إن لغة جحا أو أويلنشبيجل غالبا ما تكون لغة بسيطة تأخذ الكلمات مأخذا حرفيا ساذجا سليم النية، إنه لا يلعب بالكلمات ولا يقلبها على وجوهها كما يفعل أصحاب النكتة والقفشة، بل يقصد معناها الطبيعي القريب؛ فيكشف بذلك عن إساءة استخدامها على ألسنة الناس، ويبين كيف تسهم بدور أساسي في «قلب العالم» ومسخ كيانه، إنها لغة لا تخدع نفسها بأوهام الخيال ولا تتباهى بحيل الفصاحة، بل تبين ببساطة كيف تتعرض - وهي لغة الطبيعة والإنسانية الأصلية - للخطر والدمار وسط لغة جديدة يستخدمها الناس فيسيئون استخدامها ويبعدونها عن وظيفة اللغة الحقيقية. إن لغة هذا المغفل المسكين مثل شخصه يعكسان نموذجا للإنسان الذي يبدو لنا سجينا مجبورا وسط عالم «حر»، بينما النظرة الدقيقة تكشف عن أنه هو الحر حقا وسط عالم يعيش سجين لغته وحيله وشطارته. هذا العالم المقلوب على رأسه لا يدعي الأحمق الحكيم أنه يعيده إلى الوضح الصحيح، بل يكتفي بإظهار ألمه لحاله وعجزه عن إصلاحه، ومع ذلك فلم يكن جحا ولا أويلنشبيجل بالعجز الذي يصورانه لنا، بل إن كليهما ساخر مكار، ترسم حكاياته وخرافاته عالما أصيلا عريق القدم، نحس بالحنين إليه، كما نحس بالألم لأننا انفصلنا عنه. إن كل واحد منهما يبحث عن الحقيقة بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، أو هو صديق للإنسان بكل ما في هذه اللفظة من دفء ونبل وإخلاص.
في كل يوم نسأل أنفسنا كما نسأل غيرنا: ماذا؟ لماذا؟ أين؟ وإلى متى؟ وكل سؤال من هذه الأسئلة يعبر على نحو من الأنحاء من عدم الوجود. فنحن نقف أمام شيء غريب علينا ، مختلف عنا، لا ندري شيئا عن أصله وسببه، وقد لا نعرف شيئا عن مكانه وموضعه، ولكننا حين نسأل هذا السؤال معبرين عن غربته عنا نحس بأن هذه الغربة تعود فتشملنا؛ فنحن أيضا غرباء وضائعون، مكاننا في العالم ليس مكاننا، والنور الذي يحيط بنا لا يضيء في عتمة المصير، إننا سنموت حتما، وسؤالنا عن الشيء الغريب يجعلنا نتعاطف معه، فهو الشيء الآخر بالنسبة لنا، كما أننا الآخر بالنسبة له. وفي كل سؤال نسأله عنه نوع من التضامن معه؛ لأننا نفتقده ونأسى لما يصيبه، وكل سؤال يعبر عن نوع من الانفصال في الوجود، ولكنه يعبر كذلك عن شوق إلى الاتحاد بما نسأل عنه؛ ذلك لأننا لا ننفصل عنه تمام الانفصال - وإلا ما أمكننا أن نسأل عنه - وإن كنا لا نستطيع مع ذلك أن نتحد به تمام الاتحاد. وحين نصوغ سؤالنا في شكل كلام فإنما نقول للانفصال «لا»، بل إن كل كلمة نقولها تعبر بنفسها عن نوع من الاتحاد بالوجود ونوع من الاحتجاج عن الانفصال عنه، أي على عدم الوجود؛ ذلك لأننا لا نتحد أبدا مع أنفسنا، ولا مع الآخرين، ولا مع جانب من جوانب الوجود أو الوجود كله؛ فنحن «في» الوجود كما أننا كذلك في مواجهته، وحين نتحدث عن طريق الكلمة أو الحركة فإننا نقيم جسرا إلى الوجود لنصل إليه ونتحد به. ومن هنا كانت كل صورة من صور الكلام في نفس الوقت صورة من صور الوجود؛ لأنها لا تصوغ قطعة من الواقع، بل تجسم الوجود كله، فلغتنا إذن لا تنفصل أبدا عن الوجود، ولكنها تعبر على الدوام عن انفصال عنه، والذي يستطيع أن يتكلم، والذي يستطيع أن يصمت، كلاهما يعبر عن نوع من الانفصال عن الوجود، وجهد للتغلب عليه؛ ذلك لأن اللغة في جوهرها هي قول «لا» لعدم الوجود.
