميثودولوجيا - من تخطيط وترسيم لنسق العلم، من حيث درجة العمومية والبساطة في العلوم المختلفة لا يعني عودا إلى الرؤية الوضعية المتطرفة، إننا الآن في عصر التعددية والدعوة إلى علم لا تكبله وحدة وضعية مزعومة،
5
هذا الطرح الميثودولوجي والترسيم العام لنسق العلم، إنما هو تبسيط وتخطيطات منطقية مبدئية، تمهد السبل للقواعد الإجرائية للبحث العلمي، عاكسة طبيعة ووظيفة مفهوم المنهج العلمي. (3) طريقان منهجيان
كما ذكرنا، فلسفة العلوم، أو بمزيد من التحديد الميثودولوجيا، حين تجيب عن السؤال: ما المنهج العلمي؟ إنما تتغاضى عن الفوارق الإجرائية الشتى للعلوم العديدة، لتقف على الثابت المحوري للمنهج العلمي، الذي يقف بدوره من وراء أو بالأحرى في صلب المناهج الإجرائية جميعها. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، ذكرنا أيضا أن سر نجاح العلم الحديث، يتمركز في ذلك التآزر والتحاور بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب .
لذلك ثمة فارق لا يمكن أن تتجاهله الميثودولوجيا في تقنينها لمفهوم المنهج العلمي، بل على العكس ترتكز عليه وتنطلق منه، يتمثل في الفارق بين العلوم الصورية والعلوم الإخبارية، وقد رأيناه سابقا في تخطيط نسق العلم، ويمكن أن نشتقه مجددا على النحو التالي:
إننا إزاء مجموعتين كبريين لهما طبيعتان مختلفتان، وطريقان منهجيان مختلفان، هما مجموعة العلوم الصورية: علوم المنطق والرياضة، ثم مجموعة العلوم الإخبارية التجريبية سواء فيزيوكيميائية أو حيوية أو إنسانية، وعلى هذا يقوم صلب الميثودولوجيا على التقابل والتقاطع والافتراق والالتقاء بين طريقين أو آليتين أو لنقل منهجين هما:
المنهج الصوري
Method Formal :
هو منهج العلوم الاستدلالية، التي تعنى فقط بالانتقال من قضايا إلى أخرى، أو من مقدمات إلى نتائج تلزم عنها، ولا شأن لها بالواقع أو بوقائع التجريب، وهي علوم المنطق والرياضيات، وقد أثبت برتراند راسل
B. Russell (1872-1970م) برفقة آخرين، أنهما امتداد لطريق واحد، وأن المنطق في صورته الرمزية المحدثة هو صبا الرياضيات، والرياضيات رجولة المنطق، ومنهجهما صوري يقوم دائما وأبدا على الاستنباط
deduction ، بعبارة أخرى منهج الرياضيات منهج استنباطي، أو بمزيد من التحديد هو المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي (أكسيوماتيكي = بديهي)، الذي يقوم على افتراض بديهيات ومصادرات أولية، ثم استنباط المبرهنات الرياضية منها.
المنهج التجريبي
Empirical Method :
وهو منهج العلوم الإخبارية، الفيزيوكيميائية والحيوية والإنسانية، ويقوم على أساس التحاور بين العقل والحواس، أو بين اليد والدماغ، وبالمصطلحات الميثودولوجية لفلسفة العلم، نقول: بين التجريب والتنظير أو بين الملاحظة والفرض.
لعل هناك مناهج بحث فرعية أخرى، مثلا المنهج الاستردادي الذي نسترد فيه صورة الماضي، تبعا لما تركه من آثار، كما يحدث في علوم كالتاريخ والجيولوجيا، وثمة المنهج الوصفي ومنهج التصنيف والتقسيم، والمنهج التحليلي والتعدادي والإحصائي، ومنهج دراسة حالة ... إلخ. غير أن مناهج البحث في جذرها العميق، الذي يتمثل في مفهوم المنهج العلمي، لا تخرج عن واحد من هذين الشكلين أو الطريقين: فإما استغلال قوى العقل المنطقية لاستنباط قضية من أخرى، وإما استشهاد الواقع والوقائع عن طريق الحواس، التي قد تستعين بالأجهزة، إنهما الآليتان الأساسيتان للعقل العلمي، توافرهما معا يعني توافر المنهج العلمي. لا غرو إذن أن يكونا الشقين الأساسيين للمنهج العلمي؛ لهذا يمكن القول إن علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا علم التقابل بين المنهجين الصوري والتجريبي، بحيث يمكن ترسيمه بالشكل الآتي:
وبحكم الطبيعة المنطقية المحكمة للرياضيات، نجد أن المنهج الصوري هو دائما الاستنباط، ويمارس في أنضج صوره منذ القرن الثالث قبل الميلاد، حين وضع إقليدس في الإسكندرية كتابه «أصول الهندسة» نسقا مكتملا، أما المنهج التجريبي فإنه يشتبك مع خضم عالم الواقع والوقائع، شديد الالتباس والغموض والتعقيد؛ لذلك يمثل المنهج التجريبي المشكلة الفلسفية الحقيقية، التي استنفدت جهود رعيل وأجيال من الفلاسفة. ولا غرو، فالمشكلة الفلسفية الكبرى على إطلاقها، هي الإنسان في هذا العالم أو مشكلة العقل والواقع.
وفي نظرية المنهج التجريبي نأخذ في الاعتبار أن العلم الحديث مر بمرحلتين جوهريتين:
مرحلة العلم الكلاسيكي منذ العام 1600م (تقريبا) حتى العام 1900م (تحديدا)؛ حيث كانت نظرية نيوتن بمثاليتها المعرفية والمنهجية هي الإطار السائد. ويواكب هذا نظرة كلاسيكية للمنهج التجريبي، يمثلها الاستقراء التقليدي، الذي يبدأ بالملاحظة ويصعد منها إلى الفرض. يمكن اعتبار جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873م)، ممثلا رسميا لهذه النظرة. آمن مل بالاستقراء إيمانا طاغيا، رآه الآلية الوحيدة التي امتلكها العقل البشري، حتى بديهيات الرياضة والمنطق وحتى العواطف والمشاعر، كلها في رأيه تعميمات استقرائية؛ فكان مل أبرز من تفانوا في صياغة الاستقراء كمنهج، بل وكمذهب، وفي كتابه الشهير «نسق المنطق»
System of Logic
وضع للاستقراء بوصفه منهج العلم لوائح أو ضروبا خمسا، وهي منهج الاتفاق الذي يرصد حالات اتفاق العلة مع معلولها، ومنهج الاختلاف الذي يرصد حالات غياب المعلول بغياب العلة، ومنهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف، ومنهج التغير النسبي، وأخيرا منهج البواقي. إنها طرق استكشاف العقل للعلاقات السببية بواسطة التجريب؛ أي طرق تعميم الملاحظات التجريبية، التي يبدأ البحث العلمي برصدها، ليصل إلى القوانين.
مرحلة العلم المحدث، المعاصر منذ العام 1900م وما تلاه، منذ أن تفجرت ثورة النسبية والكوانتم، التي أحدثت انقلابا في مثاليات المعرفة العلمية، ويحق اعتبارها أعظم ثورة عقلية أنجزها الإنسان، وتصاعدت معها معدلات التقدم العلمي بصورة مبهرة حقا. لقد أحدثت انقلابا جذريا في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم،
6
وبالتالي واكبها انقلاب مماثل في نظرية المنهج التجريبي، بحيث اتضح أنه يبدأ من الفرض ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي، فيما يعرف بنظرية المنهج الفرضي الاستنباطي، التي تمثل نضجا ملحوظا وتطورا خصيبا، لقد انتقلت نظرية المنهج التجريبي من الاستقراء إلى المنهج الفرضي الاستنباطي، إنه التقاء ثمين بين التجريب والاستنباط، يعني إزاحة الاستقراء - الذي هو تجريب خالص - جانبا.
هكذا نلاحظ كيف كانت نظرية المنهج العلمي حوارا وشجارا ولقاء وافتراقا، بين طريقين متقابلين هما الاستنباط والاستقراء، وسوف نتوقف الآن عند كل منهما، فنعرض للاستنباط منهج العلوم الرياضية، ثم الاستقراء الذي حمل على عاتقه لواء الثورة التجريبية العظمى، في القرن السابع عشر وما تلاه، قبل أن يلتحم مرة أخرى بالاستنباط في تطور رائع لنظرية المنهج العلمي. (4) الاستنباط في الرياضيات
المنهج الصوري أو منهج العلوم الصورية هو الاستنباط
deduction ، الآلية الذهنية العاملة في التفكير الرياضي والبحث في العلوم المنطقية والرياضية.
الاستنباطية كآلية ذهنية له أشكال وفعاليات كثيرة، متفاوتة في طبيعتها وفي دورها وفي قيمتها، يستخدمه العقل البشري في أي لحظة حين يستخرج مضمونا من مضمون آخر، دون التجاء للتجريب، مثلا حين يستخرج المعاني من النصوص، أو الجزء من الكل أو الخاص من العام، أو المثيل من المثيل، أو ينتقل من القاعدة إلى حالة جزئية لها. والاستنباط كمنهج بحث وتنظيم لفعاليات العقل، له أيضا أشكال عديدة متفاوتة، على أن أرقى أشكاله وممارساته في الرياضيات.
فما الاستنباط؟
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم (سورة النساء، الآية: 83).
وفي التفسير الميسر جاء معنى هذا: «لعلم حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم» من الناحية الإتيمولوجية مصطلح، أو لفظة الاستنباط مأخوذة من لفظ «نبط» وهو نبع الماء، ونبط الماء وأنبطه واستنبطه؛ أي استخرجه من النبط بفعل فاعل. ثم أصبح الاستنباط يعني الاستخراج على عمومه، خصوصا استخراج المثمر الجيد النافع المفيد؛ فالماء في البيئة الصحراوية التي نشأت فيها اللغة العربية، يختزل دلالات الخير العميم المرجو دائما، فيقال: استنبط الحكم؛ أي استخرجه بالاجتهاد. وفي تعريفات الجرجاني: «الاستنباط اصطلاحا هو استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة.»
7
هكذا نجد القدماء قد عرفوا مصطلح الاستنباط، واستخدموه كفعل ذهني ذي طريق محدد، وعرفوا أيضا أشكالا للمنهج الاستنباطي، أشهرها القياس الأرسطي والقياس الأصولي. وفي استعمال جديد ومتطور لهذا المصطلح القديم، يأتي علم مناهج البحث الحديث، ليسير في طريق خدمة الفعل الذهني الاستنباطي، كي يستخرج الصورة الإيجابية المنتجة له في منهج الرياضيات.
يقوم المنهج الرياضي، أو نمط التفكير الرياضياتي، على استنباط بمعنى استخراج النتائج من مقدمات، والانتقال من قضية أو قضايا إلى أخرى تلزم عنها، والمقدمات في النسق الرياضياتي تقوم على بديهيات، يسلم بها العقل لوضوحها أو بداهتها؛ لذلك يسمى المنهج الرياضياتي: المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي (الأكسيوماتيكي = البديهي). واستنباط النتائج من المقدمات يعني البرهنة على هذه النتائج. الصفة الأساسية للاستنباط هي لزوم النتائج عن المقدمات بالضرورة، متى سلمنا بالمقدمات لا بد أن نسلم بالنتيجة المستنبطة منها، فإذا أنكرناها وقعنا في التناقض. اللزوم والضرورة والدقة هي خصائص النتائج المستنبطة، خصائص القضايا الرياضية التي هي تحليلية تحصيل حاصل، توصف بالصحة والبطلان وليس الصدق والكذب.
وتقوم ممارسة المنهج الاستنباطي الرياضياتي على أساس من مقدمات أساسية: وهي مجموع الحدود والقضايا الأولية، التي يسلم بها الرياضياتي قبلا بلا برهان، وتتكون من تعريفات ثم مصادرات تضم بديهيات ومسلمات. وللبديهية ثلاث خواص: أولا الوضوح الذاتي، فتكون في غير حاجة إلى شرح أو توضيح. وثانيا الأولانية المنطقية، فهي غير مأخوذة أو مستنبطة من أي قضايا أو مبادئ أخرى. والخاصية الثالثة أنها قاعدة صورية عامة، أما المسلمات فقد لا تكون بوضوح البديهية ونسلم بها فقط؛ لأن العالم رآها ضرورية لبناء نسقه الاستنباطي، وهي بدورها لها ثلاثة شروط: الاتساق الذاتي، فتكون خلوا من أي تناقض، ثم الاستقلال فتكون كل مسلمة مستقلة عن الأخرى، لا يمكن استنباطها منها ؛ لأنه لو أمكن هذا لكانت مبرهنة وليست مسلمة. أما الشرط الثالث فهو الكفاية، فلا بد أن تكون المسلمات كافية لاستنباط المبرهنات؛ أي النظريات المطلوبة.
الرياضياتي له الحق في فرض ما يراه من مصادرات، حتى وإن بدت متنافية مع الواقع التجريبي المحسوس أو غير مطابقة له؛ فقد يسلم بأن السطح مستو كما فعل إقليدس في القرن الثالث قبل الميلاد، أو بأنه مقعر كما فعل لوباتشيفسكي (1792-1856م)، أو بأنه محدب كما فعل ريمان
B. Riemann (1826-1866م). وقد كانت الإقليدية هي الهندسة التطبيقية في فيزياء نيوتن الكلاسيكية، بينما جعل آينشتين من هندسة ريمان هندسة تطبيقية للفيزياء النسبية، ولا شأن للرياضيات البحتة بهذا وذاك، المهم أن يلتزم الرياضياتي بالتعريفات والمصادرات، التي وضعها طوال النسق.
هذه المقدمات من تعريفات ومصادرات هي نقطة البدء في الاستدلال، هي المادة الخام لفعل الاستنباط، هي المعلوم الذي سننتقل منه إلى مجهولات، وذلك باستعمال الوسائل المنطقية، وهي القواعد أو القوانين المنطقية، التي تحكم الاستدلال العقلي وتضمن سلامته، يكون الخروج من هذه المقدمات بالنتائج التي تلزم عنها. النتائج هي النظريات الرياضية التي تم إثباتها بفعل الاستنباط. النظرية الرياضية تسمى مبرهنة
theorem ؛ لأنها حظيت ببرهان يثبت لزومها عن المقدمات.
وفي هذا نلاحظ أن الاستنباط الرياضي استنباط إنشائي أو تركيبي، النتيجة ليست داخلة في المقدمات، بل هي لازمة عنها وزائدة عليها؛ لذلك كانت العلاقة المنطقية الضرورية، التي تربط المقدمات بالنتائج في الرياضيات، ليست علاقة التضمن بل علاقة اللزوم
implication . إن مساواة زوايا المثلث لقائمتين، ليست قضية داخلة في مقدمات إقليدس أو متضمنة فيها، كما هو الحال في استنباطات القياس الأرسطي التي توصف بالعقم، بل هي حلقة جديدة في السلسلة لازمة عن الحلقة السابقة عليها اضطرارا؛ أي إن كل قضية جديدة تنقلنا من معلوم إلى مجهول، كأن هناك بناء يركبه العقل أو ينشئه إنشاء، إنه بناء النسق الرياضياتي. (5) الاستقراء في العلوم التجريبية
حين بدأت إرهاصات وبشائر فلسفة العلم في أواسط القرن التاسع عشر من أجل صياغة نظرية المنهج العلمي التجريبي، كان الإجماع منعقدا تقريبا على أنه الاستقراء.
الاستقراء في اللغة: هو التتبع، ومن استقرأ الأمر فقد تتبعه لمعرفة أحواله، وعند التطبيقيين هو الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم في الجزئي.
8
ومنهج الاستقراء
induction
مقابل صريح لمنهج الاستنباط؛ لأن الاستنباط
deduction
استدلال هابط يبدأ من مقدمات كلية، ويهبط منها إلى نتائج جزئية تلزم عنها بالضرورة، ينتقل من الكل إلى الجزء بغير حاجة إلى تجريب، أما الاستقراء فهو استدلال صاعد، ينتقل من الجزء إلى الكل، فيبدأ من ملاحظة جزئيات تجريبية، ليصعد منها إلى صيغة كلية على هيئة قانون كلي عام، يحكم جميع الحالات المتماثلة أينما وقعت ووقتما وقعت.
هكذا نجد الاستقراء في جوهره عملية تعميم للملاحظات التجريبية، وقد استند هذا التعميم على مبادئ ثلاث تبرره، وهي السببية وإطراد الطبيعة والحتمية، وهذه المبادئ الثلاثة تؤكد انتظام الطبيعة وتناسقها، وخضوعها لقوانين شاملة يكشف عنها العلم، وعن طريق استقراء ماضيها يتنبأ بمستقبلها. السببية (أو العلية)
Causality
مبدأ كوني عام وشامل يعني أن حوادث هذا الكون لا تجري خبط عشواء، بل كل حدث يحدث لأن هناك سببا أو علة أحدثته، كل ظاهرة من ظواهر الكون لها سببها، وحدوث الأسباب ذاتها يوجب حدوث النتائج ذاتها، وبهذا تحدث الأحداث أو ظواهر الكون، في أنماط منتظمة يمكن اكتشافها وصياغتها في قوانين، وتلك هي مهمة العلم التجريبي، حتى قيل إن التفسير العلمي هو ذاته التعليل، اي اكتشاف العلة أو السبب.
9
أما اطراد الطبيعة
Uniformity of Nature
فيعني أن أحداث الطبيعة تجري على وتيرة واحدة؛ أي بشكل مطرد لا تغير فيه، ما حدث بالأمس سيحدث في المستقبل، طالما أن كل حدث حالة أو مثال لقانون سببي شامل. ثم يأتي مبدأ الحتمية
Determinism
ليجسد الصرامة العلمية السببية، فيعني عمومية قوانين الطبيعة وثبوتها واطرادها، فلا تخلف ولا مصادفة ولا استثناء، كل حدث يحدث كان لا بد وأن يحدث بالضرورة، طالما أنه محكوم بالسببية الشاملة ويكشف عن اطراد عام.
يسهل إدراك أن المبادئ الثلاث وجوه لعملة واحدة، طالما أن السببية هي اطراد التعاقب في الطبيعة، والاطراد بدوره شاهد على السببية، وقد انتظما معا في إطار مبدأ الحتمية الكونية الشاملة ، الذي رسخته فيزياء نيوتن حين قدمت تفسيرها الميكانيكي للكون. الحتمية لا تعدو أن تكون الإقرار بأن السببية الشاملة، تجعل كل حدث يحدث كان لا بد حدوثه ويستحيل أن يحدث سواه، والقانون العلمي يتنبأ يقينا بالأحداث على أساس من السببية الشاملة، بحيث إذا توصلنا إلى نسق العلم الشامل، تبدت أمامنا أحداث الكون جميعها كتابا مفتوحا.
وراح فلاسفة العلم آنذاك يتبارون في تحديد خطوات المنهج الاستقرائي، وترتيبها ترتيبا تصاعديا وصولا إلى الكشف أو النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية؛ فلا بد أن يبدأ العالم بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة خالصة بلا أية موجهات، وكأن العالم يرقب من وراء ستار بحياد تام. الملاحظة العلمية دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية، وأيضا الدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حد ممكن وصولا لتكميم دقيق. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها. وهناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين الاثنتين كعلوم الطب والحياة. والخطوة الثانية هي التعميم الاستقرائي للوقائع، التي لوحظت في صيغة قانون عام، وقد تتلوها خطوة افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم. الخطوة الرابعة هي التحقق من صحة الفرض منطقيا، وأنه قادر على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسق مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها، ثم اختباره تجريبيا. ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا تم دحضه، كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، ليتم بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلى بنيان العلم.
هذا هو ما يعرف بالاستقراء التقليدي أو الصورة الكلاسيكية البائدة للمنهج العلمي. ولئن كان العلم التجريبي تجسيدا وتجريدا لمقولة التقدم في حياة البشر، فلا غرو أن تشهد نظريته المنهجية بدورها تقدما أو تطورا جذريا، فكيف سار الأمر؟
الفصل الخامس
تطور نظرية المنهج العلمي
(1) مشكلة الاستقراء
ترسخت رؤية المنهج العلمي التي تعتبر النظرية العلمية في جوهرها تعميمات استقرائية، لا سيما وأن هذا كان ملائما تماما لفيزياء نيوتن الكلاسيكية، وهي لم تقتحم بعد عالم الذرة وما دون الذرة، وتتعامل مع كون كل شيء فيه تقريبا قابلا للملاحظة الحسية. كانت الفيزياء النيوتونية التي تحكم قوانين الحركة في الزمان والمكان، هي النظرية الفيزيائية العامة التي ترسم معالم نسق العلم وتحدد مثالياته ومعاييره، وكانت النيوتونية تسير قدما من نجاح إلى نجاح أعظم، وأثبتت ذاتها بوصفها المثال المعرفي المنشود، وتبارت العلوم المختلفة في احتذاء حذوها، وقد سلم الجميع بأن منهجها الاستقرائي، هو المنهج العلمي المشهود.
