الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَنَا لِأَدَاءِ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ، وَوَفَّقَنَا عَلَى كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِ أَكْمَلِ السَّعَادَاتِ، وَهَدَانَا إِلَى قَوْلِنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نَشْرَعُ فِي أَدَاءِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي له ما في السموات رَبِّ الْعالَمِينَ بِحَسَبِ كُلِّ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَأَرْبَابِ الضَّرُورَاتِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي إِيصَالِ الْأَبْرَارِ إِلَى الدَّرَجَاتِ، وَإِدْخَالِ الْفُجَّارِ فِي الدَّرَكَاتِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في القيام أداء جُمْلَةِ التَّكْلِيفَاتِ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِحَسَبِ كُلِّ أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ.
وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمُؤَيَّدِ بِأَفْضَلِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ بِحَسَبِ تَعَاقُبِ الْآيَاتِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرْحِ بَعْضِ ما رزقنا الله تعالى من علوم سورة الْفَاتِحَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي الدَّارَيْنِ أَهْلًا لِإِكْرَامِهِ وَإِنْعَامِهِ، إِنَّهُ خَيْرُ مُوَفِّقٍ وَمُعِينٍ، وَبِإِسْعَافِ الطَّالِبِينَ قَمِينٌ، وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب.
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (١): الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
مقدمة وففيها فُصُولٌ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عُلُومِ هذه السورة على سبيل الإجمال
علوم الفاتحة اعْلَمْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى لِسَانِي فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ فَوَائِدِهَا وَنَفَائِسِهَا عَشَرَةُ آلَافِ مَسْأَلَةٍ، فَاسْتَبْعَدَ هَذَا بَعْضُ الْحُسَّادِ، وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ وَالْعِنَادِ، وَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّعَلُّقَاتِ الْفَارِغَةِ عَنِ الْمَعَانِي، وَالْكَلِمَاتِ الْخَالِيَةِ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَعَاقِدِ وَالْمَبَانِي، فَلَمَّا شَرَعْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ، قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِتَصِيرَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْرٌ مُمْكِنُ الْحُصُولِ، قَرِيبُ الْوُصُولِ، فَنَقُولُ وبالله التوفيق:
1 / 21
تفسير الاستعاذة
إِنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ/ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
قَوْلُهُ ﷺ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ مَوْصُوفُونَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ ضَلَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْفِرَقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِصِفَاتِهِ، وَبِأَحْكَامِهِ، وَبِأَفْعَالِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ، وَبِمَسَائِلِ الْجَبْرِ، والقدر، والتعديل، والتجويز، وَالثَّوَابِ، وَالْمَعَادِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْأَسْمَاءِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْإِمَامَةِ، فإذا وزعنا عدد الْفِرَقَ الضَّالَّةَ- وَهُوَ الِاثْنَتَانِ وَالسَّبْعُونَ- عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ بَلَغَ الْعَدَدُ الْحَاصِلُ مَبْلَغًا عَظِيمًا، وَكُلُّ ذَلِكَ أَنْوَاعُ الضَّلَالَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ فِرَقَ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَقْرُبُونَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَإِذَا ضُمَّتْ أَنْوَاعُ ضَلَالَاتِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ بَلَغَ الْمَجْمُوعُ مَبْلَغًا عَظِيمًا فِي الْعَدَدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ، وَإِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَاطِلًا وَقَبِيحًا، فَظَهَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأُلُوفِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْحَقِيقِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَاطِلَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوْ فِي الْقِيَاسَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ تَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ، وَقَوْلُنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِهَا وَجُمْلَتِهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أَقَلَّ مِنَ المسائل المهمة المعتبرة.
1 / 22
سورة الفاتحة
تفسير البسملة
: وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷻ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَفِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْبَحْثِ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفًا وَوَاحِدًا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالِاسْمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بِالْمُسَمَّى، وَفِي الْبَحْثِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَعَنِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا، وَعَنْ أَجْوِبَةِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي نَفْيِهَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمَجْمُوعُهَا يَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ، النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ بَاءُ الْإِلْصَاقِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بِاسْمِ اللَّهِ أَشْرَعُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِيرُ مُلَخَّصًا مَعْلُومًا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى أَقْسَامِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ الْعَقَائِدُ الْحَقَّةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّافِيَةُ مَعَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَمَعَ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ رُبَّمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ قَوْلَهُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ) إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، فَقَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ لَا يَصِيرُ/ مَعْلُومًا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّافِيَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ العقل الصحيح، والحق الصريح.
نعم الله تعالى التي لا تحصى
: أَمَّا قَوْلُهُ ﷻ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَمْدًا عَلَى النِّعْمَةِ، وَالْحَمْدُ عَلَى النِّعْمَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، لَكِنَّ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالْإِحْصَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَلْنَتَكَلَّمْ فِي مِثَالٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَ ذَاتَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ نَفْسٍ وَبَدَنٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدْوَنَ الْجُزْءَيْنِ وَأَقَلَّهُمَا فَضِيلَةً وَمَنْفَعَةً هُوَ الْبَدَنُ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ التَّشْرِيحِ وَجَدُوا قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ نَوْعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي دَبَّرَهَا اللَّهُ ﷿ بِحِكْمَتِهِ فِي تَخْلِيقِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي «كُتُبِ التَّشْرِيحِ» عَرَفَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَقْسَامِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ آثَارُ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَأَطْبَاقِ السموات، وَأَجْرَامِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَوْنٍ مَخْصُوصٍ وَغَيْرِ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يُضَمُّ إِلَيْهَا آثَارُ حِكَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْأُمَّهَاتِ
1 / 23
وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ أَقْسَامِهَا وَأَحْوَالِهَا- عُلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهَا مَخْلُوقٌ لِمَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الْجَاثِيَةِ: ١٣] وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ﷻ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، أو أكثر أو أقل.
أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى
: وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷻ: رَبِّ الْعالَمِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ مُضَافٌ وَقَوْلَهُ: الْعالَمِينَ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ تَمْتَنِعُ مَعْرِفَتُهَا إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُتَضَايِفَيْنِ، فَمِنَ الْمُحَالِ حُصُولُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَبًّا لِلْعَالَمِينَ إِلَّا بعد معرفة رب والعالمين، ثُمَّ إِنَّ الْعَالَمِينَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْمُتَحَيِّزَاتُ، وَالْمُفَارِقَاتُ، وَالصِّفَاتُ. أَمَّا الْمُتَحَيِّزَاتُ فَهِيَ إِمَّا بسائط أو مركبات، أو الْبَسَائِطُ فَهِيَ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبَاتُ فَهِيَ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا جِسْمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ أَلْفَ أَلْفَ عَالَمٍ خَارِجَ الْعَالَمِ، / بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَعْظَمَ وَأَجْسَمَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَيَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا حَصَلَ فِي هَذَا الْعَالَمِ من العرش والكرسي والسموات وَالْأَرَضِينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَدَلَائِلُ الْفَلَاسِفَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْعَالَمَ وَاحِدٌ دَلَائِلُ ضَعِيفَةٌ رَكِيكَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَاهِيَةٍ، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ: -
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَمْ لِلَّهِ مِنْ فَلَكٍ ... تَجْرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ مَاضِينَا وَغَابِرُنَا ... فَمَا لَنَا فِي نَوَاحِي غَيْرِهِ خَطَرُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْمُتَحَيِّزَاتِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُلُوفِ أُلُوفٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، بَلِ الْإِنْسَانُ لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ وَأَرَادَ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِعَجَائِبِ الْمَعَادِنِ الْمُتَوَلِّدَةِ فِي أَرْحَامِ الْجِبَالِ مِنَ الْفِلِزَّاتِ وَالْأَحْجَارِ الصَّافِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْكَبَارِيتِ وَالزَّرَانِيخِ وَالْأَمْلَاحِ، وَأَنْ يَعْرِفَ عَجَائِبَ أَحْوَالِ النَّبَاتِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَزْهَارِ وَالْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ، وَعَجَائِبَ أَقْسَامِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالْحَشَرَاتِ- لَنَفِدَ عُمُرُهُ فِي أَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَلَا يَنْتَهِي إِلَى غَوْرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: ٢٧] وَهِيَ بِأَسْرِهَا وَأَجْمَعِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قوله رَبِّ الْعالَمِينَ.
رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها
: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّحْمَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيصِ مِنْ أَنْوَاعِ الْآفَاتِ، وَعَنْ إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَى أَصْحَابِ الْحَاجَاتِ، أَمَّا التَّخْلِيصُ عَنْ أَقْسَامِ الْآفَاتِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْآفَاتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا فَلْيُطَالِعْ «كُتُبَ الطِّبِّ» حَتَّى يَقِفَ عَقْلُهُ عَلَى أَقْسَامِ الْأَسْقَامِ الَّتِي يُمْكِنُ تَوَلُّدُهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، ثُمَّ يَتَأَمَّلْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ هَدَى عُقُولَ
1 / 24
الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا خَاضَ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَدَهُ بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ.
