مقدمة
مقدمة
نظرة عامة
1 - مفاهيم أساسية
2 - المدارس الأخرى
3 - نظرة تاريخية
4 - الشخصية
5 - العلاج النفسي
6 - تطبيقات
خلاصة
المراجع
مقدمة
مقدمة
نظرة عامة
1 - مفاهيم أساسية
2 - المدارس الأخرى
3 - نظرة تاريخية
4 - الشخصية
5 - العلاج النفسي
6 - تطبيقات
خلاصة
المراجع
مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي
مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي
تأليف
رولو ماي وإرفين يالوم
ترجمة
عادل مصطفى
مراجعة
غسان يعقوب
مقدمة
مؤسسة هنداوي منارة عالمية مهمتها توصيل النور إلى مستحقيه؛ أي إلى البشر جميعا؛ إذ تشرق على الجميع دون تمييز، تحدوها قيم الخير والحق والجمال، وهي غايات في ذاتها وثواب ذاتها، وهي نهايات لا شيء وراءها.
حين علمت أن مؤسسة هنداوي لا تهدف إلى الربح قلت: «وجدتها!» فقد آليت على نفسي منذ سلكت طريق الكتابة أن أقدم جهدي بروح الرسالة ومنطق الخدمة، غير فارك كفي تلمس ثمن، وأن أكسب لقمتي من مصدر آخر غير خبز الهيكل؛ فمارست الطب سحابة يومي، وقمت ليلي أبث القارئ حديثا لا يميل به الغرض ولا يمذقه الارتزاق.
ثمة خيط واحد يصل أعمالي جميعا على تفاوتها الظاهري الشديد؛ ثمة هم واحد هو تأهيل العقل العربي وإيقاظه من سباته التاريخي الذي طال كثيرا، تأهيله «بالمنطق القويم والفهم السليم والفكر النقدي، لكي يتقبل الحداثة، والحضارة، والتعددية، ولا يعود ينفر من الآخر، ويجمد الزمن، ويهرب من الحرية».
توطئة
بقلم د. غسان يعقوب
هذا الكتاب يختلف عن باقي الكتب، فهو ليس كتابا للتسلية وقتل الوقت؛ إنه كتاب يهز عقلك ووجدانك؛ لأنه يبحث في أهم مسائل وجودك: من أنت؟ من تريد أن تكون؟ ما هي خبرتك في الوجود؟ كيف تختار مصيرك وتبني هويتك؟ كيف تواجه السأم والحزن والعزلة وتفاهة الحياة وقلق الموت؟ كيف تكون حرا ومسئولا في آن معا؟
هذه التساؤلات الكبرى أو الهموم النهائية يجيبك عنها العلاج النفسي الوجودي الذي يشكل محور هذا الكتاب.
كثير من الناس يعيشون كالقطعان .. إنهم يأكلون ويشربون ويبحثون عن إشباع غرائزهم وحاجاتهم المادية، وقلما يبحثون عن ذواتهم. إنهم يهربون من مواجهة الذات ومن العزلة، ويخافون المرض والموت. لذا، فهم يجدون الأمان في الامتثالية الجماعية وفي الهروب من الحرية والمسئولية، وما علموا أنه في القلق الوجودي يتفتح الوعي وتنمو الإرادة ويسمو الوجود. حيث تكون كنوزك يكون قلبك، وكنوزك هي نفسك. إن هناك صوتا يهتف لك: قم وانهض، فهناك شيء ما ينتظرك في هذا العالم وعليك أن تقوم به. لا تقل: لا أقدر. كل إنسان يختار ما سيكونه. فإذا اخترت الهزيمة لنفسك، فعليك أن تتحمل النتائج. لا تخف من القلق ومن الوحدة. ضع أمامك هدفا تسعى إليه. أعط معنى لوجودك حتى تشعر بقيمة الحياة. إنما يحدد الإنسان بأهدافه، كما يقول سارتر. معظم المرضى الذين نعالجهم يعيشون دون هدف واضح ودون رؤية مستقبلية. إنهم يجترون الماضي بصوره الداكنة، وهم يشعرون بتفاهة الحياة التي تبدو لهم وكأنها مجردة من أي معنى.
إن الحصاد موجود هنا وهناك، ولكن الفعلة قليلون. فالحياة حياتك. ومن العار عليك أن تقبل بالهزيمة والاستسلام. أنت مسئول عما حل بك. فلا تلم القدر ولا تلعن الآخرين، بإمكانك أن تختار، أن تعيد النظر في خبراتك السابقة، أن تتخطى نفسك وتفتح صفحة جديدة في حياتك. فهل حاولت ذلك مرة واحدة؟ لا تقل: أنا مكتئب وقلق وخائف وفاشل، بل قل: لدي شيء من الاكتئاب والهم والخوف مثل بعض الناس، وسوف أحاول أن أبدل نمط تفكيري وأسلوبي واختياري في الحياة. ليس هناك إنسان فاشل تماما إلا إذا هو اختار الفشل لنفسه كنمط أساسي لوجوده.
الصديق الدكتور عادل مصطفى المشهود له بالثقافة الواسعة والموهبة الأدبية وجد من المفيد أن يضع هذا الكتاب بين يدي القارئ العربي. لقد أحسن الاختيار وأجاد في الترجمة. إنه لكتاب قيم يفيد منه الأصحاء والمرضى، فهو يعطيهم القناعة بأنه يمكنهم الخروج من النفق إلى النور، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الخوف إلى الشجاعة، فالشجاعة هي في أن تحيا، وتتحمل الحياة، وتحقق وجودك الحر في هذا العالم.
«سواء أكانت الحياة كفنا أم شرنقة، فإن على كل إنسان أن يحوك حياته بنفسه.»
ألكسندر إليوت، آفاق الفن «... ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم، فقم.»
غسان كنفاني، الرسائل «فقد ينبغي أن تفهما يا ابني أن كل واحد منا يلقى أول الشباب وحشا قائما يريد أن يأخذ عليه الطريق. وهذا الوحش يا ابني يعرض على كل واحد منا سؤالا خاصا، فاعلما أن هذه الأسئلة مهما تختلف فإن جوابها واحد لا يتغير. نعم! ليس هناك إلا جواب واحد لهذه الأسئلة كلها، وهذا الجواب هو «الإنسان»، وهذا الإنسان الفرد بالقياس إلى كل واحد منا هو شخصيته.»
أندريه جيد، أوديب «الضمير هو الصوت الذي يهتف بالإنسان في سرية وصمت أن يستخلص نفسه من تشتت خسران النفس، ومن الاستغراق في «الناس»، لكي يأخذ على عاتقه مسئولية أن يكون نفسه. إنه نداء النفس لنفسها من الخسران إلى الأصالة.»
1
هيدجر، الوجود والزمان
مقدمة
آثرت في هذه التقدمة أن تكون تتمة لملامح العمل الذي تتناوله أكثر مما تكون تكرارا له أو تنويعا عليه. فالنص الذي بين يديك هو عجالة موجزة في العلاج الوجودي، فيه من عيوب الاختصار ومزاياه. فمن عيوبه أنه لا بد تارك جوانب يجمل استيفاؤها كيما تكتمل الفائدة ويتم القصد، وهو ما حاولت جهدي أن أقوم به في هذه التقدمة التي أعلم أنها لا تسلم من العسر والإفاضة.
1
ومن مزاياه أنه يترفق بالقارئ المعاصر، المتعجل بطبعه، فيقدم له ما قل ودل، ويدخل به إلى صميم الموضوع من أقصر طريق، ويقدم إليه زبدته في قبضة واحدة، دانية سائغة سهلة الهضم، على وعورة الموضوع وعمقه في واقع الأمر.
وقد اتفق لهذا العمل ميزة ثانية تأتيه من طريق آخر غير طريق الاختصار. فقد قام بوضعه اثنان من أساتذة العلاج الوجودي كلاهما حجة فيه وإمام، بل رائد ومؤسس لهذا الصنف من العلاج في زمننا المعاصر، مما يمنحك الثقة أن النبع أم والورود حميد، وأنك على الخبير سقطت.
لكأن المدرسة الوجودية تقدم للعلاج النفسي بعدا ثالثا وتضيف إليه عمقا جديدا. والطريف في أمرها أنها لا تجحد فضل المدارس الأخرى ولا تلغيها، بل تبقي عليها وتفيد من إسهاماتها، وتوغل من تحتها إلى أعماق ما خطرت ببال رواد المدارس الأخرى؛ ولسان حالها يقول: «ما جئت لأنقض؛ بل لأكمل.» فالدوافع الفرويدية والأدلرية، والإشراط السلوكي، ونماذج يونج البدئية، والصيغة الاجتماعية البينشخصية
interpersonal
إلخ، كل أولئك كشوف ثمينة وخطوط هامة. غير أنها تتركنا مع صورة للمريض غير مكتملة ... صورة باهتة غائمة، لا عين فيها ولا تعبير. صورة تجوز على كل مريض ولا تميز أي مريض. زد أنها صورة مستوية ينقصها العمق ... البعد الثالث ... البعد الوجودي.
تأتي المدرسة الوجودية لكي تكمل هذه الصورة الغفل، وتهيب بالطبيب النفسي أن يتثبت في كل لحظة أنه يرى المريض الفرد على ما هو عليه، لا أنه ببساطة يسقط عليه ما حفظه من نظريات، ويرجع عليه ما تجرعه من دروس، وأنه ببساطة يراوغه ويناوره كي يوقعه عاجلا في شبكة التشخيص.
من الألفاظ التي يكثر تداولها بين الوجوديين لفظة
Dasein ، ولفظة
Daseinanalysis ، ولفظة فينومينولوجيا. أما كلمة
Dasein
فقد ترد كما هي بالألمانية، وتعني حرفيا «الموجود-هناك» (والموجود هنا أيضا)
There-being ، أي الموجود العيني المتحقق أو المتشخص، أي الإنسان .. الوجود الجزئي المتعين المحدد كوجود الإنسان الفرد. وقد تنقل إلى تعبير «الوجود الإنساني» أو «الواقع الإنساني» دون إخلال كثير بالقصد. وقد تنقل كذلك إلى «الوجود-هنا والآن» لتضفي شيئا من معنى الحضور الإنساني المباشر الذي تحمله اللفظة الألمانية الأصلية. ومن ثم يكون تعبير
Daseinanalysis
هو التحليل الوصفي لوجود إنساني بعينه في موقف محدد والإبانة عنه. أما «الفينومينولوجيا» فهي المنهج الذي يتم به هذا التحليل. (1) هوسرل والفينومينولوجيا
يدين جميع المفكرين الوجوديين بالفضل لجهود الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل
Husserl
مؤسس المنهج الفينومينولوجي في القرن العشرين، الذي تحول من منطقي إلى فيلسوف بحت إلى مفكر وجودي في أواخر أيامه. والفينومينولوجيا مصطلح وثيق الصلة بالمدخل الوجودي إلى الإنسان وموقفه وعالمه. فهي منهج المفكر الوجودي وأداته، وهي سراطه السوي الذي لا يحيد عنه في تقصي الوجود الإنساني وفك مغاليقه. يمكن أن نعرف الفينومينولوجيا بأنها علم «الذاتي» ... التحليل الوصفي للعملية الذاتية ... تحليل الأشياء كما تتمثل في الوعي الإنساني وتتراءى له وتتبدى فيه. ليس الوعي بالنسبة إلى العالم الفينومينولوجي وعاء غامضا يحوي التمثلات، أو إناء سلبيا يحمل الخبرات، بل هو فعل قصدي
intentional
بكل معنى الكلمة ... عملية وصل الذات أو ربطها بالموضوع، ذات تراود موضوعا وتقصده وتعنيه وتلتحم به التحاما وإن يكن حرا. وما دام الوعي الإنساني عملية قصدية فكل فعل بشري هو شيء مدفوع، ولكنه مدفوع من الداخل، يحدده الشخص ذاته بحرية تامة في ضوء ما ينتقيه من الأشياء ويراه ذا بال وشأن وقيمة. هذه «القصدية» في الكائن البشري هي التي يشكل بها واقعه، ويصوغ بها ماضيه، ويؤسس بها مستقبله ويومه وساعته التي هو فيها.
أراد هوسرل من منهجه الفينومينولوجي أن يرفع الفلسفة إلى مرتبة العلوم الدقيقة بأن يجعلها دراسة للمعاني والماهيات الخالصة، أو رؤية الماهية في الشعور.
2
والخطوة الأولى في هذا المنهج هي أن نتخلص من كل الأحكام المسبقة، ونستبعد كل ما من شأنه أن يتداخل مع الرؤية الصافية ويتطفل على المعطيات الواقعية المباشرة؛ من اعتقادات دوجماطيقية وفروض عقلية ومفاسد لغوية وعادات عملية ونظريات علمية، ووضع كل ذلك بين أقواس «التوقف عن الحكم أو الإبوخيه
epoché » بحيث لا يتحدث إلا الشيء المعطى مباشرة. كذلك نتوقف عن الحكم على «وجود» هذا الشيء مهما بلغت درجة وضوحه، فالفلسفة بوصفها معرفة بالماهيات لا يعنيها الوضع الوجودي للموضوعات المتأمل فيها، ولا ذلك داخل في مجال دراستها.
بعد أن تخلصنا من كل الزوائد المقحمة على الرؤية الخالصة يبقى لنا الشعور المحض ... العيان المباشر، فنلتجئ إليه بوصفه الأداة الوحيدة لإدراك الواقع في صفائه التام، وتأمله بوضوح وتجرد، وتفرسه بدقة ومرونة، وتحديد معالمه وتفاصيله وأحواله، وتحويل ما هو ماثل إلى ماهية؛ فمن تمثلات الأحمر المختلفة نخلص إلى ماهية الأحمر، ومن أفراد البشر العينيين نخلص إلى ماهية الإنسان ... إلخ. وتسمى هذه الخطوة «الرد الماهوي»
eidetic reduction
وهو يتقاطع مع صنف آخر من الرد هو «الرد المتعالي»
transcendental reduction
وبه تتحول المعطيات في الشعور الساذج إلى ظواهر متعالية في الشعور المحض. بذلك يمثل الشعور المحض علوا أو تجاوزا
transcendence
من نوع خاص داخل تيار التجارب الحية، ويمارس نشاطا بنائيا تجاه المعطيات الواقعية، ويجمع بين الصبغة المثالية المتعالية
transcendental idealism
وبين الموضوعية العلمية الدقيقة. (2) الفكر الوجودي
للفكر الوجودي جذور ضاربة في عمق التاريخ. فالملامح الوجودية لا تخفى على من ينظر إلى فكر سقراط وسابقيه، والقديس أوغسطين
Augustine ، والحلاج، ودانتي
Dante ، وبسكال
، وبعض الرومانتيكيين الألمان. وصولا إلى أواسط القرن التاسع عشر حيث بدأت النبرة الوجودية تعلو وتتحدد. نتبينها في بعض أعمال دوستويفسكي
Dostoevsky
إذ يشرح الآثار الاستلابية لعصر التقدم الصناعي المفتون بالنزعة العلمية المتطرفة
scientism ، ويصدع بالحرية والمسئولية في وجه المجتمع الكتلي المتشرب بالامتثالية الاجتماعية والفلسفة الطبيعية العلمية. وتبلغ النغمة الوجودية ذروة عالية في كتابات المفكر الألماني فردريك نيتشه
Nietzsche
الذي التقت فيه ملكات الفيلسوف والشاعر وعالم النفس في أصفى صورها وأسماها، وحمل حملة شعواء ضد الزيف المتوطن في هذا العصر الحديث وأهله الذين استمرءوا الأفكار الاتفاقية والرضا الذاتي وزين لهم خداع النفس أن يعيشوا في عالم منقسم يعاني صدعا متفاقما بين المثال والواقع؛ بين اليقين والإلحاد.
أما المؤسس الحقيقي للوجودية المعاصرة فهو المفكر الدنمركي سورين كيركجارد
S. Kierkegaard
الذي توفي عام 1855م بعد حياة قصيرة براقة تاركا تراثا مكتنزا في الأدب الموقظ والفلسفة الجادة والفكر الديني العميق. وما يزال فكره السيكولوجي معينا ثرا وثورة علمية لا تخمد. قام كيركجارد في كتابه المبكر «إما-أو» بتحليل مبدأ اللذة كما يتمثل في الحياة اليومية للفرد، والحافز الشبقي المتواري خلف عديد من مظاهر السلوك، وآليات خداع النفس والأوضاع الدفاعية والدوافع الخفية. كل أولئك يضعه بين علماء سيكولوجيا الأعماق موضعا متقدما سابقا لزمنه سبقا مدهشا. ولديه في التحليل الذاتي ارتيادات تكشف أنه امتلك فهما إكلينيكيا لأزمة الهوية وللآليات اللاشعورية للضمير. تمدنا هذه التحليلات الذاتية أيضا بإطار لفهم الدفاعات والمتلازمات العصابية.
في تحليله للسأم
3
على سبيل المثال يميز كيركجارد بين نوعين منه:
الأول: هو السأم القصدي، أي ملال المرء من موضوع معين أو حدث محدد أو شخص يجالسه. وهو ظاهرة سطحية لا تعبر عن موقف المرء الجوهري. إنه صنف هين من الملل له وجاهته وله علاجه الفوري الناجع. أما النوع الثاني: فهو الملال الحقيقي البحت ... ملال المرء من نفسه ، وإحساسه بفراغ رهيب غريب يهدد الحياة نفسها بفقد معناها. إنه وعكة روحية أو هستيريا روحية تجبه المرء بهاوية من الخواء وانعدام المعنى. والعجيب أن المرء في الأغلب ينكر حالته المرضية هذه ويندفع لا شعوريا إلى مداراتها بشتى ألوان النشاط الكاذب، وإلى التهرب من نفسه بشتى ضروب التلهي والتعلل والتسلي. إنها تلهيات خائبة توفر هجوعا مؤقتا للسأم لكيلا يلبث أن ينهض أوفر صحة وأشد عرامة. إنه دوران في المحل لن يؤدي إلى شيء؛ اللهم إلا لمزيد من السأم. إنه نشاط بائس يائس أشبه بتشنج الذبيح، نجد نموذجه الأمثل في نيرون الذي تفنن في الملذات بدافع السأم، وأحرق روما بدافع السأم. غير أنه نموذج يشملنا جميعا ولا يعفينا؛ فكلنا نيرون «لحمه من لحمنا وعظمه من عظمنا». ولن يكون للمرء مخرج من هذه الدائرة الأكولة إلا بالتوجه إلى باطنه (الاستبطان) لاكتشاف ذاته الحقيقية واستردادها، والعلو إلى الجد والوجدان والحرية والالتزام واتخاذ القرار. فبهذه النقلة فقط يكون بوسع المرء أن يلم شتاته ويجمع ذاته المتناثرة في الوجود ويصبح ذاتا متكاملة موحدة. فالتكامل عملية لا حالة ... سعي وكدح، والتكامل ينجز ولا يوهب. والذات لا تحقق تكاملها ووحدتها إلا بالاختيار الحر. فالاختيار يقتضي الحرية و«إما-أو». وفي هذا يكمن الكنز الأكبر الذي يمكن للمرء امتلاكه. إنه الغنى الخالص الذي يجعل المرء غير مدين لغيره، ويجعله أغنى من العالم بأسره. أن يكون المرء نفسه ... أن يختار نفسه ... أن يسترد نفسه، «ذلك هو الكنز المخبوء داخل المرء، فهناك «إما-أو» يجعل الإنسان أعظم من الملائكة.»
4
ويعود كيركجارد في كتابات عديدة إلى تحليل السأم والقلق والتردد والعبث والالتزام وعدم الالتزام. وقد دأب في كتاباته على أن يقارب الحقيقة الإنسانية في صورتها الفردية الشخصية، وأن ينأى عن الحديث بصيغة المجرد أو الإنسان العام؛ كان دائم القول «وجودي» بكل ما تعنيه الصيغة من خصوصية وتعين وتفرد. وقد بلغ منهجه الاستبطاني غاية العمق في كتابه «من المرض إلى الموت» الذي يقدم فيه تحليلا وجوديا بارعا للاكتئاب ما يزال يطبق على نطاق واسع في مجال العلاج النفسي الوجودي. ورغم أن علاجه الخاص كان مؤسسا على الخبرة الدينية ومعاينة نفس خالدة، فإن استبصاراته الإكلينيكية المتعلقة باليأس وعذاباته يمكن أن تتحول إلى استراتيجية علاجية ذات توجه طبيعي.
إن توكيد كيركجارد على أولوية الوجود والذاتية والنمو الشخصي والحدود الإنسانية يجعل منه أبا ومعلما لجميع المفكرين الوجوديين في القرن العشرين. وتبقى رائعته الكبرى هي سيرته الشخصية ذاتها وطريقته الرواقية في مواجهة مصيره المعقد، يورثها للأجيال من بعده ثروة نفسية وذهنية لا تنفد. «لقد مات، في نظر المؤرخ، بعلة قاتلة. ومات، في نظر الشاعر، من شوقه الملتهب إلى الأبدية».
5
تأصلت أفكار كيركجارد بعمق في تأملات عدد من الكتاب الفرنسيين والألمان في النصف الأول من هذا القرن وربما بعد ذلك.
فقد اجتذب جبرييل مارسيل
G. Marcel
الأنظار في الأوساط السيكولوجية والطبنفسية باستبصاراته الإنسانية الثاقبة في عدد من المسائل الوجودية. وترك تأملات عميقة في الموقف الإنساني، وفي الجسد بوصفه صلة الإنسان بالوجود، وفي البنوة والولاء الإبداعي والانتحار. وما يزال توكيده على البينذاتي
intersubjective
وعلى المشاركة يتجاوب مع اهتمامات المعالجين الوجوديين حتى اليوم.
شارك مارسيل في الوجودية، شأنه شأن سارتر، بأدبه المسرحي الذي ساعد على انتشار الوجودية بين سواد الناس، مما أفادها في الذيوع، وإن أساء لها من جانب التلقي السطحي المعهود لدى عامة الجمهور. «على أن لمارسيل فضلا بارزا في تحليلاته الفلسفية الدقيقة، خاصة في كتابه «يوميات ميتافيزيقية»، وفي عنايته بمسألة الملك والوجود، وتمييزه بين كليهما ورفعه الوجود فوق الملك.»
6
ولعل ألبير كامي وجان بول سارتر هما أعرض الوجوديين شهرة وأبعدهم صيتا. والحق أن كامي
Camus
لا يعد وجوديا بالمعنى الدقيق إلا في كتاباته الأولى. ويعتبر كتابه «أسطورة سيزيف» ارتيادا سيكولوجيا هاما. يرتكز فكر كامي على مفهومي اللامعقول والثورة. وهو يشبه الإنسان في الحياة بسيزيف الذي عاقبته الآلهة بحمل الصخرة الثقيلة إلى قمة جبل ما يكاد يبلغها حتى تسقط، ويكون عليه أن يعيد الكرة إلى غير نهاية. وقد كان يطيب الأمر لو أن الفتى حجر مثل أحماله، ولكنه للأسف محكوم بالوعي أو الشعور الذي يسومه سوء العذاب كلما خلا إلى نفسه وتجلى له العبث وأطبق عليه؛ إنه يعمل كل يوم نفس العمل ويكرر نفس المشهد، وهو يعمل ليقتات ويقتات ليعمل، إلى غير نهاية، اللهم إلا الموت. إنه سيناريو لا معقول ونهاية لا معقولة لكل موجود.
