إن ضحكة الفتاة الثراكية التي جلجلت بها وهي ترى طاليس الميلي يتعثر فيقع في ماء النبع لأن عينيه كانتا مشغولتين بتأمل السماء؛ هذه الضحكة هي - في نظر أفلاطون - الجواب الذي يرد به «العاقلون» و«العمليون» في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.
إن قصة هذه الفتاة ذات الضحكة البريئة - التي لا شك أن لها ما يبررها! - قصة يبدأ بها تاريخ الفلسفة ولا تزال عالية الأصداء حتى يومنا هذا:
9 «ودائما وأبدا ما يكون الفيلسوف مدعاة للضحك، لا بالنسبة للفتيات الثراكيات فحسب، بل للكثير من الناس على وجه الإجمال؛ ذلك لأنه - وهو الغريب عن العالم - يسقط في نبع الماء وفي ألوان أخرى من الحيرة والارتباك.»
10
ولكن من يجرؤ على الادعاء بأن في إمكانه أن يغادر عالم هذه الفتاة الثراكية إلى غير رجعة؟ من منا يستطيع أن يعيش بغير سقف فوق رأسه، ولا دفء حول جسده، ولا هدف على طريقه؟ ثم من منا يستطيع أن يوفر لنفسه ترف التأمل في النجوم، إلا إذا كان مستعدا للوقوع تحت عجلات الترام أو الانخراط في عداد المشبوهين؟ أليس هذا مخاطرة بالخروج عن طبيعة الإنسان نفسه؟ ثم إلى أين يخرج الإنسان حين يخرج عن حدود العالم الذي نعيش فيه كل يوم إلى عالم آخر؟ وماذا عسى أن يكون هذا العالم؟ هل هو عالم «آخر» يكون عالمنا هذا ظله وشبحه - كما زعم البعض خطأ عن أفلاطون - ويقابله كما تتقابل المادة والروح والليل والنهار والنسخة والنموذج؟ الإجابة على هذا السؤال إجابة على سؤالنا القديم: ما هي الفلسفة؟
إن الإنسان حين يتفلسف يعاني تجربة يهتز فيها العالم اليومي تحت قدميه، تقف فيها دوامة العادات التي تجرفه صباح مساء: يقظة من النوم، ساعات يقضيها في العمل، ثم ساعات يقضيها في فراغ ليستعد للعمل من جديد، ثم نوم فيقظة فساعات عمل ... إلخ «حتى يتفجر ينبوع الدهشة ذات يوم في قلبه فيسأل: ما معنى هذا كله؟ ... ويقف أمامه شبح المحال المعتم، كما وقف في السنين الأخيرة أمام المفكر العظيم ألبير كامي.» إنها التجربة التي تقول له: إن العالم المحيط به، الذي تحدده أهداف الحياة القريبة المباشرة؛ يمكن أن يهتز يوما، وينبغي أن يهتز لدعاء «العالم»، أن يرتجف من صوت «الكل» الذي يعكس الصور الأبدية للأشياء ، التفلسف معناه: أن يعلو الإنسان على عالم كل يوم ليواجه «العالم»، أن يترك الأمان إلى الخطر، أن يغادر بيته إلى حيث لا سقف يظله، أن يهجر الطرق التي تعرف هدفها ليسير على «الطريق» التي قد لا يكون لها هدف. هل معنى هذا أن يهيم الفيلسوف على وجهه، أشعث الشعر معلق البصر بالنجوم، عرضة في أيامنا هذه لأن يطرح عليه «القميص الأبيض» أو يضع جندي الداورية في يديه الحديد؟ نحن إن فعلنا هذا نكون قد صورناه في صورة خيالية سخيفة بقدر ما هي باطلة؛ إذ كيف نستطيع أن نقول مثل هذا الكلام عن أناس عقلهم حاد كالسيف ولغتهم ساطعة لا تعرف ظلا من خيال أو عاطفة؟ إن الإنسان يستطيع أن يتفلسف، أعني أن يتأمل تأملا نظريا، ويرى الوجود رؤية نقية (كلمة «ثيورين» اليونانية ليس لها معنى غير هذا) مجردة عن كل هدف من الأهداف المتصلة بحياته اليومية، قلنا: يستطيع، ومن حقنا أيضا أن نقول: ينبغي عليه أنه في تأمله النظري الخالص هذا الذي سميناه بالتفلسف، يعلو على ذاته وعلى العالم، وهو بفعله هذا لا يحقق إنسانيته فحسب، بل يعلو عليها أيضا (لنتذكر كلمة باسكال السابقة)، ولكن كيف وبأي شيء؟ بالدهشة التي هي أصل التفلسف، بالاندهاش الذي هو أصل الحرية، وأين يجد الإنسان حريته إن لم يجدها في النظرة الخالصة إلى الموجود وإلى العالم باعتباره كل الموجودات، نظرة مجردة عن كل هدف، نقية من كل تغيير ومن كل محاولة في التغيير، لا لكي نعرف الموجود فنسيطر عليه كما يقول بيكون، ولا لكي نجعل من أنفسنا سادة على الطبيعة وملاكا لها، كما يقول ديكارت في مقاله عن المنهج، ولا لكي نغير العالم كما يقول ماركس، ولكن لأي غاية إذن؟ وأي منفعة تعود عليك من وراء هذا العلو بالدهشة التي هي أصل كل تفلسف وبالتالي كل حرية؟ ولكن هذا السؤال نفسه - ألا نسأل فيه عن «غاية» و«منفعة» - سؤال غير فلسفي. إن عين الفيلسوف تتأمل العالم كله حين تتأمل، ولسانه يسأل عن مجموع ما هو كائن حين يسأل، إنه عندئذ يكون «مع كل موجود» كما يقول القديس توماس الأكويني، ولا يسأل الفيلسوف حتى يكون في فكره الوجود كله.
قلنا: إن الإنسان حين يتفلسف يعلو على «العالم اليومي» ليواجه «العالم»، ومن البديهي أننا حين نتحدث عن العالم اليومي الذي نعلو عليه بالتفلسف إلى العالم ككل لا نتحدث عن عالمين منفصلين، كما لو كانا مكانين يغادر الإنسان أحدهما ليدخل الآخر، فيترك هنا وراءه أشياء ليجد هناك أشياء أخرى، أو لا يجد شيئا على الإطلاق، إنه لا ينفض يديه من غبار أحدهما ليغسلهما بنور الآخر، وحين يعلو بالتفلسف على العالم المحيط به لا يدير له ظهره، ولا يحول عينيه عنه، ولا يسبح ببصره بعيدا عن شقاء كل يوم، ولا يترك عالم العرق والدموع ولقمة العيش ليتجه بفكره إلى عالم الماهيات أو الكليات أو المثل أو ما شئت لها من أسماء، إن العالم الذي يمتد أمام أبصارنا ونتحسسه بأيدينا ونشقى به ويشقى بنا هو نفس العالم الذي نتأمله بالتفلسف، ولكن هذا العالم، هذه الأشياء، هذه الحقائق والموضوعات؛ تصبح موضع سؤال من نوع آخر، إنها تسأل عن جوهرها الأخير، عن حقيقتها الكلية، عن طبيعتها الشاملة، وإذا بالأفق الذي يصدر عنه السؤال يصبح هو الأفق الذي يضم الواقع كله.
السؤال الفلسفي يتجه إلى هذا الشيء أو ذاك مما نراه كل يوم، إنه لا يتجه إلى شيء «خارج العالم» ولا إلى شيء موجود في عالم آخر بعيد عن تجربتنا اليومية،
11
لكنه سؤال يقول: ما هو هذا على الإطلاق وفي حقيقته الأخيرة؟ يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس: «لا ما إذا كنت أظلمك ها هنا أو كنت تظلمني - ليس هذا هو الذي يشتهي الفيلسوف أن يعرفه - بل ما هي العدالة على الإطلاق وما هو الظلم، لا ما إذا كان الملك الذي يملك الكثير من الذهب سعيدا أو غير سعيد، بل ما هو الملك على وجه الإطلاق؟ وما السعادة وما التعاسة على الإجمال وفي حقيقتها الأخيرة.»
Page inconnue