213

Les clés de l'invisible

مفاتيح الغيب

Maison d'édition

دار إحياء التراث العربي

Édition

الثالثة

Année de publication

١٤٢٠ هـ

Lieu d'édition

بيروت

Genres

Tafsir
اللَّهِ لَمَّا اتَّصَلَ بِاسْمِ اللَّهِ بَقِيَ قَائِمًا مُرْتَفِعًا، وَأَيْضًا فَالتَّسْمِيَةُ لِبِدَايَةِ الْأُمُورِ،
قَالَ ﵊: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»
وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الْأَعْلَى: ١٤، ١٥] وَأَيْضًا الْقِيَامُ لِبِدَايَةِ الْأَعْمَالِ، فَحَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بِإِزَاءِ الرُّكُوعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي مَقَامِ التَّحْمِيدِ نَاظِرٌ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الْخَلْقِ، لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بِسَبَبِ الْإِنْعَامِ الصَّادِرِ مِنْهُ، وَالْعَبْدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ نَاظِرٌ إِلَى الْمُنْعِمِ وَإِلَى النِّعْمَةِ، فَهُوَ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِعْرَاضِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَالرُّكُوعُ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَبَيْنَ السُّجُودِ وَأَيْضًا، الْحَمْدُ يَدُلُّ عَلَى النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ، وَالنِّعَمُ الْكَثِيرَةُ مِمَّا تُثْقِلُ ظَهْرَهُ، فَيَنْحَنِي ظَهْرُهُ لِلرُّكُوعِ وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مُنَاسِبٌ لِلِانْتِصَابِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي الرُّكُوعِ فَيَلِيقُ بِرَحْمَتِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الِانْتِصَابِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ ﵇: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ»
وَقَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مُنَاسِبٌ لِلسَّجْدَةِ الْأُولَى: لِأَنَّ قَوْلَكَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقَهْرِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ، فَيَلِيقُ بِهِ الْإِتْيَانُ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَهُوَ السَّجْدَةُ، وَقَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مُنَاسِبٌ لِلْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِخْبَارٌ عَنِ السَّجْدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ سُؤَالٌ لِأَهَمِّ الْأَشْيَاءِ فَيَلِيقُ بِهِ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ/ إِلَى آخِرِهِ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْقَعْدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا أَتَى بِغَايَةِ التَّوَاضُعِ قَابَلَ اللَّهُ تَوَاضُعَهُ بِالْإِكْرَامِ، وَهُوَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْقُعُودِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَهُوَ شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ لِقَوْلِهِ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَيْضًا
إِنَّ مُحَمَّدًا ﵇ لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى قَابَ قَوْسَيْنِ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ،
فَلَمَّا وَصَلَ الْمُؤْمِنُ فِي مِعْرَاجِهِ إِلَى غَايَةِ الْإِكْرَامِ- وَهِيَ أَنْ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ- وَجَبَ أَنْ يَقْرَأَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ ﵇، فَهُوَ أَيْضًا يَقْرَأُ التَّحِيَّاتِ، وَيَصِيرُ هَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِعْرَاجَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ شُعْلَةٌ مِنْ شَمْسِ مِعْرَاجِ مُحَمَّدٍ ﵇ وَقَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِهِ وَهُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء: ٦٩]- الآية.
وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ سَبْعٌ صَارَتْ كَالرُّوحِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ السَّبْعَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ السَّبْعَةُ صَارَتْ كَالرُّوحِ لِلْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ
[الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] إِلَى قَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ، وَمَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ كَثِيرَةٌ، وَرُوحُ الْأَرْوَاحِ وَنُورُ الْأَنْوَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ ﷾:
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ٤٢] .
الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ معراج العارفين
الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْعَارِفِينَ:
اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِعْرَاجَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالْآخَرُ من

1 / 233