أما سارتر
Sartre
فقد اشتهر بتعدد الملكات، فهو كاتب قصة ورواية ومسرحية وسيرة ذاتية ونقد أدبي ونصوص فلسفية. في عام 1943م وضع سارتر سفرا ضخما عويصا هو «الوجود والعدم» كان له - وما يزال - تأثير عظيم في مجال الطب النفسي الوجودي. وربما يقرأ هذا العمل لتحليلاته النفسية أكثر مما يقرأ لتأملاته الأنطولوجية. أخذ سارتر عن هيدجر التيمات
themes
الكبرى في الوجودية فصاغها صياغة جذابة فتنت العامة والخاصة. وله نظرات فينومينولوجية رائعة في الجسد والجنسية والرغبة والسادية والمازوكية والمواقف العدائية والدفاعات العصابية التي يسميها
mauvais foi ، وفوق كل ذلك تحليلاته الشاملة الوافية للحرية والمسئولية. (3) بعض مبادئ الوجودية
لا تفهم الوجودية
Existentialism
إلا بنقيضها: الماهوية
essentialism . فالمقولة الرئيسية التي تنسب لسارتر «الوجود يسبق الماهية» لا تفهم حق الفهم إلا بنقيضها «الماهية تسبق الوجود». لقد كانت الفلسفات الكبرى في التاريخ فلسفة ماهيات
essences ،
7
بمعنى أن للإنسان طبيعة وماهية سابقة على وجوده، تطبعه بطابعها وتقولبه بقالبها، كما أن فكرة التمثال في خيال المثال تسبق عملية نحت التمثال وتشكيله، وتصميم المبنى في مخطط المهندس يسبق بناءه وتنفيذه. الإنسان الفرد إذن إن هو إلا نسخة جزئية لمثال كلي مسبق، أو نموذج قبلي عام هو الطبيعة الإنسانية التي تشمل كل أفراد البشر. فجاء سارتر ليعكس الآية ويقول: بل الوجود هو الأصل وهو السابق. فالإنسان يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذلك. وليس هناك طبيعة إنسانية موجودة سلفا أو ماهية مسبقة تفرض نفسها على الإنسان وتصبه في قالبها ضربة لازب، بل الإنسان هو الذي يخلق ماهيته. فالإنسان في أول وثبته نحو الوجود ليس شيئا. لقد قذف به إلى عالم غير مكترث، فهو في وضع مستيئس وعليه أن يختار ويفعل دون أية مرجعية. إنه يوجد أولا غير محدد بصفة ثم يغمد نفسه في المستقبل ويبرأ ماهيته بنفسه عن طريق اختياراته ومقاصده وأفعاله التي يؤديها عن حرية هي نظير المخاطرة، لأنه يؤديها دون أية قاعدة مسبقة ودون أية ضمانات. إنه ينحت هويته كل لحظة ويصنع تعريفه ويخترع طريقته في الوجود. إنه مشروع دائم يظل يتحقق ولا يكتمل إلا بالموت.
الإنسان إذن كائن «محكوم عليه بالحرية»
condemned to be free
يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة. فالاختيار حتم. حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. وما دام الإنسان حرا مختارا فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. المسئولية هي توأم الحرية. وهذه المسئولية ليست وقفا عليه بوصفه فردا؛ بل تمتد لتشمل الناس جميعا، فالإنسان يختار للآخرين فيما يختار لنفسه ويفعل للآخرين فيما يفعل، لأنه باختياره وفعله هذين يرسم الإنسان كما يرى أن يكون، ويدس «القيم» في قلب العالم. وبتشكيله لصورته يشكل في نفس الوقت صورة الإنسان بعامة. وحين يختار قيمة أو فعلا ما فإن ما يأتيه يمس الآخرين بالضرورة وينعكس عليهم. المسئولية إذن باهظة ثقيلة لأنها تمس الناس جميعا. ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. «القلق دوار الحرية». وهو مما ينزغ للإنسان أن يضع عن كاهله عبء الحرية والمسئولية، وأن يخفض نفسه من مرتبة «الوجود لذاته»
being-for-itself - الوجود الإنساني الحر الواعي بذاته - إلى مرتبة «الوجود في ذاته»
being-in-itself ... وجود العجماوات والجمادات الغارقة في سبات الضرورة وسكينتها.
هذا النزغ هو الذي يسميه سارتر
mauvais foi . وهو لون من خداع النفس يزين للإنسان العبودية والاستسلام باعتباره مسيرا غير مخير، وضحية قوى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له فيها يد، وكأنه مجرد «شيء» من الأشياء أو «موضوع»
object
من الموضوعات. ويمعن سارتر في توكيد الحرية إلى أقصى مدى. فيقول: إن الإنسان إذ يتمتع بالوعي الذاتي، فإن بإمكانه أن يعي حتى أسباب فعله ومحددات سلوكه، وهو خلال هذا الوعي الانعكاسي يقف على دوافعه ويراها، ومن ثم يمتلك زمامها ويصبح حرا إزاءها وفي حل من اتباعها. إن الكائن البشري محكوم عليه أن يوجد خارج ماهيته وخارج دوافعه وأسبابه.
يقول سارتر إن هذا ليس تشاؤما؛ بل هو الوضوح والصرامة المتفائلة، والعزوف عن التعامي والتعتيم على النفس التماسا للسكينة الرخيصة والأمل الكاذب. فالفكر ليس عبدا «يخدم على» أهوائنا ويعمل على راحتنا واسترخائنا. بل هو وظيفة بشرية تتعلق بتعرف الحقيقة كما هي وإماطة الوهم كيفما كان. والحقيقة هي أن مصير الإنسان قابع داخل نفسه، ومن ثم فالشيء الوحيد الذي يمكن الإنسان أن يعيش حياة جديرة باسمها هو الفعل الحر والالتزام المسئول.
إذا انتقلنا الآن من فكر سارتر إلى متضمناته السيكولوجية أمكننا القول: إن النظام الاعتقادي للمعالج النفسي (فلسفته) وتصوره لطبيعة البشر - من حيث هو تصور «وجودي» أو «ماهوي» - يؤدي بالضرورة إلى تباين بعيد في تعريف السيكوباثولوجيا (علم النفس المرضي) وفي تصنيف الشخص المتعين أمامه من حيث الصحة والمرض، وبالتالي في اختيار التدخلات العلاجية الأنسب. «لا فكاك من الفلسفة» .. قالها المعلم الأول قديما، وها هي تفرض نفسها في سياق الحديث عن العلاج النفسي: إن المعالج النفسي غير المستنير فلسفيا هو معالج ناقص؛ بل خطر. وربما يؤذي من حيث يريد أن يصلح، ويهدم من حيث يريد أن يبني. (4) ميرلو بونتي
ويعد موريس ميرلو بونتي
M. Merleau-Ponty
المتوفى عام 1961م، آخر الفلاسفة الوجوديين الكبار في فرنسا. تلقى ميرلو بونتي تدريبا سيكولوجيا. ودرس السيكوباثولوجيا والتحليل النفسي دراسة جادة. وكان لعمله المبكر «فينومينولوجيا الإدراك» أثر بعيد في الطب النفسي والنظرية النفسجسمية. وفيه يقدم تحليلا عميقا للإدراك، ولدور ما أسماه «الذات الجسمية». يرى ميرلو بونتي أن الجسم الحي يتميز بالخصائص التي نسبها الفلاسفة الأوائل للخبرة وللوجود. وهو يتصور الجسم ليس فقط بالطريقة التي يتصورها الفسيولوجيون، ولكن أيضا بوصف أن الجسم «يقصد» وظيفيا إلى أحداث خارجية مرتبطة. وكان ميرلو بونتي على دراية كبيرة بحالات عطب الدماغ وسيكوباثولوجيتها ومشكلات التحليل النفسي. وهو يتحدث في كتابته باللغة الإكلينيكية للطبيب النفسي محتفظا في نفس الوقت بوضعه كفيلسوف حرفي قدير. (5) كارل ياسبرز
كان أول الأساتذة الألمان استجابة لرسالة كيركجارد هو كارل ياسبرز
Karl Jaspers
الطبيب النفسي والفيلسوف الذي توفي عام 1969م بعد حياة أكاديمية طويلة ومجيدة. أمضى ياسبرز سبع سنوات فقط في مجال الطب النفسي الإكلينيكي في هيدلبرج قبل أن يلتحق بكلية الفلسفة. غير أنه تمكن خلال هذه السنوات القليلة من وضع كتاب «علم السيكوباثولوجيا العام» الذي كان وما يزال ذا مكانة مرموقة وتأثير هائل في حقل الطب النفسي. وعجيب الأمر أن هذا الكتاب، رغم نهجه الفينومينولوجي، لم تشبه شائبة من فلسفة الوجود عند ياسبرز التي استغرقته بعد ذلك وأهلته للتأثير الكبير في الفكر الوجودي. كان تركيز ياسبرز الفيلسوف منصبا على الإنسان الوجودي؛ عالمه، مواقفه الحدية، لقائه بالحقيقة، بحثه عن حدود المنهج والنظرية، ممكناته الترنسندنتالية. كان ياسبرز عقلا صارما يحذر من اختزال الإنسان في نظرية، ويحذر أكثر من ذلك من تشييئه عن طريق الاستلاب التكنولوجي. وسوف تظل أعماله محتفظة بقوة باقية وشباب دائم، وستبقى العلوم الإنسانية كلها مشغولة بنظراته وتساؤلاته، وفي حوار لا ينقطع مع فكره العميق النافذ. (6) هيدجر والقلق الوجودي العميق
8
لا يكاد يبرأ مفكر وجودي معاصر - من الذين ذكرنا أسماءهم أو لم نذكر - من أثر كبير أو صغير لفكر الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر
M. Heidegger
الذي كتب عام 1927م تحفته الكبرى «الوجود والزمان» فكان له السيادة والريادة على الفكر الوجودي غير مدافع. ويعد كتابه بحق إنجيل المدرسة الوجودية بأسرها. دفع هيدجر في كتابه الوعر بكنز طائل من الأفكار والمصطلحات الجديدة صار بعضها من الرواسم (الكليشيهات) الشائعة والتيمات الرائجة في الكتابة الحديثة.
انتهج هيدجر المنهج الفينومينولوجي فأسس فلسفة في الوجود الكلي أو الأنطولوجيا تقوم على تحليل الوجود المتعين المفرد
Dasein
بوصفه مدخلا لمبحث الكينونة ذاتها مختلطا بها ومشتركا معها في الحدود. وأول ما يتصف به هذا الوجود المتعين المفرد هو «الوجود-في-العالم». هذا هو القوام الوجودي الأساسي للكائن البشري. يجب أن نفهم «الوجود-في-العالم» كظاهرة واحدة غير مجزأة. فالوجود الإنساني ليس راقدا في العالم رقود حصاة على الشاطئ، ولا هو سابح فيه سبح سمكة في البحر. بل هو معطى في سياق العالم، مخلوط بالعالم،
9
بحيث يجد في متناوله الأشياء التي يستطيع أن يتناولها ويتخذها أدوات، ويجد نفسه في ذات الوقت محددا بالأشياء التي يجب أن يعاني منها. المكانية
spatiality
إذن شيء مستمد من الحالة الأولية للوجود-في-العالم.
يترتب على هذا القوام الأساسي للكائن الإنساني نتائج بعيدة الأثر، أهمها انتفاء الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع، تلك الثنائية التي استهلها أفلاطون وعمقها ديكارت وكرسها تكريسا نهائيا فبقيت صدعا في الفكر الغربي وعائقا عطل علم النفس والطب النفسي قرونا عدة. لقد حل هذا القوام الجديد «الوجود-في-العالم» محل النماذج المغلقة للذهن جميعا، سواء نماذج الذاتية المحضة أو نموذج الصندوق المغلق ذي المدخل
input
والمخرج
output ، أو نموذج الذهن الداخلي المطبوع بتمثلات لما هو قائم بالخارج. الوجود الإنساني إذن ممزوج بعالم «مضروب» به! بحيث إن هناك عنصرا من العالم داخلا في صميم وجودنا؛ آفاق بلادنا ... مساكننا، مناظرنا الطبيعية؛ هي نحن. وما الطبيعة والأشياء القائمة هناك إلا أفكار بعدية لاحقة تأتي بعد حضورنا المباشر داخل العالم وتلحق عليه.
ويتصف الوجود الإنساني أيضا بأنه انبثاق وصيرورة
becoming . فالإمكان هو جوهر الوجود الإنساني. فما الإنسان على الحقيقة إلا ممكناته. الإنسان مشروع نفسه باستمرار. ومن ثم فالمستقبل هو اللحظة الجوهرية في وجوده. أن يعيش المرء يعني أن يتولى امتلاك مشروع وجوده الخاص، أن يكون مشدودا بهدف مستقبلي هو الذي يملي عليه ما يفعله هنا والآن أن يعي ذاته لا بما كانه أو بما هو عليه، بل بما يمكن أن يكونه ... أن ينطلق في اتجاه نفسه الحقيقية ... أن يعلو على ذاته ... أن يتخطاها إلى أقصى ما تسمح ممكنات وجوده. هذا البعد الوجودي هو ما يسميه هيدجر «العلو» أو «التجاوز»
transcendence .
لكن الإنسان لا يعيش فقط في عالم الأشياء أو البيئة أو العالم المحيط
Umwelt
فهناك أيضا «الآخرون» والمطالب اليومية الملحة والأحوال اليومية والرفاق اليوميون. هؤلاء يحومون حول حياة المرء بمثل ما هو يحوم حول حياتهم ... شبكة من التبعثر والتفكك، وتعثر الجوهري باللاجوهري. الوجود-في-العالم إذن هو أيضا وجود-مع-الغير. ومن شأن هذا «الوجود-مع»
Mitwelt
أن ينزل بالإنسان إلى حياة زائفة يومية متشابهة. فالإنسان الذي ينغمس بكليته في حياة الناس ويدفن ذاته في حشدهم وجزئياتهم لن يسعه إلا أن يعمل كما يعملون ويفكر كما يفكرون ويسلك كما يسلكون ويثرثر كما يثرثرون. فيصبح نسخة من كائن بلا اسم هو الناس، وبذلك يخسر فردانيته وأصالته ويتحول إلى شيء بين أشياء وأداة وسط أدوات، ويقع في الابتذال والتشتت، ويسقط في الوجود الزائف
inauthentic being ، وجود المجاراة والمسايرة والامتثال واللاوجه واللااسم
anonymity . ذلك هو البعد الوجودي السلبي الذي يسميه هيدجر «الخسران» أو «السقوط».
ولكن لماذا يسقط الإنسان هذا السقوط ويقضي على حقيقة ذاته؟ إنه يفعل ذلك فرارا من نفسه ومن العدم الذي يحاصره. فالعدم داخل في نسيج الوجود دخول السدى في اللحمة؛ نراه في خبرة السأم (السأم لا من شيء بعينه، بل السأم الشامل المطبق). ونراه في خبرة القلق (لا الخوف من شيء محدد، بل القلق الصميم النهائي الناجم من شعورنا بأننا نحن وكل الأشياء والأحياء قد انزلقنا في هاوية غامضة غير محددة). ونراه في كل فعل من أفعال الوجود؛ لأن كل فعل يستلزم اختيار وجه واحد من أوجه الممكن ونبذ سائر الممكنات، فهو يحمل معنى العدم ويستلزم العدم ويفرزه. ولهذا لا بد للإنسان أن يعيش في القلق لكي يعي حقيقة الوجود. ذلك لأن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس والتردي في الحياة اليومية الزائفة. ولكي يعود إلى ذاته لا بد له من قلق كبير يوقظه من سباته.
وليس أدعى إلى القلق من تلك الحقيقة التي تقف للإنسان بالمرصاد وتحول دون استمرار تحقيق ممكناته: حقيقة الموت. إن الوجود الإنساني هو «وجود للموت» ... وجود متجه نحو الموت. فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، وكل حي يحمل جرثومة موته بين جوانحه منذ اللحظة الأولى. ولكن الناس يوهمون أنفسهم بالحصانة من الموت، ويتعاملون عن حقيقته رغم أن فيها يتم الشعور بالفردية إلى أقصى درجة. فكل محتضر يموت وحده ولا يسع أحدا أن يموت نيابة عنه. فالموت هو الحادثة الوحيدة في حياة الإنسان التي هي خاصة به بشكل فريد مطلق . وفي هذا القلق أعلى ما يكشف عن الوجود الذاتي الحق، وفيه ما ينتشل الإنسان من الخسران اليومي ويرده إلى الوجود الأصيل ... يرده إلى نفسه. إن الموت هو أصدق الممكنات الإنسانية وأكثرها جوهرية وأصالة. وليست هذه فلسفة تشاؤمية؛ بل هي بالأحرى مذكر حي بأهمية العيش ذاته وجديته، ونفاسة كل آنة من آنات الحياة. فالعزيمة هي الثمرة الطبيعية ل «الوجود للموت» تكرسنا لوجود أصيل، وتحملنا على أن نعرف قيمة وجودنا ونأخذه مأخذ الجد، وأن نسعى ملء الممكن ونعيش ملء اللحظة.
هذه هي خلاصة فكر هيدجر. نقبلها ونستضيء بها. ونشفع مفهومه للخسران باستدراك واجب، هو أن هيدجر لم ينف أبدا أن «الوجود-مع» هو وجه من وجوه الوجود، وشكل من أشكال عالم المرء، هو الذي يمده بأسباب العيش ويقدم له الأدوات التي يحقق بها ممكناته، حين يتعايش مع الآخرين بانفتاح وحضور متبادل لوجود تجاه وجود، في عالم اللقاء الأصيل الصادق وجها لوجه، ولن يتاح للإنسان أن يكتشف ممكناته ويحققها إلا في هذا العالم وجه ... عالم المعية والمشاركة والتعايش.
ليس هذا دفاعا عن هيدجر بل هو استدراك موجه إلى القارئ. فالحق أن فكر هيدجر عسير حلزوني لا يفهم إلا في كليته وتمامه، بحيث إن جل مصطلحاته وركائزه تفقد معناها إن هي أخذت على حدة، ولا تتحلى بالمعنى إلا في سياق المذهب الكلي وإطاره. أي إنها مصطلحات «محملة بالنظرية» مشحونة بها
theory-laden . وقد يطيب لبعض المتشدقين أن يتهم السيكولوجيا الوجودية بالأناوحدية
spolipsism
أي النظر إلى الفرد باعتباره متقوقعا في عالم نفسه ساقطا في بئر ذاته لا يدري شيئا عن عالم الفرد الآخر. فالذاتية في الفكر الوجودي لا تنفي «البينذاتية» بل تكملها وتقومها وتعيدها إلى نصابها الصحيح، والانفتاح الحقيقي المتبادل بين الذوات يجعل الظواهر الواحدة تشع وتفيض بنفس الأثر والمعنى على الجميع. فالوجود الإنساني ليس كهفا وليس قوقعا. إنه دائما مشاركة العالم مع الذوات الأخرى. ولن تكون هذه مشاركة حقيقية إلا بين ذوات حقيقية تعيش وجودا أصيلا، لا مجرد كتل هلامية بلا اسم ولا هوية، عبثا تلتئم وتنصهر دفعا للسأم وهروبا من الحرية ورعبا من الوحدة الصميمة وتعاميا عن حقيقة الوجود. (7) تأثير الفينومينولوجيا على علم النفس الوجودي
كان لنشوء المدرسة الفينومينولوجية في علم النفس أثره في بزوغ المدخل الوجودي، من حيث إن المنهج الفينومينولوجي هو المنهج الذي يتمسك به جميع المعالجين الوجوديين. وتتماهى الفينومينولوجيا أيضا مع مدرسة الجشطلت ومع الدراسات الحديثة للإدراك. وتعمد الطريقة الفينومينولوجية إلى الانخراط في وصف الظواهر السيكولوجية وصفا مفصلا مستنفدا مع وقف الفروض التفسيرية في ذات الوقت وتنحيتها جانبا، وإلى وصف الخبرة بلغة الخبرة، وتفسير الخبرة بلغة الخبرة. ولغة الخبرة فيها من العيانية والألفة أكثر مما فيها من التجريد والرطانة. لا تسعى الفينومينولوجيا إلى تفتيت الظاهرة إلى عناصر وأشلاء؛ بل تنصرف إلى فهم الخبرة كما تتراءى مباشرة على شاشة الوعي. إن خبرات مثل القلق واليأس والحب والحرية والمسئولية والرعب والدهشة والقرار من المستحيل أن تقاس كميا أو تختبر معمليا. إنها ببساطة توجد وتمثل. ولا سبيل إلى فهمها إلا كما تنوجد وتتمثل، ولا إلى تحليلها وتفسيرها إلا في أسلوبها الخاص في الحضور والتجلي. وقد طبق المنهج الفينومينولوجي أخيرا في علم النفس الاجتماعي وفي علم نفس الشخصية. وقد أفاد أولبورت
Allport
وماسلو
Maslow
وروجرز
Rogers
وستراوس
Straus
وبنسفانجر
Binswanger
من النهج الفينومينولوجي، وغدت السيكولوجيا المشربة بالتوجه الوجودي هي بحق «القوة الثالثة»، كبديل أقوم لكل من النموذج الفرويدي والنموذج السلوكي.
وبين كل هؤلاء يستحق السويسري لودفيج بنسفانجر
Binswanger
وقفة خاصة. كان بنسفانجر طبيبا نفسيا وأستاذا وفيلسوفا توفي عام 1966م، ويعد نموذجا للممارس الإكلينيكي الوجودي في أكمل صوره، ومؤسسا للفكر السيكولوجي الوجودي من خلال محاضراته وكتبه ومقالاته وإدارته لمستشفى عقلي. كما يعد بنسفانجر أدق شارح لفكر هيدجر منذ صدور «الوجود والزمان»، فقد كان يستخلص المتضمنات السيكولوجية لفكر هيدجر بمساعدة هيدجر نفسه، إذ كانا بجيرة جغرافية. كما تأثر بالفلسفة الفينومينولوجية وباستبطانية كيركجارد وبحوار «أنا-أنت» عند بيوبر
Buber ، بالإضافة إلى عناصر لا غنى عنها من بلويلر
Bleuler
وفرويد
Frued .
كان بنسفانجر صديق عمر لفرويد ومحللا نفسيا سويسريا رائدا. ورغم اختلافاته الصريحة مع فرويد فقد بقيت صلتهما حارة حتى النهاية، ولم تنقطع يوما من الأيام كما هو شأن علاقات فرويد بتلاميذه المنشقين. والحق أن أفكار بنسفانجر الوجودية لم تتبلور وتنم نموا منهجيا منظما إلا بعد وفاة فرويد، رغم أنه كان قد شرع في تطويرها منذ أوائل الثلاثينيات.
أخذ بنفسانجر عن هيدجر فكرة أن الإنسان كائن زماني بالدرجة الأساس. وأنه يوجد بقدر ما يتوجه إلى المستقبل ويستشرفه. وأنه ينظم حاضره الآني ويصله بماضيه السالف وفقا لاستشرافه المستقبلي وصلته بالآتي. وقد لاحظ بنسفانجر في مرضاه أن لب الاضطراب عندهم هو فقدان التوجه والمعنى في حياتهم. مما يعني أنهم لم يعودوا على علاقة ذات معنى بالزمن نفسه، لم يعودوا قادرين على ربط أقانيمه الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، معا بعناية وانسجام.