ولكن في أوج العلم الكلاسيكي ونجاح فيزياء نيوتن، وفي أوان صعودها عرش المعرفة بثقة واقتدار، المعرفة النظرية والتطبيقية أيضا التي جعلت الثورة الصناعية على الأبواب، في قلب هذا المعمعان الظافر الرافع للواء الاستقراء بوصفه المنهج العلمي المعلى، حدث أن أثيرت مشكلة الاستقراء أشهر مشكلات الفلسفة ومناهج البحث.
وتتلخص مشكلة الاستقراء في التساؤل: بأي مبرر يخرج العالم من وقائع جزئية محدودة إلى قانون كلي عام؟ كيف يسحب الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ لماذا يفترض أن الوقائع التي لم يشاهدها تماثل تلك التي شاهدها، وأن الأحداث سوف تتعاقب في المستقبل تماما كما تعاقبت في الماضي؟
إن العالم في معمله يلاحظ عددا محدودا من الحالات، مثلا القطعة «1» من الحديد تمددت بالحرارة، القطعة «2» ... القطعة «3» ... القطعة «4» ... القطعة «ن» ... فيخرج بتعميم استقرائي: الحديد يتمدد بالحرارة. أو مثلا افترض باحث أن المضاد الحيوي «س» فعال في علاج التيفود، وجربه على المرضى الذين يعالجهم وهم عشرة أو عشرون أو حتى ألف، وهب أنهم شفوا جميعا، سيخرج بتعميم استقرائي: المضاد الحيوي «س» يشفي من التيفود. القانون العلمي عبارة عامة تحكم الحالة المطروحة للبحث بصفة كلية، وليس مجرد حصر أو تعداد لأمثلة لوحظت. إن العالم يلاحظ ويجرب على عدد من الوقائع الجزئية، مهما كان كبيرا فهو عدد محدود، ثم يخرج منه بعبارة كلية تنطبق على كل الوقائع المماثلة في أي زمان ومكان. والسؤال الآن: بأي مبرر يخرج من وقائع محدودة لوحظت إلى قانون كلي عام؟ كيف يسحب الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ من أدرانا أن الحديد منذ مليون عام أو بعد ألف سنة أو على كوكب المريخ أو في مجرة أخرى يتمدد أيضا بالحرارة؟ ما الذي يضمن عدم وجود عينات من الحديد هنا أو هناك لا تتمدد بالحرارة ولم يصادفها الباحثون؟
مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير القفزة التعميمية، من عدد محدود من الوقائع التجريبية إلى قانون كلي عام. على أي أساس يمارس التعميم الاستقرائي، وهو صلب فاعلية المنهج العلمي؛ أي صلب عملية إنتاج المعرفة العلمية؟
ورب قائل إن مبدأ السببية - الذي استلزم الاطراد والحتمية - يبرر التعميمات الاستقرائية. والواقع أن مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة السببية؛ فقد ظهر متحد خطير لقانون السببية، هو الفيلسوف الأيرلندي ديفيد هيوم
D. Hume (1711-1776م)، إنه تجريبي متطرف، من أقطاب التجريبية الإنجليزية التليدة في القرن الثامن عشر، فتقوم فلسفته على رد المعرفة إلى انطباعات الحس وارتباطاتها. وهنا خطورته؛ فقد تحدى مبدأ السببية كثيرون على رأسهم الإمام الغزالي في الشرق والأب نيقولا مالبرانش في الغرب، لكن كان هذا لنفي الارتكان على الحواس والتجريبية. أما ديفيد هيوم فهو أول من نقد قانون السببية على أساس من التجريب ومن أجله.
طرح هيوم سؤاله: على أي أساس نفترض أن العلل (أي الأسباب)، سيكون لها دائما المعلولات (أي النتائج) نفسها؟ أي: على أي أساس نفترض مبدأ السببية؟ ولا إجابة على هذا السؤال؛ فنحن التجريبيين المتطرفين اتفقنا على انطباعات الحس شاهدا أوحد، ولا نجد فيها أبدا هذه السببية، لا أحد رآها أو سمعها أو لمسها، إننا لا نلاحظ إلا تعاقبا بين الأحداث، أما السببية فهي ملاط (= أسمنت) غيبي للربط بين هذه الأحداث، ولا مرد لها إلا العوامل السيكولوجية، بمعنى أن تكرار الخبرة الحسية التي تقع فيها «ب» بعد «أ»، يخلق عادة لتوقع «ب» كلما شوهدت «أ»؛ أي إن السببية مجرد عادة نفسية!
1
ليست مبدأ كونيا يصلح أساس المنهج العلمي بجلال قدره.
معنى هذا أن قوانين العلم التجريبي تفتقر إلى أساس مطمئن وإلى حجة تبرر مصداقيتها، فهل هي تعميمات لا عقلانية في حين أن العلم هو نجيب العقل الأثير؟! أين الأساس والتبرير العقلي للقفزة التعميمية؟ لا إجابة على هذا السؤال بعد انهيار السببية بفعل هيوم، فقيل إن التأمل في أصول المنهج العلمي يجعل نفرا من الفلاسفة التجريبيين شكاكا أو لا عقلانيين. وفي النهاية يبدو وكأنه يحق القول الدارج: الفلسفة لا منها ولا كفاية لشرها! لم تستطع أن تنجز ما أنجزه العلم، وحين قنعت بمحاولة تبريره وتمييزه بمعيار المنهج العلمي، انتهت إلى ما لا يمكن تبريره، إلى ما يعني أن العلم التجريبي بجلال قدره قائم على غير أساس!
قل أن يمر فيلسوف إبستمولوجي أو ميثودولوجي من المعنيين بالمعرفة التجريبية والمنهج العلمي، دون أن يحاول طرح حل لمشكلة الاستقراء والبحث عن تبرير لتعميم الوقائع، ولم ينجح أحد في تقديم إجابة بمنجاة من الطعن وإثبات القصور. وأسفر الوضع بفلسفة العلم ومفهوم المنهج العلمي عن موقف مأساوي وهزلي: العلم الحديث هو النجيب الأثير للعقل الإنساني وآيته ودرة ما أنجزه، «ولكن منذ زمان هيوم أصبحت البدعة المستحدثة في العلم هي إنكار عقلانيته»،
2
حتى يقول وايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947م)، إن مشكلة الاستقراء هي «يأس الفلسفة»، وأسماها الفيلسوف الإنجليزي تشارلي دنبر برود
C. D. Broad (1887-1971م) «فضيحة الفلسفة»!
3
إن فلسفة العلم من الأعضاء الجدد في الأسرة الفلسفية، فهل حقا جلبت للأسرة العريقة النبيلة كل هذا العار والشنار ... الفضيحة واليأس؟! بلا أدنى مبالغات أو تعبيرات مجازية، بدت مشكلة الاستقراء وكأنها شاهد على عقم المباحث الفلسفية، حتى في مبحث مفهوم المنهج العلمي الذي قيل عنه، إنه أعظم إيجابية امتلكها العقل.
والحق أن مشكلة الاستقراء لم تكن دليلا على عقم الفلسفة، على مدى خصوبتها وثقوب بصرها، وقدرتها على استشراف آفاق مستقبلية في تطور العلم ونظرية المنهج العلمي. وما تكشف من عقم ويأس مردود إلى قصورات معرفية وظروف حضارية آنذاك، دفعت إلى رفع لواء البدء بالملاحظة، وأن يكون الفرض العقلي تاليا لها، حتى يبدو وكأنه تعميم لوقائع، فتتخلق مشكلة الاستقراء غير القابلة للحل. وسوف ننتقل الآن إلى ظروف مصاحبة لنشأة العلم الحديث وتناميه، لتتكشف حقيقة الأمر. (2) ظروف حضارية ومعرفية
مهما كانت مشكلة الاستقراء من أشهر مشكلات الميثودولوجيا وأكثرها إلحاحا، فإن ما نشدد عليه الآن أن هذه المشكلة لم تأت من صميم مفهوم المنهج العلمي، وما قد يبدو من تداخل في عناصره أو خطواته، التي بدت حصائلها مفتقرة للتبرير المنطقي بل وللعقلانية. بعبارة أخرى موجزة، مشكلة الاستقراء جاءت من ظروف حضارية وقصورات، أو أوضاع معرفية لها حدودها، وهي التي جعلت العقل العلمي في مرحلة من تطوره الحديث، يفترض أن الاستقراء التقليدي؛ أي البدء بالملاحظة، هو المنهج العلمي.
وتلك هي المشكلة الحقيقية: طالما نبدأ من الملاحظة فلن تجد مبررا للقفزة التعميمية، وتجلى ثقوب النظر الفلسفي في تعيين الخلل الكامن في تصور البدء بالملاحظة، وفيما بعد اتضح أن هذا التصور لا يعبر عن طبيعة المنهج العلمي، الذي يبدأ بفعل عقلي وفرض ما، بل هو تصور أملته ظروف خاصة بمرحلة الحداثة في القرن السابع عشر وما تلاه، ظروف حضارية وظروف معرفية.
ونبدأ بالظروف الحضارية، وفي هذا نلاحظ أن العلم نشاط معرفي، نعم، ولكنه لا ينشأ في سديم ولا يمارسه البشر/العلماء في خلاء، بل في إطار حضاري له ظروف وحيثيات، فيشتبك العلم كنشاط إنساني بهذه الظروف، ولا تفهم الحركة العلمية فهما متكاملا، من دون أن نأخذ في الاعتبار عواملها الخارجية؛ أي تفاعلاتها واشتباكاتها مع المؤسسات الاجتماعية والثقافية، والأوضاع الحضارية المحيطة بها في مرحلتها التاريخية المعنية.
من هذا المنظور كانت نظرية المنهج العلمي الاستقرائية، التي ترتكز على البدء بالملاحظة، قد تصاعدت «مواكبة» لنشأة العلم الحديث في أعقاب عصر النهضة وبدايات العصر الحديث، كرد فعل عكسي على إفراط العصور الوسطى الأسبق، خصوصا العصر المدرسي في منهجية القياس الأرسطي. القياس شكل عقيم من أشكال الاستنباط الخالص، يهبط من مقدمات كبرى إلى نتائج جزئية، فيما يبدو كتحصيل لحاصل ومصادرة على المطلوب، من حيث إن النتيجة متضمنة قبلا في المقدمات، فضلا عن أن الأمر انتقال من قضية إلى أخرى، ولا مساس إطلاقا بآفاق المجهول الرحيبة، ولا تعامل مع الواقع والوقائع، ودع عنك استشهاد الحواس. كان القياس الأرسطي الذي مثل الروح المنهجية في العصر المدرسي، أمثولة على الاستنباط الخالص العقيم.
بدا لعقول الحداثة الناهضة آنذاك - في القرن السابع عشر - أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث، يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طرا، وسلك الطريق العكسي وهو الاستقراء؛ أي البدء بالملاحظة والصعود منها إلى نتائج عامة.
وزاد من حدة هذا، ذلك الصراع الدامي آنذاك بين العلم الحديث، وبين السلطة المعرفية التي كانت لا تزال في يد رجال الكنيسة، وقد استمدوا سلطانهم - لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضا جريئة - بل فقط لأنهم أقدر البشر طرا على قراءة الكتاب المقدس. ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصراح والخسران المبين، إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطاء القاصر في المواجهة مع رجال الكنيسة المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر، على قراءة كتاب آخر لا يقل عظمة أو دلالة على بديع صنع الرب، ألا وهو كتاب الطبيعة المجيد، محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، محض مشاهدة لوقائع التجريب ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض.
تمخض الصراع آنذاك عن انتصار قراءة كتاب الطبيعة، والاقتصار عليها نبذا لقراءة الكتاب المقدس، فكانت الحضارة الغربية العلمية العلمانية المقتصرة على المادي والوضعي. يقول برتراند راسل: «لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعا بين الاستنباط والاستقراء.»
4
انتهى الصراع مع سلطة رجال الكنيسة بانتصار رجال العلم، واستقلال حركة العلم التجريبي بفضل قوتها المعرفية المتنامية الرافعة للواء الاستقراء.
ترسخت دعائم المنهج العلمي الاستقرائي، ثم شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء، خصوصا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في القرن التاسع عشر، وبات من المسلم به أن عماد مفهوم المنهج العلمي شقان: الفرض والملاحظة، ولكن ظلت الأسبقية للملاحظة والبدء منها لتثار مشكلة الاستقراء. •••
أما عن الظروف المعرفية فتعني الولوج إلى قلب نسق العالم وعوامله الداخلية المنطقية والمنهجية . وفي هذا نجد أن المنهج الاستقرائي التقليدي كان يتواكب مع إبستمولوجيا العلم الحديث في مرحلته الكلاسيكية؛ أي مع نظرية المعرفة العلمية وطبيعتها وخصائصها في تلك المرحلة، التي تحددت معالم نسق العلم فيها بفيزياء نيوتن الكلاسيكية. ونظرية نيوتن بدورها تصور الكون ككتل مادية قابلة للملاحظة المباشرة، وتتحرك على سطح مستو عبر الزمان والمكان المطلقين، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، إذن فالكون بالتأكيد نظام ميكانيكي حتمي خاضع للسببية الشاملة والحتمية، فضلا عن أن مكوناته قابلة لأن تدركها الحواس. في مثل هذا العالم من الملائم جدا أن نلاحظ وقائعه ثم نعممها، ويتقدم العقل العلمي بتفسير للتعميم إلى آخر خطوات المنهج الاستقرائي التقليدي.
وكانت كل خطوة يحرزها العلم آنذاك إنما هي نجاح ملموس، يؤكد فرضية الاستقراء والبدء بالملاحظة، ويتأكد بها. وفي هذه الأجواء المشبعة بنشوة الظفر والنجاح العلمي الحديث، جاء هيوم ليثير التساؤل حول السببية، ويفجر مشكلة الاستقراء.
وكان هذا حدسا عميقا لأن الظروف الحضارية والقصورات المعرفية، هي التي أملت البدء بالملاحظة، في حين أن العقل هو سيد الموقف العلمي: يبدأ بفرض ما يتجه منه إلى الملاحظة. وانقشعت أوهام الاستقراء والمصادرة على البدء بالملاحظة باقتحام عالم الذرة وما دون الذرة؛ حيث يتعامل العلم التجريبي مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلا، فلا يمكن رصد جسيمات الذرة لكي نخرج بتعميم استقرائي لما لاحظناه أو رصدناه، يمكن فقط رصد آثار الجسيمات على الأجهزة المعملية. إذن لا بد من فرض قبلا لنستنبط منه ما يلزم عنه، نصمم التجربة على أساس الفرض، أو بالأحرى نصممها لاختبار الفرض عن طريق المقارنة بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين الآثار المرصودة معمليا. هكذا يأتي دور الملاحظة المعملية التجريبية بعد الفرض، وانتبهنا أخيرا إلى أن أحدا من العلماء - قديما أو حديثا - لم يدخل البتة معمله، إلا بناء على فكرة أولية أو فرض ما مطروح قبلا. بدون فكرة مبدئية، كيف ولماذا يدخل المعمل؟ لقد انقلبت نظرية المنهج العلمي رأسا على عقب، ليغدو الفرض قبل الملاحظة، يختبر وينقح ويعدل عن طريقها ... فيما يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي. (3) المنهج فرضي استنباطي
قد تستعمل لفظة الاستقراء الآن للدلالة على التجريب بشكل عام وتتبع وقائعه، ولكن من حيث المصطلح الميثودولوجي المتخصص، يعني الاستقراء نظرية البدء بالملاحظة التي كانت. وليس المنهج العلمي التجريبي هو الاستقراء الكلاسيكي، بل المنهج الفرضي الاستنباطي
Hypothetical deductive Method
يبدأ بفرض صوري عام، لا يشتق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر، فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط، كي يستنبط منطقيا ورياضيا النتائج الجزئية التي تلزم عنه، إنها تنبؤات الفرض، ويأتي التجريب ودور الملاحظة فيقابل الباحث بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها تم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق يكون تعديله أو الاستغناء عنه والبحث عن غيره، مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا؛ فقد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أو من وقائع التجريب، أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية وجه المحبوبة، أو من أي أين تستطيع العقلية العلمية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه فرضا. الفرض العلمي إبداع إنساني أصيل، لا طريق مرسوما سلفا إليه، المنهج العلمي لا يرسم طريقا محددا إلى الفرض، بل هو آلية التعامل مع الفرض، آلية الاختبار التجريبي، آلية التفاعل بين الفرض والملاحظة أو بين العقل والحواس.
في علوم الفيزياء تحديدا نجد الاستدلال الرياضي، وهو عملية استنباطية، إنما يمثل العمود الفقري للمنهج العلمي، وأهم من وقائع التجريب ذاتها، خصوصا حين نقترب من الفيزياء النظرية أو البحتة. ليس التجريب مقابلا تماما للاستنباط، أو يستبعده كما كان الحال مع الاستقراء. والفروض العلمية الآن لم تعد تحكم وقائع بقدر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها. المنهج العلمي التجريبي لا يعني تهميش دور العقل، كما كان يفعل الاستقراء التقليدي؛ فقد عاد الاستنباط ليحتل موقعا محوريا. انهار التصور الحتمي للكون وكأنه يسير كما تسير الآلة الميكانيكية، وارتفع لواء اللاحتمية واللايقين واللاتعين والمنطق الغائم ونظرية الشواش، ويظل المنهج تجريبيا والعلم تجريبيا، من حيث إن العالم التجريبي هو المحك النهائي الذي يشهد على النتائج المستنبطة ليتقرر مصير الفرض. إن مفهوم المنهج التجريبي في حقيقته، هو التآزر الجميل حقا بين إمكانيات العقل وقوة التجريب. •••
يعد كارل بوبر أهم فلاسفة المنهج العلمي والميثودولوجي الأول في القرن العشرين، وكان من أسبق وأقدر الذين تمثلوا الأبعاد الإبستمولوجية والميثودولوجية لثورة النسبية والكوانتم . وكما أشرنا فيما سبق، يحدد بوبر الخاصة المنطقية المميزة للنظرية العلمية بأنها القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب. وهذه الخاصة تمثيل منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي، ولطبيعة التفكير العلمي كفرض يفرضه العقل على الواقع، وليس يستقرئه من الواقع. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر، فلا تكون نظرية المنهج العلمي نظرية في تبريره، بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر، الأسلوب أو الكيفية هو ما يعرف بالمنهج العلمي، ومن ثم تكون فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي، هي ذاتها منطق الكشف العلمي.
كارل بوبر يصوب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد، لحظة التكذيب والتفنيد. ومن خلال منطق التكذيب والتصويب، تغدو فلسفة المنهج العلمي، هي منطق قابلية العلم المستمرة للتقدم، بحيث تكون قواعد البحث العلمي - كما يؤكد بوبر - قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرر يوما ما أن العبارات العلمية، أصبحت لا تستدعي أي اختبارات أخرى، ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورة نهائية، فإنه ينسحب من المباراة.
إن كارل بوبر في فلسفته الحصيفة للمنهج العلمي، لا يعنى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يعنى فقط بنموها وكيفية تقدمها، أكد تأكيدا مشددا أن المنهج العلمي ليس البتة منطقا للتبرير والتحقق أو المواءمة، بقدر ما هو منطق للكشف والتقدم المستمر. يقول بوبر: «إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي يقوده إلى النجاح، فلا بد أن يصاب بخيبة أمل، ليس هناك طريق ملكي للنجاح. وأيضا إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي كطريق لتبرير النظريات العلمية، فسيصاب أيضا بخيبة أمل، النظريات العلمية لا يمكن أن تبرر، إنها فقط تنقد وتختبر.»
5
وفي تعريف جامع لنظريته في منهج العلم يقول: «المنهج العلمي هو منهج المحاولة والخطأ، منهج اقتراح فروض جريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن، كي ما نتبين مواضع الخطأ فيها.»
6
حرص كارل بوبر على إثبات أن البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، بل هو فكرة مستحيلة أصلا، وبالتالي فإن الاستقراء التقليدي لا يصف ما يفعله العلماء، ولا ما ينبغي أن يفعلوه، ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه. يوضح بوبر هذا بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم، فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى أن تورث هذه المجموعة من الملاحظات، لكي تستعمل كدليل استقرائي! فطبعا لن تفيد العلم في شيء، ولن تفضي إلى شيء، وإذا افترضنا كمبيوتر يقوم بدور آلة استقرائية، فيجمع المعطيات الحسية المتماثلة ليعممها في قانون، فإن عمله هذا مستحيل بدون فرض مسبق، لا بد قبلا من برنامج يحدد للكمبيوتر ما أوجه التماثل التي يبحث عنها، ومتى يأخذ الوقائع التجريبية على أنها متماثلة. لقد بدأ بوبر إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه.» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، وهنا أوضح لهم كيف أن «لاحظ!» فحسب لا تعني شيئا، العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائما منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة المطروحة للبحث هي ما يبدأ به العالم، وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق ... أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه؟
7
إن العالم يحتاج مسبقا لنظرية يلاحظ على أساسها، وفرض يلاحظ من أجله؛ فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة لتحدد له، موقف المشكلة وتعين على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض الذي يستطيع حلها، ها هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبيا عن طريق النتائج المستنبطة. تلك هي الصورة العامة لمسار البحث؛ أي للمنهج العلمي التجريبي، إنه المنهج الفرضي الاستنباطي.