وَقَدْ حَكَى جَالِينُوسُ أَنَّهُ لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي مَنَافِعِ أَعْضَاءِ الْعَيْنِ قَالَ: بَخِلْتُ عَلَى النَّاسِ بِذِكْرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ الْعَصَبَيْنِ الْمُجَوَّفَيْنِ مُلْتَقِيَيْنِ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ يَا جَالِينُوسُ، إِنَّ إِلَهَكَ يَقُولُ: لِمَ بَخِلْتَ عَلَى عِبَادِي بِذِكْرِ حِكْمَتِي؟ قَالَ: فَانْتَبَهْتُ فَصَنَّفْتُ فِيهِ كِتَابًا، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ طِحَالِي قَدْ غَلُظَ فَعَالَجْتُهُ بِكُلِّ مَا عَرَفْتُ فَلَمْ يَنْفَعْ، فَرَأَيْتُ فِي الْهَيْكَلِ كَأَنَّ مَلَكًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَمَرَنِي بِفَصْدِ الْعِرْقِ الَّذِي بَيْنَ الْخِنْصِرِ وَالْبِنْصِرِ، وَأَكْثَرُ عَلَامَاتِ الطِّبِّ فِي أَوَائِلِهَا تَنْتَهِي إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ/ وَالْإِلْهَامَاتِ، فَإِذَا وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ عَرَفَ أَنَّ أَقْسَامَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ خارجة عن الضبط والإحصاء.
أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية
: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَسُنُوهُ كَالْفَرَاسِخِ، وَشُهُورُهُ كَالْأَمْيَالِ، وَأَنْفَاسُهُ كَالْخُطُوَاتِ، وَمَقْصِدُهُ الْوُصُولُ إِلَى عَالَمِ أُخْرَاهُ، لِأَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَإِذَا شَاهَدَ فِي الطَّرِيقِ أَنْوَاعَ هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فَلْيَنْظُرْ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عَجَائِبُ حَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ فِي الْغِبْطَةِ وَالْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هذه فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةٌ إِلَى مَسَائِلِ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: بَعْضُهَا عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَعْضُهَا سَمْعِيَّةٌ:
أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ الْمَحْضَةُ
فَكَقَوْلِنَا: هَذَا الْعَالَمُ يُمْكِنُ تَخْرِيبُهُ وَإِعْدَامُهُ، ثُمَّ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ تُمْكِنُ إِعَادَتُهُ، وَهَذَا الْبَابُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَكَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا، وَكَيْفِيَّةِ بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَدَنِ، وَكَيْفِيَّةِ سَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا، وَبَيَانِ قُدْرَةِ اللَّهِ ﷿ عَلَى إِعَادَتِهَا، وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمَا يَقْرُبُ مِنْ خَمْسِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ
فَهِيَ عَلَى ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَتِلْكَ الْعَلَامَاتُ مِنْهَا صَغِيرَةٌ، وَمِنْهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ الْعَشْرَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ أَحْوَالَهَا. وَثَانِيهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَمَوْتِ الخلائق، وتخريب السموات وَالْكَوَاكِبِ، وَمَوْتِ الرُّوحَانِيِّينَ وَالْجِسْمَانِيِّينَ. وَثَالِثُهَا: الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَشَرْحِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا كَيْفِيَّةُ وُقُوفِ الْخَلْقِ، وَكَيْفِيَّةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا، وَكَيْفِيَّةُ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ ﵈، وَكَيْفِيَّةُ الْحِسَابِ، وَكَيْفِيَّةُ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَذَهَابِ فَرِيقٍ إِلَى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ إِلَى النَّارِ، وَكَيْفِيَّةُ صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ شَرْحُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا، وَشَرْحُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُونَهَا، وَلَعَلَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ يَبْلُغُ الْأُلُوفَ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى
1 / 25
سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْآمِرِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا وَاحِدًا. قَادِرًا عَلَى مَقْدُورَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، عَالِمًا بِمَعْلُومَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ عِبَادَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلَائِقِ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ- فَإِنَّهُ/ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِلَوَازِمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَقَامِ الْمَذْكُورِ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ أَقْسَامِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَمِيعُ مَا صُنِّفَ فِي الدِّينِ مَنْ «كُتُبِ الْفِقْهِ» يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ، ثُمَّ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ الشَّرَائِعِ الَّتِي قَدْ كَانَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَيْضًا يَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَائِعُ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا مَلَائِكَتَهُ فِي السموات مُنْذُ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَأَمَرَهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَأَيْضًا «فَكُتُبُ الْفِقْهِ» مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَرْحِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا أَقْسَامُ التَّكَالِيفِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَهِيَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَهِيَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا «كُتُبُ الْأَخْلَاقِ»، و«كتب السِّيَاسَاتِ»، بِحَسَبِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأُمَمِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرَ الْإِنْسَانُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَعَلِمَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهَا كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ الَّذِي لَا تَصِلُ الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ إِلَّا إِلَى الْقَلِيلِ مِنْهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ ﷻ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْهِدَايَةِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، وَالثَّانِي: بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَالرِّيَاضَةِ، أَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهَا غير متناهية لأنها لَا ذَرَّةَ مِنْ ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ إِلَّا وَتِلْكَ الذَّرَّةُ شَاهِدَةٌ بِكَمَالِ إِلَهِيَّتِهِ، وَبِعِزَّةِ عِزَّتِهِ، وَبِجَلَالِ صَمَدِيَّتِهِ، كَمَا قِيلَ: -
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي مَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ، وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالْأَحْوَالُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَجْلِ الْجِسْمِيَّةِ أَوْ لَوَازِمِ الْجِسْمِيَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، بَلْ كَانَ تَأْثِيرُهُ بِالْفَيْضِ وَالطَّبْعِ عَادَ الْإِلْزَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِوَاءِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ واحد من ذرات السموات وَالْأَرْضِ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَمُخْبِرٌ نَاطِقٌ، بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ ﵀ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ أَنْوَاعًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا اتِّصَافُهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ/ عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ الْوُقُوعِ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَبَاحِثِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ. وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْهِدَايَةِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصْفِيَةِ فَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْهَجٌ خاص، ومشرب معين، كما قال: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[البقرة: ١٤٨] وَلَا وُقُوفَ لِلْعُقُولِ عَلَى تِلْكَ الْأَسْرَارِ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَ الْأَفْهَامِ مِنْ مَبَادِئِ مَيَادِينِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَالْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ لَحَظُوا فِيهَا مَبَاحِثَ عَمِيقَةً، وَأَسْرَارًا دَقِيقَةً، قَلَّمَا تَرْقَى إِلَيْهَا أَفْهَامُ الْأَكْثَرِينَ.