أفاض بنسفانجر في تحليل الوجود الإنساني بوصفه وجودا-في-العالم، وتحليل الهموم الإنسانية وتمثلاتها وتحولاتها كما تتبدى في الحالات المرضية الفردية الحية، ووصلها بعالم المريض في أشكاله الثلاثة: العالم المحيط (البيئة)، والعالم-مع (العالم البينشخصي)، بالإضافة إلى العالم الشخصي الذي أضافه بنسفانجر إضافة رائدة (وهو عالم الذات في ديمومتها واتساقها وهويتها). ويرى بنسفانجر أن المرض النفسي يأتي من أثر ما يلحق بعالم الفرد من تقلص أو تسطح أو تشويه أو استنفاد. فالمرض هو دائما فقدان يلحق بمحتوى عالم الفرد، فقدان للغنى والتركب الذي يجب أن تتسم به السياقات المرجعية. المرض هو أن يطغى على المرء نمط واحد للعالم ويستنفده تاركا عالميه الآخرين في جدب ومحل وفاقة.
أما رولو ماي
Rollo May - مؤسس العلاج الوجودي في الولايات المتحدة - فإنه يؤكد على مسئولية المريض عن اضطراباته وعما يجري له في حياته مسئولية مباشرة، ويحثه على أن يواجه ما يبدو له عوامل حتمية تجبره على التسليم أو الانسحاب وتجنب الحياة. وله في تيمة القلق إضافة رائدة هامة. يميز رولو ماي بين نوعين أو دورين للقلق: فهناك الدور الصحي الذي يضع يد المرء على مكمن إشكالية في حياته، وبذلك يفتح له الأبواب أمام إمكانيات الحياة بصورة مختلفة ويدفعه - عن طريق المواجهة والتصدي - إلى مزيد من النمو والإبداع. وهناك دور آخر مرضي للقلق، وهو ما يؤدي بالمرء إلى تجنب هذه الإمكانيات ومحاولة العيش في قوقعة آمنة، ويبقى علامة تشير إلى الإمكانيات غير المعيشة وإلى الموت المبكر والوجود الضيق. وقد وجد رولو ماي في الخمسينيات أن معظم الأفراد يعانون مما أسماه «العصاب الوجودي» أكثر مما يعانون من العصابات التقليدية. والعصاب الوجودي هو فقدان الإحساس بالذات وبالدهشة والشغف والثراء النفسي الداخلي، والعجز عن امتلاك المرء لحياته وأفعاله وعن الاستقلال الذاتي والأصالة، وعن أن يتوافر لديه بصورة مباشرة أساس داخلي ومصدر للأفعال والاختيارات. ونتيجة لهذا الفقدان ينشأ الإحساس بالفراغ والعبث والسأم والجزع واليأس، ويسود إحساس غامر بالضياع والتخبط وفقدان المعنى في الحياة. (8) فرنر مندل واستراتيجية المعالج الوجودي
رسم فرنر مندل
Werner Mendel
ستة خطوط هادية، يشير كل منها إلى استراتيجية محددة يجب على المعالج النفسي أن يلتزم بها ولا يحيد عنها: (1)
عندما نكون بصدد الماضي الخاص بكائن إنساني بعينه، فإن هذا الماضي يجب أن تعاد كتابته باستمرار. فالماضي كما تستعيده الذاكرة لا يمكن أن يستحضر في صورة كلية تامة دائمة تمثل ما كانه هذا الشخص في الماضي حقا وصدقا. فحقيقة الأمر أننا جميعا نقوم بمراجعة الماضي وتنقيحه كلما انطلقنا إلى الأمام. ذلك أن الذاكرة نفسها تتكئ في عملها على الموقف الحاضر وعلى توجهنا واستشرافنا للمستقبل. ومن المعروف في الدراسات التاريخية الحديثة أن إعادة كتابة التاريخ ومراجعته وتعديله مهمة ضرورية تقع على عاتق كل جيل من الأجيال. وليس التاريخ الشخصي من ذلك ببعيد؛ فهو أيضا بحاجة إلى المراجعة الدائمة من أجل تحصيل المادة ذات الصلة، أي تجميع صورة الماضي التي تعنينا في الحاضر. (2)
يجب أن تكون لنا وقفة عند المستقبل كتاريخ في ذاته. فالمستقبل له ضغطه ونفوذه على توجه المريض، وله أثره الحاسم في مآل العلاج. يجب أن يظل المستقبل نصب عين المريض في خططه وتوقعاته وأهدافه المختارة. (3)
يجب أن نكون متهيئين دائما لتناول المادة الشعورية وتركها تفصح عن نفسها دون حصرها في صيغ ليست من جنسها، أو صبها في تأويلات غريبة عنها. وبتعبير آخر يجب أن نبقى على موقفنا الفينومينولوجي في وصف الأعراض والأحداث والخيالات والأحلام. وأن نتقصى المحتوى الظاهر
manifest content
بصبر ودأب واستنفاد قبل أن نتحول إلى المحتوى الكامن
latent content . (4)
يجب أن نسلم بحقيقة اللقاء العلاجي بين المعالج والمريض وواقعيته، دون أن نرد كل تقلب يعتري العلاقة إلى مظاهر الطرح
transference
والطرح المضاد
counter transference . (5)
يجب أن يميز المعالج الوجودي بين ما يقوله الإنسان وما يفعله. فالمرء بفعله. وهو يبث فيه من وجوده أكثر مما يبث في قوله. ويجب أن يلتفت المعالج أيضا إلى مدى تقارب القول والفعل أو تباعدهما عند المريض في كل لحظة. (6)
القرار والفعل هما عنصران مدمجان في العملية العلاجية ومكملان لها. ولا يصح تسويفهما حتى يتم العمل العلاجي. فالفعل - وليس تأمل الفعل الماضي وتمليه - هو التيمة المركزية للعملية العلاجية الجارية.
وأخيرا على المعالج الوجودي ألا يقع فيما وقع فيه غيره من المعالجين، فيعزز الاتهام القائل بأن العلاج المعاصر هو عميل السلطة وسادن الثقافة القائمة والوضع الراهن، إذ يحمل المريض على التوافق مع معايير الجماعة والامتثال لضغوط المجتمع، وينتهكه ويسلبه ذاتيته وأصالته وخبرته لمصلحة النظام الاعتقادي للمعالج. إن المعالج الوجودي هو أول من يناضل ضد تشييء الإنسان والتلاعب به واستلابه، خاصة إذا كان هذا الإنسان في مرحلة ضعف وحالة مرض. إن هدفه هو أن يلتقي المريض بنفسه ويخبر وجوده من حيث هو حدود وممكنات، وأن يتقبل القلق والذنب ويبني عليهما التزاما مسئولا تجاه ممكناته الفريدة.
إن ذاتية الإنسان لتنتهك منذ هو في المهد وتلجئه إلى خداع النفس. والانتهاك
violation
هو كل موقف تتعرض فيه رؤية المرء الشخصية للقمع والتسفيه والحظر والمصادرة، ويتعرض فيه تكامله الداخلي للخطر والتفسخ، ويضطر فيه اضطرارا إلى تبني وجهة نظر «الآخر» والانصياع لفكره. وهو في أغلب الأحوال فكر قائم على الهوى الشخصي لهذا «الآخر» الذي يأبى أن يرد فكره إلى مجرد هوى شخصي، بل يريد أن يفرضه على المرء بالقهر والإرهاب.
كثيرا ما يضطر المرء - لحرصه على إرضاء الآخرين ومعايشتهم وإيثارا للسلامة والعيش الرخي - أن يغضي عن هذا الانتهاك وينفيه من ساحة الشعور ويبقى مستلبا معمى عن ذاته الحقيقية، ويتبنى التقية والكتمان والكبت والمسايرة كأسلوب حياة. وترى الوجودية أن الصحة النفسية هي على النقيض التام من ذلك. فالوجود الأصيل
authentic being
يهتف بالمرء أن يكون شجاعا صريحا يعبر بوضوح وبملء فيه عما يريد، وأن يكون نفسه في كل موقف. وهل تكون ماهية الواقع سوى هذا الصدق والوضوح والخصوصية؟ وهل تكون حياة التعامي والانتهاك والتقية سوى الزيف والوهم واللاواقع؟ إن المريض في المشهد العلاجي مدعو إلى أن يفضي بذات نفسه ويعلن عنها بجسارة ويستكشفها بعمق ويعيها بوضوح. وبخاصة تلك الجوانب التي طمسها الإنكار
denial
والكبت
repression
والانتهاك
violation . وهو بذلك يعيد الرابطة المفقودة بين رغباته وأفعاله ومصائره. وهي رابطة لا غنى عنها لتكامل الشخصية ووحدتها وحيوتها وتطورها.
إن الحياة الصالحة هي تلك الحياة التي لا يتم فيها خنق أي جانب من الشخصية أو التضحية به لحساب جانب آخر، بل تجد فيه كل أجزاء الكائن متسعا للنمو. ولا متسع ولا نمو إلا بثمن على المرء أن يدفعه من راحته وأمانه ومن رضا الآخرين. (9) فرانكل ومعنى الحياة
ولا يتم حديث عن العلاج الوجودي دون ذكر الطبيب النمساوي فيكتور فرانكل
Victor Frankl
مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى الوجودي
logotherapy ، والذي بنى نظريته العلاجية على علم وافر مضفور بخبرة وجودية عميقة كنزيل بمعسكرات الاعتقال النازية.
يرى فرانكل أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعية أولية وليس تبريرا ثانويا لحوافزه الغريزية. وإذا كان الإنسان عند سارتر «يخترع» نفسه ويخلق ماهيته، فإن فرانكل يميل إلى أن معنى وجودنا ليس أمرا نبتدعه ونبرؤه، بل هو أمر نكتشفه ونستبينه. وقد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط، وهو ما يعرف باسم «الإحباط الوجودي». عندئذ ينشأ ما يسمى بالعصاب المعنوي
noogenic neurosis
وهو لون من العصاب يختلف عن العصاب النفسي الشائع
. فالعصاب المعنوي لا يكمن في البعد النفسي، بل في البعد العقلي أو الروحي. فهو لا يتولد من الصراعات بين الدوافع والغرائز، وإنما يتولد من الصراعات بين القيم المختلفة. وحين يكون المرض روحيا بالدرجة الأساس يكون العلاج بالعقاقير تخديرا مضرا، ويكون العلاج التحليلي خلطا خارجا عن الموضوع. إن «العلاج بالمعنى» يعتبر الإنسان كائنا معنيا في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء أهواء وإشباع غرائز، أو مجرد تحقيق تسوية بين المطالب المتصارعة للأنا والهو والأنا الأعلى، أو مجرد التوافق مع المجتمع والتكيف مع البيئة.
إن سعي الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة. غير أن هذا التوتر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها. فالصحة النفسية توتر لا اتزان ... توتر بين ما أنجزه المرء وما لا يزال عليه أن ينجزه ... بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ذلك التوتر كامن في الوجود الإنساني مضفور في ماهيته، وبالتالي في صلاحيته وصحته. وينبغي ألا نتردد في أن نضع أمام الإنسان تحديات عليه أن يواجهها بما عنده من معان كامنة تطالبه أن يحققها. إننا بذلك نستنفر إرادة المعنى فيه من حالة هجوعها. فليس ما يحتاجه الإنسان حقيقة هو حالة اللاتوتر أو التوازن أو «الهميوستاسيس»
homeostasis
ولكنه بحاجة إلى السعي والكدح في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله. فلا شيء يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته. يقول نيتشه: «إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أي شيء في سبيله، وبمقدوره غالبا أن ينهض بأي شكل من الأشكال.»
وجد فرانكل في دراسة مسحية إحصائية قام بها تلامذته أن 55٪ من الأشخاص المدروسين يعانون مما أسماه «الفراغ الوجودي»
existential vacuum
وهو مصطلح أدخله فرانكل، ويعني فقدان الفرد للشعور بأن حياته ذات معنى. والفراغ الوجودي ظاهرة واسعة الانتشار في القرن العشرين. ويكشف هذا الفراغ عن نفسه في حالة الملل. الملل هو آية الفراغ الوجودي. فالفراغ هنا فراغ من المعنى وليس فراغا من المشاغل والتلهيات. ومن المتوقع أن تتفاقم مشكلة الفراغ هذه بدرجة خطيرة على مر الأيام نتيجة التقدم الآلي والتكنولوجي الذي من شأنه أن يطرح فائضا وقتيا رهيبا في حياة الشخص العادي. ولنا أن نتوقع أعدادا هائلة من البشر لا يعرفون ماذا يفعلون بكل هذا الوقت.
من تمثلات هذا الفراغ الوجودي حالة تعرف باسم «عصاب يوم الأحد»
Sunday neurosis
أي عصاب يوم العطلة الأسبوعية (ولنا أن نسميه في الشرق العربي عصاب الجمعة). وهو نوع من الاكتئاب والكرب يصيب الأشخاص الذين يصيرون واعين بما ينقص حياتهم من مضمون، حينما ينحسر اندفاع الأسبوع المزدحم بالمشاغل، ويصبح الفراغ بداخل نفوسهم جليا مدويا. يعرف هذا اللون من العصاب كل معالج ممارس، ويراه في صورته الصارخة عند مرضى اضطراب الشخصية البينية (الحدية)
borderline personality disorder
وهم النماذج المثلى للفراغ الوجودي، إذ تزداد عليهم وطأة الفراغ الداخلي يوم العطلة الأسبوعية ويتعرضون للانتكاس والتناثر، وكثيرا ما يتلفنون المعالج متشبثين به مستغيثين من هول الوحدة ومن عضة الفراغ.
ومما يؤثر عن فرانكل توكيده الدائم على أن الوجود الإنساني تجاوز للذات أكثر مما هو تحقيق لها. وقوله: إن الحرية ليست دائما تحررا من الظروف؛ ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف. وهو قول يذكرنا بقول هيدجر: إن الضمير يهيب بالإنسان أن يهرب من العبودية إلى الحرية، وبالفعل نفسه يحول الضرورة التاريخية إلى قرار.
وقد ابتكر فرانكل تقنيات علاجية أهمها ما يسمى «النية المفارقة» أو «القصد المفارق»
paradoxical intention ، وما يسمى «خفض التفكر»
dereflection . وتبقى أهم فنياته وأنجعها هي لمسته الإنسانية المرهفة وحكمته الفلسفية البالغة يبده بها مريضه في التوقيت السليم فتكون له هدى وشفاء.
خاتمة
تذنب النزعة السيكولوجية
في حق الإنسان بشكل مؤسف؛ حين تلوث قيمه العليا، وتدنس ملكاته الإبداعية، وتعمه عن نتاجه وحجته وتنشب في منشئهما كالعلق، وتغرض منه كل قول وفعل، وترده إلى حزمة من الالتواءات النفسية والتدابير والحيل. وكأن الإنسان لا يشعر ويفكر بل يسوغ ويبرر، ولا يجترح أفعالا بل ردود أفعال، ولا يأتي شيئا أبدا لوجه القيمة.
فلا ينشد حقا لوجه الحق.
ولا يستبق خيرا لوجه الخير.
ولا يخلق جمالا لوجه الجمال.
وتأتي الوجودية لكي تردنا نحن المعالجين إلى الإنسان الفرد. وتحملنا على أن نجله ونواكبه ونحسن به الظن، ونلتقيه لقاء حقيقيا ونصله صلة أصيلة. وأن نكون - بحرفية وحذق - ضميره الصارخ فيه بملء صمته:
اخرج من كهف الماضي ، وانفض عنك وهمه.
اشدد عليك مستقبلك، واجعله إحداثك وارتكازك.
من المستقبل تنطلق إلى الحاضر عبر الماضي.
مشدودا إلى ما ينبغي، لا إلى ما أنجزت.
كن قلقا إذن كوتر القيثار، فما صلاحيتك إلا في القلق.
وما صلاحية الوتر إلا في الشد.
انطلق في حجتك المقدسة إلى نفسك.
مجتزئا بوحدتك ... مشتملا بممكناتك.
كف عن التفكير المكاني البليد ... فأنت ظاهرة زمنية.
وقتك هو جوهرك وفحواك وثروتك النهائية.
اعرف كيف تصادقه ولا تعاديه.
تحييه ولا تقتله.
كيف تتعهد فيه ممكناتك إلى أشدها، وتنميها إلى مداها.
أويتلبسك إحساس مقعد بالإثم، يماشيك كظلك؟
وتأخذك غصة وجودية لا تبرحك؟
وتنظر إلى نفسك بانكسار وخجل نظرة المدين إلى الدائن؟
عليك أن تختار صنف وجودك وفق مشيئتك وممكناتك وأشواق روحك.
وألا تتهرب من الاختيار تحت أي شعار.
عليك أن تنتشل نفسك من مشيئة الظروف،
ومن مشيئة الناس.
فالحياة حياتك.
والعمر عمرك.
والرحلة رحلتك.
والوحدة وحدتك.
والموت موتك.
د. عادل مصطفى
«إن الذات الإنسانية ليست هي الإنسانية بوجه عام، فالإنسانية لا توجد وإنما الكائنات الإنسانية الفردية هي الموجودة. والواقع الوجودي لا يقوم في الجنس أو النوع، بل في الفرد العيني. والكليات شأنها شأن الجماهير ... هي تجريدات لا أيادي لها ولا أرجل.»
كيركجارد، نقشت على قبره «كن نفسك ...
كل نفس شابة تسمع هذا النداء ليل نهار فترتجف، لأنها تشعر بقسطها المقسوم لها من السعادة منذ الأزل عندما تفكر في تحررها الحقيقي. غير أنها لن تبلغ هذه السعادة ما بقيت مأسورة في أغلال الخوف والآراء الشائعة. وكم تصبح الحياة مجدبة من كل معنى ومن كل عزاء إذا حرمت هذا التحرر. فليس في الطبيعة مخلوق أولى بالرثاء أو أدعى للنفور والاشمئزاز من إنسان تهرب من روحه الحارس وراح يطوف بعينيه فيما حوله ...»
فردريك نيتشه، تأملات لغير زمانها «الكلمات مثلا: كنت أريد كلمات لي، ولكن التي تحت تصرفي قد ساحت في ضمائر لا أعرف لها عدا؛ إنها تنتظم في رأسي من تلقاء نفسها بفضل العادات التي اكتسبتها لدى الآخرين، وأنا إذ أستعملها في الكتابة إليك، لا أفعل ذلك بلا اشمئزاز.»
سارتر، إيروسترات
نظرة عامة
نشأ العلاج الوجودي بشكل تلقائي في أوروبا في الأربعينيات والخمسينيات، إذ تفتقت عنه أذهان عدد من علماء النفس والأطباء النفسيين وتجلى في كتاباتهم. لقد كان هؤلاء مهمومين بإيجاد طريقة نفهم بها الكائن الإنساني تكون أكثر وثوقا وجوهرية من تلك التي كانت تطرحها مدارس العلاج النفسي المعروفة في ذلك الحين. يقول لودفيج بنسفانجر، أحد المتحدثين بلسان العلاج الوجودي: «لقد نشأ العلاج الوجودي عن عدم ارتياحنا للمدارس السائدة التي تحاول أن تحقق لنفسها نوعا من التبصر العلمي في مجال الطلب النفسي.» لم يكن هؤلاء المعالجون يجحدون أهمية الكشوف الجذرية لتلك المدارس. إن مرتكزات من مثل الدوافع
drives
في السيكولوجيا الفرويدية، والإشراط
conditioning
1
عند السلوكيين، والنماذج البدئية
archetypes
2
عند أتباع يونج كلها أشياء لا غبار عليها في ذاتها. ولكن أين هو الشخص الحقيقي المباشر الذي تحدث له هذه الأشياء وتجري فيه هذه المجريات؟ وكيف لنا أن نثق أننا نرى المرضى على ما هم عليه بالفعل، وأن ما نراه ليس - ببساطة - مجرد إسقاط لنظرياتنا الخاصة عن هؤلاء المرضى؟
كان هؤلاء المعالجون على وعي حاد بأننا نعيش مرحلة تاريخية انتقالية، كل إنسان فيها يشعر بأنه مغترب عن إخوانه البشر، تهدده الحرب النووية والضوائق الاقتصادية، ويحيره اهتزاز القيم وتبدل الأعراف الثقافية كلها تقريبا تبدلا جذريا سواء تلك المتعلقة بالزواج أو بغيره من التقاليد الراسخة. كل إنسان، باختصار، مكتنف بالقلق محاصر بالضغوط.
ليس العلاج النفسي الوجودي مدخلا تقنيا محددا يقدم مجموعة جديدة من القواعد العلاجية؛ بل هو توجه جديد يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن البشري، وحول طبيعة الخبرات الأساسية من مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية
anomie .
3
ويتناول بشكل محوري إشكالية الإبداع وإشكالية الحب. وباستكناه عميق لمعاني هذه الخبرات البشرية يصوغ المعالجون الوجوديون طرقا علاجية تتنكب الخطأ الشائع في كل المدارس العلاجية؛ خطأ تشويه الكائنات البشرية بذات الجهد المبذول لمساعدتهم، وتخريبهم بنية علاجهم!
الفصل الأول
مفاهيم أساسية
«الإنسان مذنب دائما وأبدا. إنه مذنب منذ لحظة الميلاد، ومدين لنفسه بكل ما لم يحققه من الممكنات التي منحت له، وبكل ما كان يذخره له المستقبل ... مدين حتى النفس الأخير. إن كل فعل وكل قرار وكل اختيار يتضمن نبذ كل الممكنات الأخرى التي تنتمي أيضا لوجوده في تلك اللحظة. يتمثل الذنب الوجودي إذن في هذا الفشل في تنفيذ التفويض الممنوح له بتحقيق كل ممكناته.»
ميدارد بوس، التحليل النفسي والتحليل الوجودي «لا يكون الإنسان نفسه في تجربة الإبداع إلا بقدر ما يخرج مما هو. هويته جدل بين ما هو وما يكون. إنها أمامه أكثر مما هي وراءه؛ بوصفه، جوهريا، إرادة خلق وتغيير. لنقل ليست الهوية موروثا نرثه بقدر ما هي إبداع نحققه. فالإنسان خلافا للكائنات كلها، يبدع هويته فيما يبدع حياته وفكره.»
أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (1) خبرة «أنا موجود»
إن إدراك الإنسان لوجوده (أنا أحيا الآن، وبوسعي أن أتولى أمر حياتي)، يمكن أن يكون له تأثير صحي شاف. يقول نيتشه: «كم من حياة أنقذتها فكرة الانتحار.»
1
يبدو أن الإنسان منا يظل ضحية للظروف وضحية للآخرين إلى أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه أن يعي وجوده ويقول لنفسه: «إن الحياة حياتي والخبرة خبرتي ... ولي أن أختار وجودي الخاص».