وصعوبة قول لا هي صعوبة أن نقول لعدم الوجود لا، ذلك هو التعريف الأول لها، ولكن ما هو عدم الوجود ؟ هل يجوز لنا أن نتحدث عنه؟ وما دمنا نتحدث عنه، أليس معنى هذا أنه موجود؟ سيقول بارمنيدز: «لا» لأنه لا وجود له، ولكن إذا صح أنه لا وجود له فلم يقول «لا»؟ أو بمعنى آخر كيف يستطيع أن يقول «لا»؟ أليس في كل قول «لا» عدم وجود؟ ألا تشهد قول «لا» بقوة عدم الوجود؟
هناك موقف واحد لا نستطيع فيه أن نشك في عدم الوجود، ذلك هو موقف الموت، وهو غير البحث عن الموت أو السعي إليه، فذلك هو «اليأس». ولكن عن أي شيء يبحث الباحث عن الموت؟ عن النهاية؟ وما هي النهاية؟ أهي الحد الأخير؟ أم نهاية كل الحدود؟ أهي التحرر من الجبر؟ ولكن من أي جبر؟ أهي عدم الحرية؟ أم الحرية التي لا حد لها؟
كل كلمة نقولها تجسم عالما، فحيث لا تكون هناك أجسام، أو حيث تكون الأجسام قد استقرت معانيها مرة واحدة وإلى الأبد، فهي لا تجسم شيئا، وكلمة الوجود أو كلمة عدم الوجود تجسم كل منهما عالما؛ ولذلك فهما مزدوجتا المعنى؛ ولذلك أيضا نحاول أن نحدد معناهما في كل ما نقوله وننطق به من الكلام، ولكننا لا ننجح في هذا، وما السبب؟ ألأن العالم مزيج من الوجود وعدم الوجود؟ أم لأن كل تجسيم - حتى ولو كان لكلمتي الوجود وعدم الوجود - فهو غير حقيقي؟ لنقل: إن «اللا» التي ننطق بها موجهة إلى عدم الوجود، ولكن ماذا نقصد بهذا؟ هل نوجهها له لأنه الشيء الآخر المخالف للوجود؟ ليس هذا هو السبب، بل لأن عدم الوجود هو التجسيم غير الحقيقي ولا المقنع ولا الكافي للوجود، وذلك هو معنى احتجاجنا حين نقول لا، فنعكس الصراع الذي نحس به في أنفسنا بين الحقيقة والخطأ، والكمال والنقص، والأمل والياس؛ لأن في كل «لا» نقولها احتجاجا على الجانب السلبي من الوجود، وتمردا على الانتقاص منه أو الجور عليه أو التفريط فيه.
لقد قلنا من قبل: إن الصمت من أبشع الأخطار التي نتعرض لها في العصر الذي نعيش فيه، وصمت الصامت يكون في بدايته نوعا من الاحتجاج على لغو عقيم لا ينقطع من أفواه الآخرين . إنه في هذه الحالة قد يكون صمتا مثمرا، وتعبيرا عن كبرياء تأبى مسايرة الانحطاط، وترفع عن الخضوع للضعف، ورفض الواحد الذي يفكر لنفسه وبنفسه للضياع بين الملايين التي تريد أن تفكر له أو تصنع به ما تشاء، ويتطور الأمر فتوشك اللغة التي يتكلم بها «الناس» أن تصبح شيئا مرفوضا. ومع الزمن يرفض الصامت هذا العالم الذي خلقته اللغة وخلقت له، ويتجه بكيانه إلى عالم آخر مسحور يتصور أنه في غير حاجة إلى لغة، ويبعد في غربته فلا يكتفي بأن يرفض الكلام؛ لأنه خطر عليه، بل يرفض كذلك الصمت الذي يعده الوجه الآخر للكلام، حتى يصل أو يخيل إليه أنه وصل إلى حال من الرضا والسعادة التي قد نسميها حالا صوفية، وإن كان من المنطقي ألا نسميها بشيء؛ لأنها ليست مما تسميه الأسماء، وقد نختلف فنسمي ذلك زهدا أو تصوفا أو وجدا، ولكننا لا نختلف في أنه حال أشبه بالحياة في النعيم أو الفردوس، وأنه بجميع درجاته مصحوب بنوع من عدم الاكتراث، وأن أقصى قممه هي حال التلاشي والفناء التي يتحدث عنها البوذيون بوجه خاص.