1 / 26
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷻ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَمَا أَجَلَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَأَعْظَمَ مَرَاتِبِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ! وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانَاتِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَبَادِئِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِالْبَيَانِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَبَاحِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَسْرَارٍ لَا غَايَةَ لَهَا، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ، كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَقْرِيرِ مَشْرَعٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ
وَلْنَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ فَنَقُولُ: أَعُوذُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ «بِاللَّهِ» فَهِيَ بَاءُ الْإِلْصَاقِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَحُرُوفُ الْجَرِّ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُرُوفِ. وَأَمَّا قَوْلُنَا «اللَّهُ» فَهُوَ اسْمٌ مُعَيَّنٌ: إِمَّا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، أَوْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مُطْلَقِ الِاسْمِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، أَنَّ مَعْرِفَةَ النَّوْعِ مُمْتَنِعٌ حُصُولُهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْجِنْسَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ النَّوْعِ، وَالْعِلْمُ بِالْبَسِيطِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُنَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ حُدُودِهَا وَخَوَاصِّهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ الِاسْمِ إِلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ، وَإِلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ، وَإِلَى اسْمِ الْجِنْسِ، وَتَعْرِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِحَدِّهِ وَرَسْمِهِ وَخَوَاصِّهِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَجِبُ الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَفْظَةَ اللَّهِ اسْمٌ عَلَمٌ، أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاذَا؟ وَيُذْكَرُ فِيهِ الْوُجُوهُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي قِيلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَيْضًا يَجِبُ الْبَحْثُ/ عَنْ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ أَقْسَامُ الْفِعْلِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَيُذْكَرُ حَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ وَأَقْسَامُهُ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقَوْلِنَا «أَعُوذُ» عَلَى التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ حَرْفُ الْجَرِّ وَحَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ وَأَحْكَامُهُ ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ بَاءُ الْإِلْصَاقِ وَحَدُّهُ وَخَوَاصُّهُ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى تَمَامِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ يَحْصُلُ الْوُقُوفُ عَلَى تَمَامِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِقَوْلِهِ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَبَاحِثَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى مَعَاقِدِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ أَنْ نَقُولَ: الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْكَلِمَةِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ أَيْضًا عَنْ مَاهِيَّةِ الْكَلِمَةِ وَحَدِّهَا وَخَوَاصِّهَا، وَأَيْضًا فَهَهُنَا أَلْفَاظٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِالْكَلِمَةِ، وَهِيَ: الْكَلَامُ، وَالْقَوْلُ، وَاللَّفْظُ، وَاللُّغَةُ، وَالْعِبَارَةُ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ، أَوْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظًا مُتَبَايِنَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ تِلْكَ الْفُرُوقِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّحْصِيلِ.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ الْبَحْثِ أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْأَصْوَاتِ
1 / 27
وَالْحُرُوفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ الصَّوْتِ، وَعَنْ أَسْبَابِ وُجُودِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُدُوثَ الصَّوْتِ فِي الْحَيَوَانِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ خُرُوجِ النَّفَسِ مِنَ الصَّدْرِ، فَعِنْدَهَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ النَّفَسِ، وَأَنَّهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَنَفِّسًا عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَأَنَّ هَذَا الصَّوْتَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ اسْتِدْخَالِ النَّفَسِ أَوْ بِسَبَبِ إِخْرَاجِهِ، وَعِنْدَ هَذَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ، وَمَعْرِفَةِ الْحِجَابِ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ الْأَوَّلُ لِحَرَكَةِ الصَّوْتِ وَمَعْرِفَةِ سَائِرِ الْعَضَلَاتِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْبَطْنِ وَالْحَنْجَرَةِ وَاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَرْفُ فَيَجِبُ الْبَحْثُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَفْسُ الصَّوْتِ، أَوْ هَيْئَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي الصَّوْتِ مُغَايِرَةٌ لَهُ؟ وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ عِنْدَ تَقْطِيعِ الصَّوْتِ، وَهِيَ مَخَارِجُ مَخْصُوصَةٌ فِي الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَحَابِسِ، وَيَجِبُ أَيْضًا الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْعَضَلَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا تَتَمَكَّنُ الْحَيَوَانَاتُ مِنْ إِدْخَالِ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْجِنْسِ فِي الْوُجُودِ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ لَا تَتِمُّ دَلَالَتُهَا إِلَّا عِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى عِلْمِ التَّشْرِيحِ.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْبَحْثِ هِيَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَأَمَّا الْأَلْوَانُ وَالْأَضْوَاءُ فَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَالطُّعُومُ كَيْفِيَّاتٌ مَحْسُوسَةٌ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتُ/ أَنْوَاعٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ بِتَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهَا إِلَّا بِاللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ أَمْ لَا؟.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: مِنَ الْبَحْثِ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْكَيْفِ فِي الْمَشْهُورِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ تَعْرِيفِ مَقُولَةِ الْكَيْفِ، ثُمَّ يَجِبُ الْبَحْثُ أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى مَا تَحْتَهُ هَلْ هُوَ قَوْلُ الْجِنْسِ عَلَى الْأَنْوَاعِ أَمْ لَا؟.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ مَقُولَةَ الْكَيْفِ، وَمَقُولَةَ الْكَمِّ، وَمَقُولَةَ النِّسْبَةِ عَرَضٌ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ مَقُولَةِ الْعَرَضِ وَأَقْسَامِهِ، وَعَنْ أَحْكَامِهِ وَلَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ.
ثُمَّ نقول: والمرتبة التاسعة: أن العرض والجواهر يشتركان في الدخول تحت الممكن وَالْوَاجِبُ مُشْتَرِكَانِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ لَوَاحِقِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةُ وقوع الموجود على الواجب وَالْمُمْكِنِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ قَوْلُ الْجِنْسِ عَلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ هُوَ قَوْلُ اللَّوَازِمِ عَلَى مَوْصُوفَاتِهَا وَسَائِرُ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْبَابِ.
ثُمَّ نَقُولُ: وَالْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْلُومَ وَالْمَذْكُورَ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ يَدْخُلُ فِيهَا الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنَ الْمَوْجُودِ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْمَظْنُونُ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْلُومِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ أَعَمَّ الِاعْتِبَارَاتِ هُوَ الْمَعْلُومُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُقَابِلُهُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ، لَكِنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ امْتَنَعَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِغَيْرِهِ، فَلَمَّا حَكَمْنَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْلُومِ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِلْمَعْلُومِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ مَعْلُومًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُقَابِلُ لِلْمَعْلُومِ مَعْلُومًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَشَرَةَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدِ انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ مَبَاحِثَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَا يُحِيطُ عَقْلُهُ بِأَقَلِّ الْقَلِيلِ مِنْهَا، فَظَهَرَ بِهَذَا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ لِلْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ القليلة
1 / 28
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ مَشْرَعٍ آخَرَ لِتَصْحِيحِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ
اعْلَمْ أَنَّا إِذَا ذَكَرْنَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَدَلَّلْنَا عَلَى صِحَّتِهَا بِوُجُوهٍ عَشَرَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ وَالدَّلَائِلِ مَسْأَلَةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ إِذَا حَكَيْنَا فِيهَا مَثَلًا شُبُهَاتٍ خَمْسَةً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَيْضًا مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ إِذَا أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِجَوَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَتِلْكَ الْأَجْوِبَةُ/ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا مَسَائِلُ ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا قُلْنَا مَثَلًا: الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ جَاءَتْ عَلَى سِتِّينَ وَجْهًا، وَفَصَّلْنَا تِلْكَ الْوُجُوهَ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ سِتُّونَ مَسْأَلَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالتَّقْرِيرِ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَسْأَلَةً عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا وَقَفْتَ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَنَقُولُ: إِنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَبَاحِثَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَقْسِيمِ الْأَفْعَالِ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَذْكُورِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَقُولَةِ الْكَيْفِ وَكَيْفِيَّةِ انْقِسَامِهِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ وَغَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّوْتِ وَكَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ وَكَيْفِيَّةِ الْعَضَلَاتِ الْمُحْدِثَةِ لِلْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ- عَظُمَ الْخَطْبُ، وَاتَّسَعَ الْبَابُ، وَلَكِنَّا نَبْدَأُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، ثُمَّ نَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَقْسِيمَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْعَمِيمِ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ الْكَرِيمِ.
الْكِتَابُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ وَالثَّانِي:
الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَبَاحِثِ الْأَدَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِيهِ أَبْوَابٌ
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَلِمَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَكْمَلَ الطُّرُقِ فِي تَعْرِيفِ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ هُوَ طَرِيقَةُ الِاشْتِقَاقِ، ثُمَّ إِنَّ الِاشْتِقَاقَ عَلَى نَوْعَيْنِ: الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ، وَالِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ، أَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ فَمِثْلُ اشْتِقَاقِ صِيغَةِ الْمَاضِي
1 / 29
وَالْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَمِثْلُ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ واسم المفعول وغير هما مِنْهُ، وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْحُرُوفِ كَانَتْ قَابِلَةً/ لِلِانْقِلَابَاتِ لَا مَحَالَةَ، فَنَقُولُ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا تَقْبَلُ إِلَّا نَوْعَيْنِ مِنَ التَّقْلِيبِ، كَقَوْلِنَا: «مَنْ» وَقَلْبُهُ «نَمْ» وَبَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَقَوْلِنَا: «حَمْدٌ» وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَقْبَلُ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التَّقْدِيرَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحَرْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ لَكِنَّ ضَرْبَ الثَّلَاثَةِ فِي اثْنَيْنِ بِسِتَّةٍ فَهَذِهِ التَّقْلِيبَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْكَلِمَاتِ الثُّلَاثِيَّاتِ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ رُبَاعِيَّةً كَقَوْلِنَا:
«عَقْرَبٌ، وَثَعْلَبٌ» وَهِيَ تَقْبَلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ ابْتِدَاءً لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَضَرْبُ أَرْبَعَةٍ فِي سِتَّةٍ يُفِيدُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً كَقَوْلِنَا: «سَفَرْجَلٌ» وَهِيَ تَقْبَلُ مِائَةً وَعِشْرِينَ نَوْعًا مِنَ التَّقْلِيبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ ابْتِدَاءً لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَضَرْبُ خَمْسَةٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَالضَّابِطُ فِي الْبَابِ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ التَّقَالِيبَ الْمُمْكِنَةَ فِي الْعَدَدِ الْأَقَلِّ ثُمَّ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ عَدَدَ التَّقَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي فَوْقَهُ فَاضْرِبِ الْعَدَدَ الْفَوْقَانِيَّ فِي الْعَدَدِ الْحَاصِلِ مِنَ التَّقَالِيبِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَدَدِ الْفَوْقَانِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ حَالِ الِاشْتِقَاقِ الْأَصْغَرِ سَهْلٌ مُعْتَادٌ مَأْلُوفٌ، أَمَّا الِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ فَرِعَايَتُهُ صَعْبَةٌ، وَكَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ إِلَّا فِي الْكَلِمَاتِ الثُّلَاثِيَّةِ لِأَنَّ تَقَالِيبَهَا لَا تَزِيدُ عَلَى السِّتَّةِ، أَمَّا الرُّبَاعِيَّاتُ وَالْخُمَاسِيَّاتُ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَكْثَرُ تِلْكَ التَّرْكِيبَاتِ تَكُونُ مُهْمَلَةً فَلَا يُمْكِنُ رِعَايَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاشْتِقَاقِ فِيهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ.