وليس بالأمر اليسير أن يجد الإنسان نفسه ويحدد وجوده. لأننا في مجتمعنا هذا ننساق في الأغلب إلى أن نكبت حس الوجود ونخضعه لوضعنا الاقتصادي، ونربطه بالنمط الخارجي للحياة التي نحياها. فكل منا يعرف نفسه، ويعرفه الآخرون، لا بصفته كائنا أو ذاتا، بل بصفته بقالا أو بائع تذاكر بمترو الأنفاق أو أستاذا جامعيا أو نائب رئيس أو ما شئت من تلك الوظائف الاقتصادية. هذا الفقدان لحس الوجود يعود إلى الاتجاهات الجماعية
collectivism
والامتثالية التي تطبع ثقافتنا الحديثة. تلك الاتجاهات التي يوجه إليها الفيلسوف الوجودي الفرنسي جبرييل مارسيل هذا الاعتراض اللاذع: «أما من منهج تحليل نفسي أعمق وأفطن من هذا الذي بين ظهرانينا، يكشف لنا التأثيرات المرضية لكبت هذا الحس «بالوجود» وتجاهل هذه الحاجة؟»
2
يحاول العلاج الوجودي أن يكون هو هذا النوع العلاجي الأكثر عمقا وتفطنا.
لنتأمل هذه الحالة لمريضة نشأت ابنة غير شرعية لإحدى البغايا، وكفلها أقاربها حتى كبرت. تقول هذه المريضة: «ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي كنت أمشي فيه أسفل خطوط السكة الحديدية في ذلك الحي الفقير، تغمر إحساسي هذه الفكرة: «أنا طفلة غير شرعية» فأتصبب عرقا وأمتلئ كربا إذ أحاول أن أتقبل هذه الحقيقة. عندئذ أدركت كيف يكون إحساس إنسان عليه أن يتقبل حقيقة أنه زنجي وسط المحظيين البيض، أو حقيقة أنه أعمى وسط المبصرين. فلما أقبل الليل وغشيني النوم، إذا بي أفيق وقد ألقي في روعي هذا الوعي:
إنني أتقبل هذه الحقيقة:
أنا طفلة غير شرعية.
غير أنني لم أعد طفلة ... إذن تكون الحقيقة هكذا:
أنا غير شرعية.
لا ... ولا هذه تترجم الحقيقة ... لقد ولدت غير شرعية ... فغير الشرعي هو ميلادي ليس إلا ... ماذا يتبقى إذن؟ يتبقى هذا:
أنا ... «أنا أكون» ... «أنا موجودة».
وما إن استحوذت على هذا الاتصال ب «الأنا موجود» وقبلته حتى أهدى إلي هذه الخبرة:
ما دام لم يبق إلا «أنا» ... فإن لدي كل الحق في أن أكون.» (ماي، وآخرون، 1958م).
إن خبرة «أنا موجود» هذه ليست في حد ذاتها حلا لمشاكل فرد من الأفراد. إنها بالأحرى «شرط للحل». لقد قضت المريضة المذكورة نحو سنتين بعد ذلك في عملية تناول استيعابي لمشاكل نفسية محددة، تمكنت من إنجازها بفضل استنادها إلى خبرة الوجود.
هذه الخبرة - خبرة الوجود - تفضي أيضا وتحيل إلى خبرة أخرى هي خبرة «عدم الوجود» أو خبرة «العدم»
nothingness . يتمثل العدم في خبرات من قبيل العدوانية المدمرة، الموت المهدد، القلق الشديد المقعد، الحالة المرضية الحرجة ... إلخ. إن الفناء مصلت، وتهديد العدم قائم بدرجة أو بأخرى في جميع الأوقات؛ قائم حين نعبر الشارع متلفتين يمنة ويسرة حذر أن تصدمنا إحدى السيارات. وقائم حين يسلقنا شخص ما بتعليق جارح، وحين نذهب إلى امتحان لم نستعد له كما ينبغي. كل هذه أمثلة لتهديد العدم.
تعرف خبرة «أنا موجود» أو خبرة الوجود في مجال العلاج الوجودي بوصفها فكرة أنطولوجية
ontological . وتأتي هذه اللفظة من كلمتين يونانيتين : أونتوس
ontos
وتعني «يوجد» أو «يكون». و
logical
وتعني: «علم كذا ...»، فهي إذن «علم الوجود»، وهو مصطلح كبير الشأن في مجال العلاج الوجودي كما سنلاحظ في تناولنا الآتي لخبرة القلق. (2) القلق السوي والقلق العصابي
يعرف المعالجون الوجوديون القلق تعريفا أوسع من تعريف الجماعات العلاجية الأخرى. ينجم القلق عن حاجتنا الشخصية للبقاء والاحتفاظ بوجودنا وتأكيد هذا الوجود. ويفصح القلق عن نفسه جسميا بمظاهر من قبيل زيادة سرعة ضربات القلب وارتفاع الضغط وتجهيز العضلات الهيكلية للكر أو للفر، وذلك الشعور بالخشية والروع في داخلنا وهو أوجع هذه المظاهر جميعا. ويعرف رولو ماي القلق بأنه: «ذلك التهديد لوجودنا أو للقيم التي جعلناها مساوية لوجودنا.» (1977م، ص205).
والقلق أعم من الخوف وأكثر منه شمولا وقاعدية. وهو ما يجعلنا نهدف في العلاج النفسي إلى مساعدة المريض على مواجهة القلق مواجهة شاملة قدر الإمكان، وبذلك نخفض القلق إلى «مخاوف» هي عندئذ أشياء موضوعية مكشوفة يمكن تناولها والتعامل معها. غير أن الوظيفة العلاجية الرئيسية هي أن نساعد المريض على أن يواجه القلق السوي، الذي هو جزء من الحالة البشرية لا مناص منه.
للقلق السوي
normal anxiety
ثلاث خصائص؛ فهو أولا: متناسب مع الموقف الذي نواجهه. وهو ثانيا: لا يتطلب الكبت، وبمقدورنا أن نتصالح معه كما نتصالح - مثلا - مع حقيقة أننا جميعا سوف نواجه الموت في النهاية. وهو ثالثا: قلق صحي مفيد يمكن أن نوظفه توظيفا إبداعيا. فهو على سبيل المثال يمكن أن يكون منبها يضع أيدينا على المشكل الذي أثار القلق، ومن ثم يساعدنا على مواجهته وتناوله.
أما القلق العصابي
neurotic anxiety
فهو، في المقابل، قلق لا يتناسب مع الموقف؛ كأن يصل حرص الأبوين على طفلهما ألا تدهمه سيارة إلى حد منعه من مغادرة المنزل. والقلق العصابي ثانيا هو قلق مرتهن للكبت، بنفس الطريقة التي يكبت بها معظمنا خوفه من الحرب النووية. وهو ثالثا قلق مدمر غير بناء. فهو إلى أن يشل الفرد أميل منه إلى حفز إبداعه.
وليست وظيفة العلاج أن يخلصنا من كل قلق . وما من إنسان يمكن أن يعيش ويبقى وهو خال تماما من القلق. أما القول المبتذل المكرور بأن الصحة النفسية هي في العيش دون قلق فهو عبث وهراء. فالصحة النفسية هي أن نعيش دون قلق عصابي قدر الإمكان، على أن نتحلى بالقدرة على احتمال القلق الوجودي المحتوم والمصاحب لعملية الحياة. (3) الذنب ومشاعر الذنب
تعني خبرة الذنب لدى المعالج الوجودي معنى شديد الخصوصية. فالذنب - شأنه في ذلك شأن القلق - يمكن أن يأخذ كلا الشكلين: السوي، والعصابي. فمشاعر الذنب العصابية
neurotic guilt
تنجم عن خطايا موهومة. أما الذنب السوي
normal guilt
فهو يرهف إحساسنا بالجانب الأخلاقي من سلوكنا.
ويبقى هناك صنف آخر من الذنب، هو شعورنا بالذنب تجاه أنفسنا لفشلنا أن نسلك وفق ما لدينا من إمكانات، أو بتعبير ميدارد بوس
Medard Boss : لنسياننا وجودنا.
3
وخير مثال يوضح موقفنا إزاء هذا النوع من الإحساس بالذنب كما يتجلى في جلسات العلاج الوجودي هو الحالة التي أوردها ميدارد بوس (
1957b ). وهي حالة مريض بالوسواس القهري الشديد كان يعالجه بوس. وكان هذا المريض - وهو طبيب مصاب بغسل اليد القهري - قد أجري له من قبل تحليل نفسي فرويدي وآخر يونجي. وإذ كان يعاوده حلم يتضمن أبراج الكنيسة، فقد فسر له الفرويديون الأبراج كرموز قضيبية
phallic symbols ، وفسرها اليونجيون كرموز دينية بدئية
archetypal . لقد استطاع هذا المريض أن يشرح هذه التفسيرات بذكاء وإسهاب، غير أن سلوكه العصابي القهري - بعد توقف مؤقت - عاد ينتابه ويعوقه بنفس الشدة السابقة.
في الأشهر الأولى من التحليل مع بوس كان هذا المريض يروي حلما أخذ يعاوده في تلك الفترة. لقد كان في الحلم يقصد إلى دورة مياه لغسل يديه، وكلما بلغها وجد الباب منغلقا لا ينفتح. أما بوس فقد اقتصر على سؤال مريضه كل مرة: لماذا كان على الباب أن يكون منغلقا؟ ولماذا كان عليك أن تخشخش المقبض؟ وأخيرا رأى المريض في حلم له أنه فتح الباب فوجد نفسه داخل كنيسة. كان غائصا في الغائط حتى وسطه، وكان مشدودا بحبل مربوط حول وسطه وطرفه الآخر يؤدي إلى برج جرس الكنيسة. وقد بقي معلقا هكذا يعاني من الشد الرهيب بحيث ظن أنه سوف ينبتر. بعدئذ مر هذا المريض بنوبة ذهان دامت أربعة أيام لازمه خلالها بوس، ثم استأنف التحليل الذي انتهى بشفاء المريض.
يشير بوس إلى أن مريضه كان مذنبا. لأنه أغلق أو احتبس بعض الإمكانات الأساسية لديه؛ ولذا كان يحس بالذنب، «فأنت حين تحتبس إمكاناتك ولا تطلقها فأنت مذنب أو مدين تجاه ما أعطي لك في منشئك ... في صميمك. هذه الحال - حال كونك مدينا وكونك مذنبا - هي التي تتأسس عليها كل مشاعر الذنب كيفما اتخذت لها من أشكال عينية والتواءات لا تحصى تتبدى بها في الواقع المعيش.» فهذا المريض قد أوصد الباب أمام ممكنات الخبرة، سواء منها الجسدية والروحية (أو الجانب الدافعي والجانب الألوهي على حد تعبير بوس). سبق لهذا المريض أن تقبل التفسيرات القائمة على الليبيدو وعلى النماذج البدئية ووعاها تماما. غير أن هذا، في رأي بوس، لا يعدو أن يكون وسيلة جيدة للهروب من الأمر برمته. لقد فاته أن يقبل ويتولى هذين الوجهين (الدافعي والألوهي) ويدمجهما بوجوده. وهو لهذا السبب كان مذنبا تجاه نفسه ومدينا لها. هذا هو منبع مرضه، ومنشأ عصابه وذهانه. (4) أشكال العالم الثلاثة
ثمة مفهوم أساسي آخر في العلاج الوجودي يطلق عليه «الوجود-في-العالم»
being-in- the-world . ومفاده أننا يجب أن نفهم العالم الظاهراتي الذي فيه يوجد المريض ويشارك. فلكي نفهم عالم هذا الشخص أو ذاك يتعين علينا ألا نكتفي بوصف البيئة المحيطة به مهما تكن دقة هذا الوصف وشموله. فما البيئة غير شكل واحد من أشكال العالم. يقول عالم البيولوجيا ج. فون إكسكل
J. Von Uexkull : إن لنا أن نفترض بيئات بعدد ما هناك من حيوانات، فذلك أمر يتوقف على الطريقة التي تشارك بها النملة أو الفيل أو الثعلب في هذه البيئة. ويمضي إكسكل فيقول: «ليس هناك زمان واحد ومكان واحد، بل هناك من الأزمنة والأمكنة بعدد ما هناك من ذوات.» (ماي، وآخرون، 1958م). إن هذا القول يصدق على الإنسان «من باب أولى». فإلى أي حد يفوق الكائن الإنساني باقي الحيوانات في تفرد عالمه؟ ذاك سؤال يجبهنا بمشكلة صعبة؛ فلا نحن نستطيع أن نصف العالم وصفا موضوعيا خالصا، ولا العالم بقابل أن يختزل إلى مشاركتنا الذاتية والتخيلية في البنية القائمة حولنا، رغم أن هذه المشاركة هي أيضا جزء من «الوجود-في-العالم».
إن العالم الإنساني هو تلك البنية من العلاقات الدالة التي يوجد فيها الإنسان، والتي يشارك في تشكيلها (دون أن يفطن إلى ذلك عادة). ألسنا نرى أن ظروفا واحدة في الماضي والحاضر قد تعني لدى مختلف الأشخاص أشياء شديدة التباين؟ بلى، فليس عالم الشخص هو جملة الأحداث الماضية التي تحدد وجوده وجملة المؤثرات الحتمية التي تعتوره. إنما هو تلك المؤثرات والأحداث كما تتراءى له وتتمثل في وعيه. وهو تلك المؤثرات والأحداث كما يصوغها هو ويشكلها ويعيد تشكيلها على الدوام. فأن يعي المرء عالمه يعني في نفس الوقت أن يصوغه ويشكله ويركبه.
ثمة - من وجهة نظر العلاج الوجودي - ثلاثة أشكال للعالم
4
الأول هو
Umwelt
ويعني «العالم المحيط» أو العالم البيولوجي أو ما يقال له عادة «البيئة». والثاني هو
Mitwelt
ويعني حرفيا «العالم-مع»، وهو العالم المكون من رفاق الشخص من البشر، أو المجتمع الخاص بالشخص. والثالث هو
Eigenwelt
ويعني «العالم الشخصي» أو علاقة الشخص بذاته.
العالم الأول
Umwelt
هو عالم الموضوعات العينية المحيطة بنا. هو العالم الطبيعي. فجميع الكائنات الحية لديها
Umwelt . إنه العالم الذي يقدم للكائنات الحيوانية والإنسانية ما يلزم حاجاتها البيولوجية ودوافعها وغرائزها. وهو العالم الذي كان خليقا أن يستأثر بنا لو لم نكن وهبنا ملكة الوعي بالذات. هو عالم القانون الطبيعي والدورات الطبيعية؛ النوم واليقظة، الميلاد والموت، الرغبة والإشباع .. عالم التناهي والحتمية البيولوجية الذي يتعين على كل منا أن يتوافق معه بشكل أو بآخر. إنه حق وواقع يسلم به المحللون الوجوديون ويقبلونه. يقول كيركجارد: «ما يزال القانون الطبيعي ملزما وساريا كما كان أبدا.»
للحيوانات - إن شئنا الدقة - «بيئة». بينما للكائنات البشرية «عالم». ذلك أن «العالم» ينطوي أيضا على بنية المعنى التي تشكلها العلاقات القائمة بين أفراده.
ولعل العالم الشخصي
Eigenwelt
هو أقل العوالم الثلاثة حظا من البحث والفهم من جانب علم النفس الحديث وعلم نفس الأعماق. إنه العالم القائم على الوعي بالذات والعلاقة بها، وهو وقف على الكائنات البشرية دون غيرها من الكائنات. فحيثما نفطن إلى ما يعنيه شيء ما في العالم إلى الملاحظ الفرد - تلك الطاقة من الزهر أو ذاك الشخص الآخر - فثم العالم الشخصي أو
Eigenwelt . وقد نبه د. ت. سوزوكي
D. T. Suzuki
إلى أن النعوت في اللغات الشرقية - مثل اللغة اليابانية - تتضمن دائما الإحالة الشخصية
for-me-ness ، بمعنى أن قولي: «هذه الزهرة جميلة» يعني في هذه اللغات «بالنسبة لي - هذه الزهرة جميلة».
ومن بين متضمنات هذا التحليل لأشكال الوجود-في-العالم، أنه يمنحنا قاعدة لفهم الحب. فمن الجلي أن خبرة الحب تند عن الوصف داخل حدود العالم المحيط
Umwelt . فنحن لا يمكننا بحال أن نتحدث عن الكائنات البشرية بوصفها «موضوعات جنسية». فما إن نصف شخصا بأنه موضوع جنسي حتى لا يعود شخصا. لقد قصرت نظريات الشخصية في حق هذه المسألة تقصيرا كبيرا. صحيح أن المدارس البينشخصية قد تناولت الحب بوصفه علاقة بينشخصية، ولا سيما عند هاري ستاك سوليفان
H. S. Sullivan
ومفهومه لمعنى كلمة
Chum ، وكذلك تحليل إريك فروم
Erich Fromm
لمصاعب الحب في المجتمع الاغترابي المعاصر، غير أن لدينا ما يحملنا على الشك في أن أيا من هذه النظريات قد أمدنا بأساس نظري يخولنا مزيدا من التعمق في خبرة الحب. ففي غياب مفهوم واف للعالم المحيط
Umwelt
يغدو الحب مفرغا من الحيوية، وفي غياب العالم الشخصي
Eigenwelt
يفتقد الحب القوة والقدرة على أن يخصب نفسه. وقد أكد فردريك نيتشه
Friedrich Nietzsche
أهمية العالم الشخصي في خبرة الحب. وكذلك فعل كيركجارد الذي أكد مرارا أن الحب يفترض مسبقا أن الفرد قد أصبح «فردا حقيقيا» ... واحدا متفردا ... إنه الفرد الذي تم له وعي السر العميق: إنك لكي تكون في حب حقيقي مع شخص آخر، يلزمك بالضرورة أن تكون أيضا قانعا بنفسك متوجها إليها مؤتنسا بها. (5) دلالة الزمن
ثمة حقيقة تستوقف المعالجين الوجوديين وتستأثر باهتمامهم. وهي أن معظم الخبرات الإنسانية العميقة تحدث في البعد الزماني من الوجود أكثر مما تحدث في البعد المكاني. وقد قدم يوجين منكوفسكي
Eugene Minkowski - وهو طبيب نفسي يعمل بباريس - دراسة حالة تبرز هذا البعد الزماني. وهي حالة مريض بالفصام الاكتئابي واقع في قبضة ضلال فكري مفاده أنه سوف ينفذ فيه حكم بالإعدام. أوضح منكوفسكي في دراسته أن هذا المريض قد فقد القدرة على أن يقيم صلة بالزمن، بمعنى أنه لم يعد قادرا على أن يأمل في الآتي ويتشوف إلى المستقبل. فكل يوم يمر به كان بالنسبة إليه جزيرة منفصلة بلا ماض وبلا مستقبل. لم يعد هذا المريض يستشعر أي امتداد يصله بالغد. في مثل هذه الحالة نتوقع من أي طبيب نفسي، حين يفكر بطريقة تقليدية، أن يعلل هذه القطيعة بين المريض وبين المستقبل، أو هذا العجز عن التوجه الزمني، بأنه ببساطة ناجم عن اعتقاده الضلالي بأنه سوف يعدم وشيكا. ولكن منكوفسكي يجبهنا بافتراض عكسي تماما فيقول: «ألا يمكننا، على العكس، أن نفترض أن الاضطراب الأساسي هنا هو الموقف المنحرف الشائه تجاه المستقبل، بينما ضلال الإعدام مجرد مظهر من مظاهره؟» (ماي، وآخرون، 1958م).
ويمضي منكوفسكي في بحث هذا الاحتمال في دراسته للحالة. لقد سلط بمدخله المبتكر شعاعا من النور على هذه البقاع المعتمة غير المستكشفة من مفهوم الزمن، وأتاح انعتاقا جديدا من حدود الفكر الإكلينيكي وقيوده وتصوراته التقليدية للزمن. وهنا نذكر هوبارت مورر
Hobart Mowrer (1950م) الذي قال: إن الارتباط بالزمن هو الخاصة المميزة للشخصية الإنسانية، وإن لدى الإنسان قدرة يستحضر بها الماضي إلى الحاضر كجزء من السلسلة السببية التي فيها تقوم الكائنات الحية بالفعل ورد الفعل، ولديه قدرة أخرى على العمل في ضوء توجهات المستقبل البعيد، وإن جماع هاتين القدرتين يشكل جوهر الذهن والشخصية.
يتفق المعالجون الوجوديون مع هنري برجسون
Henri Bergson
في أن «الزمن هو قلب الوجود»، وأن الخطأ الذي نرتكبه في عصرنا الحديث هو أننا نفكر في أنفسنا بصيغة مكانية بالدرجة الأولى، كما لو كنا أشياء يمكن أن توضع في هذا الموضع أو ذاك شأنها شأن غيرها من المواد. وبهذا التشويه والتحريف نفقد علاقتنا الوجودية الأصيلة بأنفسنا، بل نفقد أيضا علاقتنا الأصيلة بالآخرين من حولنا. ويستتبع هذا التركيز الزائد على التفكير المكاني أن «تندر اللحظات التي نفهم فيها أنفسنا، وبالتالي تندر حريتنا وتتقلص» كما يقول برجسون. (ماي، وآخرون، 1958م).
غير أنه في نطاق العالم-مع، أي عالم العلاقات الشخصية والحب، يمكننا أن نرى بصفة خاصة أن الزمن القياسي الكمي ليس له كبير شأن بأهمية أي حدث من الأحداث أو بدلالته. فنحن على سبيل المثال لا يمكننا بحال أن نقيس طبيعة أو درجة حبنا لشخص من الأشخاص بعدد السنوات التي عرفناه فيها. صحيح أن زمن الساعة له دخل كبير في العالم-مع (فكثير من الناس يبيعون وقتهم بالساعة، وما تجري الحياة اليومية إلا وفق جداول زمنية) غير أن ما يعنينا هنا هو المعنى الباطن للأحداث. يقول المثل الألماني: «ما من ساعة تدق للمرء السعيد»، وقد صدق، فالأرجح الغالب أن تكون أهم الأحداث دلالة ومغزى في الوجود النفسي للمرء هي بالتحديد تلك الأحداث المباشرة التي تخترق المجرى الزمني الرتيب المعتاد. كأن تقع للمرء بصيرة مفاجئة، أو تغشاه رؤية جمالية للحظة واحدة، غير أنها لا تبرح ذاكرته أياما وشهورا.
أما العالم الشخصي
Eigenwelt
عالم العلاقة بالذات والوعي بها والتبصر بالمعنى الشخصي للحدث، فلا صلة له من قريب أو بعيد بزمن الساعة الذي تتعاقب فيه اللحظات على نحو نظامي. فجوهر البصيرة والوعي بالذات هو أنهما هناك؛ حاضران ومباشران. ولحظة تنزل الوعي لا تفقد دلالتها عبر الزمن. بوسع المرء أن يرى ذلك بسهولة حين يلاحظ ما يجري داخله لحظة تقع له بصيرة من البصائر. إنها تقع بشكل مفاجئ ... تولد مكتملة إن صح التعبير. وسوف يكتشف أن التأمل فيها ساعة أو غير ساعة قد يكشف له مزيدا من مكنوناتها؛ ولكنه لن يردها أوضح مما كانت، بل هي بعد ساعة التأمل ستغدو للأسف أقل وضوحا وتحددا مما كانت في البداية.
