وأجبت: «آه، هل هي كلمتي؟ من أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أعظم شأنا، أنا لا أستحق حتى أن أتحطم عليه.»
زرادشت يودع أصدقاءه، ليعود إلى وحدته من جديد، إن أشد ساعاته سكونا قد تحدثت إليه، صوت سيدته المخيفة قد همس في أذنه، وملأ قلبه بالرعب، حقيقته الخفية الباطنة تريد أن تكشف عن وجهها، فكرته المختبئة في أعماق نفسه تريد الآن أن تعبر عن نفسها، ففي أشد ساعاته سكونا يتجلى له أشد الأشياء حبا في السكون، وسر الزمن الذي طالما عذبه وطارده على وشك أن يعلن الآن عن نفسه، أن يكشف الغطاء عن جوهره وماهيته، اللحظات تمر والعجلات تدور والأنهار تجري، وحبات الرمال تتساقط في الساعة الزجاجية، والزمن نفسه يعبر في سكون؛ لأنه أشد الأشياء سكونا. إن السيدة المخيفة تقول لزرادشت: أنت تعرفه! لكن ذلك الشيء الذي لا يقوى على أن يبوح به لنفسه، ذلك الذي يفوق طاقته، والذي سيعود من أجله إلى وحدته ويفترق عن أصدقائه، هو إلهامه المفاجئ عن معنى الزمن، هو معرفته الجديدة بسره الذي يتعدى حدود الحاضر والماضي والمستقبل. إن زرادشت في طريقه إلى القمة، في طريقه إلى فكرته المحيرة عن عودة الشبيه الأبدية.
عجيب أمر زرادشت! فبعد أن أعلن على المجتمعين في السوق حول الراقص على الحبل عن مذهبه في الإنسان الأعلى، وعلى رفاقه وتلاميذه عن فكرته المخيفة عن موت الله وعن إرادة القوة، شمله الصمت والارتعاش فلم يجد مذهبا يعلنه، وعذبه إلهامه الجديد فلم يجد الكلمات التي تعبر عنه. زرادشت الآن يعود إلى جولاته، ويسير إلى كهفه الراقد في أحضان الجبل؛ ليواجه هناك وحدته الأخيرة الفظيعة، وينفرد مع فكرته التي تشبه الهاوية التي لا قرار لها، وينتظر التحول الجديد في كيانه، إنه في القسم الثالث «عن الوجه واللغز» من كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يتحدث إلى الملاحين الذين يعبرون به البحر، وحديثه مملوء بالألغاز والرموز، ويتحدث إلى «العبيط» في «المدينة العظيمة»، ولكنه لا يتحدث إلى الآخرين بقدر ما يتحدث إلى نفسه. لقد تحدث عن الإنسان الأعلى إلى الجميع، وتحدث عن موت الإله وعن إرادة القوة إلى القليلين، ولكنه الآن يتحدث عن عودة الشبيه الأبدية إلى نفسه وحدها. إن فكرته الجديدة ترتفع فوق كل الأفكار، كما ترتفع به إلى القمة المخيفة التي تنتظره بالسعادة أو بالجنون.
يقول نيتشه في كتابه «هذا هو الإنسان
Ecce Homo » عن زرادشت: «سأروي الآن حكاية زرادشت، إن الفكرة الأساسية في الكتاب، فكرة عودة الشبيه الأبدية، هذه الصياغة السامية للإيجاب - التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى صياغة أسمى منها - ترجع إلى شهر أغسطس من عام 1881.»