وَأَيْضًا الْكَلِمَاتُ الثُّلَاثِيَّةُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَكُونُ جَمِيعُ تَقَالِيبِهَا الْمُمْكِنَةِ مُعْتَبَرَةً. بَلْ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ بَعْضُهَا مُسْتَعْمَلًا وَبَعْضُهَا مُهْمَلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ مِنْهُ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ: اعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ الْكَافِ وَاللَّامِ وَالْمِيمِ بِحَسَبِ تَقَالِيبِهَا الْمُمْكِنَةِ السِّتَّةِ تُفِيدُ القوة والشدة، خمسة منها معتبرة، وواحدة ضَائِعٌ، فَالْأَوَّلُ: «ك ل م» فَمِنْهُ الْكَلَامُ، لِأَنَّهُ يَقْرَعُ السَّمْعَ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَأَيْضًا يُؤَثِّرُ فِي الذِّهْنِ بِوَاسِطَةِ إِفَادَةِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ/ الْكَلْمُ لِلْجَرْحِ، وَفِيهِ شِدَّةٌ، وَالْكُلَامُ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِشِدَّتِهِ، الثَّانِي: «ك م ل» لِأَنَّ الْكَامِلَ أَقْوَى مِنَ النَّاقِصِ، وَالثَّالِثُ: «ل ك م» وَمَعْنَى الشِّدَّةِ فِي اللَّكْمِ ظَاهِرٌ، وَالرَّابِعُ: «م ك ل» وَمِنْهُ «بِئْرٌ مَكُولٌ» إِذَا قَلَّ مَاؤُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُرُودُهَا مَكْرُوهًا فَيَحْصُلُ نَوْعُ شِدَّةٍ عِنْدَ وُرُودِهَا، الْخَامِسُ: «م ل ك» يُقَالُ «مَلَكْتَ الْعَجِينَ» إِذَا أَمْعَنْتَ عَجْنَهُ فَاشْتَدَّ وَقَوِيَ، وَمِنْهُ «مَلَكَ الْإِنْسَانُ» لِأَنَّهُ نَوْعُ قُدْرَةٍ، وَ«أُمْلِكَتِ الْجَارِيَةُ» لِأَنَّ بَعْلَهَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَفْظُ الْكَلِمَةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَدِ ارْتَبَطَ بَعْضُهُ
1 / 30
بِبَعْضٍ كَتَسْمِيَتِهِمُ الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا «كَلِمَةً»، وَمِنْهَا يُقَالُ: «كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ»، وَيُقَالُ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، وَلَمَّا كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ عَلِمْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُرَكَّبِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ إِذَا ارْتَبَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَصَلَتْ لَهُ وِحْدَةٌ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمُفْرَدِ فِي تِلْكَ الْوُجُوهِ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ الْمَجَازِ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الطَّوِيلِ لِهَذَا السَّبَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَفْظُ الْكَلِمَةِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِمَفْهُومَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقَالُ لِعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ، إِمَّا لِأَنَّهُ حَدَثَ بِقَوْلِهِ: «كُنْ» أَوْ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ كَمَا تَحْدُثُ الْكَلِمَةُ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى أَفْعَالَهُ كَلِمَاتٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي: [الكهف: ١٠٩] وَالسَّبَبُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْقَوْلِ: هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسَبِ تَقَالِيبِهِ السِّتَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْخِفَّةِ، فالأول:
«ق ول» فَمِنْهُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ سَهْلٌ عَلَى اللسان، الثاني: «ق ل و» وَمِنْهُ الْقِلْوُ وَهُوَ حِمَارُ الْوَحْشِ، وَذَلِكَ لِخِفَّتَهِ فِي الْحَرَكَةِ وَمِنْهُ «قَلَوْتُ الْبُرَّ وَالسَّوِيقَ» فَهُمَا مَقْلُوَّانِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا قُلِيَ جَفَّ وَخَفَّ فَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى الْحَرَكَةِ، وَمِنْهُ الْقَلَوْلَى، وَهُوَ الخفيف الطائش، والثالث: «وق ل» الْوَقِلُ الْوَعِلُ، وَذَلِكَ لِحَرَكَتِهِ، وَيُقَالُ «تَوَقَّلَ في الجبل» إذا صعد فيه، والرابع: «ول ق» يُقَالُ: وَلَقَ يَلِقُ إِذَا أَسْرَعَ، وَقُرِئَ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: ١٥] أي: تخفون وتسرعون، والخامس: «ل وق» كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ «لَا آكُلُ الطَّعَامَ إِلَّا مَا لُوِّقَ لِي»
أَيْ: أُعْمِلَتِ الْيَدُ فِي تَحْرِيكِهِ وَتَلْيِينِهِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَمِنْهُ اللُّوقَةُ وَهِيَ الزُّبْدَةُ قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِخِفَّتِهَا وَإِسْرَاعِ حَرَكَتِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِهَا مَسْكَةُ الْجُبْنِ وَالْمَصْلِ، وَالسَّادِسُ: «ل ق و» وَمِنْهُ اللَّقْوَةُ وَهِيَ الْعُقَابُ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِخِفَّتِهَا وَسُرْعَةِ طَيَرَانِهَا، وَمِنْهُ اللَّقْوَةُ فِي الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ اضْطَرَبَ شَكْلُهُ فَكَأَنَّهُ خِفَّةٌ فِيهِ وَطَيْشٌ، وَاللِّقْوَةُ النَّاقَةُ السَّرِيعَةُ اللِّقَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ جِنِّي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اللُّغَةُ فُعْلَةٌ مِنْ لَغَوْتُ أي: تلكمت، وَأَصْلُهَا لُغْوَةٌ كَكُرَةٍ وَقُلَةٍ فَإِنَّ لَامَاتِهَا كُلَّهَا وَاوَاتٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ كَرَوْتُ بِالْكُرَةِ وَقَلَوْتُ بِالْقُلَةِ، وقيل فيه لغى يلغى إذا هذا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا: [الْفُرْقَانِ: ٧٢] قُلْتُ: إِنَّ ابْنَ جِنِّي قَدِ اعْتَبَرَ الِاشْتِقَاقَ الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره هاهنا، وَهُوَ حَاصِلٌ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ: «ل غ و» وَمِنْهُ اللُّغَةُ وَمِنْهُ أَيْضًا الْكَلَامُ اللَّغْوُ، وَالْعَمَلُ اللغو، والثاني: «ل وغ» وَيُبْحَثُ عَنْهُ، وَالثَّالِثُ: «غ ل و» وَمِنْهُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ غُلُوٌّ فِي كَذَا، وَمِنْهُ الْغَلْوَةُ، والرابع:
«غ ول» ومنه قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ: [الصافات: ٤٧] والخامس: «وغ ل» وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ أَوْغَلَ فِي كَذَا والسادس: «ول غ» وَمِنْهُ يُقَالُ: وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ هُوَ الْإِمْعَانُ فِي الشَّيْءِ وَالْخَوْضُ التَّامُّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي اللَّفْظِ: وَأَقُولُ: أَظُنُّ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ عَلَى سبيل المجاز، وذلك لأنها إنما تحدث عنه إِخْرَاجِ النَّفَسِ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى الْخَارِجِ فَالْإِنْسَانُ عِنْدَ إِخْرَاجِ النَّفَسِ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى الْخَارِجِ يَحْبِسُهُ فِي الْمَحَابِسِ الْمُعَيَّنَةِ، ثُمَّ يُزِيلُ ذَلِكَ الْحَبْسَ، فَتَتَوَلَّدُ تِلْكَ الْحُرُوفُ فِي آخِرِ زَمَانِ حَبْسِ النَّفَسِ وَأَوَّلِ زَمَانِ إِطْلَاقِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّفْظَ هُوَ: الرَّمْيُ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي هَذِهِ الْأَصْوَاتِ
1 / 31
وَالْحُرُوفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْمِي ذَلِكَ النَّفَسَ مِنْ دَاخِلِ الصَّدْرِ إِلَى خَارِجِهِ وَيَلْفِظُهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِخْرَاجُ، وَاللَّفْظُ سَبَبٌ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالثَّانِي: أَنَّ تَوَلُّدَ الْحُرُوفِ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ لَفْظِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ صَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْفِظُ تِلْكَ الْحُرُوفَ وَيَرْمِيهَا مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ، الْعِبَارَةُ: وَتَرْكِيبُهَا مِنْ «ع ب ر» وَهِيَ فِي تَقَالِيبِهَا السِّتَّةِ تُفِيدُ الْعُبُورَ وَالِانْتِقَالَ، فَالْأَوَّلُ:
«ع ب ر» وَمِنْهُ الْعِبَارَةُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا إِلَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ، وَأَيْضًا كَأَنَّهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعِبَارَةِ يَنْتَقِلُ الْمَعْنَى مِنْ ذِهْنِ نَفْسِهِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَمِنْهُ الْعَبْرَةُ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّمْعَةَ تَنْتَقِلُ مِنْ دَاخِلِ الْعَيْنِ إِلَى الْخَارِجِ، وَمِنْهُ الْعِبَرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ فِيهَا مِنَ الشَّاهِدِ إِلَى الْغَائِبِ. وَمِنْهُ الْمَعْبَرُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ بِوَاسِطَتِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَحْرِ إِلَى الثَّانِي، وَمِنْهُ التَّعْبِيرُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِمَّا يَرَاهُ فِي النَّوْمِ إِلَى الْمَعَانِي الْغَائِبَةِ، وَالثَّانِي:
«ع ر ب» وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْعَرَبِ بِالْعَرَبِ لِكَثْرَةِ انْتِقَالَاتِهِمْ بِسَبَبِ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ/ وَمِنْهُ «فُلَانٌ أَعْرَبَ فِي كَلَامِهِ» لِأَنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْإِعْرَابِ يَكُونُ مَجْهُولًا فَإِذَا دَخَلَهُ الْإِعْرَابُ انْتَقَلَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، وَالثَّالِثُ: «ب ر ع» وَمِنْهُ «فُلَانٌ بَرَعَ فِي كَذَا» إِذَا تَكَامَلَ وَتَزَايَدَ، الرَّابِعُ: «ب ع ر» وَمِنْهُ الْبَعْرُ لِكَوْنِهِ مُنْتَقِلًا مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، الْخَامِسُ: «ر ع ب» وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْخَوْفِ رُعْبٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَقِلُ عِنْدَ حُدُوثِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أُخْرَى، وَالسَّادِسُ: «ر ب ع» وَمِنْهُ الرَّبُعُ لِأَنَّ النَّاسَ ينتقلون منها وإليها.