على هذا النحو نسلم بأن قطبي المنهج العلمي هما الفرض والملاحظة، وقد سادت المرحلة الكلاسيكية نظرية البدء بالملاحظة التي فرضتها فيزياء نيوتن، ويعد جون ستيوارت مل أبرز فلاسفتها، بينما تسود المرحلة الراهنة نظرية البدء بالفرض التي أكدها آينشتين، وعمل من أجلها فلاسفة كبار للمنهج العلمي في القرن العشرين وفي مقدمتهم كارل بوبر. (4) آفاق مركب جدلي
ليس الأمر تلاعبا بطرفي المنهج العلمي، بل هو طرح انقلابي لطبيعة العلم، وطبيعة موقع العقل في هذا الكون، ومفهوم المنهج العلمي؛ فلو كانت الملاحظة هي الأسبق، فإن العلم تعميم آلي للوقائع ملغوم بمشكلة الاستقراء، ودور العقل الإنساني تابع للحواس سلبي هامشي، فقط يخدم الملاحظة الحسية، ليعممها في صورة قوانين مستقرأة من صلب الواقع التجريبي، فتكون يقينية ضرورية حتمية، ويغدو نسق العلم بناء مشيدا راسخا ثابتا، يعلو ولكن لا تبديل ولا تعديل، وكل تقدم تراكمي. أما إذا كان الفرض هو الأسبق، كما تبلج في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية واقتحام عالم جسيمات الذرة، فإن العقل الإنساني المبدع للفرض هو الذي يخلق ملحمة العلم المجيدة، لا يخدم الملاحظة الحسية بل يستخدمها لتمحيص وتقنين الفروض، لقبولها أو رفضها، أو تعديلها.
وكان هذا انقلابا من النقيض إلى النقيض، انحلت إشكاليات منهجية تجسدها مشكلة الاستقراء، أي استحالة تبرير القفزة التعميمية من ملاحظات محدودة إلى قانون كلي، وبدت ظاهرة العلم أكثر إنسانية وأكثر تقدمية.
واللافت حقا أن فلسفة العلم قد واصلت مسارها، بتصورات من قبيل النموذج الإرشادي مع توماس كون، وميثودولوجيا برامج البحث مع إمري لاكاتوش، والاستراتيجيات العقلية مع ستيفن تولمن ... وهي تصورات توضح كيف أن الوقائع التجريبية لا تتحدد إلا في ضوء النظرية العلمية، والنظرية بدورها لا تتعين بدون الوقائع، كلاهما محمل بالآخر، الملاحظة العلمية ليست تسجيلا لانطباعات حسية، بقدر ما هي تأويل للمعطيات في ضوء الفرض المطلوب اختباره أو النظرية المعمول بها، والنظرية بدورها لا تترسم إلا من خلال وقائع تجريبية.
معنى هذا أن قطبي المنهج العلمي - الوقائع التجريبية والنظرية العلمية - ليسا طرفين متقابلين، نضع كلا في واد، ثم نبحث عن العلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر وأيهما الأسبق، إنهما كل واحد متعضون في إطار متكامل. وفي الموقف العلمي المتعين يقبل هذا الإطار، أو يرفض ويتم الانتقال إلى إطار آخر أكثر تقدمية. والحق أن واقع البحث العلمي الآن يؤكد هذا . ويضرب بولكين هورن مثالا يوضحه وهو اكتشاف الجسيمين الذريين
Z
و
W ، وهما وسيطان في القوى النووية الضعيفة. وكان ثمة اثنان من زملاء بولكين هورن الباحثين في فيزياء الجسيمات الأولية هما كارلو روبيا
C. Rubbia
وسيمون فان ديرمير
S. V. Der Meer ، عملا في إطار فريق بحثي كبير، استخدم مصفوفة واسعة ومترابطة من الكواشف الإلكترونية للنشاط الإشعاعي، وتحليلات الكمبيوتر هي التي يمكنها تقييم ما تشير إليه هذه الكواشف، إنها معطيات الملاحظة الحسية أو المادة التجريبية الخام، بيد أنها في حد ذاتها لا تعني شيئا البتة ولا تدل على شيء محدد، وما كان يمكن الإعلان بأن هناك الجسيم
W
وهناك الجسيم
Z ، إلا عن طريق تأويل لمعطيات الملاحظة التجريبية، تأويلا يستخدم أفكارا فيزيائية معينة، هي فرض وجود هذين الجسيمين الذي تقدم به العالمان المذكوران عام 1984م ونالا عنه جائزة نوبل،
8
هكذا نجد أنه لا معنى لملاحظات في حد ذاتها وأيضا لا معنى للفرض في حد ذاته، إنهما كل متكامل أو كيان واحد.
وبهذا يسفر تطور نظرية المنهج العلمي عن صيرورة جدلية؛ فقد كانت الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة، ثم انقلبت إلى النقيض الذي يبدأ بالفرض، وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، اتخذت نظرية المنهج العلمي صورة المركب الجدلي، الذي يجمع خير ما في هذين النقيضين ويتجاوزهما إلى الأفضل، إلى نظرية ترى الفرض والملاحظة كلا متكاملا. وهكذا يكون مفهوم المنهج العلمي بدوره مفهوما متكاملا.
وفي كل هذه المراحل الجدلية يظل جوهر المنهج العلمي التجريبي، وأساس الآليات الإجرائية في كل بحث علمي، هو التفاعل بين الفرض والملاحظة، النظرية والتجربة، العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، فلا حسية فجة غشوم أو مفككة، وأيضا لا تحليقات في جنوحات العقل الخالص أو تهاويم في سدم الفكر المطلق. وبالمثل تنفذ نظرية المنهج التجريبي المعاصرة من ذلك الخيار العصيب بين الاستقراء والاستنباط؛ فهي تجمع المجد من طرفيه وتظفر بالمغنمة من الجهتين. هنا في مفهوم المنهج العلمي آية توظيف كل ملكات الإنسان وقواه، وسبله الإبستمولوجية في عملية معرفية متكاملة، ولعلها الأكثر تكاملا من غيرها، لا سيما إذا نظرنا إليها في حدود طبيعة موضوعاتها ومجالاتها. إنه التآزر بين قوى العقل المنطقية والرياضية وبين شهادة الحواس أو استشهاد الواقع والوقائع، مع التسليم بأسبقة العقل وريادته. •••
بهذه الرؤية الجدلية نتفهم بشيء من العمق آلية العقل العلمي التجريبي. والعقل ملك للبشر أجمعين، قال عنه ديكارت إنه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وبتعبير معاصر نقول إنه مشترك إنساني عام، بين الثقافات جميعها، وأن يمتلك الإنسان عقلا، وأن تكون الحواس شواهد ومنافذ للمعرفة بالعالم، فهذه مسألة من أوليات الموقف الطبيعي للإنسان؛ لذا فالمنهج العلمي بدوره هكذا. بعبارة أخرى إذا كان قد اتضح لنا الآن أن جوهر مفهوم المنهج العلمي في تطوراته الشتى، لا يعدو أن يكون التفاعل بين العقل والحواس، فهو إذن - وكما صادرنا منذ البداية أو منذ المقدمة - آلية مفطورة في الإنسان، منذ أن انتصبت قامته واستقام وجوده في هذا الكون؛ لذلك كان العلم نفسه مشروعا ملازما لوجود الإنسان، يسير بدرجات متفاوتة في مراحله الحضارية المتتالية، حتى باتت تتصاعد بمعدل أسي في المرحلة الحديثة والمعاصرة. كل مرحلة أسهمت بما استطاعته، وتفاوتت في هذا تفاوتا كبيرا، وبات سباق التفاوت في عصرنا هذا محموما، وقدر الظفر فيه هو قدر الظفر من الحياة ... أو الموت، التقدم ... أو التخلف.
ليس العلم صنيعة الشرق أو الغرب، العلم أعظم قدرا وأجل خطرا من أن تنفرد بصنعه حضارة معينة، لا الحضارة الغربية بجلال شأنها، ولا الحضارة العربية الإسلامية بعزيز قدرها. ولئن كان العلم الحديث مرحلة متميزة، وتميزت بها الحضارة الحديثة، فإنه لم ينشأ في رحابها فجأة أو من فراغ، بل هو تطور لمراحل العلم الأسبق. وبطبيعة الحال يقترن العلم - في كل صوره ومراحله ودرجاته - بمنهاجه الذي هو في جوهره التفاعل بين العقل والحواس. وفي هذا يتجلى لنا تاريخ المفهوم العلمي عبر تاريخ العلم ذاته، ومن حقنا - نحن المعنيين بفلسفة العلم ومفهوم المنهج العلمي - التأكيد أن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد، والسجل الموثق على تطور الإنسان وخطاه التقدمية في استجابته للعالم المحيط ، الذي يحيا فيه عبر امتلاكه العقل المتفاعل مع الحواس كسلاح أكيد، جعل الإنسان بطل الرواية الكونية وخليفة الله على الأرض.
هكذا يبدو مفيدا أن نردف ونكمل تحليلنا العرضي السابق لماهية المنهج العلمي، بإلقاء نظرة رأسية طولية تتتبع تطور العقل العلمي، وفعالية المنهج عبر التاريخ الإنساني وتطوره في المراحل الحضارية المتتابعة، لتكون الإحاطة بمفهوم المنهج العلمي إحاطة أكمل وأشمل.
الفصل السادس
المنهج العلمي في التاريخ القديم
(1) في عصور ما قبل التاريخ
لما كان المنهج العلمي يعود إلى فعالية مفطورة في صلب العقل البشري من حيث هو عقل بشري؛ فقد كان نجيبه الأثير؛ أي العلم ذاته، صلبا من أصلاب الحضارة الإنسانية بأسرها، وأبرز جوانبها إثباتا لحضور الإنسان، الموجود العاقل في هذا الكون. بدأت أصول العلم أو بدأت بواكير ممارسات الإنسان للمنهج العلمي، ببدايات وجوده والتفاعل بين العقل والحواس في استكشاف، وتفهم العالم التجريبي الذي يحيا فيه، لينمو هذا ويتطور عبر الحضارات المتعاقبة، طبعا بمعدلات تتفاوت تفاوتا كبيرا.
ومن ثم يبدأ استقصاء تاريخ المنهج العلمي مما قبل التاريخ، منذ إنسان نياندرتال. إن العلم أقدم عهدا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية - كما يؤكد مؤرخ العلم ج. ج. كراوثر - كانت أول ما تأمله الإنسان حين استقامت قامته، وتحررت يداه منذ قرابة نصف مليون سنة مضت، فبدأ التفاعل بين اليد والدماغ أو بين العقل والحواس. وراح الإنسان يتعامل مع البيئة المحيطة به، في أولى المواقع التي شهدت ظهوره على ضفاف الأنهار الكبرى وموارد المياه الغزيرة، في الصين وجزيرة جاوة بإندونسيا وفي العراق ومصر والجزائر، هدته فطرته العاقلة إلى صنع أدوات من الحجر الصوان تعينه في خوض ملحمة الوجود، ثم استخدام هذا الحجر في توليد الشرر وتسخير النيران في التدفئة والإضاءة والطهو، مثل هذه الأنشطة البدائية أو المبدئية التي تحمل طيفا من أولى ممارسات المنهج العلمي، تعني أن الإنسان بدأ يدرك ارتباطات أولية بين ظواهر الطبيعة وقوانين مبدئية تحكمها، وبدأت تتحدد ملامحه ككائن عاقل.
علاوة على هذا، إذا كانت الرياضيات أقنوم العلم الحديث ورمزه المبجل، وروح المنهج العلمي المحدث تقوم على التحاور بين الرياضيات والتجريب، فإن نقوشا بدائية على جدران كهوف أثرية متوغلة في أعماق التاريخ، قد دلت على أن رموز الأعداد اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة، ربما كانت هذه الرموز القديمة التي عثر عليها علماء الآثار في جزيرة جاوة، لا تتجاوز الإشارة إلى عدد أصابع اليد، إلا أنها تدل بشكل ما على أن المنهج العلمي متأصل في صلب أقدم مناحي الإنسان وفي بنية توجهه العقلي. يقول ج. كراوثر: «محاولات أسلافنا الساذجة في استخدام الحجارة هي التي قادت عبر مئات الآلاف من السنين إلى ما يتصف به علمنا اليوم من كمال؛ فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصرية وحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان في صورة بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحول الإنسان تدريجيا من الحيوانية إلى الإنسانية، إذن العلم - بمعنى ما - أقدم من الإنسان.»
1
هكذا يطرح كراوثر المنهج العلمي في بواكير التحاور بين المخ والمعطيات الحسية والخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبر آلية المحاولة والخطأ، وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية. ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائية للعلم، أقدم عهدا من إنسانية الإنسان بل ومؤدية إليها. وقد أسرف كارل بوبر في تبيان أن التحاور بين الفرض والاختبارات التجريبية، أو بين الدماغ واليد عبر آلية المحاولة والخطأ، جوهر مفهوم المنهج العلمي. •••
وبالتالي فإن مع أولى بدايات الحضارة الإنسانية ترسمت أصول أنثروبولوجية صريحة لظاهرة العلم. ويتقدم الأنثروبولوجي الرائد برنسلو مالينوفسكي
B. Malinowski (1884-1942م)، بنظرته الوظيفية البنائية، وقد أخرج عام 1936م دراسة مهمة بعنوان «السحر والعلم والدين»، توضح أن هذه الدوائر كانت متمايزة في العقلية البدائية. كان السحر إقصاء تاما للعقل ولا يستند إلا إلى تقاليد موروثة وحكرا على طبقة السحرة والكهنة ، أما العلم البدائي فلأنه علم ينبع من العقل البدائي، وتصوبه الملاحظات البدائية؛ فقد كان متاحا أكثر للجميع، ولن تنفرد به طبقة معينة إلا منذ الحضارات الشرقية القديمة. وكان الدين مختصا بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختصا بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معا في العقلية نفسها في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر. غير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها؛ فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول المنهج العلمي، من ملاحظة للطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
هكذا ندرك أنه ليس من الصواب النظر إلى المراحل البدائية من وجود الإنسان، على أنها محض وحشية همجية غارقة في الخرافات والخزعبلات، بل إنها ببساطة بدايات للتحاور بين الإنسان والطبيعة أو الكون التجريبي الذي يحيا فيه، ولمصارعة المصاعب والاستجابة لتحديات البيئة التي وجد نفسه فيها، والقدرة على التغلب على هذه المصاعب بأشكال بسيطة من التطبيقات التقانية أو الأدوات التكنولوجية مثل: البلطة، والسكين، والقدح. ولو لم يكن الإنسان البدائي في العصور السحيقة قد نجح في هذا، مثلما نجح في التوصل إلى ارتباطات مبدئية تحكم الطبيعة، لكان الجنس البشري قد اندثر، ولما كنا موجودين الآن، فضلا عن أن يوجد نسق العلم الحديث. (2) في الحضارات الشرقية القديمة
وإذا غادرنا هذه المرحلة البدائية، ودخلنا في مرحلة التاريخ المكتوب، وجدنا العلم شريانا تاجيا من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشرا دالا على حيوية الحضارة المعنية. والحضارة بدورها ليست مراحل منفصلة متمايزة، بقدر ما هي عملية متصلة وسيرورة متنامية، تسلم كل مرحلة فيها إلى الأخرى؛ لذلك كان مثول روح المنهج العلمي وحركية العلم خطا موازيا لحركة الحضارة عبر التاريخ، وتقدم العلم هو عينه مسار تقدم الحضارة.
وعن الأساس العريض الأولي للعلم والممارسات النظامية إلى حد ما للمنهج العلمي وبدء تراكم حصائلها وتطبيقاتها، فقد تخلق هذا في الحضارات الشرقية القديمة، التي تحملت صعوبة البدايات ووعورة شق الطريق، وعلى رأسها أعظم الحضارات طرا وفجرها الناصع؛ أي الحضارة الفرعونية في مصر القديمة. ومصر، كما يقول أرنولد توينبي المؤرخ وفيلسوف التاريخ، هي التي اخترعت الحضارة والمدينة والمجتمع المنظم والدولة المركزية. كانت المنشأ الأصيل لمحاور شتى في العلم، سواء الرياضة كالحساب والهندسة والفلك، أو العلوم التجريبية كعلوم المعادن والكيمياء وصولا إلى الطب والجراحة.
وكان جيران مصر الفينيقيون في سواحل الشام على اتصال بها، وتجارا ذوي براعة وجسارة في ركوب البحر وبعض المعارف المتصلة بهذا، وعلى اتصال مباشر بالبابليين في العراق القديمة، ولا يضاهي الإنجاز المصري القديم في ميدان العلوم والتقانة إلا إنجاز حضارات بلاد الرافدين، البابلية والأشورية والسومرية والأكادية، خصوصا الحضارة البابلية. ابتكر البابليون نظام الخانات العددية؛ حيث تتغير قيمة العدد وفقا للخانة التي يوجد بها، خانة الآحاد أم العشرات أم المئات، فضلا عن إنجازاتهم فيما يعد بشائر علم الجبر. ويرى بعض مؤرخي العلم أن الإنجاز البابلي في الفلك والتقاويم والحساب، متقدم على الإنجاز المصري الذي برع في الهندسة وفي الجراحة. ويدور الجدال حول من منهما الذي اخترع الحروف والكتابة أصلا، وإن كانت الشواهد تميل إلى ترجيح كفة الفراعنة في هذا. وفي المقابل، نجد أن كفة البابليين أرجح في قضية رموز الأرقام الهندية، أعظم اختراع في التاريخ، من حيث المساهمة في تيسير منهج الاستنباط الرياضي.
يرى نفر من مؤرخي العلم أن البابليين «هم الذين ابتكروا رموز الأرقام، ثم انتقلت من العراق القديم إلى الهند القديمة، فوجب أن نزجي الشكر لبابل على أهم ابتكار في تاريخ الرياضيات».
2
إنه اختراع في تاريخ العقل الرياضي، يوازي اختراع العجلة في تاريخ العقل التكنولوجي. مؤرخون آخرون يرون العكس؛ أي إن رموز الأرقام اختراع هندي انتقل من الهند إلى العراق القديمة. إن الهند وجارتها الصين مهد من مهود الحضارة الإنسانية، أسهمت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأولية التمهيدية من تاريخ العلم؛ حيث وعورة شق الطريق وتعبيده، ليكون الإبداع الأصيل. على أن الصين القديمة تراجعت فيها الرياضيات والتفكير البرهاني والمنهج الاستنباطي، ولم تعرف حتى رموز الأرقام الهندية . عرفت التفكير القانوني وعرفت التفكير في الطبيعة، لكنها افتقرت إلى الأساس المنهجي الاستدلالي. ألقت الصين بثقلها في التطبيقيات والتقانيات، لتحتل موقعها في تاريخ التكنولوجيا، وقدمت فيما بعد ابتكارات عديدة مثل: الساعة المائية، والبوصلة، والبارود، والورق ... وتفرغ جوزيف نيدهام
J. Needham
لأمر العلم في الصين القديمة، ليكشف عن كنوزه في موسوعة من سبعة أجزاء.
كانت الممارسات المعرفية للمنهج العلمي في الحضارات الشرقية عموما، ونشأة العلم ونموه استجابة للحاجات العملية الملحة. وكان العلم البدائي المطروح آنذاك في صياغته ودرسه حكرا على طبقة الكهنة. ومع هذا لم ينفصل عن النموذج المعرفي وإطار البنية التصورية، بما احتوته من أساطير وعقائد؛ لأن العلم وممارسة المنهج العلمي منغمسة بشكل ما في الواقع الثقافي المعيش. (3) في حضارة الإغريق
ثم كانت نقلة حاسمة في المرحلة الحضارية التالية حيث النموذج الإغريقي الأنضج والأقدر، قام بالدور العظيم في تنضيد العقل النظري الإطاري للمنهج العلمي كآلية معرفية.
والمشكلة أن تثبيت مركزية الحضارة الغربية وإمبرياليتها إنما يمتد إلى الإغريق، باعتبارهم أصول الحضارة الغربية. يسرفون في تمجيد ما أسموه بالمعجزة الإغريقية، بزعم أنها بدأت من نقطة الصفر المطلق، بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة الأسبق. وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى، قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة، الذي أدخل عليها بعض التجديدات - بتعبير رشدي راشد - انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم وتجليات المنهج العلمي من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة! لتكون الحضارة البشرية ملكا خالصا للغرب، له أن يقسمها كما يشاء، ومن حكم في ماله فما ظلم، وبالتالي استعمار العالمين عدل وحق وواجب للغرب!