تتوقف قدرة المريض على استدعاء الأحداث الهامة في ماضيه على قراره بصدد المستقبل. وما من معالج إلا ويعلم أن المرضى قد يسترسلون في سرد ذكريات من الماضي حتى الغثيان، دون أن تحركهم منها ذكرى واحدة. فالسرد بأكمله فاتر ممل غير ذي بال. ليست مشكلة هؤلاء المرضى - من وجهة نظر وجودية - أنهم عانوا ماضيا ماحلا فقيرا، ولكن مشكلتهم بالأحرى أنهم لا يستطيعون أو لا يريدون أن ينذروا أنفسهم للحاضر والمستقبل. وهم إن كان ماضيهم لم يعد حيا نابضا فما ذلك إلا لأنهم فقدوا شغفهم بالمستقبل. إنهم بحاجة ماسة إلى بعض الأمل والتكريس من أجل تغيير شيء ما في المستقبل القريب؛ وليكن التغلب على القلق أو التغلب على الأعراض المؤلمة أو استجماع النفس من أجل إبداع قادم. ولن يتحلى كشفهم للماضي بأي مصداقية أو واقعية قبل أن يتحلوا هم بهذا الأمل وهذا التكريس. (6) قدرتنا البشرية على تجاوز الموقف الراهن
إذا كان لنا أن نفهم شخصا ما بوصفه موجودا ديناميا في تحول مستمر وصيرورة دائمة، فلن يسعنا إذ ذاك أن نغفل بعدا وجوديا هاما هو بعد «العلو»
transcendence . «فأن توجد» يتضمن أن تكون في انبثاق مستمر ... في تطور انبثاقي
emergent evolution
بمعنى أنك تتخطى ماضيك وحاضرك وصولا إلى المستقبل. وعليه يكون الفعل
transcendere (ويعني حرفيا: يتسلق الشيء ويتخطاه) واصفا لما ينخرط فيه الكائن الإنساني كل حين، ما لم يقعد به مرض خطير أو يعطله اليأس أو القلق. وبوسع المرء بطبيعة الحال أن يلمس التطور الانبثاقي في كل عمليات الحياة. لقد أعلن نيتشه على لسان نبيه القديم زرادشت: «ولقد أسرت إلي الحياة نفسها قائلة: انظر؛ إنني ذلك الشيء الذي لا بد أن يتخطى ذاته كل حين» (ماي، وآخرون، 1958م).
وصف كورت جولدشتاين
Kurt Goldstein
الأساس النيوروبيولوجي لهذه القدرة البشرية وصفا يؤثر (ماي، وآخرون، 1958م). فقد قام بدراسة المرضى المصابين بعطب في الدماغ. فوجد أنهم - ولا سيما الجنود الذين ذهب الرصاص بأجزاء من اللحاء الجبهي من دماغهم - قد فقدوا بصفة خاصة تلك القدرة على التجريد، أي القدرة على أن يفكر المرء بصيغة الممكن. فكانوا موثوقين بأي موقف عياني مباشر يكتنفهم في أي لحظة. كان الواحد منهم يتخطفه القلق ويتناثر سلوكه لو تصادف أن كانت خزانته غير مرتبة. ذلك هو الترتيب القهري
compulsive orderliness
وهو وسيلة للتشبث المتصلب بالموقف العياني اللحظي. وعندما كان جولدشتاين يطلب من أحدهم أن يكتب اسمه على صفحة من الورق كان دأبه أن يكتبه في ركن بعينه من الصفحة فلا يحيد عنه مهما تكرر المطلب. كانت أية مجازفة بالكتابة خارج تلك الحدود من الورقة تمثل له تهديدا خطيرا! يرى جولدشتاين أن ما يميز الكائن الإنساني السوي هو هذه القدرة بالتحديد ... القدرة على أن يجرد، أن يستعمل الرموز ... أن يوجه نفسه خارج الحدود المباشرة للمكان الآني أو اللحظة المعطاة ... أن يفكر بصيغة «الممكن». أما المرضى والمصابون فإنهم يفقدون هذا النطاق ... نطاق «الإمكان»، فينكمش في عالمهم المكان ويتقلص الزمان، ويفقدون بالتالي حريتهم فقدا تاما.
نمتلك نحن البشر تلك القدرة على تجاوز الزمن والمكان. فبوسعنا أن نرتحل بأنفسنا ألفي سنة إلى الوراء لنصل إلى بلاد الإغريق ويتسنى لنا أن نشاهد مأساة أوديب تمثل في أثينا القديمة. وبوسعنا أن ننتقل للتو إلى المستقبل فنتصور ما سوف تكون عليه الحياة بعد 2500 سنة مثلا. هذه الصور من «العلو» أو «التجاوز»
transcendence
هي جزء لا يتجزأ من الوعي الإنساني. وخير مثال للعلو هو قدرة البشر الفريدة على أن يفكروا ويتحدثوا بالرموز. فأنت حين تتعهد بشيء ما أو تعد به فإن ذلك يفترض مسبقا أن لديك صلة واعية بذاتك، وهو شيء يختلف تماما عن السلوك الاجتماعي المبني على التكيف الغفل، وعن العمل وفق متطلبات الجماعة الحيوانية أو قطيع السوائم أو خلية النحل. يقول جان بول سارتر: إن الكذب أو التضليل شكل سلوكي يتفرد به الإنسان؛ «الكذب شكل من أشكال العلو أو التجاوز» فلكي نكذب يتوجب أن نكون في نفس الوقت على علم بأننا نتخطى الحقيقة وننأى عنها.
ليست القدرة على تجاوز الموقف المباشر ملكة تندرج بين غيرها في قائمة الملكات. ولكنها بالأحرى جزء من الطبيعة الأنطولوجية للكائن البشري. أما التجريد والموضعة
5
فهما أمارات لها وأدلة. في ذلك يقول مارتن هيدجر: «لا يتألف العلو من الموضعة، ولكن الموضعة تفترض العلو.» إن قدرة الإنسان على أن يكون في علاقة بذاته تمنحه فيما تمنح تلك القدرة على أن يموضع عالمه وأن يفكر ويتحدث بالرموز ... إلخ. وهذا ما كان يعنيه كيركجارد عندما كان يذكرنا أننا لكل نفهم أنفسنا يلزمنا أن نعي بوضوح أن «التخيل ليس ملكة كغيرها من الملكات. ولكنها - إن صح التعبير - ملكة الملكات. فأي شعور يملكه هذا الإنسان أو ذاك؟ وأي معرفة وأي إرادة؟ ذلك شيء يتوقف في نهاية المطاف على ما لديه من ملكة التخيل، أي على الطريقة التي يتأمل بها هذه الأشياء. إن ملكة التخيل هي التي تجعل كل تفكر ممكنا. وقوة هذه الملكة الوسيطة شرط لقوة الذات (كيركجارد، 1954م، ص163).
الفصل الثاني
المدارس الأخرى
(1) السلوكية
سنشرع أولا في تفحص الفروق بين النظرية الوجودية والنظرية السلوكية. بوسعنا أن ندرك هذا الاختلاف الجذري عندما نلحظ الهوة القائمة بين الحقيقة المجردة والواقع الوجودي.
يقول كنيث سبنس
Kenneth W. Spence (1956م) قائد أحد أجنحة النظرية السلوكية: «هل هذا المجال أو ذاك من ظواهر السلوك أكثر حقيقة أو أقرب إلى الحياة الفعلية وأولى - من ثم - بالبحث والاستقصاء؟ ذاك سؤال لا يعن، أو لا ينبغي أن يعن، للسيكولوجي بصفته عالما.» ومفاد هذا القول أنه لا يهم كثيرا ما إذا كان ما تجري دراسته حقيقيا أم لا!
أية مجالات إذن ينبغي أن تنتقى للدراسة العلمية؟ إن سبنس يعطي الأولوية «لتلك الظواهر التي تسلم نفسها لدرجات من التحكم والتحليل تسمح بصياغة قوانين مجردة.» لم يرد هذا المبدأ بوضوح وتجرؤ كما ورد على لسان سبنس: ننتقي للدراسة العلمية كل ما يتسنى رده إلى قوانين مجردة. أما مسألة ما إذا كان ما ندرسه له نصيب من الحقيقة الفعلية أم لا، فذاك أمر غير ذي صلة بهذا الهدف!
1
وكم ذا شيد المشيدون في علم النفس من أنساق معجبة تتراكم فيها التجريدات عالية تجريدا فوق تجريد، مستسلمين كدأب المفكرين العقلانيين لعقدة الصرح
edifice complex
إلى أن يتم لهم بناء مهيب خلاب. المشكلة الوحيدة هي أن الصرح كان في أغلب الأحوال منبتا عن الواقع في أساساته ذاتها.
أما الأطباء النفسيون وعلماء النفس المنتمون إلى حركة العلاج الوجودي، فيصرون على أننا يلزمنا بالضرورة، وما يزال باستطاعتنا، أن يكون لدينا علم يضطلع بدراسة الكائنات الإنسانية في واقعها الفعلي. (2) الفرويدية التقليدية
يفترق لودفيج بنسفانجر، وغيره من المعالجين الوجوديين، عن فرويد في عديد من النقاط الهامة. منها رفضهم لما ذهب إليه من أن المريض النفسي مسير بالغرائز والدوافع. فالفرويديون، على حد قول سارتر، قد غاب عنهم ذلك «الكائن الإنساني» الذي تحدث له هذه الأشياء.
كذلك يلقي الوجوديون ظلالا من الشك على فكرة فرويد عن اللاشعور بوصفه خزانا للميول والرغبات والدوافع التي تتحكم في السلوك وتوجهه. فهذه النظرة إلى اللاشعور «القبو»
cellar
تتيح للمريض في الموقف العلاجي أن يتنصل من المسئولية عن أفعاله بعبارات من قبيل: «إن اللاشعور هو الذي فعلها وليس أنا». ويصر الوجوديون دائما على أن يحملوا المريض المسئولية بأن يسألوه أسئلة مثل: «لا شعور من هذا؟!»
تتجلى الاختلافات بين الوجودية والفرويدية أيضا في مسألة أشكال العالم. فرغم عبقرية فرويد وأهميته في كشف النقاب عن أشكال الغرائز ومسائل الدوافع والحدوث والحتمية البيولوجية، إلا أن الفرويدية التقليدية لا تقدم لنا عن العلاقات بين الأفراد كذوات (العالم-مع) إلا تصورا باهتا مبهما. (3) المدرسة البينشخصية في العلاج النفسي
إن نظرة متفحصة في الأشكال الثلاثة للعالم لتكشف الفروق بين العلاج الوجودي وبين المدرسة البينشخصية
interpersonal School
كما تتمثل في كتابات إريك فروم وهاري ستاك سوليفان. صحيح أن لدى المدارس البينشخصية أساسا نظريا يتناول «العالم-مع» تناولا مباشرا (يكفي أن تتأمل في ذلك نظرية سوليفان) وأن هناك نقاط التقاء كثيرة بين الطرفين (وإن لم تصل لدرجة التطابق)؛ غير أن مكمن الخطر هناك هو أننا إذا أغفلنا العالم الشخصي
Eigenwelt
تميل العلاقات الشخصية لأن تصبح خاوية عقيمة. لقد هاجم عالم مثل سوليفان مفهوم الشخصية الفردية، وجهد غاية الجهد كي يعرف النفس في حدود التقييم المنعكس (عن الجماعة) والمقولات الاجتماعية، أي الأدوار التي يؤديها الفرد في العالم البينشخصي. إن هذا، على المستوى النظري، يعاني كثيرا من عدم الاتساق المنطقي، بل يتجه على النقيض من إسهامات سوليفان الأخرى . أما من الوجهة العملية فهو يكاد يجعل من النفس مرآة للجماعة من حولها، ويفرغها من الحيوية والأصالة، ويختزل العالم البينشخصي إلى مجرد علاقات اجتماعية، ويفتح الطريق لتوجه مضاد تماما لأهداف سوليفان وغيره من مفكري المدرسة البينشخصية؛ ألا وهو «الامتثال الاجتماعي
social conformity ». (4) مدرسة يونج
هناك أوجه شبه بين مدرسة يونج
Jung
وبين العلاج الوجودي. وقد كان معالج وجودي مثل مدارد بوس لسنوات عديدة عضوا في الحلقة التي كان يعقدها يونج بانتظام في منزله. إلا أن المأخذ الذي يأخذه الوجوديون على أتباع يونج هو أنهم يسارعون إلى تجنب الأزمات الوجودية المباشرة للمريض بأن «يقفزوا إلى النظرية». وقد أوضح بوس هذا المأخذ في الحالة التي أوردها في فصل «الذنب ومشاعر الذنب». وهي حالة مريضة يتملكها الخوف من الخروج بمفردها من المنزل، قام معالج يونجي بتحليلها لمدة ست سنوات، فسر خلالها عديدا من الأحلام كإشارة إلى أن الله يتحدث إليها. لقد أرضى هذا غرور المريضة. غير أنها بقيت عاجزة عن الخروج من المنزل! وقد استطاعت فيما بعد أن تتغلب على عصابها المقعد حين قيض لها معالج وجودي ألح على أنها لن تتمكن من قهر مشكلتها إلا إذا أرادت هي بشكل إيجابي أن تقهرها. وهي طريقة أخرى للقول بأنها هي التي يلزمها - وليس الله - أن تتحمل المسئولية عن مشكلتها وتملك زمام أمرها. (5) العلاج المتمركز على العميل
يوضح رولو ماي الفارق بين المدرسة الوجودية ومدرسة روجرز
Rogers
في تقاريره التي كتبها عندما كان يعمل حكما للعلاج المتمركز على العميل
client-centered therapy
في تجربة لهذا العلاج أجريت بجامعة ونسكونسين. فقد استعين في هذه التجربة باثني عشر خبيرا خارجيا للحكم كانت ترسل إليهم شرائط تسجيل للجلسات العلاجية. قرر رولو ماي (1982م) بصفته أحد الخبراء الخارجيين أنه لم يكن يحس في كثير من الأحيان أن هناك شخصين متمايزين في غرفة العلاج. فحين يقتصر دور المعالج على أن يعكس كلمات المريض يتكشف الأمر عن «هوية واحدة لا شكل لها، ولا يعود هناك ذاتان تتفاعلان في عالم تشارك فيه كلتاهما؛ عالم يعج بالحب والكراهة، والثقة والشك ، والصراعات والاعتمادية، بحيث يمكن تناول كل ذلك وفهمه وتمثله.» كان ماي يخشى أن الإفراط في التوحد مع المريض
overidentification
من جانب المعالج، يفوت على المريض فرصة أن يخبر نفسه كذات لها استقلالها، أو أن يأخذ موقفا من المعالج ... أن يخبر نفسه حقا في عالم بينشخصي.
ورغم ما ينادي به الروجريون في علاجهم الفردي والجمعي من انفتاح وحرية في العلاقة العلاجية، فقد اتفق الحكام الخارجيون في دراسة ونسكونسين على أن «الطبيعة الجامدة المتحفظة للمعالج كانت تضع حائلا يحجب عنه كثيرا من الخبرات الخاصة به والخاصة بالمريض.»
كتب أحد المعالجين الروجريين، بعد خبرة كمعالج مستقل هذا النقد: «كنت أطبق المفهوم الأول للعلاج المتمركز على العميل، فأكبح غضبي وعدوانيتي ... إلخ؛ فكان المردود الذي وصلني آنذاك هو أنني كنت مهذبا لطيفا بحيث صعب على المرضى أن يفضوا إلي بأشياء غير مهذبة وغير لطيفة، وصعب عليهم أن يثوروا علي ويغضبوا.» (
Raskin, 1978, p. 367 ).
وجملة القول: إن العلاج المتمركز على العميل يحيد عن المفهوم الوجودي الصحيح، إذ يتنكب مواجهة المريض بشكل مباشر حازم.
2
الفصل الثالث
نظرة تاريخية
(1) طلائع وجودية
ثمة تياران أساسيان في تاريخ الفكر البشري. أحدهما هو تيار الماهيات
essences
ويتجلى في أوضح صورة عند أفلاطون الذي ذهب إلى أن هناك صورا مكتملة أو نماذج مثالية لكل الأشياء؛ وأن هذه الأشياء من حولنا، هذا الكرسي المحدد مثلا، ما هي إلا نسخ ناقصة لها. تتبين هذه الماهيات بوضوح حين نتأمل في الرياضيات؛ فالدائرة الكاملة والمربع الكامل موجودان في السماء. أما ما نرسمه نحن البشر من دوائر ومربعات فهي نسخ غير مكتملة من تلك الدوائر والمربعات المثالية. وتتطلب الرياضيات ملكة التجريد التي تغضي عن وجود الشيء المفرد. فبمقدورنا مثلا أن نبرهن ببساطة على أن ثلاث تفاحات مضافة إلى ثلاث أخريات يكون مجموعها ستا. غير أن هذا يظل صحيحا حتى لو استبدلنا بالتفاحة وحيد القرن. فالرياضيات لا يعنيها ما إذا كان وحيد القرن موجودا بالفعل. وبوسع قضية ما أن تكون صحيحة دون أن تكون حقيقية. لعل النجاح الباهر الذي تحققه هذه الطريقة في بعض مجالات العلم (كالرياضيات) هو بعينه ما يحملنا على أن نغفل الكائن الفرد الحي.
غير أن هناك تيارا آخر من الفكر آخذا مجراه عبر التاريخ؛ ألا وهو تيار الوجود
existence . وبموجبه فإن الحقيقة تنصب على الشخص الحي الموجود في موقف بذاته (عالم) في وقت بعينه. ومن ثم أطلق على هذا التيار: التيار الوجودي
existential . هذا ما كان يعنيه سارتر في مقولته الشهيرة: «الوجود يسبق الماهية.» فوعي الإنسان (أي وجوده) سابق على أي شيء عليه أن يقوله عن العالم من حوله.
للتراث الوجودي نماذج تاريخية عديدة من المفكرين. منهم أوغسطين
Augustine
الذي ذهب إلى أن «الحقيقة تقيم في أعماق الإنسان.» ودانس سكوت
Duns Scotus
الذي فند فكرة الماهيات العقلية عند توما الأكويني، مؤكدا أن الإرادة الإنسانية يجب أن تكون أساسا لأي عبارة. ومنهم بسكال
القائل: «إن للقلب أسبابه التي لا يدري العقل عنها شيئا.»
وتبقى الهوة قائمة في زمننا هذا بين الصواب والواقع. ويبقى المشكل المحوري الذي يواجهنا في علم النفس، وفي غيره من جوانب العلم الذي يتناول الإنسان، هو بالتحديد هذا الصدع الفاصل بين ما هو صائب تجريديا وبين ما هو حق وجوديا بالنسبة للشخص الحي المحدد. (2) البدايات
تنبأ كيركجارد ونيتشه ومن تلاهما من الوجوديين بهذا الصدع المتنامي في الثقافة الغربية بين الصواب والواقع، وأنكروا الوهم القائل بأننا يمكن أن نفهم الواقع بطريقة تجريدية منفصلة عنه. ورغم مناوأتهم الشديدة للعقلانية الجافة، إلا أننا لا يجوز بحال أن نصنفهم بين أصحاب مذهب الفعالية
activism ،
1
ولا يجوز بحال أن ندرجهم بين أصحاب المذهب المضاد للعقلانية، فمثل هذا المذهب وغيره من الحركات، التي تجعل الفكر خاضعا للشعور، ليس من الوجودية في شيء. فالحق أن كلا البديلين - النظر إلى الإنسان كذات بحتة أو كموضوع صرف - يؤدي بنا إلى أن نخسر الشخص الموجود الحي. لقد كان كيركجارد والمفكرون الوجوديون ينشدون حقيقة تقبع وراء كل من الذاتية والموضوعية، ويرون أننا ينبغي ألا نكتفي بدراسة خبرة الشخص بما هي كذلك، بل علينا أن نشمل بالبحث ذلك الفرد الذي يضطلع بهذه الخبرة.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون أكبر الفلاسفة الوجوديين في القرن التاسع عشر - كيركجارد ونيتشه - هما أيضا من بين أبرز السيكولوجيين وأجلهم شأنا في جميع العصور. ولا أن يكتب رائد معاصر للفلسفة الوجودية - كارل ياسبرز - وهو طبيب نفسي سابق؛ كتابا دراسيا فذا في علم السيكوباثولوجيا. وحين يقرأ المرء تحليلات كيركجارد العميقة للقلق واليأس، أو لمحات نيتشه الباهرة الدقة عن ديناميات التبرم والذنب والعدائية التي تصاحب القوى الانفعالية المكبوتة، يشق عليه أن يدرك أنه يقرأ أعمالا كتبت منذ خمسة وسبعين عاما أو مائة عام، وليس تحليلا سيكولوجيا معاصرا.
في القلب من اهتمامات المعالجين الوجوديين أن يعيدوا اكتشاف الشخص الحي بين مظاهر استلاب الإنسانية التي تتسم بها الثقافة الحديثة. وهم من أجل ذلك ينخرطون في تحليل الأعماق. إن اهتمامهم ليس منصبا على الاستجابات النفسية المنفصلة في حد ذاتها، بل بالأحرى على الوجود السيكولوجي للشخص الحي الذي يقوم بعملية الخبرة. إنهم يضفون على المصطلحات السيكولوجية معنى أنطولوجيا.
يضم الفلاسفة الوجوديون في ألمانيا مارتن هيدجر، وكارل ياسبرز، وفي فرنسا جان بول سارتر وجابرييل مارسيل، ونيقولاس برديائيف
N. Berdyaev ، ومن إسبانيا أورتيجا
Ortega ، وأونامونو
Unamuno . ويعرض باول تيليش
المدخل الوجودي في أعماله، ويعد كتابه «شجاعة أن تكون» (أو أن توجد)
The courage to be (1952م) من نواح كثيرة أفضل عرض وأقواه للفلسفة الوجودية.
نشأ العلاج الوجودي بشكل تلقائي في أجزاء متفرقة من أوروبا وبين مدارس متباينة. وأصبح له قبيل متنوع من الباحثين ومن المفكرين المبدعين.
2
وقد كان هناك أطباء نفسيون يمثلون المرحلة الفينومينولوجية لهذه الحركة بالدرجة الأساس وهم: يوجين منكوفسكي
E. Minkowski
في باريس، وإرفين ستراوس
E. Straus
في ألمانيا وفي أمريكا بعد ذلك، وفون جبساتل
Von Gebsattel
في ألمانيا. وهناك من يمثلون المرحلة الثانية للحركة أو المرحلة الوجودية؛ وهم: لودفيج بنسفانجر، وستورش
Storch ، ومدارد بوس، وبالي
Bally ، ورولاند كون
R. Kuhn
من سويسرا، وفان دن برج
Van Den Berg ، وبويتنديجك
Buytendijk
في هولندا. (3) الوضع الحالي
دخل العلاج الوجودي الولايات المتحدة سنة 1958م حين نشر رولو ماي
Rollo May
وإرنست أنجل
Ernest Angel
كتاب «الوجود، بعد جديد في الطب النفسي وعلم النفس». وقد تضمن الفصلان الأولان اللذان كتبهما ماي «مصادر الحركة الوجودية في علم النفس» و«إسهامات علم النفس الوجودي» خلاصة العلاج الوجودي. أما بقية الكتاب فتشمل مقالات ودراسة حالات قام بها هنري إلينبرجر ويوجين منكوفسكي، وإرفين ستراوس، وفون جبساتل، ولودفيج بنسفانجر، ورونالد كون. أما أول كتاب دراسي شامل في الطب النفسي الوجودي فكان كتاب إرفين يالوم
Ervin Yalom (1981م) بعنوان «العلاج النفسي الوجودي».