الفرق بين الكلمة والكلام:
المسألة العاشرة: [الفرق بين الكلمة والكلام] قال أكثر النحويون: الْكَلِمَةُ غَيْرُ الْكَلَامِ، فَالْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الْمُفْرَدَةُ، وَالْكَلَامُ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ وَالْمُرَكَّبَ، وَابْنُ جِنِّي وَافَقَ النَّحْوِيِّينَ وَاسْتَبْعَدَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمَا رَأَيْتُ فِي كَلَامِهِ حُجَّةً قَوِيَّةً فِي الْفَرْقِ سِوَى أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ كَلَامًا مُشْعِرًا بِأَنَّ لَفَظَ الْكَلَامِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ، وَذَكَرَ كَلِمَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَا يُضَادُّ الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، وَالتَّكَلُّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ يُضَادُّ الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، فَكَانَ كَلَامًا، الثَّانِي: أَنَّ اشْتِقَاقَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْكَلْمِ، وَهُوَ الْجَرْحُ وَالتَّأْثِيرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مَعْنَاهَا، فَهَهُنَا قَدْ حَصَلَ مَعْنَى التَّأْثِيرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا، وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ فُلَانًا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إِنَّهُ مَا تَكَلَّمَ إِلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ كَلَامٌ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، الرَّابِعُ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ فُلَانٌ بِكَلَامٍ غَيْرِ تَامٍّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِفَادَةِ التامة غير معتبر في اسم الكلام.
مسألة فقهية في الطلاق:
المسألة الحادية عشرة [مسألة فقهية في الطلاق]: تَفَرَّعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَهِيَ أُولَى مَسَائِلِ أَيْمَانِ «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا: إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: إن ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَهَلْ تَنْعَقِدُ هَذِهِ الثَّانِيَةُ طَلْقَةً؟
1 / 32
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: تَنْعَقِدُ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَنْعَقِدُ، وَحُجَّةُ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَلَّمْتُكِ فَعِنْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ حَصَلَ الشَّرْطُ، لِأَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا أَفَادَ شَيْئًا، سَوَاءٌ أَفَادَ فَائِدَةً تَامَّةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْجَزَاءُ، وَطُلِّقَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ كَلَّمْتُكِ، فَوَقَعَ تَمَامُ قَوْلِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ» خَارِجَ تَمَامِ مَلْكِ النِّكَاحِ، وَغَيْرَ مُضَافٍ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ- وَهُوَ قَوْلُهُ إِنْ كَلَّمْتُكِ- غَيْرُ تَامٍّ، وَالْكَلَامُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ/ إِلَّا عِنْدَ تَمَامِ قَوْلِهِ إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ كان القول قول زفر، وإن قلنا إنه لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْجُمْلَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ زُفَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ «إِنْ كَلَّمْتُكِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ قَوْلَهُ:
«فَأَنْتِ طَالِقٌ» طلقت، لولا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَلَامٌ وَإِلَّا لَمَا طُلِّقَتْ، وَمِمَّا يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: «كُلَّمَا كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ» ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَكَلِمَةُ «كُلَّمَا» تُوجِبُ التَّكْرَارَ فَلَوْ كَانَ التَّكَلُّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَلَامًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: «كُلَّمَا كَلَّمْتُكِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ قَوْلَهُ: «فَأَنْتِ طَالِقٌ» لِأَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ الْكَلِمَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَأَقُولُ: لَعَلَّ زُفَرَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا قَالَ:
«إِنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ» أَمَّا لَوْ قَالَ: «إِنْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ» أَوْ قَالَ: «إِنْ نَطَقْتُ» أَوْ قَالَ: «إِنْ تَلَفَّظْتُ بِلَفْظَةٍ» أَوْ قَالَ: «إِنْ قُلْتُ قَوْلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ» وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلَ زُفَرَ قَوْلًا وَاحِدًا، والله أعلم.
هل يطلق الكلام على المهمل:
المسألة الثالثة عشرة [هل يطلق الكلام على المهمل]: لَفْظُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُهْمَلَ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ مِنْهُ مُهْمَلٌ وَمِنْهُ مُسْتَعْمَلٌ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ، وَلِأَنَّ الْمُهْمَلَ يُؤَثِّرُ فِي السَّمْعِ فَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْثِيرِ وَالْكَلَامِ حَاصِلًا فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلَامُ مُخْتَصَّانِ بِالْمُفِيدِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا الْقَيْدُ لَزِمَ تَجْوِيزُ تَسْمِيَةِ أصوات الطيور بالكلمة والكلام.
هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاما:
المسألة الرابعة عشرة [هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاما]: إِذَا حَصَلَتْ أَصْوَاتٌ مُتَرَكِّبَةٌ تَرْكِيبًا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ كَانَ تَرْكِيبًا طَبِيعِيًّا لَا وَضْعِيًّا فَهَلْ يُسَمَّى مِثْلُ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ كَلِمَةً وَكَلَامًا؟ مِثْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الرَّاحَةِ أَوِ الْوَجَعِ قَدْ يَقُولُ أَخْ، وَعِنْدَ السُّعَالِ قَدْ يَقُولُ أَحْ أَحْ، فَهَذِهِ أَصْوَاتٌ مُرَكَّبَةٌ، وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ، لَكِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى مَدْلُولَاتِهَا بِالطَّبْعِ لَا بِالْوَضْعِ، فَهَلْ تُسَمَّى أَمْثَالُهَا كَلِمَاتٍ؟ وَكَذَلِكَ صَوْتُ الْقَطَا يُشْبِهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ قَطَا، وَصَوْتُ اللَّقْلَقِ يُشْبِهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَقْ لَقْ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ هَلْ تُسَمَّى كَلِمَاتٍ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا رَأَيْتُ فِي الْجَانِبَيْنِ حُجَّةً مُعْتَبَرَةً، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ تَظْهَرُ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ سَمِعْتُ كَلِمَةً فَعَبْدِي حُرٌّ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ عَلَى سَمَاعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَمْ لَا؟.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: لَفْظُ الْقَوْلِ يَقَعُ عَلَى الْكَلَامِ التَّامِّ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، على
1 / 33
سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، أَمَّا لَفْظُ الْكَلَامِ فَمُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، وَلَفْظُ الْكَلِمَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُفْرَدِ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّا إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ تَرْكِيبَ الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى الْخِفَّةِ وَالسُّهُولَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ، أَمَّا تَرْكِيبُ الْكَلَامِ فَيُفِيدُ التَّأْثِيرَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِلَفْظِ الْكَلِمَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: -
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
سَمَّى نُطْقَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَافِ قَوْلًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَيْضًا إِنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ يَصِحُّ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ، أَيْ: يَعْتَقِدُ مَا كَانَا يَرَيَانِهِ وَيَقُولَانِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ رَجُلًا عَنْ صِحَّةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، فَتَقُولُ: هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا تَقُولُ هَذَا كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَسُّفِ، وَذَكَرَ أَنَّ السَّبَبَ فِي حُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِغَيْرِهِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا جَرَمَ حَصَلَ سبب جعله مجازا عنه.