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بعشرة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية فتسهل المغالطة والزعم بأنهم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، وأجج من هذا ضعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم، وما كان شائعا من خفوت الوعي بأهمية تاريخ العلم، تراجع هذا الآن مع تنامي وتطور مباحث تاريخ العلم، والتطور الذي لحق بفلسفة العلوم خصوصا بعد كتاب توماس كون «بنية الثورات العلمية» (1962م)، فباتت تسلم بأن حاضر العلم لا يفهم بدون ماضيه، وأن تاريخ العلم ضروري من أجل فهم ظاهرة العلم فهما حقيقيا أكمل، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم ومنهجه عبر الحضارات.
في المنظور التكاملي يبدو النموذج العلمي الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدة منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، لا سيما مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطويرا له. أقر عدد من العقليات العظمى في حضارة الإغريق أمثال: هيرودوت أبو التاريخ، وطاليس أول الفلاسفة، والفيلسوف العظيم أفلاطون شيخ المثالية، وهيبوقراط، وسواهم بأنهم زاروا طيبة وبابليون، أي مركز الحضارتين الفرعونية والبابلية، وتعلموا منهما، ومثلت مصر القديمة بالذات مثلا أعلى ماثلا أمام الإغريق.
وكان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني؛ فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية، أغفل الجوانب المنهجية النظرية والاستدلالية، فإن العلم الإغريقي قد فعل العكس تماما، اهتم بالنظري والبرهاني دونا عن التجريبي والتطبيقي. وكان الفضل العظيم للإغريق في صياغة الأصول النظرية العقلانية للمنهجية، وهيكل التفكير البرهاني الاستدلالي، وتقنين مفاهيم من قبيل القانون والنظرية والحجة والبينة، على الإجمال شق الطريق نحو بلورة مثل المنهج العلمي وإرساء أسسه العقلانية.
ثمة أيضا فروض خصيبة طرحها بعضهم، خصوصا الفلاسفة القبل سقراطيين الذين بدأت معهم الفلسفة الغربية بدايتها الحاسمة المعتمدة، وتحديدا مع فلاسفة المدرسة الملطية نسبة إلى مدينة مليتوس على ساحل إيونيا بآسيا الصغرى (تركيا الآن)، الذي سكنه قوم من الإغريق وظهر فيها رائدهم طاليس أول الفلاسفة جميعا. السؤال المحوري الذي دارت حوله المدرسة الملطية والفلاسفة القبل سقراطيين عموما، هو السؤال عن «الأرخي»؛ أي المادة الخام التي صنعت منها الطبيعة أو المبدأ المادي الأول الذي يرتد إليه العالم المحسوس بأسره. قال طاليس إن الماء هو أصل الأشياء جميعا، وتبعه تلميذه أنكسماندر الذي قال إن «الأبيرون» أو عنصرا هيوليا غير محدد وغير متعين هو أصل الأشياء، ثم جاء أنكسيمنس ليقول بالهواء. أما فيثاغورث الذي ظهر في القرن السادس ق.م باذخ العطاء، ويصغر طاليس بثلاثين عاما، فقد قال إن العدد هو أصل الأشياء جميعا، وقام بدوره المبدئي المبكر في ترييض التفكير العلمي ومنهجه.
كان آينشتين في القرن العشرين لا يزال مبهورا بنظرية فيثاغورث الشهيرة، على أن الجانب التجريبي الصريح الذي هو عماد للمنهج العلمي، قد تراجع إلى حد كبير مع الحضارة الإغريقية في مرحلتها الهلينية أو اليونانية الخالصة التي استمرت حتى رحيل أرسطو. احتقر هؤلاء عالم الطبيعة التجريبي أو بتعبير أرسطو عالم ما تحت فلك القمر، ولكنهم على أي حال قاموا بدورهم الحضاري المشهود في صياغة الأسس النظرية المعرفية للاستدلال العقلي ولمفهوم المنهج العلمي. (4) في العصر السكندري
العصر السكندري مرحلة استثنائية فذة حقا، كان مسرحها مدينة الإسكندرية في ساحل مصر الشمالي، إبان القرون الثلاثة السابقة على ميلاد المسيح؛ حيث صيغ نموذج واعد، يجمع الجانبين: العلم والتقانة، من حيث يجمع دعامتي المنهج العلمي: النظرية والتجربة؛ فقد انصهرت فيها العقلانية الإغريقية مع الحكمة والخبرة المصريتين الخصيبتين.
إنها المرحلة الهلينستية، مرحلة تداخل الحضارة الهلينية؛ أي الإغريقية الخالصة السابقة، مع حضارات الشرق، وذلك حين أسس الإسكندر الأكبر إمبراطوريته التي تضم العالم القديم بأسره تقريبا، وأنشأ عدة مدن تحمل اسم الإسكندرية على رأسها إسكندرية مصر، أنشئت العام 323ق.م في موقع قرية مصرية قديمة تسمى «راقودة»، وبعد رحيل الإسكندر المفاجئ، جرى تقسيم إمبراطوريته بين قواده، وكانت مصر من نصيب بطليموس سوتير، ليبدأ عصر البطالمة فيها. وقد بذل بطليموس الأول جهده ليجعل منها مركزا للعلم، أنشأ فيها أكاديمية ملحقا بها متحف ومكتبة، وسرعان ما باتت تضاهي مدارس الفلسفة في أثينا، وانضم إليها مجمع حكماء عين شمس حاملو الميراث المصري، والذين فيما سبق كانوا قد علموا فيثاغورث وطاليس وأفلاطون، حين ارتحل هؤلاء إلى مصر طلبا للعلم.
أغدق بطليموس الثاني إغداقا باذخا على المكتبة الشهيرة، فجعلها كعبة العلماء والباحثين آنذاك. وورثت الإسكندرية عرش أثينا كمركز للعقل والمعرفة والعلم، وقدمت نموذجا معرفيا تفوق على النموذج الهيليني، من حيث اكتمال جانبي المنهج العلمي فيه، وفاقتها بما لا يضاهى في التقانة (التكنولوجيا) وصنع الآلات، وحسبنا أن نذكر اسم التكنولوجي الرائد هيرو السكندري (+50ق.م )، اخترع العديد من الآلات وترك أبحاثا في الرياضيات وعلم المساحة والميكانيكا والبصريات والفيزياء الجوية.
حتى الرياضيات مجد أثينا العظيم قطعت في الإسكندرية خطى تقدمية واسعة، وأحرزت على يد إقليدس كمالا لا يزال مثالا يحتذى للمنهج الاستنباطي المنتج في الرياضيات. اكتملت نسقية الهندسة على يديه في كتابه «الأصول» أو أصول الهندسة الذي يتصدر قائمة الكتب التي شهدت طباعة أكبر عدد من النسخ في التاريخ. واستؤنفت المسيرة بهندسة المجسمات، والقطوع المخروطية مع هيبسكليس وأبولونيوس وسواهما. وارتبط بهذا تقدم في الجغرافيا والطب والفيزياء. وفي الفلك قدمت الإسكندرية نظريتين معالجتين رياضيا، الأولى لأرسطارخوس الساموسي (توفي قرابة 230ق.م)، على أساس من مركزية الشمس، والأخرى لبطليموس على أساس من مركزية الأرض. ولأسباب كثيرة، قدرت لمركزية الأرض البطلمية السيادة طوال العصور الوسطى.
يوازي هذا نضج ملحوظ في علوم الجغرافيا. ظهر إراتوستينيز (توفي 194ق.م)، الذي يوصف بأنه إمام الجغرافيين في العصر القديم، حاول ابتكار طريقة لقياس محيط الأرض وقطرها. وفي الطب يكفي اسم العلمين أبقراط وجالينوس؛ فقد نالت علوم الحياة أيضا حظا عظيما من العناية في مكتبة الإسكندرية ومتحفها، والذي لم يكن متحفا بالمفهوم الحديث، بل هو بهذا المفهوم أول جامعة في العالم، وشاهد على أن الإسكندرية كانت من معاقل ممارسة المنهج العلمي كمنهج معرفي تجريبي. كان جاليليو (1564-1642م) من أعظم آباء العالم الحديث، ويقف كعلامة فارقة في مسار تطور المنهج العلمي، قال قولته الشهيرة: «كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات»، وجاهر بأن إنجازاته ما كانت لتتاح دون إنجازات أرشميدس (+212ق.م)، في ذلك العصر السكندري الزاخر؛ فهو الذي علمه التآزر المثمر الولود بين الرياضيات ووقائع التجريب؛ أي علمه أصوليات المنهج العلمي. لقد كان أرشميدس في طليعة الآباء العظام، الذين قدمت ممارساتهم صورة مبكرة وناضجة للمنهج العلمي.
على الإجمال، يعد مؤرخو العلم المرحلة السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم القديم، حتى يراها بعضهم تقف على قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرن السادس عشر. •••
المرحلة السكندرية أعقبتها الفلسفة الرومانية التي امتدت حتى القرن الخامس الميلادي الذي يعد نهاية عصر الفلسفة القديمة، ما بعده يعرف بالمرحلة الوسيطة أو العصور الوسطى؛ حيث إنها تتوسط نهضتين هما مرحلتان مشرقتان في الحضارة الغربية الأوروبية، الأولى مع الإغريق والثانية هي عصر النهضة والعصر الحديث. أما العصور الوسطى الأوروبية ذاتها، فكانت مرحلة مظلمة، يواكبها زمانيا مرحلة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
في أقل من مائة عام طوقت الفتوحات الإسلامية شواطئ البحر المتوسط، من أقصى شماله الشرقي إلى أقصى جنوبه الغربي ومضيق جبل طارق، وكاد يتحول إلى بحيرة عربية تجوبها الألوية والصواري الإسلامية. ولما كان ثبج البحر آنذاك هو وسيلة الاتصال بين أرجاء المعمورة، فقد اختنقت أوروبا ودخلت في ليل العصور الوسطى، التي كانت شمسها غاربة عن الغرب ومشرقة في الشرق؛ فكانت الحضارة الإسلامية هي التي حملت آنذاك لواء التجريب والمنهج العلمي في تلك الحقبة من تاريخ البشر.
الفصل السابع
من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث
(1) ملامح حضارة ناهضة
بلغت البشرية عصرها الحديث ومرحلة العلم الحديث عبر وبفضل المرحلة التي تعرف باسم مرحلة تاريخ العلوم عند العرب في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية،
1
وهي مرحلة تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر، لكنها في واقع الأمر تملأ الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر إبان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.
مرحلة تاريخ العلوم عند العرب أهم مراحل العلم القديم طرا، ذروته وتاجه؛ حيث صياغة مفهوم المنهج العلمي وآلياته الإجرائية، متميزة وواضحة لأول مرة في التاريخ، كنظرية وكواقع وكممارسة، ناشئة عن النموذج المعرفي الشامل، ومتفاعلة مع الإطار الحضاري، وتتميز هذه المرحلة بوضعية خاصة للقيم وتوليد لإيجابيات قيمية علمية، بفضل تفعيل حي للعوامل السوسيولوجية والثقافية.
لم يكن الأمر تنضيد إجرائيات المنهج العلمي فحسب، بل تكامل المنهج العلمي بقيمه الإيجابية الدافعة. كانت الحضارة الإسلامية مهيأة لذلك؛ لأن عالم الشهادة، العالم التجريبي، الطبيعة، ليس مصدرا للدنس والخطيئة، كما كان الأمر في المسيحية، بل هي في علم أصول الدين/علم الكلام «عالم»؛ أي علامة دالة على وجود الله، واحتلت الطبيعة موضعها على مسرح الحضارة الإسلامية.
2
إنها حضارة مركزها النص الديني الذي احتوى آيات بينات دافعة إلى النظر العقلي في الكون وفي الحياة وفي الأنفس، توجه مباشرة صوب الطبيعة، صوب العالم التجريبي. لقد كانت دافعية الممارسة العلمية أصلا ثاوية في آيات القرآن.
ترامت الإمبراطورية الإسلامية الناهضة التي لعبت «المدينة» فيها دورا أكبر، وضمت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس ومناطق شاسعة في أواسط آسيا. وحتى الصين التي لم يفتحها العرب ولم يطئها جندي مسلم واحد، تكفلت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب، وأصبح في متناول أيديهم كل التراث العلمي السابق عليهم تقريبا، في الحضارات الشرقية القديمة والتراث الإغريقي والسكندري، ليتفاعل مع تفتحهم الذهني وتسامحهم العقلي، وعوامل شتى في حضارتهم التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملل والأجناس الشتى، فتشكلت أهم مراحل العلم القديم وأنضج صياغاته وممارساته للمنهجية العلمية، وكانت حركة الترجمة والبحث تتم بمباركة السلطة وكرمها الباذخ أحيانا. يقول ج. كراوثر: «وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعا بالنسبة إليهم على قدم المساواة، وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين، أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث.»
3
لقد كان النموذج العلمي المنهجي في الحضارة العربية الإسلامية «عالميا بمنابعه ومصادره، عالميا بتطوراته وامتداداته»،
4
امتلك وسائل التأثر والتأثير، لغته العربية وحدت العلم ولم تعد لغة شعب أو أمة تضم شعوبا ولغات، بل هي لغة المعارف العقلية، كأول لغة علمية عالمية.
حمل النموذج الإسلامي للبشرية درسا ثمينا في فضائل النزعة الإنسانية، والتكامل والتفتح والتسامح المعرفي، وهي قيم أساسية للمنهج العلمي كمنهج بحث. في العلم الغربي الحديث انفصل المنهج انفصالا بائنا عن القيم والأخلاق، وفي العقود الأخيرة ألحت «أخلاقيات العلم»
5
والبحث العلمي، وباتت في صدر الأولويات، بينما تميز منهج البحث العلمي في الإطار الإسلامي، بأنه تأتى في إطار توجه أخلاقي مثالي عام، ولم ينفصل العلم عن القيمة. •••
لم يكن للعرب قبل الإسلام باع في العلوم الرياضية والتجريبية، إنها ليست كالشعر بل كالفلسفة؛ أي نتيجة لمعلول مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى، التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل العوامل السوسيولوجية؛ فشهدت الرياضيات والعلوم في الحضارة الإسلامية، المرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية؛ أي مرحلة الترجمة والنقل، ومرحلة الإسهام والإبداع، ولم تكونا مرحلتين منفصلتين متعاقبتين آليا، بل - بالأحرى - قوتين علميتين متفاعلتين، فيما سمي جدلية البحث والترجمة.
في الترجمة مثل النموذج الإسلامي درسا منهجيا في التفاعل الخلاق المبدع حين نقل المشترك الإنساني العام، الترحيب بالعلم استحسانا للحق حيثما كان أو - كما يقول الكندي - «من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة». لم يبدأ رفض الآخر مثل رفض بعض الأصوليين للمنطق واعتبار العلم دخيلا، إلا في فترات الانهيار تحت وطأة غزو الآخر وسقوط بغداد العام 656ه. وفي طلب الحق دأب الإسلاميون على ترجمة النص الواحد المهم مرة واثنتين وثلاثا، تنقيحا وتجويدا وتطويرا لمفردات اللغة العلمية. المترجمون الأوائل هم الذين قاموا ببناء اللغة العلمية العربية. كانت الترجمة إلى العربية تتقصى نقل أكثر الأبحاث تقدما في ذلك العصر، وكما يقول رشدي راشد، وهو الحجة في تاريخ الرياضيات الوسيطة، لم يكن هذا «نقل نسخ وتقليد واستيعاب، لكنه كان نقل إصلاح وتجديد، أدى إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر»، كانت أسسه العقائدية واللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية قد ترسخت. سرعان ما أصبحت الترجمة مهنة علمية ومؤسسة شهدت المترجم الهاوي والمترجم المحترف والمترجم-العالم، ثم العالم- المترجم، إنها «جدلية البحث والترجمة»؛ فكان ثمة ترجمة مرافقة للبحث وفي عين حقله، والترجمة التي لحقت بالبحث مع مثول مسافة زمنية بينهما، وتنتهي إلى دمج النص المترجم في تقليد مختلف عن مجاله الأساسي، مثل ترجمة «كتاب المسائل لديوفانطس السكندري» بمصطلحات الخوارزمي الجبرية . بدأ التخصص وزاد عدد المتخصصين، مما أدى إلى تكوين مجتمع من العلماء والمثقفين، في حاجة إلى معارف جديدة في الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك وعلوم الهندسة والزراعة، ترافق مع هذا توحيد وتعريب وأسلمة الإمبراطورية وأجهزتها الإدارية، منذ عصر الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قام بتعريب الديوان، وصك العملة العربية بدلا من العملة اليونانية. ولدت متطلبات إدارة السلطة وظائف الكاتب والمحتسب وغيرهما التي تتطلب ثقافة عامة. تزايد الطلب على علوم الأوائل، وتزايدت الحاجة إلى الترجمة.
6
وقد دفع هذا الواقع الموار إلى ترجمة النصوص المعرفية النخبوبة، وأيضا إلى ترجمة ما يتصل بالجوانب التطبيقية والتقانية أو فروع الهندسة العملية والتقنيات الزراعية، فأينعت في الحضارة الإسلامية علوم رياضية وتطبيقية من قبيل علم المساحة، وعلم الحيل المتحركة، وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه، وعلوم تجريبية كعلوم الطب والجراحة والصيدلة والبيطرة والزراعة. (2) في الرياضيات
تظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي الممنهج وأرقى أشكال التفكير المنهجي الممنطق، والمدخل الحق للطرح المنهجي العلمي. وقد لعب العرب دورا كبيرا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها، وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة. أخذ العرب بتصنيف الإغريق للمباحث الرياضية، فانقسمت الرياضيات العربية إلى أربعة علوم أساسية هي: الحساب، والهندسة والفلك (علم الهيئة)، والموسيقى، وتتفرع فروعا عدة، ويعد الجبر - إنجاز الرياضيات العربية الأعظم - امتدادا أو فرعا للحساب.
ولم يكن إسهام العرب فصلا مثيرا في قصة العلم الرياضي فحسب، بل أيضا في فلسفة الرياضيات، كما يوضح مثلا بحثهم العلاقة بين التصور والبرهنة من خلال مفهوم اللامتناهي في الصغر في إطار هندسة المخروطات.
7
بدأت قصة الرياضيات العربية حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات» أي «مقالة الأفلاك» التي عرفها العرب باسم «السندهند»، وهي موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، وتتألف من جزأين، أحدهما عن الأزياج؛ أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول، حملها إلى بغداد عام 153ه/770م العالم الهندي كنكه، فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت796م)، وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت777م). كانت «السدهانات» أو «السندهند» فاتحة الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية، تنامت فيما بعد عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصا على يد اثنين من أكبر الرياضيين العرب هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند.
لم تشف «السندهند» غليل العقلية العربية الناهضة المتشوفة آنذاك، فأمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب إقليدس «أصول الهندسة» ليكون أول ما ترجم من كتب اليونان، وأيضا البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة، وإلى تفكير الحجة البرهاني وإلى الاستدلال الاستنباطي الرياضياتي، مأثرة الإغريق العظمى.
اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من سواها من مباحث العلوم العقلية، وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي، وضعها الكندي (184-250ه) - أول الفلاسفة الإسلاميين - كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تنال الفلسفة إلا بالرياضيات»، وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلا عن تسعة عشر في النجوم. وإذا كان ابن سينا (370-428ه) - الشيخ الرئيس - يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات، وبعدها تأتي الرياضيات وأخيرا الإلهيات، فهذا يعكس مسار العقل وتدرج خطاه؛ فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، وصنف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسية، وهي العدد والهندسة والهيئة (الفلك) والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضة الفرعية؛ فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة تتفرغ علوم الهندسة العملية التقانية، أما علم الهيئة فيتفرغ عنه علم الأزياج والتقاويم، ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة. ونلاحظ في هذا تكامل العلم النظري والعلم التطبيقي، سلم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية، بوصفها مبرهنات يقينية، لا بد أن تحتل موقعها في بنية العقل، وحتى الإمام الغزالي حين صب جام غضبه على العقلانية وعلوم العقل، استثنى الرياضيات وقال إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه ينكر الرياضيات، فظلت الرياضيات دائما «لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها»
8
بتعبير الغزالي.
أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم، تناميا يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي، لتقوم الجوانب السوسيولوجية بدورها، إنها جوانب من قبيل اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع، ثم نظام المواريث الإسلامي المعقد، بعض مؤرخي العلم أمثال جوان فرنيه
Juan Vernet ، يرون القرآن نقطة البدء في الرياضيات العربية بسبب هذا النظام. وثمة أيضا تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها، ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي، الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشكلات حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة، هذا فضلا عن مشكلات عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.
وكان تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية، يدفع الإسلاميين إلى اهتمام مكثف بالفلك (الهيئة)، خصوصا وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية، التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقا لمواسم الحصاد، والمحصلة أن استطاع العرب تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض.
وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر في «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة»، الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامي 813-833م؛ أي في عهد الخليفة المأمون، و«لأول مرة في التاريخ صيغت كلمة «جبر»، وظهرت تحت عنوان يدل به على علم، لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خص به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصور لمفردات تقنية جديدة معدة للدلالة على الأشياء والعمليات».
9
ويحتفظ «الجبر» حتى الآن باسمه العربي في اللغات الشتى، منذ أن ترجم روبرت أوف شستر كتاب الخوارزمي في عام 1245م ناقلا المصطلح العربي كما هو إلى اللغة الأوروبية؛ لأنه ليس له مقابل عرفوه من قبل.
بطبيعة الحال تباشير الجبر كائنة منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، جميعها مجرد إرهاصات، وأهمها كتاب «المسائل العددية» لديوفانطس السكندري، وهو أول رياضياتي يعترف بالكسور كالأعداد، وأول من تناول المعادلات البسيطة من الدرجة الأولى، ومعادلات الدرجة الثانية ومعادلات من رتبة أعلى، على أن أسلوبه كان غير فعال وطرقه غير دقيقة؛ فلم يكن إلا مبشرا.
10
أما «الجبر والمقابلة» فيلقي أسس العلم بصورة منهجية ناضجة قابلة للنماء، يعرض المنهج المنظم لحل معادلات الدرجة الثانية وسواها، الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات بحيث يستبعد منها العدد السالب ، بينما تمثل المقابلة طريقة لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كميات متساوية. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم «الجذر»، إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيا تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم «المال». انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية، وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه، لا شرقي ولا غربي، فقطع شوطا يفصله كثيرا عن ديوفانطس، ويحق له القول إن كل ما يتعلق بالجبر «لا بد أن يخرجك إلى أحد الأبواب الستة، التي وضعتها في كتابي هذا.»
11
لم يتوان المعاصرون للخوارزمي والتالون له، عن شرح وتفسير كتابه، خصوصا أبا كامل شجاع بن أسلم الذي أضاف فصلا، وثابت ابن قرة، ومنصور بن عراق الجيلي، وأبا الوفا البوزجاني، وسنان بن الفتح الصيداني ... وسواهم. شهد الجبر قفزة تالية مع عمر الخيام، الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة، وتدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، و«راحوا يطبقون الجبر على الحساب، والحساب على الجبر، وكليهما على حساب المثلثات، وكذلك طبقوا الجبر على نظرية الأعداد لإقليدس، وعلى الهندسة، كما طبقوا الهندسة على الجبر. وضعت هذه التطبيقات أسس فروع أو على الأقل مباحث جديدة»،
12
لم ترد من قبل للإغريق أو لسواهم، تغيرت معها الرياضيات في لغتها وتقنياتها ومعاييرها، واتسع أفقها.
لم يكن تأسيس علم الجبر مجرد إضافة علم إلى العلوم، بل تأسيسا لمنهجية متكاملة ونموذج ثوري بكل معنى قصده توماس كون في فلسفته للثورات العلمية. من حيث تكامل هذا النموذج مع الإطار المعرفي، بين رشدي راشد في تحقيقه لكتاب الخوارزمي، ما تدين به نشأة هذا العلم الجديد إلى علم اللغة وإلى حساب الفرائض في الفقه الحنفي، بخلاف العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها. ومن حيث تاريخ تطور المنهجية العلمية، حدث ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية، لم تنتقل إلى العلم الحديث فحسب بل ميزته تمييزا، «تأسست في الفترة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر، على يد علماء عاشوا في بقاع متباعدة، من إسبانيا المسلمة حتى الصين، وكتبوا جميعا باللغة العربية».
13
كان الجبر هو النواة العقلية لتلك الحداثة،
14
أتاح نشأة استراتيجيات ذهنية جديدة تأدت للعقلانية الجديدة، التي كانت مقدمة شرطية لما سمي بعقلانية العلم الحديث. •••
ظهر كتاب الجبر والمقابلة في نفس وقت ظهور ترجمة كتاب «الأصول لإقليدس»، الصرح الأعظم للهندسة. كان الحجاج ابن يوسف قد ترجم بعض أجزائه من اللغة السريانية إلى العربية، وعلى مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها، كوكبة من ألمع المترجمين الرياضيين. وفتح الأصول شهية العرب للرياضيات البرهانية، بمنهجها الاستنباطي المنتج خصوصا في عصرها الذهبي - العصر السكندري - فتوالت دفعة واحدة ترجمة العديد من أمهات هذا التراث، ولعل أهمها كتاب أبلونيوس (190-260ق.م تقريبا) «القطوع المخروطية»، الذي ترجم إلى العربية في عصر المأمون تحت اسم «المخروطات». ولأن أصول إقليدس معنية بهندسة المسطحات، فإن اقتحام عالم المجسمات والقطوع المخروطية كان مرحلة جديدة، ارتقى إليها المنهج الرياضي والعقل الهندسي في الحضارة الإسلامية، وأسدى إليها وأبدع فيها. وكشأن «الأصول» نجد كوكبة من المترجمين الرياضيين في الحضارة الإسلامية، ومن أجيال متعاقبة توالت على ترجمة كتاب «المخروطات» لأبلونيوس، ومراجعة الترجمات وتنقيحها، وأيضا كشأن «الأصول» قل أن يمر رياضياتي عربي، بغير أن يصنف رسالة في «المخروطات».
على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، تقدمت الرياضيات العربية بنشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسا. وعلى مفترق الطرق بين الجبر والهندسة، صانت للبشرية هذا السفر الثمين «القطوع المخروطية لأبلونيوس»، والذي يقف كعامل جوهري لنشأة الهندسة التحليلية في القرن السابع عشر مع فرما وديكارت. تقدم الهندسة التحليلية طرقا أعمق من طريقة أبلونيوس، وتوضح وحدة القطوع المخروطية بطريقة أبسط؛ إذ تمثلها بمعادلات من الدرجة الثانية بمجهولين، فلا يعد كتاب أبلونيوس أو شروحه من لدن نصير الدين الطوسي وإبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم مجدية في الوقت الحاضر، بيد أن هذا الكتاب يحتفظ بدور خطير في تاريخ الرياضيات وتطور مساراتها.
15 (3) في ترييض الفيزياء
إذا كان أخطر أسرار نجاح العلم الحديث التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب، فإن أخطر ما في الرياضيات العربية، أنها أبانت عن ضرورة تأسيس علاقات جديدة بينها وبين الفيزياء، كمكون منهجي من مكونات البرهان، فيما يشي بتآزر قطبي المنهج العلمي. وهذا ما أثبتته دراسات لرشدي راشد أهمها «علم المناظر والرياضيات» (1992م)، و«الهندسة وعلم انكسار الضوء في القرن العاشر: ابن سهل، القوهي، ابن الهيثم» (1996م)، و«بين الرياضيات والمناظر - من علم الانكسار إلى الهندسة: ابن سهل، ابن الهيثم، ديكارت» (2011م). أوضح راشد أن الحسن بن الهيثم (ت430ه) أول عالم يرفض اعتبار المفاهيم وحدها كافية لمعرفة الأشياء المادية، ورأى أن إمكانية معرفتها الحقيقية تكمن في رياضياتها، فيتجلى دوره الخطير في إعلان الترافق بين الرياضيات والفيزياء.
كان التجريب لا يزال مفهوما مبهما إلى حد ما، مثلما كان مع فرنسيس بيكون مثلا. اتخذ التجريب المسترشد بالرياضيات عند ابن الهيثم، فحوى مختلفا تماما عن مجرد الرصد، أو حتى القياسات الفلكية والتكميميات المعتادة. تعددت معاني التجريب ووظائفه عنده، بقدر تعدد العلاقات بين الرياضيات والفيزياء، وهو يؤسس لتلك العلاقات بمناهج متباينة، لم يعالجها كموضوع قائم بذاته، إلا أنها منبثة في أعماله، فاستطاع رشدي راشد تقنينها وتحليلها.
المساهمة الأساسية لابن الهيثم في مجال البصريات هي علم المناظر الهندسي. لقد انشغل بإصلاح علم البصريات ومراجعة مجالاته المختلفة: المناظر والظواهر الضوئية وانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها، والمرايا المحرقة وعلم البصريات الفيزيائي، ثم الجوانب والسيكولوجية والفيزيولوجية للبصريات، مستخدما الأساليب الهندسية والتجريب في كل المجالات. أنهى التقليد القديم مع إقليدس وبطليموس؛ حيث كانت الرؤية هي إضاءة الشيء المرئي، فلا فرق بين شروط الرؤية وشروط انتشار الضوء، أما ابن الهيثم فقد وضع تمييزا قاطعا بين فيزياء الضوء وبين فيزيولوجيا وسيكولوجيا الإبصار؛ الإبصار يخضع لقوانين الضوء وليس العكس.
يحمل علم الانكسار أو دراسة الأشعة المنكسرة، أمضى تطبيق للرياضيات على الفيزياء، الذي اتخذ عند ابن الهيثم «مناحي مختلفة تتفق ونضوج المفاهيم في كل فرع من فروع العلم، التي عالجها في عمله الضخم من جهة، كما يتوقف على إمكانية إخضاع الظاهرة إلى التجربة من جهة أخرى».
16
من هذه المناحي ما هو متعلق بتماثل البنيات، كما هو عليه الأمر في المناظر الهندسية بعد إصلاحها من قبله. وثمة منحى آخر هو تطبيق الرياضيات بواسطة علم آخر وضع على شكل رياضي «استخدام ترسيمة ميكانيكية في دراسة المناظر على سبيل المثال».
17
في علم البصريات الفيزيائي علاقة مع الرياضيات، عن طريق التماثل بين الرسومات الهندسية لحركة جسم ثقيل والرسومات الهندسية للانعكاس والانكسار، وتأدت رؤية ابن الهيثم إلى نوع آخر من التجريب المسترشد بالرياضيات، مارسه كمال الدين الفارسي (ت 710ه)، «حيث تنحو العلاقة بين الرياضيات والفيزياء نحو بناء نموذج، بحيث يختزل الضوء داخل وسط طبيعي - عن طريق الهندسة - إلى انتشاره داخل أداة مصنوعة، مما يعني أننا بصدد تعريف تناظر رياضي تمثيلي بين الطبيعي والأداة المصنوعة؛ مثال ذلك الكرة المملوءة بالماء لدراسة القوس قزح. ووظيفة التجريب هنا هي التعبير عن الشروط الفيزيائية لظاهرة ليس لدينا طريقة أخرى لدراستها مباشرة.»
18
تكمن حداثة مشروع ابن الهيثم في هذه الأشكال من التجريب المتريض - إن جاز التعبير، كانت آليات ضبط ومستويات وجود لمفاهيم إدراكية. هذا فضلا عن استهدافه الحصول على نتائج كمية، وابتدع من أجل ذلك أجهزة وتدابير معقدة. لقد أرسى ابن الهيثم دعائم اعتبار التجريب جزءا لا يتجزأ من البرهان الرياضي في الفيزياء، «والتسلسل الذي يبدأ بابن الهيثم ليصل إلى كبلر وغيره من علماء القرن السابع عشر ثابت؛ لهذا كانت المعرفة بالعلم العربي ضرورية حتى نتفهم الحداثة الكلاسيكية.»
19
أتى ابن الهيثم في مرحلة كانت الحضارة الإسلامية فيها قد قطعت شوطا، فاستقطب نضج المنهج العلمي فيها، وخلاف سر الأسرار أي الترييض، يمكن استخراج جواهر منهجية أخرى من لدنه، على رأسها رفض سلطة الكتابات القديمة، فيقول إن «طالب الحق ليس هو الناظر في كتب الأقدمين، المسترسل مع طبعه بحسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم.» ورأيناه يطيح بالرؤية القديمة لإقليدس وبطليموس. وثمة إرساء قواعد الشك المنهجي والنزاهة، وقاعدة النقد والتفنيد التي هي جوهر رؤية كارل بوبر. وقد استخرج ماهر عبد القادر من كتابات ابن الهيثم تحذيرا من أوهام مفضية إلى فساد البحث العلمي - كأوهام بيكون - وهي أوهام الرؤية وأوهام الاعتقاد وأوهام الظن.
20 (4) في العلوم التجريبية
تواتر عطاء التجريبيين الذين أطلق عليهم علماء الكلام اسم «الطبائعيين»؛ لأنهم يبحثون في طبائع الطبيعة. ثمة أسبقية زمانية لجابر بن حيان، جاء في القرن الثاني الهجري، ليكون في طليعتهم، إماما للكيمياء أو السيمياء القديمة، حتى سميت «علم جابر»، خرجت من أعطافه كيمياء العرب وكيمياء العصور الوسطى. وقال برتيلو: إن جابر له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق؛ أي إنه أسسها تأسيسا. علم العلماء منهجية العمل الدءوب في قلب المعمل حين البحث في العلم الطبيعي، على أساس أن الدربة؛ أي التجربة، هي أم الصنائع، وكمنهجية علمية منتجة معرفيا فإنها بدورها تحتاج إلى التحصيل العلمي، فيقول جابر صراحة: «إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم»، «ثم تقصد لتجرب فيكون في التجربة كمال العالم.»
21
إنه تكامل التحصيل العلمي والتجريب كمنهجية علمية ناضجة. وقد بحث جابر أشكال الاستدلال التجريبي: المجانسة ومجرى العادة والآثار.
22
وفي سياق البحوث التجريبية لن ينتهي الحديث بشأن الإنجازات المعروفة للعمل العربي في الطب والجراحة مع أمثال: الرازي، وابن سينا، وابن النفيس، وأستاذه مهذب الدين الدحوار ... والبيطرة والصيدلة والنبات ... إلخ. وهل يفوتنا ذكر البيروني (362-440ه) الذي قال عنه المستشرق الألماني إدوارد ساخاو بعد أن حقق بعض أعماله، إنه أعلم علماء العصور الوسطى طرا، ومن أعظم العقليات التي شهدها التاريخ، ذكرناه كرياضياتي، وقد كان أيضا مهندسا وفلكيا وعالما طبيعيا، ومنشغلا بالعلوم الإنسانية وتحديدا الجغرافيا وعلم الأديان المقارن.
23
وبصدد الإنسانيات والعلوم الاجتماعية يبدو ابن خلدون في غير حاجة للذكر.
كانت قد تكاملت في الحضارة العربية موسوعة للعلوم، مختلفة تماما عن الموسوعة الإغريقية الأسبق، عرض الفارابي في كتابه الشهير «إحصاء العلوم» لمعالمها، وبذل البعض جهودا لتوضيح أنها كانت تمهيدا لا غنى عنه لتصنيفات المحدثين.
24 (5) النقلة إلى العلم الحديث
وكما هو معروف عملت الحضارة الأوروبية في العصر المدرسي وعصر النهضة، على نقل وترجمة الحصيلة العلمية العربية في الرياضيات وفي العلوم وفي الطب والجراحة. انتقلت أدبيات العلم العربي، أسفاره المؤلفة والمترجمة، من عواصم الحضارة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة عن طريق التجار والرحالة. على أن العامل المستجد الحاسم كان العائدين من الحملات الصليبية حاملين الأسفار العلمية. واستفادت أوروبا كثيرا من مواطن التواصل المباشر مع الحضارة الإسلامية في حوض المتوسط مثل صقلية وسواها. وبطبيعة الحال قامت الأندلس التي مكث العرب فيها ثمانية قرون بدور خاص، اضطلعت طليطلة بترجمة أعمال ابن سينا في أواخر العصر المدرسي، وكانت جامعة بولونيا أول جامعة تتخذ كتابه «القانون في الطب» كتابا تعليميا، وفي أواخر عصر النهضة كان القانون يمثل نصف المقررات الطبية في الجامعات الفرنسية.
في هذه المرحلة كانت قد استقامت السينوية اللاتينية والرشدية اللاتينية، بمعنى مثول أعمال ابن سينا وابن رشد كقوة دافعة للحركة الفكرية في أوروبا. يتمثل تأثير ابن سينا في الراهب روجرز بيكون (1214-1294م)، الذي تميز بنزعة علمية تجريبية قوية لم يستسغها تماما الوسط المدرسي في أوروبا. أما الرشدية بما تعنيه من عقلانية وانتصار للتفكير البرهاني، فقد كثر الحديث عنها كعامل قوي من عوامل النهضة والحداثة في أوروبا.
في تاريخ العلم مثلت قرطبة مركزا من أهم مراكز العلم العربي في الأندلس، وكانت تعج بمدارس الرياضيات العربية، التي سهل انتقالها إلى أوروبا على يد المستعربين. يتقدم إدلارد الباثي الذي أتقن اللغة العربية ودرس في قرطبة، وترجم «أصول الهندسة» لإقليدس قرابة عام 1120م من العربية إلى اللاتينية، وظلت هذه الترجمة تدرس في مدارس أوروبا حتى عام 1583م، حين تم اكتشاف الأصل اليوناني.
25
أما السفر الهندسي الثمين الآخر؛ أي القطوع المخروطية لأبولونيوس، فقد فقد الأصل الإغريقي تماما، ولم يبق للبشرية وللنهضة الأوروبية الحديثة إلا الترجمة العربية، انتقلت إلى أوروبا واستفاد منها يوهانس كبلر عام 1609م، وطبقها في الميكانيكا السماوية، التي أحرزت معه ثورة تقدمية، طبعا بخلاف ترجمات جبر الخوارزمي. وتوالت ترجمات العلوم التجريبية، خصوصا أعمال الحسن بن الهيثم، الذي عرف في أوروبا باسم الهازن، ومن قبله جابر بن حيان وسواهما. وحظيت كتب الطب والجراحة مع ابن سينا والرازي والزهراوي ... باهتمام خاص، في ترجماتها وفي تدريسها بجامعات أوروبا في عصر النهضة وحتى مشارف العصر الحديث. •••
هكذا يمثل الرصيد العلمي العربي، الذي تسارعت عمليات نقل أدبياته المترجمة والمؤلفة إلى اللغة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر، أهم المقدمات التي تمخضت عن ثورة العلم الحديث في أوروبا.
وفي ذخائر هذا الرصيد، ثمة واقعة محددة لا بد أن توقف بإزائها، على أساس أن العلم الحديث يبدأ كوزمولوجيا وإبستمولوجيا بكتاب كوبرنيقوس «دوران الكرات السماوية» (1543م)، هذا الكتاب حمل صياغة رياضية لنظرية أرسطارخوس القائلة بمركزية الشمس، بدلا من نظرية بطليموس القائلة بمركزية الأرض التي كانت سائدة. سادت النظرية البطلمية طوال العصور الوسطى، وعن طريق إزاحتها والأخذ بمركزية الشمس استقام تصور الكون، مجمل العالم الفيزيقي لتبدأ ملحمة العلم الحديث على أسس أمتن. الواقعة المحددة المقصودة تتعلق بالخروج من أطر البطلمية، لتؤكد بشكل مباشر كيف كان البحث العلمي عند العرب مفضيا إلى مرحلة العلم الحديث، وقد أسرف توبي هف
T. E. Huff
في التعويل عليها وتأكيدها، وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث.
إنها واقعة خاصة بمرصد «مراغة» الكائنة الآن في حدود إيران، استطاع العاملون فيه، خصوصا إبان القرنين الثالث عشر والرابع عشر، التوصل إلى ابتكار أول نظام فلكي غير بطلمي، منهم: الأزدي (ت1261م)، والطوسي (ت1279م)، وقطب الدين الشيرازي (ت1279م)، وأههم جميعا ابن الشاطر (ت1375م). ويؤكد توبي هف تأكيدا مشددا، أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظر بين نماذج كوبرنيقوس ونماذج مرصد مراغة، بحيث ينتهي إلى أن السؤال الذي بحثه نفر من مؤرخي العلم الحديث ليس عما إذا كان، وإنما متى وأين تعلم كوبرنيقوس نظرية مراغة؟ وقد كان دبلوماسيا كثير التجوال والاطلاع على ما لدى الآخرين . يقول توبي هف:
وشد ما هو ذو دلالة خطيرة فعلا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا. لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها، ليس هذا فحسب، بل أيضا طوروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي، علاوة على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر، وتمخض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيرا ما توصف بأنها باكورة النماذج اللابطلمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث، وهي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعد، لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أي عوامل علمية أخرى، العامل الوحيد المفتقد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس، وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية، من كون مركزه الأرض إلى كون مركزه الشمس، هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلق إلى الكون المفتوح.
26
وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت النقلة الكبرى وبداية نسق العلم الحديث والعصر الحديث في أوروبا، وأحدثت هذه القارة العجوز أبرز قفزة معرفية في تاريخها، وفي تاريخ العالم بأسره. •••
في استطلاع أبعاد هذه القفزة المعرفية أو النقلة إلى العلم الحديث، رأينا كيف شهدت العصور الوسطى الحضارة الإسلامية، وهي تخوض ملحمتها مع العلم الرياضي والتجريبي، من حيث كانت حضارة متصالحة مع الطبيعة. وتبقى الإشارة إلى أن الطبيعة كانت آنذاك تعاني إقصاء وتهميشا في الحضارة الغربية.