لم تكن روح العلاج الوجودي تحبذ يوما تأسيس معاهد متخصصة فيه. ذلك أن العلاج الوجودي يتناول الفروض الأساسية التي تبطن أي صنف من العلاج. إنما تعنيه المفاهيم الخاصة بالإنسان لا الفنيات الخاصة بالعلاج. ويفضي بنا هذا الوضع إلى ما يشبه المعضلة؛ ففي حين كان العلاج الوجودي - وما يزال - ذا نفوذ وتأثير، فليس هناك، رغم ذلك، إلا النزر اليسير من المقررات الدراسية الوافية في هذا النوع من العلاج. ومرد ذلك ببساطة إلى أن العلاج الوجودي ليس فنيات محددة نتدرب عليها. وقد كان مؤسسو الحركة الوجودية دائما يقرون أن للطالب أن يتلقى التدريب التقني لأي مدرسة من المدارس العلاجية، وما عليه إلا أن يصوغ فروضه الأساسية في قالب وجودي.
اكتشف رولو ماي - وهو وجودي من قبل أن يسمع بالكلمة - أن الشخص الموجود هو الاعتبار الأهم، وليس أية نظرية عن الشخص. وقد سعى في أطروحته للدكتوراه عام 1950م تحت عنوان «معنى القلق» إلى وضع مفهوم للقلق السوي يكون أساسا لنظرية عن الإنسان. كان ماي قد فرغ لتوه من تبين عبثية الذهاب إلى التحليل خمس مرات في الأسبوع لمدة عامين، قبل أن يبدأ تدريبه بمعهد وليام ألانسون. وقد تلقى تدريبا كمحلل نفسي في هذا المعهد وفي معهد الفرويدية الجديدة بنيويورك. وكان يمارس التحليل النفسي بالفعل عندما قرأ عن العلاجات الوجودية في أوائل الخمسينيات، واكتشف أن هذه المفاهيم الجديدة لعلم النفس الوجودي هي ما كان يصبو إليه ويعجز مع ذلك عن صياغته.
ثم انعقد المؤتمر العالمي للعلاج النفسي عام 1958م في برشلونة بإسبانيا، وكان موضوعه: «العلاج النفسي الوجودي». شارك في المؤتمر خمسمائة معالج بينهم علماء نفس بارزون؛ مثل ميدارد بوس، وجاك لاكان
Jacques Lacan ، ومائة معالج من الولايات المتحدة.
كان بعض الحضور من أتباع فرويد، وبعضهم من أتباع يونج، وبعضهم من معهد وليام ألانسون. غير أن الجميع أبدوا تقديرا كبيرا لإضاءات العلاج الوجودي ومفاهيمه.
ويعتقد مؤسسو العلاج الوجودي أن إسهاماته سوف تذوب في المدارس الأخرى؛ ففي مقدمة كتابه «العلاج الجشطلتي حرفيا» (1969م) يصرح فرتز بيرلز
Fritz Perls
بحق أن العلاج الجشطلتي هو شكل من أشكال العلاج الوجودي.
3
ومن حق أي معالج تدرب في أية مدرسة علاجية أن يسمي نفسه وجوديا ما دامت المبادئ والفروض الأساسية التي يستند إليها تماثل ما نعرضه في هذا العمل؛ فإرفين يالوم على سبيل المثال تلقى تدريبه في مدارس الفرويدية الجديدة. بل إن معالجا سلوكيا سابقا مثل أرنولد لازاروس
A. Lazarus
لا يتردد في استخدام بعض الفروض الوجودية في علاجه النفسي المتعدد الأنماط. وما كان هذا ليتأتى لو لم يكن العلاج الوجودي طريقة في فهم الكائن البشري وتصوره، طريقة توغل إلى أعماق أبعد من مدارس العلاج الأخرى، لكي تبرز المبادئ والفروض التي تبطن كل الأنساق العلاجية.
تشمل الأعمال الكبرى في العلاج الوجودي كتب ماي «معنى القلق» (1977م)، «العلاج النفسي الوجودي» (1961م)، «الإنسان يبحث عن نفسه» (1953م)، وكتاب جيمس بجنتال
J. Bugental «البحث عن الهوية الوجودية»، وكتابي مدارد بوس «تحليل الأحلام» (1957م)، و«التحليل النفسي وتحليل الموجود» (1982م)، وكتاب فيكتور فرانكل
V. Frankl «الإنسان يبحث عن المعنى» (1963م). وقد كتب هلموت كايزر
H. Kaiser
في العلاج الوجودي شيئا قيما ضمن كتابه «العلاج النفسي الفعال» (1965م). كما أسهم كل من ليشلي فاربر
L. Farber (1966، 1976م)، وأفري فايزمان
A. Weisman (1965م)، وليستر هافنز
L. Havens (1974م) إسهامات هامة في التراث الوجودي.
الفصل الرابع
الشخصية
(1) نظرية الشخصية
العلاج الوجودي شكل من أشكال العلاج الدينامي يقدم نموذجا ديناميا لبنية الشخصية. وكلمة دينامي مصطلح كثير الاستخدام في علم النفس وفي العلاج النفسي. فنحن كثيرا ما نتحدث مثلا عن الديناميات النفسية للمريض، أو المدخل الدينامي للعلاج. ولكلمة «دينامي» معنى دارج وآخر تكنيكي. ومن الضروري أن نكون على بينة من المعنى المقصود لهذه الكلمة حين ترد في سياق نظرية الشخصية. فبمعناها الدارج تحمل هذه الكلمة دلالات الحيوية، فهي تثير تداعيات من مثل: دينامو، ديناميت، لاعب كرة دينامي، قائد سياسي دينامي ... إلخ.
أما المعنى التكنيكي لكلمة دينامي فيما يتصل بنظرية الشخصية فيشير إلى مفهوم القوة. كان فرويد أول من أدخل هذه الكلمة في الاستعمال في نظرية الشخصية. فقد اعتبر الشخصية نظاما مكونا من قوى في صراع بعضها مع بعض. ينجم عن هذا الصراع مجموعة من الانفعالات والسلوك (منها التكيفي والمرضي) هي التي تكون الشخصية. ولا يكتمل تعريف الشخصية عند فرويد إلا إذا أضفنا أن هذه القوى المتصارعة توجد على مستويات مختلفة من الوعي. وأن بعضها يوجد خارج الوعي تماما، أي يوجد على مستوى لا شعوري.
بذلك عندما نتحدث عن الديناميات النفسية لفرد من الأفراد فإنما نشير إلى القوى والدوافع والمخاوف الشعورية واللاشعورية المتصارعة الخاصة بذلك الفرد. أما العلاج الدينامي فهو العلاج المبني على النموذج الدينامي لبنية الشخصية.
هناك في الحقيقة نماذج دينامية عديدة للشخصية. وعلينا لكي نفرق بينها ونميز النموذج الوجودي منها أن نسأل: ما هو «محتوى» الصراع الداخلي الشعوري واللاشعوري؟ نعم هناك قوى ودوافع ومخاوف تصطرع مع بعضها البعض داخل الشخصية، ولكن أية قوى هذه؟ وأية دوافع؟ وأية مخاوف؟
وربما يتجلى المفهوم الوجودي للصراع الداخلي بصورة أكثر وضوحا حين نقارنه بمفهومين آخرين شهيرين لديناميات الشخصية، هما النموذج الفرويدي والنموذج البينشخصي (الفرويدية الجديدة). (2) النموذج الفرويدي للديناميات النفسية
يفترض النموذج الفرويدي أن الفرد تحكمه قوى غريزية فطرية لا تني تتكشف للعيان مثل ورقة السرخس خلال دورة النمو النفسجنسية. وقد افترض فرويد صراعات على جبهات عديدة؛ فهناك غرائز ثنائية تصطدم الواحدة بالأخرى (غرائز الأنا مقابل غرائز الليبيدو في نظرية فرويد الأولى، أو الإيروس
Eros
مقابل الثناتوس
Thanatos
في النظرية الثانية) كما تصطدم الغرائز بمقتضيات البيئة، وتصطدم فيما بعد بالأنا الأعلى (البيئة المدخلة
internalized environment ).
1
وصفوة القول في طبيعة الصراع من وجهة نظر النموذج الدينامي الفرويدي، أننا بإزاء كائن مدفوع بالغرائز، ما برح في حرب مع عالم يحول بينه وبين إشباع هذه الدوافع الفطرية العدوانية والجنسية. (3) النموذج البينشخصي للديناميات النفسية (الفرويدية الجديدة)
أما النموذج البينشخصي (الذي وضعه منظرون من أمثال هاري ستاك سوليفان
H. S. Sullivan ، وكارن هورني
K. Horney ، وإريك فروم
E. Fromm ) فيرى أن الفرد ليس موجها بالغريزة، وليس مبرمجا بشكل مسبق؛ بل هو صنيعة البيئة الثقافية والبينشخصية. فهي تنفرد تقريبا بصياغته وتشكيله. إن الطفل ليستميت في طلب الرضا والقبول ممن يراهم قائمين برعايته موفرين له أسباب البقاء. غير أن للطفل أيضا نزوعا داخليا ملحا تجاه النمو والسيادة والاستقلال. وهي ميول لا تنسجم دائما مع ما يتطلبه البالغون ذوو الشأن في حياته. فإذا ما ابتلاه حظه العاثر بأبوين تعوقهما صراعاتهما العصابية ذاتها عن توفير الأمان له وحفزه على النمو المستقل، حينئذ يتولد صراع بين حاجة الطفل للأمان وبين نزوعه الطبيعي للنمو. وهو صراع يضحي فيه دائما بالنمو لصالح الأمان. (4) الديناميات النفسية الوجودية
يستند النموذج الوجودي للشخصية إلى تصور آخر للصراع الداخلي. فالصراع الأساسي وفقا لهذا النموذج ليس صراعا ضد دوافع غريزية مقموعة. لا، ولا هو صراع ضد بالغين ذوي خطر في حياة الفرد المبكرة. إنما هو صراع بين الفرد وبين معطيات الوجود.
ما هي هذه المعطيات؟
إن بوسع الفرد المفكر أن يكتشفها دون كثير عناء. فإذا ما نحينا العالم الخارجي جانبا. وأغضينا عن الاهتمامات اليومية التي نشغل بها حياتنا في العادة، ثم أمعنا في التأمل ليشمل موقفنا في العالم. عندئذ لا مناص لنا من مواجهة هموم معينة يسميها تيليش «الهموم النهائية
ultimate concerns »
2
وهي هموم تشكل جانبا لا مهرب منه من جوانب الوجود الإنساني في العالم.
يحدد يالوم أربعة هموم نهائية ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسي؛ وهي: الموت، الحرية، العزلة، اللامعنى.
إن مواجهة المرء لكل من هذه الهموم هي التي تشكل محتوى الصراع الداخلي وفق الإطار المرجعي الوجودي. (5) الموت
الموت هو - بين هذه الهموم النهائية - أكثرها وضوحا وجلاء. فليس بخاف على الجميع أن الموت آت لا مرد له. إنها حقيقة مرعبة. ونحن نستجيب لها في المستويات الأعمق من دواخلنا برعب أكبر. فكل شيء كما يقول سبينوزا «يريد أن يبقى على حاله». إنه لصراع صميمي ذلك الناشب بين وعينا بالموت المحتوم وبين رغبتنا الآنية في البقاء. تلك هي الرؤية الوجودية. فالموت يضطلع بدور كبير في خبرة المرء الداخلية، ويراوده كما لا يراوده أي شيء آخر. الموت يدمدم بلا توقف تحت غشاء الحياة. وهم الموت يغمر الإنسان منذ نعومة أظفاره . فالتعامل مع خطر المحو والإزالة هو من المهام الكبرى التي يتعين على الطفل أن ينهض بها في رحلة نموه.
وليس لنا من سبيل كي نصمد أمام هذا الخطر المصلت إلا أن ننصب دفاعات ضد الوعي بالموت. وهي دفاعات قائمة على التعامي والإنكار
denial ، وتدخل في تشكيل بنية الشخصية. فإذا كانت دفاعاتنا غير توافقية أدى بنا ذلك إلى أمراض سوء التوافق. فالمرض النفسي ينجم إلى حد كبير عن فشلنا في تخطي حقيقة الموت والعلو عليها، والأعراض النفسية والبنية الشخصية السيئة التوافق تنبع جميعها من رعب الموت وخوف المرء من الفناء والزوال. (6) الحرية
ليس من دأبنا أن ننظر إلى الحرية كمصدر للقلق. فنحن على العكس تماما نعتبرها مفهوما إيجابيا على طول الخط. وتاريخ الحضارة الغربية حافل بالتوق إلى الحرية والكفاح في سبيلها. إلا أن للحرية - داخل الإطار المرجعي الوجودي - معنى تكتيكيا خاصا؛ معنى لصيقا بالرعب!
تعني الحرية في الإطار الوجودي أن الإنسان - بعكس ما توهمه خبرة الحياة اليومية - لا يدخل في البدء ويغادر في النهاية عالما واضح المعالم ذا بنية كلية مترابطة محددة مكتملة. تشير الحرية إلى حقيقة أن الكائن الإنساني مسئول عن إبداع عالمه الخاص وشكل حياته واختياراته وأفعاله. الكائن الإنسان «محكوم عليه بالحرية» على حد قول سارتر. ويرى رولو ماي (1981م) أن الحرية الحقة تلزم الإنسان أن يواجه التحديات التي يضعها قدره ولا يستسلم لها.
كان الفكر الفلسفي لأمد طويل يحمل جرثومة الموقف الوجودي الذي يرى أن الكائن الإنساني يشيد عالمه الخاص. فصميم ثورة كانت
Kant
في الفلسفة هو افتراضه أن وعي الإنسان وطبيعة التركيب الذهني للكائن الإنساني هو الذي يضفي على الواقع شكله الخارجي. حتى المكان عند كانت «ليس شيئا موضوعيا أو واقعيا، بل هو شيء ذاتي ومثالي. إنه كان وما يزال مخططا وإطارا ينبع من طبيعة العقل بقانون ثابت، لكي ينظم كل المعطيات الحسية الخارجية.»
يحمل هذا التصور الوجودي للحرية متضمنات مرعبة. فإذا صح، كما يقول بعض الفلاسفة مثل هيدجر وسارتر، أننا نخلق ذواتنا الخاصة وعالمنا الخاص، فليس ثمة إذن أرض تحتنا بل مجرد هاوية ... فراغ ... عدم.
من مواجهتنا للحرية ينشأ صراع دينامي داخلي هام. صراع بين وعينا بالحرية واللاقاعدة من جهة، وبين حاجتنا العميقة للقاعدة وللبنية النظامية من جهة أخرى.
ويشمل مفهوم الحرية موضوعات كثيرة ذات تضمينات واسعة تمس العلاج النفسي؛ أبرزها فكرة «المسئولية». يتفاوت الأفراد تفاوتا كبيرا في درجة المسئولية التي يرغبون في تحملها إزاء مواقفهم الحياتية، وفي الطرائق التي يصطنعونها للتنصل من المسئولية. فبعض الأفراد يضعون المسئولية على عاتق غيرهم من الناس، وعاتق الظروف والرؤساء والأزواج، وعندما يدخلون في الموقف العلاجي يحملون المعالج النفسي مسئولية شفائهم. وبعض الأفراد يتنصلون من المسئولية بأن يعيشوا دور «الضحية البريئة» التي جنت عليها أحداث خارجية ليس لهم بها يد (ويغفلون على الدوام أنهم هم الذين قاموا بالتمهيد لهذه الأحداث وتمريرها، وأنها جرت على إذن مستور منهم وإيعاز مضمر). وبعض الأفراد ينسلخون من المسئولية كليا بأن يدخلوا في حالة اضطراب عقلي عابر لا يعدون فيها أهلا للمحاسبة على سلوكهم حتى أمام أنفسهم.
وللحرية جانب آخر هو «الإرادة». فأن يعي المرء مسئوليته عن موقفه يعني أنه يدخل دهليز الفعل (ويعني في الموقف العلاجي أنه يدخل دهليز التغيير). فالإرادة هي ذلك الممر الموصل من المسئولية إلى الفعل. ويتألف فعل الإرادة
willing ، كما أوضح ماي، من فعل الرغبة
wishing
أولا، ثم فعل القرار
deciding . يعاني كثير من الأفراد من مصاعب كبيرة في أن يحسوا برغبة ما أو أن يعبروا عنها؛ ذلك أن الرغبة لصيقة بالشعور، وأن ذوي الوجدان المعطل من الأفراد لا يمكنهم الفعل بتلقائية؛ لأنهم لا يستطيعون أن يشعروا وبالتالي لا يستطيعون أن يرغبوا. أما المتصفون بالاندفاعية
impulsivity
من الأفراد فهم يتجنبون فعل الرغبة إذ يفشلون في التمييز بين الرغبات، ومن ثم يفعلون باندفاع وفورية وفق جميع الرغبات. أما أصحاب الأفعال القهرية
compulsivity (وهو اضطراب آخر من اضطرابات الرغبة) فهم بدلا من أن يجترحوا الفعل المبادئ المقدام، يظلون مسيرين بإلحاحات داخلية غريبة عن ذاتهم، وتجري غالبا على نقيض رغباتهم الشعورية.
وما إن يخبر المرء رغبة ما خبرة كاملة حتى يجد نفسه في مواجهة القرار
decision . وكم من أفراد يعرفون تماما ماذا يرغبون ويبقون مع ذلك عاجزين عن أن يقرروا أو يختاروا. وكثيرا ما يتملكهم ما يمكن أن نسميه فزع القرار. وقد يوكلون إلى غيرهم اتخاذ القرار الخاص بهم، أو يتصرفون بطريقة من شأنها أن تجعل القرار يفرض عليهم بفعل ظروف هم قاموا في واقع الأمر بتمريرها على مستوى لا شعوري. (7) العزلة
ثالث الهموم النهائية هو العزلة
isolation . ومن الأهمية بمكان أن ندرك الفرق بين العزلة الوجودية وبين الصنوف الأخرى من العزلة.
فالعزلة البينشخصية
interpersonal isolation
تشير إلى البون الفاصل بين الفرد وبين الآخرين، والناتج عن نقص في المهارات الاجتماعية وخلل نفسي في مجال الألفة والحميمية.
والعزلة داخل الشخصية
intrapersonal isolation (وهو مصطلح كان فرويد أول من أدخله) تشير إلى حقيقة أننا معزولون عن أجزاء من أنفسنا. فثم مقاطعات من النفس (من الخبرة، الوجدان، الرغبة) منشقة عن نطاق وعينا ودرايتنا. وهدف العلاج النفسي هو أن يساعد الفرد على المطالبة بهذه الأجزاء المنبتة من نفسه واستردادها.
أما العزلة الوجودية
existential isolation
فهي أوغل في العمق من الصور الأخرى للعزلة. فمهما تكن علاقتنا بشخص آخر، وبالغا ما بلغ ودنا له واقترابنا منه، تبق هناك فجوة نهائية تفصلنا عنه. فجوة يستحيل عبورها. كلنا يدخل الوجود وحيدا، وكلنا لا بد أن يرحل عنه وحيدا.
في بدايات الوعي يخلق كل فرد ذاتا أولية (أنا ترنسندنتالية) بأن يدع وعيه يلتف على نفسه فيفرق نفسا ما عن بقية العالم. عندئذ فقط يشرع الفرد - وقد صار الآن واعيا بذاته - في تأسيس الذوات الأخرى.
3
تحت هذا الفعل، كما يلاحظ ميجوسكوفيك
Mijuskovic (1979) ، ثمة وحدة صميمة؛ فلا مهرب للفرد من أن يعرف: (1)
أنه يشكل الآخرين تشكيلا. (2)
أنه لا يستطيع أن يشرك الآخرين شراكة كاملة في وعيه الخاص.
ليس هناك مذكر بالعزلة الوجودية أبلغ من مواجهة للموت. فكل من يواجه الموت أو يراه رأي العين يصبح بلا استثناء على وعي حاد بحقيقة العزلة. مثل هذا التعاقب هو موضوع المسرحية الأخلاقية «كل إنسان
Everyman » التي كانت تمثل في العصور الوسطى. ف «كل إنسان» كتب عليه أن يزوره ملك الموت الذي يخبره أن عليه أن يشرع في حجته النهائية إلى الله. و«كل إنسان» يتوسل دون جدوى أن يمهل له في الأجل. فالموت يعلنه أن عليه أن يجهز نفسه للرحلة. عندئذ يطلب «كل إنسان» أن يسمح له بأن يصطحب معه رفقاء في رحلته؛ فيجيبه الموت إلى هذا الطلب. وتصور بقية المسرحية محاولات «كل إنسان» في إقناع الآخرين باصطحابه في رحلته. فها هو يتوجه بالطلب إلى عدد من الشخصيات الرمزية: الصداقة، حطام الدنيا، القرابة، المعرفة. وكلها تأبى أن ترافقه. ويواجه «كل إنسان» رعب الوحدة الوجودية. (في النهاية تصور المسرحية «كل إنسان» وقد عثر على الرفيق الوحيد الراغب في مشاركته رحلته: إنه ... العمل الصالح. ذلك في الحقيقة هو المغزى الأخلاقي للمسرحية؛ الأعمال الصالحة، من منظور الإيمان المسيحي، تمنحنا الحماية من العزلة الصميمة).
بذلك يكون الصراع الدينامي الثالث هو بين وعي المرء بعزلته الجوهرية وبين رغبته في أن يدرأها ... أن يندمج ... ينصهر ... أن يكون جزءا من كل أكبر.
يشكل الخوف من العزلة الوجودية (والدفاعات ضد هذا الخوف) أساسا وطيدا لجانب عريض من الأمراض النفسية البينشخصية. فهذه الدينامية تزودنا بنظام تفسيري اقتصادي
parsimonious
4
وقوى لفهم كثير من العلاقات البينشخصية المخفقة، تلك العلاقات التي «يستعمل» فيها الشخص شخصا آخر لوطر معين ولمأرب ما، أكثر مما يصله بباعث من الاهتمام بوجود ذلك الشخص ورعاية ذلك الوجود.
العزلة صميمة لا مهرب منها. ولا يمكن لأي علاقة أن تنفي العزلة. غير أن الإنسان يمكن أن يشارك شخصا آخر عزلته بطريقة تخفف شيئا من ألم العزلة. فإذا سلم الإنسان تسليما بوضعه الوجودي المعزول، واحتمله بشجاعة وعزم، عندئذ فقط يمكنه أن يتجه بحب نحو الآخرين. أما إن تملكه الرعب من مواجهة العزلة فلن يكون بمقدوره أن يتجه إلى الآخرين. كل ما يستطيع فعله آنذاك هو أن «يستعمل» الآخرين كدرع تحميه من العزلة. في مثل هذه الحالة لن تكون العلاقات سوى إخفاقات مفككة وإجهاضات وصور مشوهة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الأصيلة.
يحس بعض الأفراد - ولا سيما المصابين باضطراب الشخصية البينية أو الحدية -
borderline personality disorder
عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال حدود الذات
dissolution of ego boundaries . يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون في وجودهم الخاص. ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا في حضور شخص آخر، أي لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم.
يحاول الكثيرون أن يتخلصوا من العزلة عن طريق الانصهار أو الالتحام
fusion ، فيلينون حدود الذات ويصبحون جزءا من فرد آخر. إنهم يتجنبون النمو الشخصي والإحساس بالعزلة الذي يصاحب النمو. هذا الانصهار هو الذي يبطن خبرة الحب. فالعجيب في أمر الحب الرومانسي هو أن «الأنا» المنعزلة تختفي في «النحن». وقد يندمج البعض بجماعة أو بقضية أو وطن أو مشروع. أن تكون كأي فرد آخر؛ أن تمتثل وتخضع وتساير في الملبس والحديث والعادات، ألا تكون لك أفكار خاصة أو مشاعر مختلفة؛ كل ذلك من غايته ومبتغاه أن ينقذ الفرد من عزلته.