يستعمل القول في غير النطق:
المسألة السابعة عشرة [يستعمل القول في غير النطق]: لَفْظُ قَالَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ النُّطْقِ، قَالَ أَبُو النَّجْمِ: -
قَالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ رَاشِدَا ... إِنَّكَ لَا تَرْجِعُ إِلَّا حَامِدَا
وَقَالَ آخَرُ: -
وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحَدَّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ
وَقَالَ: -
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتُ بَطْنِي
وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتَدِ لِمَ تَشُقُّنِي، قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، فَإِنَّ الَّذِي وَرَايِي مَا خَلَّانِي وَرَأْيِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: [النَّحْلِ: ٤٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ: [فُصِّلَتْ: ١١] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الَّذِينَ يُنْكِرُونَ كَلَامَ النَّفْسِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَالْقَوْلَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْكَلِمَاتِ، أَمَّا مُثْبِتُو كَلَامِ النَّفْسِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيَّ يُسَمَّى بِالْكَلَامِ وَبِالْقَوْلِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَثَرِ وَالشِّعْرِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ: [الْمُنَافِقُونَ: ١] وَظَاهِرٌ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّ مُحَمَّدًا/ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانُوا صَادِقِينَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس، ولقائل أن يقول: لا نسلم أنهم ما كَانُوا كَاذِبِينَ فِي الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، قَوْلُهُ: «أَخْبَرُوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ أَخْبَرُوا عَنْ كَوْنِهِمْ شَاهِدِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ: [المنافقون: ١] وَالشَّهَادَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ، وَهُمْ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا نُقِلَ
1 / 34
أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: كُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا فَسَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بكر، وأما الشاعر فَقَوْلُ الْأَخْطَلِ: -
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما اللذين أَنْكَرُوا كَوْنَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ يُسَمَّى بِالْكَلَامِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْطِقْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِالْحُرُوفِ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَأَيْضًا الْحِنْثُ وَالْبِرُّ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: اسْمُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيِّ وَبَيْنَ اللَّفْظِ اللِّسَانِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَارَاتُ قَدْ تُسَمَّى أَحَادِيثَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: ٣٤] وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا تَتَرَكَّبُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْمُتَوَالِيَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ يَحْدُثُ عَقِيبَ صَاحِبِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ بِالْحَدِيثِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ سَمَاعَهَا يُحْدِثُ فِي الْقُلُوبِ الْعُلُومَ وَالْمَعَانِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة العشرون: هاهنا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، فَأَحَدُهَا: الْكَلِمَةُ، وَثَانِيهَا: الْكَلَامُ، وَثَالِثُهَا: الْقَوْلُ، وَرَابِعُهَا:
اللَّفْظُ، وَخَامِسُهَا: الْعِبَارَةُ، وَسَادِسُهَا: الْحَدِيثُ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا بِأَسْرِهَا، وَسَابِعُهَا: النُّطْقُ وَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرَادِفٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ مُبَايِنٌ لَهَا، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْمُبَايَنَةِ فَمَا الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حَدِّ الْكَلِمَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَوَّلِ «الْمُفَصَّلِ»: الْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ بِالْوَضْعِ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي كَلِمَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ بِالْوَضْعِ، فَهَذَا التَّعْرِيفُ غَلَطٌ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: حَدَثٌ وَزَمَانٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، كَقَوْلِنَا: مَهْ، وَصَهْ، وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ جَعْلُ الْمُفْرَدِ صِفَةً لِلَّفْظِ، فَغَلِطَ وَجَعَلَهُ صِفَةً للمعنى.
اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه:
المسألة الثانية والعشرون [اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه]: اللَّفْظُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُهْمَلًا، وَهُوَ مَعْلُومٌ، أَوْ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا/ هُوَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ كَقَوْلِنَا فَرَسٌ وَجَمَلٌ، وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا حِينَ هُوَ جُزْؤُهُ أَمَّا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِأَجْزَائِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعَانِي، كَقَوْلِنَا: «عَبْدُ اللَّهِ» فَإِنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَجْمُوعَ اسْمَ عَلَمٍ لَمْ يَحْصُلْ لِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ مُضَافًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا الْقِسْمُ نُسَمِّيهِ بِالْمُرَكَّبِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَدْلُولٍ آخَرَ عَلَى جَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَهُوَ كَقَوْلِنَا: «الْعَالَمُ حَادِثٌ، وَالسَّمَاءُ كرة، وزيد منطلق» وهذا نسميه بالمؤلف.
المسموع المقيد وأقسامه:
المسألة الثالثة والعشرون [المسموع المقيد وأقسامه]: الْمَسْمُوعُ الْمُفِيدُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُؤَلَّفًا وَالْمَعْنَى مُؤَلَّفًا كَقَوْلِنَا: «الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَغُلَامُ زَيْدٍ» وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا، وَهُوَ كَقَوْلِنَا:
«الْوَحْدَةُ» وَ«النُّقْطَةُ» بَلْ قَوْلُنَا: «اللَّهُ» ﷾، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مؤلفا وهو كقولك:
1 / 35
«إنسان» فإن للفظ مُفْرَدٌ وَالْمَعْنَى مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُرَكَّبًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا، وَهُوَ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْكَلِمَةُ هِيَ اللَّفْظَةُ الْمُفْرَدَةُ الدَّالَّةُ بِالِاصْطِلَاحِ عَلَى مَعْنًى، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مُرَكَّبٌ مِنْ قُيُودٍ أَرْبَعَةٍ: فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ كَوْنُهُ لَفْظًا، وَالثَّانِي كَوْنُهُ مُفْرَدًا، وَقَدْ عَرَفْتَهُمَا، وَالثَّالِثُ كَوْنُهُ دَالًّا وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ الْمُهْمَلَاتِ، وَالرَّابِعُ كَوْنُهُ دَالًّا بِالِاصْطِلَاحِ وَسَنُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَضْعِيَّةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ: الْكَلِمَةُ صَوْتٌ مُفْرَدٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي كِتَابِ «الْأَوْسَطِ»: وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الصَّوْتَ مَادَّةٌ وَاللَّفْظَ جِنْسٌ، وَذِكْرُ الْجِنْسِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَادَّةِ، وَلَهُ كَلِمَاتٌ دَقِيقَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَادَّةِ وَالْجِنْسِ، وَمَعَ دِقَّتِهَا فَهِيَ ضَعِيفَةٌ قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ضَعْفِهَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَقُولُ:
السَّبَبُ عِنْدِي فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذِكْرُ الصَّوْتِ أَنَّ الصَّوْتَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَوْتِ الْحَيَوَانِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْدُثُ مَنْ حَلْقِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَالصَّوْتُ الْحَادِثُ مِنَ الْحَلْقِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَكُونُ حُدُوثُهُ مَخْصُوصًا بِأَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِثْلَ الْأَصْوَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ الْأَوْجَاعِ وَالرَّاحَاتِ وَالسُّعَالِ وَغَيْرِهَا، فَالصَّوْتُ جِنْسٌ بَعِيدٌ، وَاللَّفْظُ جِنْسٌ قَرِيبٌ، وَإِيرَادُ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنَ الْجِنْسِ الْبَعِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الشَّرْطُ فِي كَوْنِ الْكَلِمَةِ مُفِيدَةً أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَنَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: «ق» و«ع» وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي التَّقْدِيرِ/ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: «قِي» و«عِي» بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ التَّثْنِيَةِ يُقَالُ: «قِيَا» و«عِيَا» وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ، أَمَّا الْوَاقِعُ فَحَرْفٌ وَاحِدٌ، وَأَيْضًا نَقَضُوهُ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَبِنُونِ التَّنْوِينِ وَبِالْإِضَافَةِ فَإِنَّهَا بِأَسْرِهَا حُرُوفٌ مُفِيدَةٌ، وَالْحَرْفُ نَوْعٌ دَاخِلٌ تَحْتَ جِنْسِ الْكَلِمَةِ، وَمَتَى صَدَقَ النَّوْعُ فَقَدْ صَدَقَ الْجِنْسُ، فَهَذِهِ الْحُرُوفُ كَلِمَاتٌ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْطُوقٍ بِهِ أَفَادَ شَيْئًا بِالْوَضْعِ فَهُوَ كَلِمَةٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُرَكَّبُ، وَبِقَوْلِنَا: مَنْطُوقٌ به، يقع الاحتراز عن الخط والإشارة.
دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً حَقِيقِيَّةً، خِلَافًا لِعَبَّادٍ لَنَا أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالذَّاتِيَّاتُ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ، حُجَّةُ عَبَّادٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ مُنَاسَبَاتٌ مَخْصُوصَةٌ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمَعَانِي الْمُعَيَّنَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُسَمَّاهُ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَجَوَابُنَا أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِاخْتِصَاصِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُرَجَّحْ، وَيُشْكِلُ أَيْضًا بِاخْتِصَاصِ كُلِّ إِنْسَانٍ بَاسِمِ عَلَمِهِ الْمُعَيَّنِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا لِمَعْنَاهُ مِثْلَ تَسْمِيَتِهِمُ الْقَطَا بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُشْبِهُ صَوْتَهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اللَّقْلَقِ، وَأَيْضًا وَضَعُوا لَفْظَ «الْخَضْمِ» لِأَكْلِ الرُّطَبِ نَحْوِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ، وَلَفْظَ «الْقَضْمِ» لِأَكْلِ الْيَابِسِ نَحْوِ قَضَمَتِ الدَّابَّةُ شَعِيرَهَا، لِأَنَّ حَرْفَ الْخَاءِ يُشْبِهُ صَوْتَ أَكْلِ الشَّيْءِ الرَّطْبِ وَحَرْفَ الْقَافِ يُشْبِهُ صَوْتَ أَكْلِ الشَّيْءِ الْيَابِسِ، وَلِهَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ جِنِّي فِي «الخصائص» .
1 / 36
اللغة إلهام المسألة الثلاثون [اللغة إلهام]: لَا يُمْكِنُنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ: أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ وَضْعَ الْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ لِلْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِوَضْعٍ آخَرَ مِنْ جَانِبِهِمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَضْعٍ مَسْبُوقًا بِوَضْعٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَا حَصَلَ بِتَوْقِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ؟ وَعَنِ الثَّانِي لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْلِيمِ الْإِلْهَامَ؟ وَأَيْضًا لَعَلَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَضَعَهَا أَقْوَامٌ كَانُوا قَبْلَ آدَمَ ﵇، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهَا لِآدَمَ ﵇.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِالِاصْطِلَاحِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِالصِّفَةِ إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ أَيْضًا ضَرُورِيًّا، فَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ فِي قَلْبِ الْعَاقِلِ بِأَنَّهُ وُضِعَ هَذَا اللَّفْظُ لِهَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ضَرُورِيًّا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْقَلْبِ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَ هَذَا اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ الْعِلْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَمَّا ضَعُفَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ جَوَّزْنَا أَنْ تَكُونَ كُلُّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ كُلُّهَا اصْطِلَاحِيَّةً، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا تَوْقِيفِيًّا وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ لَا يُفِيدُ أَلْبَتَّةَ مُسَمَّاهُ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ تِلْكَ اللَّفْظَةِ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى عِلْمٌ بِنِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَسْبُوقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَفَادًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَهُوَ مُحَالٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْخَيَالِ مُقَارَنَةٌ بَيْنَ اللَّفْظِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ فَعِنْدَ حُصُولِ الشُّعُورِ بِاللَّفْظِ يَنْتَقِلُ الْخَيَالُ إِلَى الْمَعْنَى، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الدَّوْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْمُفْرَدِ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّ إِفَادَةَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ لِمَعَانِيهَا إِفَادَةٌ وَضْعِيَّةٌ، أَمَّا التَّرْكِيبَاتُ فَعَقْلِيَّةٌ، فَلَا جَرَمَ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْمُفْرَدَاتِ يَعْتَبِرُ الْعَقْلُ تَرْكِيبَاتِهَا ثُمَّ يَتَوَصَّلُ بِتِلْكَ التَّرْكِيبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُرَكَّبَاتِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي المسألة الخامسة والثلاثون [اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي]: لِلْأَلْفَاظِ دَلَالَاتٌ عَلَى مَا فِي الْأَذْهَانِ لَا عَلَى مَا فِي الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ: الْأَلْفَاظُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّ الْمَعَانِيَ هِيَ الَّتِي عَنَاهَا الْعَانِي، وَهِيَ أُمُورٌ ذِهْنِيَّةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا جِسْمًا مِنَ الْبُعْدِ وَظَنَنَّاهُ صَخْرَةً قُلْنَا إِنَّهُ صَخْرَةٌ، فَإِذَا قَرُبْنَا مِنْهُ وَشَاهَدْنَا حَرَكَتَهُ وَظَنَنَّاهُ طَيْرًا قُلْنَا إِنَّهُ طَيْرٌ، فَإِذَا ازْدَادَ الْقُرْبُ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنْسَانٌ فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْسَانٌ، فَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اخْتِلَافِ التَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ الْأَلْفَاظِ هُوَ الصُّوَرُ الذهنية لا الأعيان الخارجة، الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ لَوْ دَلَّ عَلَى الْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ لَكَانَ إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ الْعَالَمُ قَدِيمٌ وَقَالَ آخَرُ الْعَالَمُ حَادِثٌ لَزِمَ كَوْنُ الْعَالَمِ قديما حادثا
1 / 37
مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ كَانَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ دَالَّيْنِ عَلَى حُصُولِ هَذَيْنِ/ الْحُكْمَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْإِنْسَانَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاقَضُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَاهِيَّاتِ مُسَمَّيَاتٍ بِالْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ الْمَاهِيَّاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ لَا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ امْتَنَعَ وَضْعُ الِاسْمِ بِإِزَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: كُلُّ مَعْنًى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ أَهَمَّ، كَانَ وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَائِهِ أَوْلَى، مِثْلُ صِيَغِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا مَاسَّةٌ فَيَكُونُ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ كَامِلًا، وَالْمَانِعُ زَائِلًا، وَإِذَا كَانَ الدَّاعِي قَوِيًّا وَالْمَانِعُ زَائِلًا، كَانَ الْفِعْلُ بِهِ وَاجِبَ الْحُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْمَعْنَى الَّذِي يَكُونُ خَفِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُسَمًّى بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ، مِثَالُهُ لَفْظَةُ الْحَرَكَةِ لَفْظَةٌ مَشْهُورَةٌ وَكَوْنُ الْجِسْمِ مُنْتَقِلًا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، أَمَّا الَّذِي يَقُولُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ- وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ الِانْتِقَالَ- فَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَتَصَوَّرُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الْحَرَكَةُ اسْمٌ لِنَفْسِ هَذَا الِانْتِقَالِ لَا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ الِانْتِقَالَ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ اسْمًا لِنَفْسِ الْعَالِمِيَّةِ، وَالْقُدْرَةُ اسْمًا لِلْقَادِرِيَّةِ، لَا لِلْمَعْنَى الْمُوجِبِ للعالمية والقادرية.
المعنى اسم للصورة الذهنية المسألة التاسعة والثلاثون [المعنى اسم للصورة الذهنية] فِي الْمَعْنَى: الْمَعْنَى اسْمٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ لَا لِلْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي عَنَاهُ الْعَانِي وَقَصَدَهُ الْقَاصِدُ، وَذَاكَ بِالذَّاتِ هُوَ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ، وَبِالْعَرَضِ الْأَشْيَاءُ الْخَارِجِيَّةُ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ أَرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذِكْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَصَوَّرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأَرْبَعُونَ: قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِالْأَلْفَاظِ، مِثْلُ أَنَّا نُدْرِكُ بِالضَّرُورَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَلَاوَةِ الْمُدْرَكَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَلَاوَةِ الْمُدْرَكَةِ مِنَ الطَّبَرْزَذِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَعْرِيفِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اتَّفَقَ حُصُولُ أَحْوَالٍ فِي نَفْسِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَعْرِيفُ تِلْكَ الْحَالَةِ بِحَسَبِ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَا بِهِ يَمْتَازُ حَلَاوَةُ النَّبَاتِ مِنْ حَلَاوَةِ الطَّبَرْزَذُ مَا وَضَعُوا لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظَةً مُعَيَّنَةً، بَلْ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ حَلَاوَةُ النَّبَاتِ وَحَلَاوَةُ الطَّبَرْزَذِ، فَلَمَّا لَمْ تُوضَعْ لِتِلْكَ التَّفْرِقَةِ لَفْظَةٌ مَخْصُوصَةٌ لَا جَرَمَ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِاللَّفْظِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَضَعُوا لَهَا لَفْظَةً لَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِاللَّفْظِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، / وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ حَالَةً مَخْصُوصَةً وَسَائِرُ النَّاسِ مَا أَدْرَكُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَخْصُوصَةَ اسْتَحَالَ لِهَذَا الْمُدْرِكِ وَضْعُ لَفْظٍ لِتَعْرِيفِهِ، لِأَنَّ السَّامِعَ مَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُسَمَّى أَوَّلًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْهَمَ كَوْنَ هَذَا اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ تَصَوُّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي عِنْدَ السَّامِعِينَ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَوَّرُوا كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَوْضُوعَةً لَهَا، فَلَا جَرَمَ امْتَنَعَ تَعْرِيفُهَا، أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ جَمَاعَةً تَصَوَّرُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ ثُمَّ وَضَعُوا لَهَا أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ
1 / 38
يُمْكِنُ تَعْرِيفُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِالْبَيَانَاتِ اللَّفْظِيَّةِ- فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُتَصَوَّرَ مَعْنَى مَا يُقَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِالْأَلْفَاظِ.
الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني المسألة الحادية والأربعون [الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني]: فِي الْحِكْمَةِ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي: وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ لِيُمْكِنُهُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ التَّعْرِيفِ مِنْ طَرِيقٍ، وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْيَدِ وَالْحَرَكَةِ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، إِلَّا أَنْ أَسْهَلَهَا وَأَحْسَنَهَا هُوَ تَعْرِيفُ مَا فِي الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا أَنَّ النَّفَسَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الصَّوْتِ، وَالْأَصْوَاتُ عِنْدَ تَقْطِيعَاتِهَا أَسْبَابٌ لِحُدُوثِ الْحُرُوفِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَمَعُونَةٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ كَمَا تُوجَدُ تَفْنَى عَقِيبَهُ فِي الْحَالِ، فَعِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ تَحْصُلُ وَعِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ تَفْنَى وَتَنْقَضِي، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْوَاتَ بِحَسَبِ التَّقْطِيعَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْحُرُوفُ الْكَثِيرَةُ، وَتِلْكَ الْحُرُوفُ الْكَثِيرَةُ بِحَسَبِ تَرْكِيبَاتِهَا الْكَثِيرَةِ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا كَلِمَاتٌ تَكَادُ أَنْ تَصِيرَ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا جَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعَانِي وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ تَوَزَّعَتِ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ وَاشْتِبَاهٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْإِشَارَةِ وَالتَّصْفِيقِ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ قَضَتِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، بِأَنَّ أَحْسَنَ التَّعْرِيفَاتِ لِمَا في القلوب هو الألفاظ.
لذاته معرفة الحق المسألة الثانية والأربعون [لذاته معرفة الحق]: كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَجَوْهَرُ النَّفْسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ عَارٍ عَنْ هَذَيْنِ الْكَمَالَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهَا اكْتِسَابُ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ هَذَا الْبَدَنِ، فَصَارَ تَخْلِيقُ هَذَا الْبَدَنِ مَطْلُوبًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ مَصَالِحَ هَذَا الْبَدَنِ مَا كَانَتْ تَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ يَنْبُوعًا لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَرَارَةُ قَوِيَّةً احْتَاجَتْ إِلَى التَّرْوِيحِ لِأَجْلِ التَّعْدِيلِ، فَدَبَّرَ الْخَالِقُ الرَّحِيمُ الْحَكِيمُ هَذَا الْمَقْصُودَ بِأَنْ جَعَلَ لِلْقَلْبِ قُوَّةَ انْبِسَاطٍ بِهَا يَجْذِبُ الْهَوَاءَ الْبَارِدَ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ إِذَا بَقِيَ ذَلِكَ الْهَوَاءُ فِي الْقَلْبِ لَحْظَةً/ تَسَخَّنَ وَاحْتَدَّ وَقَوِيَتْ حَرَارَتُهُ، فَاحْتَاجَ الْقَلْبُ إِلَى دَفْعِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ هُوَ الِانْقِبَاضُ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا انْقَبَضَ انْعَصَرَ مَا فِيهِ مِنَ الْهَوَاءِ وَخَرَجَ إِلَى الْخَارِجِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْحَيَوَانِ مُتَنَفِّسًا، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ تَكْمِيلُ جَوْهَرِ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَوَقَعَ تَخْلِيقُ الْبَدَنِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمَطْلُوبِيَّةِ، وَوَقَعَ تَخْلِيقُ الْقَلْبِ وَجَعْلُهُ مَنْبَعًا لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَوَقَعَ إِقْدَارُ الْقَلْبِ عَلَى الِانْبِسَاطِ الْمُوجِبِ لِانْجِذَابِ الْهَوَاءِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَارِجِ لِأَجْلِ التَّرْوِيحِ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، وَوَقَعَ إِقْدَارُ الْقَلْبِ عَلَى الِانْقِبَاضِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْمُحْتَرِقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ، وَوَقَعَ صَرْفُ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْخَارِجِ عِنْدَ انْقِبَاضِ الْقَلْبِ إِلَى مَادَّةِ الصَّوْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّادِسَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُقَدِّرَ الْحَكِيمَ وَالْمُدَبِّرَ الرَّحِيمَ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمَطْلُوبَ عَلَى سَبِيلِ الْغَرَضِ الْوَاقِعِ فِي الْمَرْتَبَةِ السَّابِعَةِ مَادَّةً لِلصَّوْتِ، وَخَلَقَ مَحَابِسَ وَمَقَاطِعَ لِلصَّوْتِ فِي الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَحِينَئِذٍ يَحْدُثُ بِذَلِكَ السَّبَبِ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَيَحْدُثُ مِنْ تَرْكِيبَاتِهَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، ثُمَّ أَوْدَعَ فِي هَذَا النُّطْقِ وَالْكَلَامِ حِكَمًا عَالِيَةً وَأَسْرَارًا بَاهِرَةً عَجَزَتْ عقول الأولين
1 / 39
وَالْآخِرِينَ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرِهَا وَشُعْلَةٍ مِنْ شَمْسِهَا، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ بِالْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ والقدرة الغير متناهية.
الكلام اللساني المسألة الثالثة والأربعون [الكلام اللساني]: ظَهَرَ بِمَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ إِلَّا الِاصْطِلَاحُ مِنَ النَّاسِ عَلَى جَعْلِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ وَالْحُرُوفِ الْمُرَكَّبَةِ مُعَرِّفَاتٍ لِمَا فِي الضَّمَائِرِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَوَاضَعُوا عَلَى جَعْلِ أَشْيَاءَ غَيْرِهَا مُعَرِّفَاتٍ لِمَا فِي الضَّمَائِرِ لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ كَلَامًا أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ صِفَةً حَقِيقِيَّةً مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، بَلْ أَمْرًا وَضْعِيًّا اصْطِلَاحِيًّا، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْكَلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَفْعَلُهُ الْحَيُّ الْقَادِرُ لِأَجْلِ أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَكَلِّمًا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ فَاعِلًا لَهَا لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَخْصُوصِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالنَّفْسِ فَهِيَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ كَالْعُلُومِ وَالْقُدَرِ وَالْإِرَادَاتِ.
الكلام النفسي والذهني:
المسألة الرابعة والأربعون [الكلام النفسي والذهني]: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ دَلَائِلُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ وَالْقُلُوبِ، وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ هُوَ الْإِرَادَاتُ وَالِاعْتِقَادَاتُ أَوْ نَوْعٌ آخَرُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: صِيغَةُ «افْعَلْ» لَفْظَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِرَادَةِ الْفِعْلِ، وَصِيغَةُ الْخَبَرِ لَفْظَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ أَنَّ ذَلِكَ القائل يعتقد أن الأمر لفلاني كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الطَّلَبُ النَّفْسَانِيُّ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ، وَالْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلِاعْتِقَادِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الطَّلَبَ النَّفْسَانِيَّ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى/ أَمَرَ الْكَافِرَ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَلَوْ أَرَادَهُ لَوَقَعَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ إِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْكُفْرِ كَانَ خَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، لِأَنَّ مُرِيدَ الْعِلَّةِ مُرِيدٌ لِلْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجَّحُ إِنْ كَانَ مِنَ العبد عاد التقسيم الأول فيه، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَمُرِيدُ الْعِلَّةِ مُرِيدٌ لِلْمَعْلُولِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدُ الْكُفْرِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ يَكْفُرُ وَحُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ ضِدٌّ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكَافِرَ بِالْإِيمَانِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الْإِيمَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْإِرَادَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغَايِرٌ لِلِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ فَمَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ هُوَ حُكْمُ هَذَا الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ بِلِسَانِهِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ حَاصِلٌ، وَالِاعْتِقَادَ غَيْرُ حاصل، فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد.
مدلولات الألفاظ المسألة الخامسة والأربعون [مدلولات الألفاظ]: مَدْلُولَاتُ الْأَلْفَاظِ قَدْ تَكُونُ أَشْيَاءَ مُغَايِرَةً لِلْأَلْفَاظِ: كَلَفْظَةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ تَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا أَيْضًا أَلْفَاظًا كَقَوْلِنَا: اسْمٌ، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ، وَعَامٌّ، وَخَاصٌّ، وَمُجْمَلٌ، وَمُبَيَّنٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَسْمَاءٌ وَمُسَمَّيَاتُهَا أيضا ألفاظ.
1 / 40