وعلى مسرح الأحداث في الحضارة الأوروبية نعود إلى الوراء، لنجد أصولها الإغريقية قد دأبت على تحقير العمل وتمجيد النظر، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار، المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة! وهذا ما جسده بمنطقه الذي يعد القياس ثمرته. القياس الأرسطي منهج استنباط النتائج الجزئية من المقدمات الكلية المطروحة، اعتمادا على قوانين العقل والمنطق فقط، دون التجاء للواقع أو التجريب. وفي العصور الوسطى المدرسية بدا للسلطة الكنسية أن هذا ملائم للتعامل مع الكتب المقدسة؛ فهي زاخرة بحقائق مسلم بصحتها، لنتوصل إلى النتائج الضرورية لها بواسطة القياس. أصبح منطق أرسطو وقياسه منهج البحث المعتمد في العصور الوسطى، وسمي هذا المنطق «الأورجانون»
Organon
أي الأداة، أداة التفكير وآلة الاستدلال والبحث.
وكما يقول توب هف، حتى بدايات القرن السابع عشر كانت الهيئات الجامعية، تفرض غرامة على خريجيها وأساتذتها قدرها خمسة شلنات، مقابل كل نقطة افتراق عن أرسطو أو عدم التزام بمنطقه. وإذا أضفنا إلى هذا دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة، واعتبارها أصلا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها؛ أي تنافر عقائدها اللاهوتية مع الطبيعة، تبين لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد أكدها في أوروبا طوال العصور الوسطى، أن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن ملحا، ولم يكن ثمة دواع قوية للحث على استكشافها، وتكاتف هذا مع عوامل عديدة، جعلت العصور الوسطى الأوروبية ينقشع عنها نور العلم والبحث العلمي.
ثم كانت الكشوف الجغرافية التي أخبرت إنسان عصر النهضة في نهايات القرن الخامس عشر، أن العالم الطبيعي أوسع كثيرا مما تصور أرسطو، ومن كل ما تضمنته الصحائف وكتب الأقدمين التي كانت تقف عند مضيق جبل طارق غربا، وما بعده بحر الظلمات وخط الاستواء جنوبا، فضلا عن أن الكوبرنيقية أدت إلى تصويب النظرة الفلكية ليبدو الكون الطبيعي بأسره هو الآخر أوسع كثيرا. بدت الطبيعة عالما مثيرا يغري بالكشف واقتحام المجهول. ومع نهايات القرن السادس عشر كان السؤال عن الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة، وأوشك أن يكون سؤال العصر الذي تنشغل به العقول.
وسرعان ما توالت المتغيرات على الأصعدة كافة، الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري ... وظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تغير من وجه الحياة، وراحت العقول الواعدة تتلمس الجديد من كشوف العالم الطبيعي. طغى الإحساس بعقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتسم به القياس من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص، هو أنه أسهم مع الأناجيل في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسبب من مجافاته للواقع؛ إذ إنه منطق لتناول قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق، وكانت الثورة على قياس أرسطو ومنطقه بمثابة الإعلان الصريح عن رفض الماضي، والرغبة في الإقبال بمجامع النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف الطبيعة، هذا العالم النابض الذي امتد وترامت آفاقه أمام إنسان العصر الحديث.
أصبح الهم الفلسفي الأول صياغة منهج حديث يلائم الروح الحديثة، ويلبي المتطلبات المعرفية المستجدة للعصر الحديث، وفي الطليعة يتقدم ديكارت (1596-1650م) الرائد، ليمثل العلامة الفارقة وانتهاء المدرسية وفلسفة العصور الوسطى، راح يؤسس الفلسفة الحديثة وهو يستلهم وضوح الرياضيات، ويقينها في محاولة لتأسيس المبادئ العامة للمعرفة بأسرها؛ أيضا أسس الهندسة التحليلية، وقام بدور في تطوير علم الطبيعة الحديث. وإذا أخذنا في الاعتبار أن قوة منهج العلم في تآزر التجريب مع الرياضيات، أمكن القول إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي، إنما يشارك في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.
على أن رفع لواء المنهج التجريبي تعبيرا عن روح العصر الحديث ومهمته وواجباته وطموحاته وعن معالم الحداثة ذاتها، إنما هو مقام محفوظ للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626م) الذي يوازي الفيلسوف الفرنسي ديكارت في الأهمية، حين طرح قضية المنهج والحداثة، ولا يوازيه أحد حين طرح قضية المنهج التجريبي والعلم الحديث.
لقد اقتحمت أوروبا آفاق الحداثة، وتربع المنهج العلمي على عرش العرفان، ومنذ ذلك الحين فصاعدا ترسخ نهائيا أن كل وأي حديث عن الحداثة والتحديث، مقترن بالضرورة بتمكين وتفعيل لمفهوم المنهج العلمي.
الفصل الثامن
المنهج العلمي والحداثة
(1) أورجانون العلم والعصر
في شريعة الفلسفة وأعرافها لا يجوز الخوض في مفهوم المنهج العلمي دون التوقف، كي نزجي التحية لفرنسيس بيكون. كان الأقدر على تجريد وتجسيد روح العصر الحديث المنطلقة بعنفوانها، واستقطاب سؤال العصر/سؤال الطبيعة، وصفها بأنها «المملكة الكبرى للمعرفة البشرية التي يستطيع الإنسان غزوها، والسيطرة عليها عن طريق التجريب»،
1
وهي الأم الكبرى للعلوم، وجذع شجرة المعرفة، ولا أمل في التقدم إلا بأن ترتد إليها العلوم جميعا، وتبني الدعوة لمنهج البحث المنصب عليها والملائم لها: المنهج التجريبي شريعة العلم، مؤكدا أنه «المنهج القويم الذي يقود البشر، من خلال أحراش التجربة إلى سهول تتسع لبداهات المعرفة».
2
اقترن اسم بيكون بعصر العلم الحديث، وعد وكأنه أبوه الشرعي الذي صاغ شهادة ميلاده الرسمية، حين أصدر كتابه الصغير «الأورجانون الجديد
Novum Organon »؛ أي «الأداة الجديدة» العام 1620م، في إشارة إلى أن أورجانون أرسطو بات أداة بالية، مؤكدا ضرورة التخلي عن التوقير غير المناسب للقديم، مستشهدا باكتشاف العالم الجديد تعبيرا عن أمله باتساع المعرفة، واكتشافها جديدا يتجاوز كل ما عرفه الأقدمون، اعتمادا على منهج التجريب، وقد أصبح الأورجانون الجديد درسا لا بد أن يردده كل مهتم بأمر مفهوم المنهج العلمي.
شارك بيكون رجالات عصره في الهجوم الضاري على عقم القياس الأرسطي، يقول عن الحاملين إياه: «لقد فقدوا غاية العلوم وهدفها، واختاروا طريقا خاطئا باتباعهم منهجا، ليس من شأنه أن يكشف جديدا من مبادئ المعرفة، ويكتفي باتساق النتائج مع بعضها، فليكف الناس عن التعجب من أن تيار العلوم لا يجري قدما في طريقه الصحيح؛ فقد ضللهم منهج البحث، الذي يهجر الخبرة التجريبية، ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنفسهم في دوائر مغلقة.»
3
وأعلن منهجا تجريبيا هو الضد الصريح للقياس الأرسطي؛ فكان حاملا لواء الانقلاب على الماضي والقطيعة مع العصور الوسطى، مجسدا معلم الحداثة الغربية وشرط إنجازها.
تتوالى فقرات «الأورجانون الجديد» منفصلة متتابعة ومرقمة، حاسمة موجزة ومكثفة، مصوغة بأسلوب بليغ عد من قمم النثر في عصره. تحمل هذه الفقرات تفصيل المنهج التجريبي. وقد جاء على جانبين أو قسمين: القسم الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنبها، والآخر إيجابي مختص بقواعد وإجرائيات التجريب، وقد أسماها «صيد بان»، تعبيرا عن سدادها ووفرة حصائلها؛ لأن «بان» هو إله الصيد عند الإغريق.
في الجانب السلبي تناول بيكون تلك الأخطاء بتعبيره: الأوهام أو الأوثان التي تصرف الذهن عن جادة الصواب، وقسمها إلى أربعة أنماط: أوثان القبيلة أو الجنس البشري، بأسره المتربصة بالعقل الإنساني عموما، مثل سرعة التعميم والتغاضي عن الأمثلة النافية، وأوثان الكهف وهي التي تأتي بفعل تأثير البيئة التي نشأ فيها الفرد، كأن يتصور المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائق مطلقة، وقد يقصر جهوده المعرفية على إثباتها. أما النوع الثالث من الأوهام أو الأوثان، فهو أوثان المسرح الناجمة عن الافتتان بممثلي الفكر القدامى، فيعيش معهم المتفرج أو الباحث وينعزل عن واقعه، وهذه أوثان تشتد وطأتها في ثقافتنا نحن. كان بيكون يقصد أرسطو تحديدا ولكن الممثلين البارعين كثر. وأخيرا ثمة أوثان السوق الناجمة عن الخلط اللغوي وعدم دقة التعبير، مثلما يحدث في السوق من ضجيج ومساومة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن فلسفات التحليل اللغوي، التي تهتم بتدقيق المعنى اللغوي من أبرز تيارات الفلسفة في القرن العشرين، أدركنا مدى ثقوب نظر بيكون في التنويه لأخطاء اللغة. والحق أن هذه الأوثان الأربعة، تقنينها وتوضيحها كي يحذرها العقل، إنما هي إضافة ولفتة ثاقبة من بيكون، مثمرة وصالحة لكل العصور، يراها البعض أهم وأبقى من الجانب الإيجابي، الذي يحمل تخطيطا لإجراءات المنهج التجريبي، ويحمل قصورات المحاولات المبدئية.
الجانب الإيجابي على أية حال هو الذي جعل اسم بيكون يقترن بالعلم الحديث والعصر الحديث، وينقسم إلى قسمين أو مرحلتين: المرحلة الأولى هي إجراء التجارب، حيث تحدث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب، وهي: تنويع التجربة، تكرارها، إطالة أمدها، ونقلها إلى فرع آخر من فروع البحث، وقلب التجربة وإجراؤها بصورة معكوسة، وإلغاؤها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث، وتطبيقها لاستكشاف خاصية نافعة، وجمع التجربة لزيادة فعالية مادة البحث بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، وصدف التجربة أي إجراؤها فقط لكونها لم تجر بعد.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تسجيل نتائج التجريب في ثلاث قوائم تصنيفية، تنتظم فيها الوقائع التجريبية تمهيدا لاستخلاص نتائجها، وهي: أولا قائمة الحضور أو الإثبات؛ حيث يضع الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة، أن الظاهرة موضوع الدراسة تتبدى فيها، وثانيا قائمة الغياب أو النفي؛ حيث يسجل الباحث الحالات التي تغيب فيها الظاهرة، فمثلا إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة تجعل استقراء بيكون منهجا علميا وليس مجرد تعداد ساذج، والنفي أقوى منطقيا من الإيجاب، وقوة المنهج العلمي في البحث عن الأمثلة النافية وليس الأمثلة المؤيدة، مثلما يعلمنا منطق التكذيب البوبري. وأخيرا قائمة التفاوت في الدرجة؛ حيث يسجل الباحث وقائع حدوث الظاهرة محل الدراسة بدرجات متفاوتة.
هذه القوائم الثلاث محاولة منهجية ناضجة نسبيا لتصنيف المعطيات، والتصنيف إجراء له أهميته في البحث العلمي . على أن قائمة التفاوت في الدرجة محض تنويه سطحي لأهمية التكميم، وبيكون قد تحامل على الرياضيات؛ لأنها استنباط خالص ينأى بالباحث عن الطبيعة والتجريب! وفي تعيين ثغرات بيكون وقصوراته، نجده كان يريد من منهجه أن يفضي به إلى معرفة أو اكتشاف الصور
Forms ؛ أي صور الطبائع البسيطة
Simple Natures ؛ فقد رأى أن كل شيء في العالم يمكن رده إلى مجموعة من الطبائع البسيطة عددها اثنتا عشرة طبيعة، كالضوء والوزن والحرارة ... إلخ، ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف العلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب هذه الطبائع؛ أي صورها، قائلا إن الصورة ليست تجريدا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة البسيطة، أساس لها ومباطنة فيها، الصورة تمثل علة معلولها الطبيعية البسيطة.
تبدو «الطبائع البسيطة» فكرة جوفاء ولا علمية، والأدهى أن بيكون تصور مجموعة من الأبحاث تجرى في بضع سنوات أو عقود تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان تصوره لعالم العلم الطبيعي على قدر من السذاجة.
ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون في أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذر منها وأسماها استباق الطبيعة، وكأن المنهج العلمي يمكن أن يقتصر على محض استقراء للوقائع. إن الفروض سر تقدم العلم، إن لم تكن هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد.
أضف إلى هذا أن بيكون نفسه، قاضي القضاة وحامل الأختام الملكية، لم يكن عالما ولا حتى متابعا جيدا لتقدم العلم والخطوات الشاسعة التي قطعها في عصره، لم يهتم باكتشاف طبيبه الخاص وليم هارفي
W. Harvey (1578-1657م) للدورة الدموية. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضها بيكون! بوصفها فرضا أهوج، ما دامت الخبرة الحسية التجريبية تخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدر نظريات كبلر وجاليليو حق قدرها، ولم يعترف بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية.
جهوده العلمية متهافتة، لكنه قام بتجربة دفع حياته ثمنا لها: دفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن، ليختبر أثر البرودة في وقف تعفن اللحم، وبعد بضع ليال خرج في يوم قارص البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أصيب بنوبة برد قاتل ألزمه فراش الموت؛ حيث قال قولته الشهيرة، التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة.» فهل يقصد تجربة الدجاج والبرودة؟ أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر الحديث وروح العلم الحديث، فبات الأورجانون الجديد شريعة الاثنين معا.
مهما يكن الأمر ومهما تكن قصورات بيكون، ومهما تكن التطورات التي لحقت بمفهوم المنهج العلمي، والتي رأينا معالمها في الفصل الخامس، فالذي لا شك أنه كان في عصره تمثيل لمنهجية علم وعصر معا، قال عن نفسه إنه ليس إلا «نافخ بوق»، مهمته تقتصر على الإعلان عن الحرب، ولكنه كان مؤمنا أكثر من سواه بقوة المنهج العلمي، سبق عصره في التبشير بالعلوم الإنسانية، مؤكدا أن المنهج التجريبي سوف يمتد ليشمل كل شيء، فنرى قوائم تصنيفية للتجارب المتعلقة بالكره والخوف والغضب، واتخاذ القرارات والامتناع عنها وسائر جوانب الحياة المدنية، تماما كقوائم البرودة والحرارة والضوء والنباتات وما إليها
4 ... ووضع تصورا لمدينة فاضلة أسماها «أطلانطس الجديدة»، لا تعدو أن تكون مجتمعا علميا متكاملا، يضم أمة من العلماء في سائر التخصصات، لكي يحقق العلم المنفعة القصوى للبشر، وصف بيكون «بيت سليمان» في هذه المدينة، وهو صورة مثالية للمختبر العلمي وللأكاديميات العلمية، اقتفيت خطوطه فيما بعد. وحين تأسست الجمعية الملكية للعلوم في لندن، لتضم جهابذة العلم وتنسق بين أبحاثهم، وقف المؤسسون في حفل الافتتاح عام 1662م ليشيدوا بفضل بيكون على تيار العلم الحديث.
يرى فيلسوف التفكير العلمي فؤاد زكريا، أن بيكون ليس فقط فيلسوف الحركة العلمية ، بل أيضا فيلسوف سليلتها الثورة الصناعية، التي جاءت بعد وفاته بمائتي عام. والحق أنه فيلسوف العصر الحديث بأسره، خصوصا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حظي بالتقدير العميق من رموز لذلك العصر أمثال: ديكارت وجاسندي، وروبرت هوك، وروبرت بويل، رفعه الفيلسوف والرياضياتي الألماني ليبنتز
G. W. Leibinitz (1646-1716م) إلى المنزلة العليا، حتى فوق ديكارت، وازداد نجمه سطوعا في عصر التنوير اللاحق. الموسوعيون الفرنسيون الذين انكبوا على وضع موسوعة شاملة، تعبيرا عن علم عصر التنوير أمثال: دالمبرت ، وديدرو
D. Didrot (1713-1784م) وغيرهما، اعتبروا بيكون أبا العهد الحديث، ومجدوا اسمه في الغلاف الأمامي ل «الموسوعة» بإهدائها إليه، وقال ديدرو إننا إذا انتهينا من وضعها بنجاح نكون مدينين بالكثير لبيكون، الذي وضع خطة معجم عالمي عن العلوم والفنون في وقت خلا من العلوم والفنون. وأطلق دالمبرت على بيكون لقب «أعظم وأبلغ وأوسع الفلاسفة»، ورآه فولتير أبا الفلسفة التجريبية والتنويري الحق. وبعد إهداء الموسوعة الفرنسية، جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط (1724-1804م)، ليهدي إلى بيكون كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» معتبرا إياه المعماري الأول للحداثة.
5
تنقش مكتبة الكونجرس الأمريكي في واشنطن اسم بيكون أعلى إحدى بواباتها المذهبة، بوصفه واحدا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث، خصوصا بفعل قولته النافذة «العلم قوة» وليس ترفا أو زينة أو دوائر مغلقة؛ فذلك القول هو ملخص قصة الحداثة والعصر الحديث. (2) المنهج العلمي معالم عصر
العلم الحديث الذي كان فرنسيس بيكون «نافخ بوقه»، ليس مجرد مرحلة أعلى شديدة التميز والتألق من مراحل العلم، بل كان أيضا نقلة حضارية شاملة للثقافة الغربية، تبدلت معها طبيعة التفكير ورؤية العالم، ونتج عنها تطبيقات وفعاليات غيرت معالم الحياة الإنسانية وتكوين طبقات المجتمع، ثم طبيعة العلاقات بين الدول والأقاليم. إنها متغيرات وتحولات صنعت العصر الحديث، والعقل الحديث والإنسان الحديث في أوروبا.
راح العلم الحديث ينمو ويتصاعد، ليمتثل نصب الأعين فعالية المنهج التجريبي شريعة العلم وناموسه، بدرجة لم تتحقق من قبل. الحديث المستحدث فعلا أن المنهج العلمي كان روح العلم، بقدر ما كان تجسيدا لروح العصر الحديث ، التي تخلقت في الأراضي الأوروبية، بعد أن امتصت الخلاصة من الحضارة الإسلامية الأسبق والمتاخمة لها. وكانت أوروبا بيئة مواتية لهذا التوقد والتفجر في نجاح العلم التجريبي؛ لأن التجريبية فيها آنذاك لم تكن محض آلية منهجية للكسب المعرفي، بل هي أيديولوجيا العصر الحديث وروحه، حاملة قيمه ومحكاته، وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة. كان العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية دائرة من الدوائر المعرفية، التي ترسمت حول المركز الحضاري الإسلامي/النص الديني، فكان المنهج العلمي بعدا من أبعاد عدة لعطائها المعرفي. أما في الحضارة الغربية الحديثة، فلم تكن التجريبية العلمية مجرد بعد، بل هي المحور. ومفهوم المنهج العلمي هو المركز ذاته، الذي تترسم حوله الدوائر المتوالية. من هذا المركز وإليه تنبع وترتد معالم الحداثة، تترسم القيم وتتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره المرجعي.
كان مفهوم المنهج العلمي التجريبي جوهر الحداثة، بقدر ما كان علامة وإمارة وقوة فاعلة لإغلاق العصور الوسطى وفتح بوابات العصر الحديث، طريق الانتقال من عصور مظلمة إلى مقدمات عصر التنوير. انتهت المرحلة الأوروبية الوسيطة بما حملته من كهنوت كنسي ثقيل وصل إلى محاكم تفتيش، يحمل السلطة المعرفية ويفرض الوصاية على الإنسان. ولئن كان جوهر المنهج العلمي هو التفاعل بين العقل والحواس، فقد باتت فعالياته الحديثة المتوالية إعلانا وتبيانا وبرهانا، على أن الإنسان الذي يملك العقل والحواس، جدير بأن يستقل بذاته وترفع من عليه أية وصاية، لينطلق باحثا عن الحقائق متحملا مسئولية المعرفة.
اقترن العصر الحديث في أوروبا واقترنت الحداثة برفض السلطة المعرفية على الإنسان وأن يستقل بنفسه. العقل والحواس وسائل يملكها الإنسان لاكتساب المعرفة، والتوصل إلى الحقائق وتمييزها عن الباطل، ولا حاجة إلى سلطة تدله عليها، إنها الثقة في الإنسان التي فتحت الباب لإعلاء الفردية والمبادرة والاستقلال والحرية والمسئولية، وتأدت إلى العلمانية ومنظومة القيم الليبرالية، وذلك بتفاعلها مع متغيرات الواقع الأوروبي آنذاك، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصعود الطبقة البرجوازية.