وممارسة الجنس القهرية هي أيضا استجابة شائعة للعزلة المخيفة. وقد يمنح التشرد الجنسي انفراجة قوية للفرد المنعزل، غير أنها انفراجة وقتية. وهي وقتية لأنها ليست علاقة، بل صورة كاريكاتورية لعلاقة. فالذي يمارس الجنس قهريا لا يتصل بالوجود الكلي للآخر، بل بالجزء الذي يفي بحاجته من ذلك الآخر. إنه لا يعرف الآخر. فهو لا يرى من الآخر ولا يريه إلا تلك الجوانب التي تيسر أمر الإغواء والفعل الجنسي. (8) اللامعنى
رابع الهموم النهائية هو اللامعنى. فإذا كان كل شخص مائتا لا محالة، وكان كل شخص يشيد عالمه الخاص، وكل شخص وحيدا في عالم غير مكترث، فماذا عسى أن يكون للحياة من معنى؟ لماذا نعيش؟ كيف نعيش في مقبل الأيام؟ إذا لم يكن هناك تشكيل مسبق لحياة وتكوين مقدر سلفا، فعلينا إذن أن نؤسس المعنى الخاص لحياتنا. ويصبح السؤال الجوهري عندئذ هو: «هل يمكن لمعنى حياتي يخلقه الفرد أن يكون من القوة والرسوخ بحيث ينهض بحياة ذلك الفرد ويحملها؟»
يبدو أن الإنسان كائن مرتهن للمعنى ... يسعى بطبيعته إلى المعنى ويحتاجه. فإذا نظرنا إلى أنفسنا نجد أن من صميم التنظيم النيوروسيكولوجي لإدراكنا أن يقوم بإضفاء شكل على المثيرات العشوائية للتو واللحظة. فنحن ننظمها آليا إلى أمامية (صورة) وخلفية. وعندما تواجهنا دائرة ناقصة فنحن ندركها آليا كدائرة مكتملة. وحين نكون بإزاء موقف غامض أو مجموعة من المثيرات التي تتحدى التشكيل، يعترينا الضيق الذي لا يبرحنا حتى ننتظم ذلك الموقف في شكل مميز. وما يقال بشأن المثيرات العشوائية يقال بشأن المواقف الوجودية؛ فماذا تظن بإنسان ألقي به في عالم لا شكل له، إلا أن يظل مضطربا لائبا يبحث عن شكل ... عن تفسير ... عن معنى للوجود.
ثمة سبب آخر يجعل إيجاد معنى للحياة ضرورة للإنسان لا غنى عنها؛ فالمعنى هو مخطط وإطار نستمد منه نظاما هرميا للقيم. والقيم تمدنا ببرنامج عمل نسلك في الحياة وفقا له. القيم لا تخبرنا فقط لماذا نعيش، بل وكيف نعيش.
ينشأ الصراع الداخلي الرابع إذن من هذه المعضلة: كيف يتأتى لكائن يلزمه المعنى أن يعثر على معنى في كون خلو من المعنى؟ (9) مفاهيم متنوعة
يتألف محتوى الصراع الداخلي وفق الإطار المرجعي الوجودي من الهموم النهائية
ultimate concerns
وما تفرخه من مخاوف ودوافع شعورية ولا شعورية. ويحتفظ المدخل الوجودي الدينامي بالبنية الدينامية الأساسية عند فرويد، ولكنه يملؤها بمحتوى مختلف جذريا. فالصيغة الفرويدية القديمة التالية:
دافع ←
قلق ←
ميكانيزم دفاع.
5
يستبدل بها في النظام الوجودي هذه الصيغة:
الوعي بالهم النهائي ←
قلق ←
ميكانيزم دفاع.
يضع كل من التحليل النفسي والنظام الوجودي القلق في القلب من البنية الدينامية. فالقلق هو وقود السيكوباثولوجيا؛ فالعمليات النفسية الشعورية واللاشعورية (ميكانيزمات الدفاع) إنما تتولد لكي تتعامل مع القلق. هذه العمليات هي التي تشكل السيكوباثولوجيا؛ فهي توفر الأمان، ولكنها أيضا تحد من النمو.
ومن الفوارق الهامة بين النظامين أن التسلسل الفرويدي يبدأ ب «دافع»، بينما يبدأ النظام الوجودي ب «وعي». ذلك أن الإطار المرجعي الوجودي ينظر إلى الفرد في الأساس باعتباره خائفا موجوعا أكثر منه مدفوعا.
يرى المعالج الوجودي أن القلق ينبع من مواجهة الموت واللاقاعدة (الحرية) والعزلة واللامعنى، وأن الفرد يستخدم صنفين من ميكانيزمات الدفاع لمغالبة القلق: الصنف الأول، وهو الذي وصفه بدقة كل من فرويد وأنا فرويد وهاري ستاك سوليفان، يحمي الفرد ضد القلق بغض النظر عن مصدره. أما الصنف الثاني فيشمل دفاعات محددة تساعد الفرد على مغالبة أنواع بعينها من المخاوف الوجودية الأساسية.
لنأخذ على سبيل المثال الميكانيزم الدفاعي الذي يستخدمه الفرد في مواجهة القلق الناشئ عن وعيه بالموت. يصف يالوم (1981م) ميكانيزمين محددين هامين؛ الأول: عبارة عن اعتقاد لا معقول في المنزلة الشخصية الخاصة
specialness ، والثاني: اعتقاد لا معقول في وجود منقذ نهائي
ultimate rescuer . هذان الميكانيزمان يشبهان الضلالات من حيث كونهما اعتقادين زائفين ثابتين. ومع ذلك فهما ليسا ضلالين بالمعنى الإكلينيكي؛ لأنهما عموميان شاملان، يؤمن بهما جميع البشر. (10) المنزلة الخاصة
6
يطوي كل فرد منا جوانحه على اعتقاد قوي عميق بأنه يتمتع بحصانة شخصية ومنعة وخلود. ورغم أننا ندرك على مستوى عقلي عبث هذا الاعتقاد وحماقته، إلا أننا على مستوى لا شعوري عميق نعتقد أن القوانين المعتادة للبيولوجيا لا تنطبق علينا.
لم يصف أحد قط هذا الاعتقاد العبثي العميق بالقوة التي وصفه بها تولستوي، الذي يقول على لسان إيفان إليش:
كان يعرف في أعماق قلبه أنه يحتضر ...
يحتضر؟! ذلك خاطر ما اعتاده قط ولا راض نفسه عليه، ليس هذا فحسب، إنها، ببساطة، فكرة لا يفهمها، لا يعيها.
إن القياس المنطقي الذي تعلمه قديما:
كل إنسان فان.
وكايوس إنسان.
إذن كايوس فان.
كان يبدو له دائما قياسا صحيحا بالنسبة لكايوس ... ولكنه بالتأكيد غير صحيح حالما انسحب الأمر عليه. فكون كايوس - الإنسان على وجه التجريد - فانيا، هو قول صحيح تماما. ولكنه ليس كايوس. لا، ولا هو إنسان مجرد. إنما هو كائن متميز تماما عن كل ما عداه. ومختلف عن كل الآخرين قلبا وقالبا ... إنه فانيا الصغير بصحبة ماما وبابا وميتيا وفولوديا ولعبه وسائقه ومربيته، ماذا يدري كايوس عن رائحة الكرة الجلدية المخططة التي كان فانيا مغرما بها دائما؟ ... هل قبل كايوس يد أمه كما قبلتها؟ وهل كان يحفه حرير ردائها كما كان يحفني؟ ... هل كان يغضب ويشغب في المدرسة عندما لا تروقه الفطائر؟ ... هل أحب كايوس مثلما أحببت؟ ... وهل بوسعه أن يرأس جلسة كما رأست؟ إن كايوس فان حقا ... وإن حقا عليه أن يموت. أما أنا: فانيا الصغير ... إيفان إليش، بكل أفكاري وعواطفي، فشيء مختلف تماما. إن من المستبعد أنني ينبغي أن أموت ... إن ذلك يكون شيئا مرعبا غاية الرعب.
هناك عدد من المتلازمات (الزملات) المرضية المرتبطة بهذا الميكانيزم الدفاعي، يصاب الفرد بواحدة منها في حالة غياب هذا الميكانيزم أو ضعفه. فيكون مثلا ذا شخصية نرجسية، أو مدمنا للعمل القهري مستغرقا في البحث عن المجد، أو يكون بارانويا معظما لذاته. وتقع الواقعة في حياة مثل هؤلاء الأفراد وتحل بهم الأزمة عندما تنحطم منظومتهم الاعتقادية ويداهمهم إحساس بالعادية وانعدام الحصانة. وكثيرا ما يلتمسون العلاج عندما يكل ميكانيزم «المنزلة الخاصة» ولا يعود قادرا على صد القلق، مثلما يحدث إبان المرض الشديد أو حال تعثر ما كان يبدو لهم دائما تقدما أبديا. (11) الاعتقاد في وجود منقذ نهائي
الميكانيزم الدفاعي الثاني الذي يحجب عنا وعي الموت هو اعتقادنا في وجود خادم شخصي جبار يحرسنا إلى الأبد ويحمي هناءتنا، والذي قد يتركنا نقترب من حافة الهاوية، ولكنه متأهب دائما لانتشالنا في اللحظة الأخيرة. ويؤدي تضخم هذا الميكانيزم إلى بنية شخصية تتصف بالسلبية والاعتمادية والخنوع والتذلل.
وكثيرا ما يكرس مثل هؤلاء الأفراد حياتهم للعثور على منقذ نهائي واسترضائه. ويعيشون من أجل «الآخر المسيطر» على حد قول سيلفانو أريتي (1977م، ص864)؛ تلك أيديولوجية حياتية تستبق وتمهد الطريق للإصابة بالاكتتاب المرضي. وهم ربما ينعمون بتكيف حياتي عال ما بقوا مستدفئين بحضرة ذلك الآخر المسيطر. لكنهم سرعان ما ينهارون ويغشاهم كرب عظيم بمجرد أن يفقدوه.
ومن الفوارق الكبرى بين المدخل الدينامي الوجودي وبين المداخل الدينامية الأخرى فارق يتعلق بالتوجه الزماني. فالمعالج الوجودي يمارس عمله «بصيغة المضارع ». أعني في الزمن الحاضر. فمن واجبنا أن نفهم الفرد ونساعده أن يفهم نفسه من خلال قطاع عرضي ل «هنا والآن» وليس من خلال قطاع طولي تاريخي. لقد كان فرويد يستعمل كلمة «عميق» كمرادف لكلمة «مبكر»، وعلى ذلك يكون الصراع الأعمق عنده هو الصراع الأقدم في حياة الفرد. ذلك أن ديناميات فرويد نشوئية التوجه مبنية على مراحل النمو، بحيث إن «الجوهري» و«الأساسي» في سياقه يجب أن يفهما من منظور التتابع الزمني. فكلاهما يرادف «الأول» أو «الأسبق زمنيا». بذلك تكون المصادر الأساسية للقلق عند فرويد هي المحن المبكرة: الانفصال والخصاء.
أما كلمة «عميق» في المنظور الوجودي فتعني الهموم الأكثر جوهرية والتي تواجه الفرد في الوقت الحالي. ولا ينبغي من وجهة النظر الوجودية أن يأخذ الماضي (أي فكرة المرء عن ماضيه) من الأهمية إلا بقدر ما يشكل جزءا من الوجود الحالي للفرد، وبقدر ما يسهم في تشكيل طريقته الحالية في مواجهة الهموم النهائية. فالمشهد الآني المباشر هو الذي يعني المعالج الوجودي أكثر مما عداه، وفهمه للشخصية يعني فهمه لأعماق الخبرات المباشرة للفرد.
ليس من هموم العلاج الوجودي أن ينقب عن الماضي ويفهمه. بل هو يتوجه في المقابل إلى «صيرورة المستقبل حاضرا».
7
ولا يعنى بالماضي إلا بقدر ما يلقي من ضوء على الحاضر. ويجب ألا يغيب عن ذهن المعالج النفسي أننا إنما نخلق ماضينا خلقا ونخترعه اختراعا، وأن شكل وجودنا الحالي هو الذي يملي علينا ما نختاره من الماضي ونتملاه ونحييه.
الفصل الخامس
العلاج النفسي
«إن نظرية الكوانتم قضت على النظرة إلى الكون على أنه يوجد «هناك» آمنا، وأننا يمكن أن نلاحظ ما يجري فيه من خلف منظار دون أن يكون لنا دخل بما يجري هناك. إلا أننا بقدر الدرجة التي نقيس بها الكون فإن الكون يتغير. فنحن نغيره. ويتعين أن نلغي كلمة «ملاحظ» ونستبدل بها كلمة «مشارك». تخبرنا نظرية الكوانتم بأننا نتعامل مع كون مشارك.»
آرشيبالد هويلر، طبيعة الكشف العلمي «من الطبيعي أن يتحمل الإنسان مسئولية أحلامه السيئة. إن هذه الأحلام في كل الأحوال جزء منا. ومهما حاولت إنكار الجانب السلبي مما يصدر عن لا شعوري، ففي إمكاني أن أعرف أن هذا الذي أنكره ليس كائنا في فحسب، بل إن فعله وتأثيره يصدر أحيانا عني.»
فرويد، تفسير الأحلام (إضافات ملحقة) (1) نظرية العلاج النفسي
ثمة قطاع كبير من المعالجين النفسيين يعتبرون أنفسهم ذوي توجه وجودي (أو إنساني). ومع ذلك فقلما نجد معالجا منهم قد تلقى تدريبا منهجيا منظما في العلاج الوجودي. ولا غرو، فالبرامج التدريبية الوجودية قليلة محدودة الانتشار. ورغم كثرة الكتب الممتازة التي يضيء كل منها جانبا من جوانب الإطار المرجعي الوجودي (بكر
Becker
1973م، بجنتال
Bugental
1956م، كويستنباوم
Koestenbaum
1978م، ماي 1953م، و1977م، ماي وآخرون 1958م) إلا أن كتاب يالوم الذي وضعه سنة 1981م هو أول كتاب يقدم نظرة منهجية شاملة للمدخل العلاجي الوجودي.
وعندما تسأل المعالجين ذوي التوجه الوجودي عن علة تسميتهم لأنفسهم بهذا الاسم تفاجأ بأن مرد ذلك ليس لنظام علاجي محدد، بل بالأحرى لأسلوب وطريقة في النظر إلى الكائن البشري. فالعلاج الوجودي ليس نظاما علاجيا شاملا؛ بل هو إطار مرجعي
frame of reference ؛ نموذج إرشادي
paradigm
ننظر به إلى معاناة المريض ونتفهمها بطريقة خاصة.
ينطلق المعالجون الوجوديون من افتراضات أساسية تتعلق بمصادر الكرب الذي يعانيه المريض ويفهمونه فهما إنسانيا لا فهما سلوكيا أو ميكانيكيا. وبوسعهم أن يستخدموا العديد من التقنيات المستخدمة في المدارس الأخرى ما دامت تتسق مع افتراضاتهم الوجودية وتحقق مواجهة إنسانية أصيلة بين المريض والمعالج.
تستخدم الغالبية العظمى من المعالجين المتمرسين - بغض النظر عن انتمائهم لمدرسة أيديولوجية معينة - كثيرا من النظرات والتوجهات الوجودية. فما من معالج - على سبيل المثال - إلا ويدرك أن وعي المرء بمحدوديته وفنائه قد يحفز داخله نقلة كبرى في منظور الرؤية. وما من معالج إلا ويدرك أن «العلاقة» هي التي تداوي وتشفي. وأن مأزق الاختيار يعذب المرضى. وأن المعالج يجب أن يحفز في المريض إرادة الفعل. وأن أغلب المرضى مبتلون بافتقار حياتهم إلى المعنى.
من الصواب أيضا أن النظام الاعتقادي للمعالج يحدد لون المعطيات الإكلينيكية التي يجدها. فالحق أن المعالجين يلمحون للمرضى، بشكل خفي وربما لا شعوري، بما يتعين عليهم أن يقولوه أو يقدموه من مادة بعينها. فالمعالج اليونجي يعثر على أحلام يونجية. والمرضى الفرويديون يكتشفون ثيمات الخصاء والحصار (القلق) وحسد القضيب. فلا شك أن النظام الإدراكي للمعالج يتأثر بنظامه الأيديولوجي، وأن المعالج ينضبط ويتهيأ بحيث يلتقط المادة التي يرغب في التقاطها.
1
تلك قاعدة تنسحب بدورها على المدخل الوجودي. فما إن يضبط المعالج الوجودي جهازه الذهني على القناة الصحيحة حتى يتحفه مرضاه بفيض مذهل من الهموم الناجمة عن صراعات وجودية.
ولا يختلف المدخل الوجودي اختلافا استراتيجيا كبيرا عن بقية العلاجات الدينامية. فالمعالج الوجودي يفترض أن المريض يعاني من القلق، وأن هذا القلق ناشئ من صراع وجودي ما، وأن هذا الصراع لا شعوري بدرجة ما، وأن المريض يتعامل مع القلق بعدد من ميكانيزمات الدفاع الواهنة غير التكيفية، والتي قد تتيح له انفراجة مؤقتة من القلق، لكيلا تلبث في النهاية أن تعوق قدرته على أن يحيا حياة مليئة مبدعة، وتتكشف عن أنها لم تمنحه إلا مزيدا من القلق الثانوي. وعلى المعالج أن يساعد المريض على أن يشرع في برنامج استكشاف ذاتي يهدف إلى فهم الصراع الشعوري واللاشعوري، وأن يتعرف على ميكانيزمات الدفاع الفاشلة ويكتشف تأثيرها المدمر، وأن يخفف القلق الثانوي بأن يصحح طرائقه المعطلة في التعامل مع الذات ومع الآخرين، وأن يتبنى وسائل أخرى في مغالبة القلق الأولي.
ورغم أن الاستراتيجية الأساسية للعلاج الوجودي تشابه غيرها من العلاجات الدينامية، إلا أن المحتوى في الطرفين جد مختلف. كما أن العملية العلاجية مغايرة من جهات عديدة. فالطريقة المختلفة للمعالج الوجودي في فهم المأزق الأساسي للمريض، لا شك، تؤدي إلى اختلافات كثيرة في خطة العلاج. من أمثلة ذلك أن تركيز نظرية الشخصية في العلاج الوجودي على أعماق الخبرة الحالية ينأى بالمعالج عن إهدار وقت كبير في مساعدة المريض على تذكر الماضي، ويجعله معنيا بفهم الموقف الحياتي الحالي للمريض والمخاوف اللاشعورية التي تتملكه في الوقت الحاضر. ومن أمثلة هذه الفروق أيضا فرق خاص بالعلاقة العلاجية. فالمعالج الوجودي يسلم، شأن سواه من المعالجين الديناميين، بأن طبيعة العلاقة بين المعالج والمريض هي شيء أساسي في كل عمل علاجي ناجع، إلا أن توكيده لا ينصب على الطرح (النقلة)
transference ،
2
بل على العلاقة كشيء بالغ الأهمية في حد ذاته. (2) عملية العلاج النفسي
الموت، الحرية، العزلة، اللامعنى.
لكل من هذه الهموم النهائية
ultimate concerns
متضمناته في العملية العلاجية. فحين ننظر في هم «الحرية» ومتضمناته العلاجية العملية في العلاج النفسي، تطالعنا «المسئولية» (وهي جزء لا يتجزأ من الحرية) كمفهوم عظيم الشأن عميق التأثير في المدخل العلاجي للمعالج الوجودي.
يرى سارتر في المسئولية معنى مساويا لمعنى التأليف
authorship . فأن يكون المرء مسئولا يعني أنه مؤلف حياته الخاصة ومبدع طرازها. ويؤمن المعالج الوجودي بأن كل مريض مسئول عما يحل به من كرب، ولا يدخر وسعا في تنبيهه إلى هذه الحقيقة. فليست الجينات السيئة ولا الحظ العاثر هو الذي جعل المريض منبوذا ينفض عنه الآخرون ويسوءونه ويهملونه. ولن يكون هناك أمل في التغيير ما لم يدرك المرضى أنهم مسئولون عن اضطراباتهم الخاصة.
يجب على المعالج أن يقف على طرائق المريض في تجنب المسئولية، ويضع يده على شواهد تنصله ويبصره بها. وللمعالجين في ذلك فنيات متعددة. فمنهم من يقاطع المريض كلما اشتم في حديثه رائحة التنصل. فإذا قال المريض: «لا أستطيع» أن أفعل كذا، بادره المعالج: قل إنك «لن تفعل» هذا الشيء. ويبقى المرء غافلا عن دوره الإيجابي في موقفه ما بقي يعتقد في مقولة «لا أستطيع». مثل هؤلاء المعالجين يحثون مرضاهم على أن يتولوا «امتلاك» مشاعرهم الخاصة وأقوالهم وأفعالهم. حتى لو كان قول المريض: إنه فعل الشيء «لا شعوريا» فإن رد المعالج هو: «لاشعور من هذا؟!» والقاعدة هنا واضحة: كلما ألفيت المريض يندب حاله فتش عن المسئولية، وتقص كيف خلق بنفسه هذه الحال التي هو فيها.
من التقنيات المفيدة في العلاج أن يحفظ المعالج الشكوى الأصلية للمريض في ذهنه، ثم يقرنها في الأوقات المناسبة بتصرفاته في المشهد العلاجي. ولنأخذ مثالا بذلك المريض الذي جاء يلتمس العلاج بسبب شعوره بالوحدة والعزلة، فكان يسهب أثناء الجلسات ويفيض في التعبير عن ازدرائه واحتقاره للآخرين. وكان متعنتا في هذه الآراء يبدي مقاومة كبيرة تجاه مناقشتها، ناهيك بتغييرها. فماذا كان من المعالج؟ كان يبرز له شكواه الأولى ويقرنها بسلوكه الآني حتى تتبين له مسئوليته عن مأزقه الشخصي. وذلك بأن يذكره كلما أبدى احتقاره للآخرين: «وأنت تشكو الوحدة».
وإذا كانت المسئولية جزءا من مكونات الحرية، فالإرادة جزء آخر. وقد تحدثنا آنفا عن فعل الإرادة
willing
وقلنا: إنها تنقسم بدورها إلى مكونين أو مرحلتين: فعل الرغبة
wishing ، وفعل القرار
deciding . ولنبدأ ببحث الرغبة والدور الذي تلعبه في المشهد الإنساني. لننظر كم تتكرر المتوالية الحوارية الآتية بين المعالجين وبين المرضى: - ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ - وما الذي يحول بينك وبين أن تفعل ما تريد أن تفعله؟ - لكني لا أعرف ما أريد أن أفعله. لو كنت أعرف ما كنت بحاجة إلى أن آتي إليك.
الواقع أن هؤلاء المرضى يعرفون ما يجب أن يفعلوه، وما يليق بهم أن يفعلوه، وما يتحتم عليهم أن يفعلوه. ولكنهم لا يخبرون في داخلهم ما «يريدون» أن يفعلوه. إنهم يعانون عجزا شديدا في الرغبة. وقد كان ماي يميل إلى الصراخ في مثل هؤلاء: «ألا يوجد أي شيء تريده على الإطلاق؟» (1969م، ص165). وكثير من المعالجين يشاركونه هذا الميل. يعاني هؤلاء المرضى من مصاعب اجتماعية هائلة لأنهم ليس لهم آراء خاصة بهم، وليس لهم ميول ولا رغبات.