مهما يكن الأمر - وبلا خوض في الحلول التي يقدمها الزهد والتصوف لعبثية العالم وذلك بالفناء فيما ليس بعالم ولا في جدوى هذه الحلول - فلا يخفى على القارئ أن الهروب من العجز عن الكلام بمعناه الحق حين تبتذل اللغة إلى الامتناع الكامل عن الكلام (سواء كان عن رفض أو يأس أو بحث عن طريق آخر للخلاص) لا يمكن أن يكون بديلا عن اللغة، ولا يمكن أن يحل مشكلة الموقف الإنساني المعين بتجاوزه إلى ما وراء اللا والنعم جميعا؛ ذلك أن في الصمت الحقيقي - أي البشرى - نصيبا دائما من الاحتجاج، وفي السكوت المهيب يرن دائما صدى اللا. وهذا الصمت مهما طال لا بد أن يكون قادرا في لحظة معينة وموقف معين على أن يخرج عن صمته ويتحول إلى كلام يرفض أو يؤكد، وإلا أصبح هذا الصمت - الذي كان في بدايته احتجاجا على امتهان اللغة أو اتقاء لضياع الذات - نوعا من التمزق والتدمير والانتحار، يستر الضعف والفرار، كما يحاول أن يخفي النرجسية والإعجاب الزائد بالذات. فكما انتهت رغبة نارسيس - بطل الأسطورة اليونانية الذي راح يتأمل بإعجاب وجهه الجميل في صفحة النهر حتى غرق فيه! - في الاتحاد مع نفسه إلى الموت، فإن المنتحر يرجو كذلك بالموت أن يتحد مع نفسه؛ فالنفس الفارغة الضائعة تحاول عن طريق الموت أن تعود إلى نفسها التي لم تجدها، وتتحد بالكل الذي عذبها الانفصال عنه. ومن العجب حقا أن المدمر لنفسه - أو المنتحر - الذي كان احتجاجه على «عدم الوجود» في صورة من صوره دافعا له على الإقدام على الانتحار، هو نفسه الذي يندفع إلى العدم ويقول له «نعم»، وبدلا من أن يصمد للحياة ويقاوم ويقول «لا» لكل ما يدمر نفسه، نجده يقاوم هذا النفس لآخر مرة لكي يلقي بها بين أحضان «اللا» المطلقة أو العدم المطلق. ومن الواضح أن المدمر لنفسه يتحرك بغير أن يتحرك، أعني أنه يبحث عن المنبع والأصل على الدرب الخاطئ، في حين أن المنبع الحقيقي تقود إليه نعم كبيرة، سواء تصورنا أن هذا المنبع هو الإله في السماء أو الحق أو الجمال أو كرامة الإنسان، المنتحر يبحث عن شيء فيندفع إلى لجة اللاشيء، وكذلك تفعل الإنسانية كلها حين تلقي بنفسها في لجة حرب عالمية يدفعها إليها في الحقيقة - كما تبين تحليلات فرويد - دافع الموت وتدمير الذات. ولعل هذا الشوق الفاشل إلى المنبع الحق هو علة القلق واليأس الذي نقول اليوم إنه طابع العصر، ونتعرف على آثاره فيما نقرأ من أدب أو فن أو فلسفة، بل فيما نعانيه من تجارب الحياة كل يوم، ومن ثم تصبح مشكلة العصر هي كيف نوازن بين كفتي القلق والشجاعة؟ كيف نجد القوة على تأكيد وجودنا المتناهي على الرغم من تهديد الموت والفناء؟ وبعبارة واحدة: كيف نقول لا «لعدم الوجود» على اختلاف صوره الواقعية والأنطولوجية (الوجودية)؟
هنا تصبح مسألة التغلب على القلق بالشجاعة، وعلى التطرف بالاعتدال وعلى اللامعنى بالمعنى؛ مسألة المسائل في الزمن الحديث. ولن يجدينا هنا أن نطيل الوقوف عند تحليلات القلق واليأس التي تزخر بها الكتابات المعاصرة؛ فالمشكلة التي تشغل الجميع - من مفكرين وعمليين - هي البحث عن قيمة في الأشكال العقلية والحضارية التي فقدت قيمتها، أو الاهتداء إلى أشكال جديدة تتجسد فيها قيم جديدة. ولن يكون الحل في تجاهل القلق من العدم أو تناسي العبث واللامعنى أو إنكار اليأس في كل القلوب - فكلها حقائق رهيبة في عصرنا - بل يكون الحل في تقبلها ومحاولة البحث عن قيمة توازنها. وليس أخطر على الإنسان الحديث من أن يستسلم لها ويقول نعم؛ لأن ذلك معناه أن يفقد ذاته ويدمر نفسه، ويهرب إلى نعيم الصمت الشقي. هذا البحث عن التوازن هو الواجب الأكبر لإنسان اليوم؛ ذلك لأن القيمة التي تجسد له هذا التوازن ليست قيمة أبدية صالحة لكل مكان وزمان، وإنما هي مثل أعلى عليه أن يبحث عنه بحثا متجددا على الدوام، ويخلقه في كل تجربة أو موقف جديد، إنه تجسيد لعقيدته وسعادته وراحة قلبه، وهدف أشواقه وآماله وأحلامه، ولن تنقطع مغامرته في البحث عنه والسعي إليه، ما دامت تحدوه الرغبة في التحرر من خيبة الأمل واليأس والفراغ. •••
لا هي صيغة الاحتجاج.
وقول لا أصبح اليوم مهمة الفيلسوف الأولى.
Page inconnue