لقد بدت العقلانية التجريبية التي يجسدها مفهوم المنهج العلمي قوة تدفع الإنسان إلى التحرر الشامل، غير المقتصر على المفهوم الليبرالي: دعه يعمل، دعه يمر. إنها تعني حرية العقل والفكر والقول والفعل. يتم البحث العلمي عبر مرحليات مفتوحة، تنتهي إلى وضع النظرية أو القانون. وفي هذه المرحليات جميعا لا خضوع لأية سلطة زمنية أو روحية. وتأتي حصائلها لتفتح أمام الإنسان آفاق الأمل في معرفة، يستطيع عن طريقها أن يحرر نفسه ويحرر الآخرين من أعداء الحرية العتاة: الجهل والبؤس والعبودية والفقر والمرض والعجز أمام قوى الطبيعة الغاشمة، تحدوه عقيدة متفائلة مفادها أن «العلم الإنساني والحرية سوف يتقدمان متآزرين ، ليدخلا حيزا لإمكانية كمال إنساني غير محدود».
6
إن المنهج العلمي طريق العلم، طريق الحرية، طريق التقدم المتوالي، طريق الحداثة. •••
على أن الحداثة الأوروبية التي تمخضت قواها عن استغلال وظلم في الداخل، واستبدال طبقة العمال بطبقة عبيد الأرض، وفي الخارج عن جرائم استعمارية تقشعر منها الأبدان، لم تكن محض فيحاء الحرية والمدينة المثالية واليوتوبيا السرمدية، ولا توجد تجربة إنسانية هكذا. إن سلبيات ومثالب وجرائم الحداثة معروفة جيدا، مشهورة ومذكورة، وقد طرحتها تيارات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية على الملأ الأعلى، أو ببساطة فضحتها، ونحن الذين عانينا الأمرين من جرائم الاستعمارية والإمبريالية، لسنا في حاجة لانتظار جهود كشف وفضح لسلبيات الحداثة. على أية حال، الإيجابيات عظيمة شاهقة وثمة سلبيات، في القرن الثامن عشر تبلورت الإيجابيات والسلبيات في ذروة المد الحداثي، وهو ما يعرف بعصر التنوير.
يتمثل التنوير الأوروبي في المقولات الجوهرية المعروضة آنفا: العقلانية والتجريبية واستقلال الإنسان والفردية والحرية والتقدم، بعبارة موجزة، يتمثل التنوير في مفهوم المنهج العلمي ومتوالياته، التي تبدو إيجابيات ناصعة.
وكما اتفقنا، المنهج العلمي آلية مفطورة في العقل، ملك للبشر أجمعين، مشترك إنساني عام، ولكن درجة وحدود تفعيله حجم وطبيعة ونواتج هذا التفعيل ... باختصار متوالياته تختلف من حضارة لأخرى. كانت الحداثة الأوروبية تفعيلا متعاظما لمفهوم المنهج العلمي، بدرجة فاقت بها العالمين، وعرفت كيف تستغل متوالياته المتعاظمة بدورها لكي تسود الأرضين، وذلك فيما عرف بالمد الاستعماري، الذي يرسم بسلبياته قبل إيجابياته تاريخ العالم الحديث.
على مستوى الفكر تبلورت متواليات مفهوم المنهج العلمي في عقيدة عصر التنوير، وعلى مستوى الواقع تكاثفت متوالياته ونواتج ممارساته المقننة في الثورة الصناعية المواكبة، التي جعلت الاستعمار لازمة لأوروبا، من أجل حماية الإنتاج بالجملة وضرورة تأمين طرق التبادل التجاري العالمية، وورود المواد الخام من الدول البعيدة المتخلفة الفقيرة، التي لا بد أن تظل هكذا لا تصنع ولا تنتج؛ لتبقى سوقا لمنتجات المصانع الأوروبية.
هنا ارتد مفهوم التنوير الأوروبي إلى مقولة حق يراد بها باطل: طريق التقدم هو طريق العلم والعقل والحرية، وهذا الطريق قطعه باقتدار وامتياز إنسان الحضارة الأوروبية الحديثة، الرجل الأبيض، ومن حقه ومن واجبه أن يفرضه على الشعوب المتخلفة طوعا أو كرها، ليغدو الاستعمار حقا وواجبا.
مع الاستعمارية تعاظم شأن الحضارة الأوروبية وحداثتها وثقافتها إجمالا، حتى تربعت على عرش العالمين فيما عرف بالمركزية الأوروبية
Eurocentrism
أو المركزية الغربية، التي امتدت إلى الشاطئ الغربي من المحيط حيث الولايات المتحدة الأمريكية، وتعني أن الغرب لا سواه هو الحضارة بأصول تعود فقط إلى الإغريق لتؤكد نقاء العنصر الغربي، وما عدا الغرب هوامش الجهالة والتخلف، بدرجات متفاوتة تبعا لدرجة اقترابها من المركز؛ فالرجل الأبيض هو المثال الأعلى والمحك والمعيار لقيم التقدم. هكذا كانت محصلة الحداثة الغربية، وسارت في الطريق الواعد دوما بالمزيد، وبدا هذا وكأنه الوضعية التي حطت عليها نهائيا مراحل التطور الإنساني والتقدم الحضاري.
حتى شهدت أواسط القرن العشرين منعطفا جذريا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، التي أثارت ويلاتها الشك في قيم الحداثة، والأهم أنها أعلنت إفلاس الاستعمارية الأوروبية ووصولها طريقا مسدودا، تزامن مع هذا تصاعد المد القومي في أنحاء العالم ومطالب الحرية والاستقلال. وفي الثلث الثالث من القرن العشرين كان الولوج الصريح إلى عصر ما بعد الاستعمارية، وما بعد الحداثة، وهما وجهان لعملة واحدة، تعني طابعا نقديا حادا، وأن الحداثة مرحلة وليست غاية المطاف وسدرة المنتهى، كل مفاهيمها ومنطلقاتها مستحقة للتفكيك، للمراجعة والتعديل والتصويب، ويمكن أن تظفر بطرح أفضل. ولا يستثنى مفهوم المنهج العلمي. (3) مفهوم المنهج العلمي وما بعد الحداثة
ثمة آليات ورؤى تميز ما بعد الحداثة، راحت تجوب في رحاب مفهوم المنهج العلمي وتمارس بعض فعلها، نخص بالذكر نقض المركزية
decentering
والسياقية
contextuality
والنصية
textuality .
نقض المركزية الغربية تبعه صعود قيمة التعددية الثقافية؛ فليس فقط الثقافة الغربية بل كل ثقافة لها قيمتها واحترامها ودورها في إثراء المشترك الإنساني، وتبع هذا نقض مركزيات عدة، وظهور تعدديات أخرى، بعضهما ذو علاقات بمفهوم المنهج العلمي وتأثيرات عليه. وتأتي السياقية لتعني أن كل مقولة في ثقافة البشر، لا تتأتى إلا في سياق معين وبالنسبة إليه. ويرتبط بهذا صعود النسبوية النسبوية
Relativism ، وبصدد النسبوية - ونحن في رحاب المنهج العلمي - لا يفوتنا أن موضوعية
objectivity
العلم المطلقة التي اشتهرت بها الحداثة كمضادة للذاتية قد انهارت بفعل سقوط مطلق نيوتن: الزمان والمكان المطلقين، وصعود نسبية آينشتين، حل محلها البين-ذاتية
intersubjectivity
أو المشترك بين الذوات. ونذكر في هذا الصدد قول فيل
Weyl
الرائع: «كل حقيقة مطلقة ذاتية، وكل حقيقة موضوعية نسبية.»
ولعل أخطر الآليات هي النصية؛ أي النظر إلى المقولة المعنية - وهي هنا العلم ومنهجه - كنص قابل للقراءة أو بالأحرى القراءات المتعددة، وتفعيل الهيرمنيوطيقا؛ أي مناهج التأويل الذي يختلف باختلاف أفق القارئ. وتفتح النصية الباب لمد التفكيكية (
Deconstructivism
وفي ترجمة أخرى التقويضية) من النصوص إلى ظاهرة العلم.
ويمكن حصر تأثيرات ما بعد الحداثة على مفهوم المنهج العلمي في معاملين، الأول مثير للجدل والآخر إيجابي ولا شك، وهما:
أولا:
العقلانية التجريبية وما تقتضيه من فاعليات تخصصية مستقلة، محكومة فقط بالأدوات بالإبستمولوجية، كاللغة الرياضية والملاحظة والتجربة ودقة التنبؤ والتفسير، ليست حصرا لمنهجية العلم؛ فقد شهد العلم عبر تطوراته المتلاحقة مناهج وأساليب عديدة، وليس أقنوما واحدا ووحيدا. وهنا نجد محاولات قد تأتي رعناء من أجل تفكيك العقلانية التجريبية ونقض مركزيتها. واللافت حقا ما يتمخض عنه هذا من دعوى بتعددية منهجية في العلم. وعودا على بدء، يمكن الرد عليها بعين الإجابة على سؤال الفصل الرابع: منهج العلم واحد أم كثير؟ أي بأن العقلانية التجريبية تكمن كثابت بنيوي من وراء وفي صلب أشكال الإجرائيات أو حتى المناهج العلمية الشتى، ورب قائل: إن هذا رد على التفكيكية بالبنيوية؛ أي محض تأكيد لما يراد نفيه! ويكون الرد بأنه غير قابل للنفي بحكم الخاصة المنطقية المميزة للنظرية أو العبارة العلمية، وإلا كنا لا نتحدث عن العلم بالعالم التجريبي أصلا. هذا المعامل كما ذكرنا مثير للجدل.
ثانيا:
العقلانية التجريبية لا تجري ممارساتها وتفعيلاتها وحصائلها في فراغ أو سديم سرمدي، بل في واقع إنساني متعين له وضعه التاريخي والحضاري والثقافي، وبالتالي لا ينفصل مفهوم المنهج العلمي عن اشتباكاته بواقع إنساني حي ونابض، والالتزام بمتعيناته وأهدافه، فضلا عن ارتباطه بقيم الممارسة العلمية وبأخلاقيات لها أبعادها. وغير صحيح أن المنهج العلمي متحرر من القيم ولا علاقة له بها كما زعمت الحداثة، بل الأدنى إلى الصواب أن مفهوم المنهج العلمي لا يؤتى حقا إلا في إطار منهجية شاملة، تستوعبه بمعية قيم والتزامات وتوجهات، وليس بتجريده وتفريده كما دأبت فلسفات العلم الحداثية والتنويرية.
وهذا المعامل الثاني قد أدى فعلا إلى معالجات فلسفية أكمل وأجمل لمفهوم المنهج العلمي، أو بالأحرى لمبحث الميثودولوجيا المعني بهذا المفهوم. •••
ولئن كان التنوير خلاصة الحداثة، فإن كارل بوبر الميثودولوجي الأكبر في القرن العشرين، الذي حارب الوضعية المنطقية بشراسة، وأنهى النظرة الاستقرائية وأتى بالتكذيبية، ظل ممسكا بأطراف الحداثة ويحلو له كثيرا أن يقول عن نفسه إنه آخر التنويريين الكبار، بمعنى آخر المدافعين عن قيم ومنطلقات الحداثة، وتحديدا عن العلم التجريبي والعقلانية كطريق للتقدم.
7
وقد أتت الخطوة المميزة التالية في مسار فلسفة العلم ونظرية المنهج بعد بوبر، مع توماس كون الذي يصغره بعشرين عاما، وبفعل كتابه «بنية الثورات العلمية» (1962م)،
8
ومعقباته ومتوالياته، انفتح الباب لتأثيرات ما بعد الحداثة على الميثودولوجيا وفلسفة العلوم، وإلى ما يسمى بفلسفات العلم بعد - الوضعية وبعد - التنويرية، ورؤيتها المستجدة لمفهوم المنهج العلمي.
يمثل كتاب «بنية الثورات العلمية» علامة فارقة في مسار فلسفة العلوم ونظرية المنهج العلمي، لفت الأنظار إلى ضرورة عدم الاقتصار على النظر إلى العلم كمحض نسق منجز؛ لأن العلم ليس نسقا واحدا ووحيدا، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر مراحل التاريخ الإنساني، وتتدخل في هذا عوامل خارجية: ثقافية وحضارية وأيديولوجية، والعلم ذاته لا ينفصل عن أيديولوجيا خاصة به؛ لهذا لا يتأتى المنهج العلمي إلا في إطار برادايم
؛ أي نموذج قياسي إرشادي شامل لكل أبعاد الظاهرة العلمية في المرحلة التاريخية المعنية. وتمثل الثورة العلمية معالم التقدم الكبرى، وهي انتقال من برادايم إلى آخر، ليعمل العلماء بنظريات وأوليات ومفاهيم مختلفة، ومدلول مختلف للوقائع التجريبية. وهذا الاختلاف يبلغ حد اللامقايسة
uncommensurability
أي عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ: للحكم عليها بالمقاييس نفسها وتقييمها بالمعايير نفسها. لكل نظرية إطارها ومفاهيمها وعالمها، أو باختصار نموذجها الإرشادي، ويبدو تاريخ العلم كسلسلة من النماذج المتوالية. والعلم في النهاية صنيعة بشر يعيشون في أزمنة معينة وأمكنة محددة. والنموذج الإرشادي بمثابة أيديولوجيا المجتمع العلمي ذاته، التي تصنع تماسكه وتجانسه في الحقبة التاريخية المعنية. إن التماسك والإجماع واتفاق الأحكام أروع الخصائص المميزة للمجتمع العلمي، تضمحل معها احتمالات الصراع، الذي يبدد الوقت والجهد، كما يحدث في مناشط أخرى شتى، فيهتف جاستون بشلار: «أي تفاهم ضمني يسود الحاضرة الطبيعانية.»
9
بمعنى مجتمع العلوم الطبيعية، وطبعا مجتمع العلوم الرياضية أيضا وقبلا.
على أن توماس كون يؤكد على مساحة عريضة من التشارك بين ممارسات المنهج العلمي ونموذجه الإرشادي وبين أيديولوجيا المجتمعات التي أنتجت العلم. واللافت حقا أن مفهوم البرادايم أو النموذج الإرشادي خرج من رحاب فلسفة العلم، وحقق شيوعا وذيوعا نادرين في مجالات شتى، وهذا المفهوم يوضح كيف كان توماس كون شديد العناية بالنواحي الأيديولوجية والسوسيوسيكولوجية والقيمية والالتزامات الخلقية وأصول التنظيم والإدارة ... إلخ للظاهرة العلمية، من حيث هي - ببساطة - ظاهرة في عالم الإنسان؛ فتلك هي أبعاد الظواهر الإنسانية. ولا يقنع كون بأي خلاف جوهري بين التطور في الفنون والآداب والنظم السياسية والإنسانيات والتقدم في العلم. وله دراسة صريحة حول العلاقة أو التشابه والتماثل بين هذا وذاك.
10
ربما كان ثمة إرهاصات سابقة، ولكن ما كان يتأتى هذا التماثل بثقة إلا في عصر ما بعد الحداثة. •••
ويتقدم باول فييرآبند
(1924-1994م) الذي يمكن اعتبار فلسفته تمثيلا لما بعد الحداثة في قضية مفهوم المنهج العلمي. اشتط وحاد في ترجمة درس توماس كون العظيم، ليكون حامل لواء ما أسميناه المعامل الأول المثير للجدل، الذي يحاول إزاحة العقلانية التجريبية من مركزها، وإسقاط الولاء العلمي لها، زاعما أن مفهوم المنهج العلمي ليس واحدا، حتى انتهى إلى أنه لا تحديد لمثل هذا المفهوم أصلا! وذلك في كتابه الشهير «ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة» (1975م)، الذي يرمي إلى إثبات أن العلم لم يكن أبدا أسير منهج واحد محدد، بل هو مشروع أناركي
Anarchic Enterprise ؛ أي مشروع فوضوي لا سلطوي
11
لا يعترف بأية سلطة، «وكل المناهج يمكن أن تجدي فيه»،
12
تبعا لشعار فييرآبند الشهير: كل شيء مقبول
Anything goes . وانكب على تأكيد النسبوية والتعددية المنهجية. كل منهج مقبول على الرحب والسعة، طالما يلائم طبيعة المشكلة المطروحة للبحث، فيؤدي إلى حلها والإضافة إلى رصيد العلم، أما تكبيل البحث العلمي بمنهج واحد محدد، فهذا ضد الإبداع، يخنق روحه الضرورية للإنجاز في العلم، والإجماع على رأي واحد - بشأن منهج واحد - يناقض طبيعة نشاط عقلاني على الأصالة كالعلم التجريبي.
من السهولة بمكان أن نتبين في هذا محاولة تفكيكية صريحة، من حيث إنها تنكر أي تعريف نهائي للمفهوم، وأي ارتباط حاسم بين دال ومدلوله، وتزعم - على دأب التفكيكيين - كشف الآليات المراوغة التي تسعى إلى الاستئثار بالسلطة المعرفية، فيواصل فييرآبند مساره الفوضوي اللاسلطوي، حتى يرفض تنصيب السلطة المعرفية للعلم بالذات، فيجاهر بأن العلم الحديث ليس نظاما مقدسا، يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني وجب أن ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، إنه شكل من أشكال عديدة للمعرفة، وجب أن يتسع لها جميعا المجتمع الديمقراطي الحر، ولا ينبغي أن يكون ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووأد الثقافات الأخرى، لا سيما ثقافات العالم الثالث، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. لماذا نجعل العالم الغربي مطية للخواء والإجداب، حين نقهر الثقافات الأخرى تحت اسمه المجيد، حتى لا يبقى سوى الحضارة الغربية؟!
لقد كان فييرآبند كفيلسوف بعد حداثي ناقدا جريئا حقا للاستعمارية ولأسطورة الغرب المعيار، وللحضارة الغربية العلمانية إجمالا، ربما لدرجة جديرة بالإعجاب، ولكنه في سبيله لهذا غالى وبالغ في تفعيل مقولات النسبوية واللاسلطوية واللامقايسة، حتى كاد مفهوم «التقدم العلمي» ذاته يفقد معناه، والأخطر أن فييرآبند بذينك المغالاة والشطط، قد جار كثيرا على حدود منطقية مصونة للعلم، ترتد إلى مفهوم المنهج العلمي، فكان أن شن حربه التفكيكية الشعواء على هذا المفهوم الأثير.
عن طريق تفعيل اللامقايسة التي قال بها كون والإسراف فيها يرفض فييرآبند حتى سلطة العلم الراهن في مضمار المعرفة العلمية ذاتها، يتمسك بأن تحتفظ كل نظرية بمكانها في تاريخ العلم وفي الوعي العلمي، كل نظرية لها دورها، والحكم عليها يجب أن يكون بالنسبة إلى سياقها، لظروفها وتحدياتها؛ لأن النظرية العلمية في جوهرها محض طريقة للنظر إلى العالم، توضع بجوار طرق أخرى، ويشدد على قدرة النظريات القابعة في تاريخ العلم على إخصاب الواقع العلمي الراهن، وطرح مداخل ومنظورات مختلفة لحل المشكلات المطروحة للبحث، ويواصل شططه، ليزعم أن اللامقايسة ليست بين النظريات فحسب، بل أيضا بين الأنماط المعرفية ذاتها، فلا يعود ثمة مبرر لادعاء الأفضلية المطلقة للعلم على أشكال المعرفة الإنسانية الأخرى، إنها شكية التفكيكية وجنوحها للإطاحة بكل الثوابت في مغامرة غير مأمونة العواقب.
شطحات التفكيكية كثيرة، ومعظمها مما لا يقبله المنطق. والمشكلة مع مفهوم المنهج العلمي أنه لا ينفصل عن منطقه، فلا يمكن نفي العقلانية التجريبية، قد لا نكتفي بها ولكن لا يمكن إلغاؤها. نفيها أو إلغاؤها يعني أننا لا نتحدث عن المشروع العلمي أصلا! وهذا خلف محال، فعن أي منهج نتحدث؟! على أية حال، انتهى فييرآبند إلى أن العلم مجرد تقليد معرفي ضمن تقاليد معرفية عدة، والعقلانية التجريبية منهج للعلم ضمن مناهج عديدة له، وكما ذكرنا تلك قضية مثيرة لجدل لا ينتهي، والحق أن فييرآبند نفسه أكثر فيلسوف علم مثير للجدل على الإطلاق، اندفاعاته الفلسفية بلا حدود، أعلن أن هدفه حماية العلم من شوفنية الروح العلمية وطغيانها، وحماية الفلسفة من أساتذتها المحترفين إياها، وحماية الحضارة الغربية من توجهها الغربي. باق أن نقول: وكان يريد قبلا أن يحمي مفهوم المنهج العلمي من عقلانيته وتجريبيته!