1
عودة الشبيه الأبدية إذن هي قلب الكتاب النابض، وهي الوسط والمركز الذي تدور حوله أفكاره، إنها تأتي بعد فكرتيه الأخريين عن الإنسان الأعلى وعن إرادة القوة، ولم يكن من الممكن أن تأتي بغير هذا الترتيب، لقد بدأ زرادشت بالتبشير بالإنسان الأعلى: أنا أعلمكم الإنسان الأعلى، الإنسان الأعلى هو معنى الأرض هو الصاعقة، والإنسان شيء ينبغي التفوق عليه، هو حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى، حبل ممدود فوق الهاوية. والإنسان جسر لا هدف له، معبر إلى هذا الإنسان الأعلى الذي يريد أن تمتلئ به الأرض ذات يوم. ولكن هذا الإنسان الأعلى الذي يطالب به زرادشت لا يمكن أن يتحقق حتى «يموت الله»، أي حتى يتحطم التراث الغربي كله، وينهار صرح المثالية الأفلاطونية المسيحية بأسرها. فإذا عرف الإنسان أن كل ما يعلو عليه من آلهة وأخلاق وعالم آخر هو سبب شقائه وغربته عن نفسه وعن الأرض؛ أمكن للمثالية أن تنقلب رأسا على عقب. واستطاع زرادشت أن يقول كلمته الرهيبة: «ماتت الآلهة جميعا، الآن نريد أن يحيا الإنسان الأعلى.» و«موت الله» أو سقوط المثالية والإيمان بعدميتها (إذ ينبغي أن نفهم هذه الكلمة المخيفة من هذه الناحية وحدها، بعيدا عن كل صلة بالإيمان أو الإلحاد) لا سبيل إليه إلا إذا سأل زرادشت كل موجود، وتسلل إلى قلب كل حي، ليكتشف هناك إرادة القوة. سوف يعرف أن إرادة القوة هي حقيقة الموجود، وهي سر حياته وحركته وصعوده وهبوطه وازدهاره وموته. إرادة القوة هي كل ما هو موجود، من حيث إنه موجود في الزمان. والوجود في الزمان هو طريقها ومجالها، من حيث هو صراع في سبيل القوة، وكفاح من أجل العلو والتفوق. ولكن إرادة القوة التي تتحرك في الزمان وتصارع في الزمان هي نفسها تحت رحمة الزمان، وأسيرة سلطانه وقوته. والزمان هنا هو المستقبل الذي تتحرك فيه وتسعى إلى تحقيق ممكناتها، وهو كذلك الماضي الذي يثبتها ويحد من قوتها. الإرادة مقيدة إذن بمجرى الزمان، مجبورة على السير معه إلى الأمام، لا تستطيع أبدا أن تريد العودة إلى الوراء. أفكار نيتشه الأربعة الأساسية إذن مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا؛ فوجود الإنسان الأعلى مرتبط بموت الله، وموت الله مرتبط بإرادة القوة، وهذه بمجرى الزمان، والفكر كله يسير من الوجود القائم في هذا العالم إلى وجود العالم ككل، هذا العالم ككل هو موضوع فكرته عن العود الأبدي.
ولكن فكرته سر يتهيب من الكلمة، ولغز يخاف من التعبير. إن نيتشه يتردد في الإفصاح عنه، ويحيطه بجدار من الكتمان بعد جدار؛ ذلك أنه وليد الرؤية والإلهام، بعيدا عن المنطق والعقل. إنه يتخفى في ظل الرهبة والسكون، ويرتعش بحمى الكشف والجنون، ربما لأن صاحبه قد ترك الآن طريق التراث الميتافيزيقي كله، ووجد نفسه لأول مرة حائرا بغير طريق.
لقد رأينا كيف خاطبته ساعته الساكنة، كيف نادته فكرته الوحيدة المدهشة نداءها الهامس المخيف، وكيف لمحت إليه بسر الزمان، كان جسده أضعف من أن يحتمل رعشتها؛ فهو الآن يعود إلى التجول الوحيد، ويصعد جبلا بعد جبل، ويرتفع من قمة إلى قمة. إن عليه أن يصل إلى قمته الأخيرة، أن يدخل دائرته المقدسة، أن يترك كل القمم وراءه ولكي يرى قلب العالم، وينظر إلى هاويته السحيقة: «أما أنت يا زرادشت، فقد أردت أن ترى حقيقة الأشياء جميعا وسببها الخفي، إن عليك أن ترتفع فوق ذاتك نفسها إلى أعلى، إلى أعلى؛ حتى تجد نجومك أيضا قد أصبحت تحتك.»
2
Page inconnue