الأجدى أن ننتقل الآن إلى المعامل الثاني، الذي جعل ميثودولوجيا ما بعد الحداثة أو الميثودولوجيا الراهنة، تقدم مفهوما للمنهج العلمي أكثر تكاملا، نابضا حقا بالحيوية والفاعلية والخصوبة والدفء، وقد بلغ هذا ذروته مع الفلسفة النسوية. (4) مفهوم المنهج العلمي: رؤية نسوية
النسوية من أبرز المعالم التي صاحبت مجيء القرن الحادي والعشرين، وتمثل الآن واحدا من أهم اتجاهات الفكر الراهن والفلسفة المعاصرة. النسوية ليست مذهبا، بل هي تيار أو اتجاه، يضم مذاهب عديدة، أحيانا تكون نقاط الاختلاف بينها أكثر من نقاط الالتقاء، ولكنها جميعا، وبمجامعها، تشارك في معركة فييرآبند المقدسة، أو بالأحرى معركة ما بعد الحداثة، ضد فلول الاستعمارية والمركزية الغربية، واتخاذ العلم الغربي الحديث ذريعة لهذا وذاك.
13
وتستبسل النسوية من أجل خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية)، سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع، امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الاستعمارية والإمبريالية، وتعمل على فضح وتفكيك كل هياكل الهيمنة والاستبداد وأشكال الظلم والقهر والقمع، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم، الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنا وعدلا.
إنها ليست مجرد بحث عن حقوق المرأة أو إثبات لذاتها، فقد اكتسبت نضجا فكريا، وهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، وتقديم صياغة نظرية عن الهوية النسوية، وبدلا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بد من العمل على إبراز الأنثوية كجانب جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارا طال السكوت عليه، ونزفا حضاريا لإمكانيات هائلة، يمكن أن تكسب الإنسانية شيئا من التوازن.
الفلسفة النسوية - كتمثيل لما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية - هي منطلق نقدي للحداثة، تلقي الضوء على المثالب والقصورات والحيودات، باحثة عن رؤية متكاملة، تستوعب منظورات وقيما، يمثلها جانب طويلا ما جرى تهميشه؛ أي الجانب الأنثوي، ولعلها لا تعبر عن نظرة خاصة بالنساء، بقدر ما تعبر عن نقد وتطوير لما هو عام وشامل للبشر أجمعين، لا تزعم أن النساء يمتلكن الحقيقة، بل فقط أن الرجال لا يستأثرون بها، وذلك لإحداث توازن وتكامل مأمول بين جانبي الموجود البشري: الذكورة والأنوثة، بدلا من انفراد الذكورية بالميدان، فتأتي المحصلة أكثر سخاء.
وفي هذا السياق تقدمت النسوية بفلسفتها للعلوم، واستطاعت حقا تطوير مفهوم المنهج العلمي، وتقديم نظرة ميثودولوجية، تمثل إضافة إيجابية.
14
العلم - فيما ترى النسوية - كأية بنية ثقافية أخرى في الحضارة الغربية البطريركية: مؤسسة موسومة بالمركزية الذكورية والجنوسة والتحيز الجنساني ، ويكون أفضل لو أنه عولج من غلواء هذا، بل إن العلم الحديث أكثر استحقاقا للمعالجة النسوية وقيمها الأنثوية؛ لأنه أكثر من سواه تجسيدا للقيم الذكورية، اعتبر كل ما هو أنثوي حميم كالعاطفة والحنو والشعور والانفعال وعمق الارتباط بالآخر ... لا علم وضد المنهج العلمي، وانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وبهذا القالب الذكوري المصمت يبدو العلم خشنا جافا، يوضع كنقيض للإنسانيات، في حين أنه الأكثر إنسانية وحيوية وإبداعية.
ترفض فلسفة العلم النسوية هذا التفسير الذكوري الأوحد للعلم، وتحاول إبراز وتفعيل الجوانب والقيم المختلفة الخاصة بالأنثى، لكي تضيف إلى مفهوم المنهج العلمي قيما أنكرها، ليغدو أكثر إنتاجية ومواءمة إنسانية. وفي محاولاتها لتقديم البديل الأفضل، تركت بصماتها على مسارات فلسفة العلوم، بحيث جعلتها أكثر التحاما بالواقع وبالحياة، وأسهمت بثقلها في الانتقال من مقولة العلم «المتحرر من القيم» إلى وضع «العلم المحمل بالقيم»، والمتحمل لمسئولياته الاجتماعية والثقافية. وتتقدم ساندرا هاردنج الرائدة حقا لفلسفة العلم النسوية، لتؤكد أن «التحرر من القيم لا يجعل العلم موضوعيا أبدا، بل كلما كان العلم محملا بالقيم، كلما كان أكثر موضوعية»،
15
وبالتالي صادرت على أن أهم أهداف فلسفة العلم النسوية، إثبات أن المعرفة العلمية والممارسة العلمية محملتان بالقيم، وضرورة إنهاء الصورة الرديئة للعلم المجرد من القيم. وبهذا تقدم النسوية مفهوم المنهج العلمي المسئول أخلاقيا، وقيل إن الدور العظيم للميثودولوجيا النسوية، يتمثل في عقد الصلة بين فلسفة العلم وفلسفة الأخلاق، والإسهام في القضاء على الانفصال البائن الذي كان بينهما.
النسوية في بحثها عن صورة جديدة متطورة للعلم والممارسات العلمية، تقدمت بمفهوم للمنهج العلمي يشتجر بالقيم الأنثوية الحميمة، من قبيل الاعتماد المتبادل والتفكير السياقي، الحدس والانفعال، الشعور والعاطفة، الترابطية والاتصال بدلا من التفرد والانفصال والاستقلال الذاتي في الذكورية، فضلا عن أخلاق الرعاية الحانية والمسئولية في الموقف الحياتي المعني، بدلا من أخلاق القاعدة الصورية والقوانين المجردة والمبادئ العمومية في الذكورية. إنه البحث عن الكيفيات والخصائص والحالات الفردية والوقائع المتعينة، وعن إعادة الاعتبار للمناهج الكيفية حتى لا ينفرد الأسلوب التكميمي والمعدلات الإحصائية بالميدان. وفي مقابل العجلة في البحث العلمي وسرعة الإنجاز، وأسبقية الكشف والنشر، يمكن التوقف بإزاء قيمة أنثوية خاصة هي التعهد والرعاية و«المقاربة طويلة المدى، التي تكشف عما لا يكشف عنه عشرات البحوث العجلى».
16
تبحث الميثودولوجيا النسوية عن علاقات بين الباحثين تقوم على رفض السلطة والتراتب الهرمي، سواء بين العلماء أو بين المؤسسات العلمية أو بين فروع العلم، وتنزع إلى نسائج من التفاعلات، وإلى تعاون بين العلماء يقوم على الاحترام المتبادل والعمل في انسجام، بدلا من التنافس المحموم، وفي هذا تعلي من قيمة التزامل
collaboration
واستراتيجيات الأبحاث المصممة، بحيث يشترك فيها أكثر من باحث، إن التزامل يشجع التشارك في اتخاذ القرار، ويخلق مجتمعا متعاونا بلا تراتب هرمي، كما تروم النسوية دائما. ومن الإيجابيات أيضا العناية بأساليب تدريس العلوم وكيفية جعل العلم جذابا للطلبة وللطالبات خصوصا،
17
واجتذاب الهواة، وإدخال العلم في نسيج الثقافة العامة، فلا يكون كهنوتا مقصورا على الصفوة، وهذه بالذات قضية اتفقنا عليها منذ مقدمة هذا الكتاب.
الميثودولوجيا العلمية النسوية تبحث عن الإنصات إلى الطبيعة، وتلقي رسالتها كصديق يحكي لك عن نفسه ... كزهرة تتفتح أمامك، و«يغدو العلم حوارا مع الطبيعة بدلا من أن يكون محكمة تفتيش»،
18
واستنطاقا واستجوابا. أكدت بربارة ماك كلينتوك - الحائزة على جائزة نوبل عن أبحاثها في جينات نبات الذرة - كثيرا على «الإنصات» لما تقوله الطبيعة، ورأت فيه منهجية حوارية تقوم على ارتباط شعوري عميق بموضوع البحث.
إنه اكتشاف طرق إضافية للفهم، وتقدم النسوية عقلا علميا يلعب فيه الشعور دورا أكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نواتج الفهم، ليتوشج الشعور في مفهوم المنهج العلمي، تخليصا للعلم من جفافه، وتخلصا من الفوارق القاطعة بين المناشط العقلية، ومن سائر التصنيفات القاطعة. القيم الأنثوية تعني انفتاح البحث العلمي على الطبيعة والعالم، بتصورات نسوية تداوي أحادية الجانب، من أجل توازن مأمول وتكامل منشود.
المثيودولوجيا التقليدية بعقلانيتها التجريبية تركز على العقل والحواس، وقد تضيف الخيال والحدس، لكن ماذا عن الشعور والإحساس والعاطفة والوجد والانفعال والتذوق والاستمتاع والمعايشة والعلاقات مع الزملاء والارتباط بالمؤسسة العلمية ... النسوية ترى أن يؤخذ كل هذا أيضا في الاعتبار إذا رمنا تفسيرا متكاملا للمنهج العلمي، أكثر حيوية ودافعية، أكمل وأجمل وأشد حضورا.
ويبقى تقديس الحياة والقيم الإيكولوجية في عصر باتت فيه البيئة من كبريات المشاغل، وهنا تتقدم الميثودولوجيا النسوية بقيمها، لتكون فلسفة بيئية على الأصالة. إن توازن المنهج العلمي بالقيم الأنثوية، التي تقوم على عمق الارتباط بالآخر وانبثاقة الحياة من المرأة والتعهد بها ورعايتها وتنميتها، يؤذن بطرح في صالح مشكلة البيئة والمتطلبات البيئية. وتصاعدت النسوية البيئية
Ecofeminism
التي تعبر عن العلاقة الحميمة بين الطرفين: الطبيعة أنثى والأنثى طبيعة.
وهذا ما يؤكده التاريخ العتيق المهدر لصالح الرجل؛ فقد اكتشف القنص والحرب، واكتشفت المرأة الزراعة والرعي. اخترع الرجل الفأس والبلطة والسكين والخنجر والقوس والسهم والرمح، واخترعت المرأة القدور والأواني والأطباق والأقداح والموقد. صنع الرجل العجلة وصنعت المرأة الردهة والفراش والستائر ... والآن بدأ عصر البيئة بكتاب «الربيع الصامت» (1962م)، وهو من وضع امرأة. هكذا تملك النسوية مبررات الزعم بأن الحفاظ على البيئة من خصوصياتها. ويبدو مفهوم المنهج العلمي الأنثوي قادرا على إعادة التصالح مع البيئة، وعلى صونها ورد الاعتبار إليها.
على الإجمال مفهوم المنهج العلمي، يغدو أرقى وأكمل وأكثر إنسانية وأكثر إيجابية، حين يتلاقح بمثل هذه الأبعاد الأنثوية الحميمة. •••
وأخيرا فإن القيمة الحقيقية لهذه الرؤية النسوية لمفهوم المنهج العلمي، ليست في إضافة أبعاد أنثوية حميمة ونابضة ومجدية إلى العقلانية التجريبية، بل في فعل الإضافة نفسه وفي حد ذاته.
ألا إن في هذه الإضافة استجابة مثمرة لما طرأ على فلسفة العلم من عدم اقتصار على العناية بالبنية المنطقية للمعرفة العلمية، بل أيضا في تفاعلها مع سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي، وهذا هو درس توماس كون العظيم ونموذجه الإرشادي، وتنامي أبحاث سوسيولوجية العلم واشتباكها بفلسفة العلم. ومن ناحية أخرى تسير هذه الإضافة في سياق متنام مؤخرا يعرف بالفلسفة التطبيقية، التي تعنى بمباحث تتحول إلى واقع حي معيش. ومع الرؤية النسوية وما أضافته من أبعاد وقيم إلى مفهوم المنهج العلمي، نجد العقلانية التجريبية واقعا حيا معيشا في إطار منهجية أشمل، تحتويها بمعية أبعاد اجتماعية وثقافية وحضارية معيشة، إنه مثال لتحويل مفهوم المنهج العلمي إلى فعالية تطبيقية معيشة، وبالطبع يمكن أن يكون ثمة مبادرات أخرى وتفعيلات أخرى في أطر منهجية أخرى.
فماذا عن تفعيل المنهج العلمي بعقلانيته التجريبية في سياقنا نحن الثقافي وواقعنا الحضاري.
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
يظل مفهوم المنهج العلمي فعالية منتجة، والحديث عنه حديث عن إمكانية واقعية حاضرة ومستقبلية ولود مثمرة. ومن قبل أن تتبدى معالم ما بعد الحداثة، سبق أن انتهى الفصل السابع إلى أن كل وأي حديث عن الحداثة والتحديث، بات مقترنا بتمكين وتفعيل لمفهوم المنهج العلمي؛ ومن ثم فإن مقاربة وضع هذا المفهوم في حاضرنا ومستقبلنا، إنما هو وجه من وجوه قضية الحداثة ها هنا، وصلب من أصلاب إشكالية الأصالة والمعاصرة الشهيرة، التي طال انشغالنا بها، دون الوصول إلى الغاية المنشودة، كما فعلت أمم أخرى كالصين ومن قبلها اليابان وسواهما، لم تشارك في الحداثة، لكنها تمكنت من حل هذه الإشكالية، فاستطاعت الاستيعاب والتجاوز، والإسهام في التقدم المعاصر.
إن الشغل الشاغل هو الواقع الحاضر ومستقبله، ومن أجله كان الاشتباك بالماضي فيما سبق، وفي أي موضع. رأينا في الفصل الثاني كيف أن مفهوم «المنهج» أصلا متوطن في ماضينا أو في تراثنا الذي امتلك رصيدا منهجيا هائلا في مسيرته التاريخية. ورأينا في الفصل السابع كيف قدم هذا الماضي عطاء علميا دافقا من حصاد المنهج العلمي، أسهم في أن يفضي إلى النقلة الحضارية الكبرى وهي العلم الحديث. ألا إن القيمة الحقيقية لمثل هذا الماضي، تكون بقدر ما يسهم في حاضر جيد ومستقبل أفضل
1 ... بقدر ما يسهم بمزيد من التحديث والتقدم، يشترط مزيدا من التفعيل لمفهوم المنهج العلمي.
ونلاحظ أنه على الرغم من ذلك الرصيد التراثي، يبدو المنهج العلمي بعدا غائبا مفتقدا في واقعنا ... في ثقافتنا المعيشة وطرائق تفكيرنا وعوائدنا وسلوكنا وسمات شخصيتنا القومية، بل حتى طباع النخبة فينا، وتلح الحاجة إلى جهود ثقافية مكثفة، أهم مهامها توطين مفهوم المنهج العلمي في حس الجماعة، لنتمرس على مواجهة الواقع الصلب العنيد، الذي يتأبى علينا ونفشل في تطويعه، فنستورد حلولا لمشكلاته في استنزاف للموارد وتعويق لسيرورة نماء وتقدم. المطلوب الخروج بمفهوم المنهج العلمي إلى آفاق الثقافة العربية، بمفهومها الأنثربولوجي إن صح التعبير، أو الأيديولوجي إن جاز التعبير، المهم ألا يقتصر على المنظور الترانسندنتالي المتعالي للثقافة، ولا يظل موضوعا للحوار بين صفوة المثقفين وأبحاث بعض المتخصصين، بل تشريب المواطن بفعاليات المنهج العلمي بوصفه أسلوبا في الإنشاء وفي الإدارة، في التخطيط وفي التنمية، في الإنتاج وفي الاستهلاك ... وفي مواجهة وقائع الحياة اليومية، وهذه مهمة تشارك فيها التربية والتنشئة ومقررات التعليم ووسائل الإعلام والتثقيف، التي لا تزال تطابق أحيانا بين الثقافة والأدب، وتجعل السهرة الثقافية تعني سهرة أدبية.
وهنا يتمثل دور لتجديد التراث وتطوير خطابنا الثقافي، من أجل توطين مفهوم المنهج العلمي وزرعه في ثقافتنا وتجذيره في التربة العربية، يتزامن هذا مع نقض المركزية الغربية وتصاعد احترام التعددية الثقافية، والدعوة إلى أن تضطلع كل ثقافة بمسئوليتها إزاء توطين العلم وتفعيل منهجيته.
ثمة سبل متاحة لهذه النوعية من مقاربات التراث، وتجديد الخطاب الثقافي في اتجاه تفعيل مفهوم المنهج العلمي في واقعنا الحضاري، وفي ثقافتنا المميزة لهويتنا، لينطلق هذا التفعيل نحو مستقبل أفضل،
2
في اقتفاء هذه السبل لا تكفي الإشادة بالإنجازات التاريخية، التي تأتت على أساس العناية بقضية المنهج في المجالات الشتى، ولا يكفي أيضا سرد ماضي المناهج العلمية وإجرائياتها، التي أفضت إلى مرحلة تاريخ العلوم عند العرب التي كانت مزدهرة، يمكن تعميق هذا وذاك عن طريق تنضيد جذر العقلية المنهجية ذاتها، وأصول روحها المنبعثة في أعطاف حضارة، أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها، وفي هذا، وكما بينا في الفصل الثاني، يتقدم علم أصول الفقه كعلم منهجي بامتياز. وعن طريق بحث واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسس لها، يكشف عن منهجيات مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطن روح المنهجية في ثقافتنا ، وقد كانت واسطة العقد المنهجي عند الأصوليين في مناهج الاستدلال على العلة.
في علم الكلام القديم هو الآخر احتلت الطبيعة موقعا متميزا، لكنها كانت مشكلة أنطولوجية، ولا بد أن تتحول إلى مشكلة إبستمولوجية في علم الكلام الجديد، لتغدو مهمته هي تنضيد العقائد الدافعة إلى النظر في العالم الطبيعي.
3
ثمة موجهات للعقلانية التجريبية ثاوية في آيات قرآنية، ودعوة إلى التفكير المتبصر المسئول في الظواهر والموجودات. وردت مشتقات الجذر «علم» في أكثر من سبعمائة وخمسين آية، وما يقرب من خمسين آية تدعو إلى إعمال العقل، وآيات تحمل الحواس مسئوليتها، وتكفي الآية
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (سورة الإسراء، الآية: 36)، لتحيل إلى المسئولية عن تآزر هذه الأدوات - الحواس والعقل - وتكاملها في المنهج العلمي التجريبي، ومنذ أكثر من مائة عام خلت، عمل محمد إقبال (1877-1936م)، على لفت الأنظار إلى «الاتجاه التجريبي العام في القرآن»،
4
الذي كون في أتباعه شعورا بتقدير الواقع، جعل منهم حملة لواء المنهج العلمي التجريبي في عصر سؤددهم. القرآن يحمل قوة دافعة وقيما موجهة لتفعيل المنهج العلمي. •••
إنه توظيف للرصيد التراثي في استحضار واستنطاق ممكنات إيجابية في مكونات خصوصيتنا الحضارية، قادرة على القيام بدورها في إفساح المجال لتفعيل مفهوم المنهج العلمي، والإسهام في إزالة عقبات أو معوقات تحول دون تشريب واقعنا وثقافتنا المعيشة بروح هذا المفهوم،
5
أولى هذه المعوقات تكمن في الزعم بغيابها عن تراثنا وعن ثوابت ثقافتنا وغربة العلم عنا، وأنه صنيعة الآخر الغربي، ويرتبط بهذا النظرة التجديفية للعلم؛ فقد دخل ذات مرة - أو مرات - في صراع مع الكنيسة ومع الدين. وقد ننطق «العلمانية» خطأ بكسر العين، بعد أن نضعها كضد مقابل للدينية، ثم نستنفد الجهد في خيار عقيم وعصيب وزائف، وغير مطروح في ثقافتنا. وثمة أيضا معوقات آتية من النظرة التبجيلية التعجيزية للعلم؛ فهو منشط البلدان المتقدمة، والصفوة من أزكى الأفراد وأفضلهم، ومن عداهم لا شأن لهم بالمنهج العلمي. ومثلها النظرة الترفية للعلم، فهو يحتاج لتمويل واستعدادات وإمكانيات ضخمة لا قبل لنا بها، وبالتالي لا شأن لعمومنا وعوامنا بآلياتها، وعلى رأسها المنهج، ليتكرس همنا الثقافي فيما نستطيعه وما هو أكثر إلحاحا في عالمنا، وحسبنا التعليم لا العلم. وأيضا فكرة العلم النافع والعلم غير النافع، ليقتصر اهتمامنا على العلوم ذات التطبيقات التقانية المباشرة، التي تتحول على الفور إلى ما ينفع ويفيد، ودع عنك العلوم البحتة أو العلوم الأساسية، فضلا عن الأساس الأعمق لكل هذا وهو المنهج. وهذا التصور ناتج عن نظرة شائهة لمنظومة العلم، وكأنه بضعة أشياء نأخذ منها وندع! وليست نسقا محكوما بعلاقات منطقية.
الإيجابيات الماثلة لمفهوم المنهج العلمي، وارتهان التحديث والتقدم بفعالياته، لا يتيح لنا خيارا سوى العمل على إزالة مثل هذه العقبات وسواها، من أجل شحذ تفعيله في واقعنا ... نشدانا لحاضر منجز ومستقبل أفضل.
Page inconnue