وكثيرا ما يكون العجز عن الرغبة مجرد جزء من اضطراب أكبر هو العجز عن الشعور. ففي حالات كثيرة يكون الشطر الأكبر من المهمة العلاجية هو أن نساعد المرضى على إذابة الحواجز الوجدانية التي تعطل فيهم فعل الشعور، وهي مهمة علاجية تتسم بالبطء والكدح، وتتطلب من المعالج أن يكون صابرا مثابرا يستحث المريض بلا هوادة أن يشعر ويريد، ولا يمل من تكرار «ماذا تشعر؟» و«ماذا تريد؟»، مستكشفا مرارا وتكرارا مصدر الانسداد الوجداني وطبيعته، والمشاعر المحتسبة من ورائه.
يحاول بعض المعالجين أن يقوموا بتفجير العائق الوجداني بجهود اختراقية درامية من قبيل الإغراق الانفعالي
emotional flooding ، والصرخة الأولية
primal scream ، والعلاج الانفجاري
implosion therapy ، وعلاج الشعور المكثف
intense feeling therapy ، والعلاج الجشطلتي. غير أن العجز عن الشعور والرغبة هو سمة شخصية غائرة وطبع مكين يتطلب وقتا ومثابرة علاجية لإحداث تغيير يدوم.
وقد يتخذ تجنب الرغبة صورا أخرى بالإضافة إلى تعطل الوجدان. فبعض الأفراد يتجنبون الرغبة عن طريق الكف عن التمييز بين الرغبات المختلفة والتصرف باندفاعية وفق جميع الرغبات. وعلى المعالج في مثل هذه الحالات أن يساعد المريض على أن يقوم بشيء من التمييز الداخلي بين الرغبات ويضع لها أولويات. وعلى المريض أن يتعلم أن وجود رغبتين متنافرتين
3
يحتم عليه أن يتخلى عن إحداهما. مثال ذلك أنه إذا كانت هناك رغبة في علاقة حب حقيقي ذي معنى، فلا مناص من التخلي عن مجموعة من الرغبات الصراعية البينشخصية من قبيل الرغبة في الغزو أو القهر أو الإغواء أو الاستعباد.
القرار هو الجسر الواصل بين الرغبة والفعل. فبعض المرضى يظلون عاجزين عن الفعل رغم وجود الرغبة؛ ذلك لأنهم عاجزون عن اتخاذ القرار. ومن أعم الأسباب التي تجعل اتخاذ القرار أمرا عسيرا هو أن كل «نعم» في الحياة تتضمن «لا». كل اختيار ينطوي على نبذ. «التخلي» إذن هو فعل ملازم للقرار كظله. فكل قرار يتخذ يستوجب التحلي عن خيارات أخرى؛ وهي كثيرا ما تكون خيارات لن تتاح بعد ذلك أبدا.
وهناك صنف آخر من المرضى يعجزون عن اتخاذ القرار لأن القرارات الكبرى تكشف لهم إلى أي درجة هم يقومون بتشييد حياتهم الخاصة. بذلك يعد كل قرار مصيري كبير بمثابة موقف حدي
boundary situation
بنفس الطريقة التي تكون بها رؤية الموت موقفا حديا.
يجب على المعالج أن يحض المرضى على أن يتخذوا القرارات، وأن يقدم لهم العون في ذلك. ومن التوجهات المفيدة في هذا الشأن أن يقوم المعالج بمساعدة المريض على أن يمحص الخيارات المتاحة، وأن يعي جيدا أن مهمة وضع الخيارات والانتقاء منها تقع على عاتقه هو لا على عاتق المعالج.
على الإنسان أن يمتلك مشاعره الخاصة. هكذا يعلم المعالج مرضاه كيما يجيدوا التواصل. وعلى الإنسان، بنفس الدرجة من الأهمية، أن يمتلك قراره الخاص. وبعض المرضى يتملكه الفزع حين يتأمل المتضمنات المختلفة لكل قرار يريد اتخاذه. إن «ماذا لو» تعذبه وتقض مضجعه.
ماذا لو تركت وظيفتي ولم أتمكن من الحصول على وظيفة أخرى؟
ماذا لو تركت أطفالي بمفردهم فأصابهم مكروه؟
من المفيد في أغلب الأحيان أن نطلب من المريض أن يتأمل السيناريو الكامل لكل «ماذا لو» على التوالي، وأن يتخيل حدوثها ويتتبع في مخيلته كل عواقبها الممكنة، ويجرب عندئذ المشاعر المتولدة ويحللها.
والقاعدة العامة بصدد اتخاذ القرار هي أن مهمة المعالج ليست خلق القرار بل «تخليصه». فهو لا يصنع للمريض قراره نيابة عنه، بل يزيل العوائق التي تعوق المريض عن اتخاذ القرار. ليس بمقدور المعالج أن ينقر للمريض زر القرار أو ينفث فيه روح العزيمة، ولكن بمقدوره أن يؤثر في العوامل التي تتحكم في إرادته. وما من أحد ولد بعجز خلقي عن أن يقرر، فالقدرة على صنع القرار كامنة في المريض ولكن دونها عوائق. وما إن يساعده المعالج على إزالة هذه العوائق حتى ينتقل تلقائيا إلى وضع أكثر استقلالية، بنفس الطريقة التي تنمو بها الجوزة إلى شجرة بلوط على، حد قول كارن هورني (1950م).
القرار حتم لا مفر منه.
والمرء في كل لحظة يصنع قرارات حتى دون أن يفضي إلى نفسه بذلك.
هذه حقيقة على المعالج أن يعين مرضاه على استيعابها، وأن يساعدهم على تبين الطريقة التي يصنعون بها قراراتهم. فكثير من المرضى يتخذون قراراتهم بطريقة سلبية، بأن يتركوا لغيرهم أن يقرر بالنيابة عنهم. مثال ذلك أن ينهي الشخص علاقة غير مرضية بأن يتصرف لا شعوريا بطريقة تحمل الآخر على اتخاذ قرار الهجر. في مثل هذه الحالات تكون المحصلة النهائية (وهي انحلال العلاقة) قد أنجزت. غير أن هذه الطريقة قد توقع المريض في مضاعفات سلبية كثيرة، ولا يجني من ورائها إلا تدعيم إحساسه بالعجز وقلة الحيلة، ويظل يشعر أنه كائن تحدث له الأشياء وتتقاذفه الظروف، بدلا من أن يحس أنه واضع دستور حياته وصانع مواقفها. من ذلك يتبين لنا أن «الأسلوب» الذي يتخذ به المرء قرارا ما قد لا يقل أهمية عن «محتوى» ذلك القرار. ويبقى أن القرار الإيجابي المبادئ هو الذي يعزز قبول المرء لذاته واعتداده بقدرته وملكاته. (3) آليات العلاج النفسي
خير وسيلة نفهم بها آليات المدخل الوجودي هي أن نتأمل الفعالية العلاجية الكامنة في بعض الهموم النهائية. (3-1) الموت والعلاج النفسي
يلعب مفهوم الموت دورا هاما في العلاج النفسي. وذلك بطريقتين مختلفتين:
الأولى:
حين يقع للإنسان وعي زائد بفنائه وتناهيه، ناجم عن مواجهة شخصية مع الموت، فقد يحدث له ذلك تحولا حاسما في منظور رؤيته للحياة ويؤدي به إلى تغير الشخصية.
الثانية:
الموت مصدر أولي للقلق. ولهذا المفهوم متضمنات هامة وعديدة تتصل بالعلاج. (3-2) الموت بوصفه موقفا حديا
الموقف الحدي
boundary situation
هو نوع من الخبرة الملحة التي تقذف بالفرد في مواجهة مباشرة مع موقف وجودي معين.
ولعل مواجهة المرء لموته الشخصي هي أشد المواقف الحدية وأبلغها شأنا. فمثل هذه المواجهة لها من القوة ما يحدث تحولا جسيما في الطريقة التي يعيش بها المرء في العالم. وهناك أمثلة لا تحصى على هذا المبدأ، سواء من الأدب الرفيع أو من الممارسة الإكلينيكية مع مرضى المراحل المتأخرة (يالوم، 1981م، ص160).
وقد سجل يالوم عددا من حالات التغير الشخصي الكبير الذي كان يحدث لمرضى السرطان وهم يواجهون موتهم الخاص (يالوم، 1981م، ص161). كان بعضهم يصرح أنه تعلم ببساطة أن «الوجود لا يمكن أن يسوف»، وأنهم لم يعودوا يرجئون الحياة إلى زمن لاحق في المستقبل. لقد أدرك هؤلاء المرضى أن المرء لا يمكنه أن يعيش بحق إلا في الحاضر. وهذا بالتحديد هو ما يغيب عن المريض العصابي؛ فهو إما مسكون بهواجس الماضي، أو مرعوب بتوقعات المستقبل.
إن مواجهة المرء لأحد المواقف الحدية لتحثه على أن يحصي النعم التي بين يديه، وأن يفتح عينيه من جديد على كل ما هو طبيعي من حوله؛ حقائق الحياة الأولية ... تبدل المواسم ... الرؤية والاستماع واللمس والحب. كم من خبرات غالية في الحياة تفوتها علينا همومنا التافهة وانشغالنا بما لا نملك وخوفنا على وضعنا وهيبتنا.
يتفجع كثير من مرضى المراحل المتأخرة عندما يعاينون نموا شخصيا نابعا من مواجهتهم للموت، ولسان حالهم يقول: «كم هي مأساة أن نكون بحاجة إلى أن ننتظر كل هذا العمر، وأن ينهش السرطان جسدنا كيما نتعلم هذه الحقائق البسيطة».
تلك رسالة فوق العادة موجهة إلى المعالجين. بوسع المعالج أن يستمد منها فعالية كبيرة ليساعد المرضى اليوميين (الذين لا يعانون مرضا جسميا) على أن يزيدوا وعيهم بالموت قبل الأوان المعتاد. وقد استخدم بعض المعالجين - سعيا إلى هذا الهدف - تمارين منظمة كي يواجهوا الفرد بموته الشخصي. ويسجل التراث السيكولوجي كثيرا من ورش العمل الخاصة بوعي الموت (يالوم، 1981م، ص174). وبعض قادة العلاج الجمعي يبدءون خبرة جماعية مختصرة بأن يطلبوا من الأعضاء أن يكتبوا نقش ضريحهم الخاص أو نعيهم الخاص. أو يقدمون تخيلات موجهة يتخيل فيها أعضاء الجماعة موتهم الخاص وجنازتهم. وقد قدم معمل التدريب القومي خبرة «جماعة دورة الحياة»، وفيها يقضي المشاركون وقتا وهم يعيشون ويتحدثون ويلبسون على طريقة المسنين. ويقوم هؤلاء بزيارة مقبرة محلية، ويقومون أيضا بتخيل احتضارهم وتخيل موتهم وجنازتهم.
على أن كثيرا من المعالجين لا يعتقدون في ضرورة هذه المواجهات المصطنعة بالموت ولا ينصحون بها. بل يحاولون في المقابل أن يساعدوا مرضاهم على أن يعاينوا مظاهر الفناء والموت الداخلة في نسيج الحياة اليومية ذاتها.
هناك دلائل واضحة على قلق الموت في كل علاج نفسي لو التفت إليها المعالج والمريض كما ينبغي. فما من مريض إلا ويعاني من ضرب من الفقدان ... فقدان الوالدين، الأصدقاء، الرفاق. الأحلام أيضا يراودها قلق الموت؛ فكل كابوس هو حلم بقلق الموت لم يتم حبكه. كل ما يحيط بنا يذكر بالموت؛ عظامنا ما تلبث أن تصر وتصرف كالبوابة العتيقة، بقع الشيخوخة تنبث في جلدنا، نذهب إلى حفلات قدامى الخريجين فيروعنا كيف كبر الجميع وشاخوا، أطفالنا يكبرون، دورة الحياة تطوقنا.
تسنح للمرء فرصة كبرى لمواجهة الموت عندما يجرب وفاة أحد الأقربين. وقد اقتصر تركيز التراث السيكولوجي التقليدي على جانبين من عمل الحزن
grief work : الفقدان، ثم عملية حل التناقض الوجداني
ambivalence
الذي يضاعف وجع الحزن. غير أن هناك بعدا ثالثا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار؛ ذلك أن وفاة شخص قريب منا تجعلنا نواجه موتنا الشخصي. هذا بطبيعة الحال ما كان يعنيه جون دون
J. Donne
في أبياته الشهيرة:
ومن ثم إياك أن تبعث لتستخبر، لمن تقرع الأجراس؟
4
إنها تقرع لك. (دون، 1952م، ص332).
تختلف نغمة الحزن اختلافا كبيرا بحسب علاقتنا بالفقيد ودرجة قرابتنا له. فوفاة أحد الوالدين تواجهنا بهشاشتنا وقلة منعتنا؛ إذا كان والدانا لم ينقذا نفسيهما فمن ذا الذي ينقذنا؟ كأننا بوفاة الوالدين قد خلي بيننا وبين القبر، وصرنا نحن أنفسنا الحاجز المتبقي بين أولادنا وبين الموت.
أما وفاة الزوج أو الزوجة فيغلب أن تثير الخوف من العزلة الوجودية. فحين نفقد الرفيق الألصق بنا يزداد وعينا بأننا معشر البشر مهما حاولنا أن نتقارب وننصهر ونذرع الوجود مثنى مثنى، ستبقى هناك وحدة أساسية صميمية علينا أن نكابدها. يروي يالوم (1981م، ص168) عن واحد من مرضاه هذا الحلم الذي رآه في الليلة التي علم فيها أن زوجته مصابة بسرطان متأخر: «كنت أعيش في المنزل القديم، المنزل الذي أهل بالعائلة لثلاثة أجيال متتالية. كان هناك مسخ فرانكنشتيني يطاردني في أرجاء المنزل. كنت خائفا مرتاعا. كان المنزل متداعيا خربا، قرميده متفتت، وسقفه يرشح بالماء. الماء المرتشح غمر أمي (كانت والدة المريض قد توفيت قبل ستة أشهر). تعاركت مع المسخ. كان لدي عدد من الأسلحة، اخترت أحدها وهو مقوس النصل ذو مقبض، يشبه المنجل. شرطت المسخ بهذا السلاح ورميت به من السطح فهوى على الرصيف ممدا بلا حراك. لكنه ما لبث أن نهض مرة ثانية وعاد يطاردني خلال المنزل.»
كان أول تداعيات هذا الحلم في ذهن المريض: «أعرف أنني قد شارفت النهاية». من ذلك يتبين بوضوح أن موت زوجته الوشيك قد ذكره أن حياته هي أيضا فانية متناهية، وكذلك جسده (الذي يرمز له في الحلم بالمنزل المتداعي). وقد كان المريض في طفولته يراوده كثيرا هذا المسخ الذي عاد إليه في هذا الكابوس.
يتفنن الأطفال في التعامل مع قلق الموت. ومن أكثر طرائقهم شيوعا في هذا الشأن أن يجسدوا الموت فيصوروه كمخلوق متناه ... مسخ أو رمال
5
أو بعبع وما إلى ذلك. صحيح أن ذلك مفزع جدا للأطفال، غير أنه أقل فزعا من الحقيقة؛ حقيقة أنهم يحملون في داخلهم جرثومة موتهم. فإذا كان الموت ناسوتا ماثلا هناك فربما أمكن مراوغته أو خداعه أو تهدئته .
تتيح معالم الحياة الإنسانية فرصة أخرى للمعالج لتبصرة المريض بالحقائق الوجودية للحياة. فحتى المعالم الحياتية البسيطة، مثل أعياد الميلاد أو الذكرى السنوية، لا تخلو من فعالية علاجية. إنها مظاهر انقضاء ودلائل فوات هي أدعى إلى الألم والحزن (ومن ثم نتناولها كثيرا برد الفعل المعكوس
reaction formation
فنجعلها مناسبات للبهجة والاحتفال).
وتعد الأحداث الحياتية الكبرى، من قبيل تهدد المهنة أو المرض الشديد أو التقاعد أو تكريس علاقة أو فسخ علاقة، كلها مواقف حدية هامة، وكلها تتيح فرصا لزيادة وعينا بالموت. إنها تجارب مؤلمة في أغلب الأحيان بحيث تحمل المعالجين على التركيز الكلي على إزالة الألم. غير أنهم إذ يفعلون ذلك يفوتون فرصا ثمينة للعمل العلاجي العميق لا تسنح إلا في مثل هذه اللحظات. (3-3) الموت كمصدر أولي للقلق
الخوف من الموت هو مصدر أولي للقلق ومنبع أم. فهو يبدأ في مرحلة مبكرة من الحياة، ويلعب دورا كبيرا في تشكيل بنية الشخصية. ويظل طوال العمر يولد القلق الذي يؤدي بدوره إلى الألم الظاهر وإلى تكوين الدفاعات النفسية الباطنة. غير أننا يجب أن نعلم أن قلق الموت، رغم شموليته واتساع آثاره، يقبع في المستويات الأعمق من وجودنا، وأنه يكبت بشدة، ونادرا ما نجربه بمعناه الكامل، وقلما يظهر بوضوح في الصورة الإكلينيكية. ومن ثم فهو قلما يصبح موضوعا صريحا في جلسات العلاج، وبخاصة العلاج القصير الأمد. إلا أننا لا نعدم من المرضى من هو مغمور بهذا الصنف من القلق بشكل صريح منذ بداية العلاج. فهناك كثير من المواقف الحياتية التي تدهم المريض بقلق الموت بحيث لا يجد المعالج بدا من تناوله. أما في سياق العلاج المكثف الطويل الأمد فإن قلق الموت يتبدى دائما بشكل سافر ويفرض نفسه على العمل العلاجي.
القلق في الإطار الوجودي وثيق الصلة بالحياة ولصيق بالوجود، بحيث ينأى بمفهومه عن مفهوم القلق في أي إطار مرجعي آخر. فالطريف أن المعالج الوجودي لا يعمد إلى استئصال القلق! (اللهم إلا الدرجات الزائدة المعطلة منه). فالحياة لا يمكن أن تعاش بلا قلق (ولا الموت يمكن أن يواجه بلا قلق). إن مهمة المعالج، كما يذكرنا مايو (1977م، ص374)، هي أن يخفض القلق إلى مستويات محتملة، لكيلا يلبث أن يوظفه ويستخدمه استخداما بناء كمرشد ودليل ووسيلة يزيد بها وعي المريض وحيويته.
ثمة حقيقة هامة يجب أن نحفظها جيدا؛ فرغم أن قلق الموت قد لا يكون داخلا في الحوار العلاجي بشكل صريح، فإن وجود نظرية في القلق مبنية على الوعي بالموت، قد تمد المعالج بإطار مرجعي أو نظام تفسيري يعزز تأثيره ويرفع كفاءته بدرجة كبيرة. فكل من المعالج والمريض يريد أن يسلك الأحداث في تسلسل مترابط. وما إن يتسنى ذلك حتى يغمر المعالج شعور بالتحكم والتمكن يسمح له بتنظيم المادة الإكلينيكية. إن ثقة المعالج بنفسه وشعوره بالتمكن سيعزز - ولا شك - ثقة المريض في العملية العلاجية، وهو شرط ضروري للعلاج. زد على ذلك أن النظام الاعتقادي للمعالج كثيرا ما يساعد على إبقاء المريض والمعالج لصيقين ملتئمين فيما تنمو وتزدهر الأداة الحقيقية للتغيير، ألا وهي العلاقة العلاجية.
إن النظام الاعتقادي للمعالج يمده بنسق معين يتيح له أن يعرف ماذا يريد أن يستكشف بحيث لا يصبح المريض مرتبكا مشوشا. وهو إن كان لا ينتهي إلى تفسيرات صريحة كاملة للجذور اللاشعورية لمشكلة المريض، إلا أنه قد يبث، بحذق وتوقيت مناسب، تعليقات تمس المكنون اللاشعوري للمريض، وتجعله يشعر بأن هناك من يفهمه. (3-4) العزلة الوجودية والعلاج النفسي
يكتشف المرضى في العلاج النفسي أن العلاقات الشخصية قد تخفف وطأة العزلة ولكنها لا يمكن أن تمحوها. ويتعلم المرضى الذين يمارسون النمو في العلاج النفسي مردود الألفة وحدودها أيضا! أي ما لا يمكن أن يأخذوه من الآخرين.
إنها لخطوة كبرى في العلاج النفسي أن نحث المرضى أن يتجهوا مباشرة إلى العزلة الوجودية ولا يراوغوها. وأن ينغمدوا ببسالة في مشاعر الوحدة والتيه. إن الذين يفتقرون في حياتهم إلى خبرات الألفة الحقة والعلاقة الأصيلة هم العاجزون بخاصة عن تحمل العزلة. وقد أثبت أوتو ويل أن المراهقين الذين ينشئون في أسر تعهدتهم بالحب والمساندة يكونون أقدر على تركها وتحمل البعد والوحدة إذا ما أزف وقت الانفصال عنها في مقتبل الشباب. بينما يجد الذين نشئوا في أسر معذبة مفككة صعوبة كبيرة في ترك الأسرة. ربما يبتدر إلى توقعنا أن هؤلاء المعذبين أجدر بهم أن يهللوا ويبتهجوا إذ يستشرفون مرحلة التحرر والانعتاق من مثل هذه الأسر. ولكن العكس هو ما يحدث. فكلما ساءت الأسرة واضطربت تعذر على الأبناء تركها. لكأن هؤلاء الأبناء لم تحسن الأسرة تجهيزهم للانفصال، ومن ثم فهم يتشبثون بها كدريئة تقيهم ألم العزلة والقلق.
يجد كثير من المرضى صعوبة هائلة في قضاء الوقت بمفردهم. وهم بالتالي ينظمون برنامج حياتهم بحيث يقصون أي وقت للوحدة. ومن المشاكل الجسيمة التي تتبع ذلك أنهم يستميتون في التماس ضروب معينة من العلاقات. إنهم بطريقة أو بأخرى لا يرتبطون بالشخص الآخر بعلاقة أصيلة ولا يكنون له حبا حقيقيا، بل يستعملون الآخرين لكي يتجنبوا بعض الألم المصاحب للعزلة. وعلى المعالج أن يجد طريقة يساعد بها المريض على مواجهة الوحدة بتدرج مناسب، وفي ظل نظام من الدعم والمساندة ملائم لذلك المريض. وينصح بعض المعالجين مرضاهم في مرحلة متقدمة من العلاج بأن يلزموا أنفسهم بفترات من الوحدة، أو يصفون لهم جرعات زمنية من العزلة يفرضونها على أنفسهم فرضا، ويرصدون أثناءها أفكارهم ومشاعرهم ويسجلونها. (3-5) اللامعنى والعلاج النفسي
لكي يتمكن المعالجون من تناول اللامعنى بكفاءة واقتدار، يجب عليهم أولا أن يزيدوا حساسيتهم لهذا الموضوع ... أن يصغوا بطريقة مختلفة ... أن يصبحوا على وعي ودراية بأهمية المعنى في حياة الأفراد. قد تكون هذه المشكلة غير محورية عند بعض المرضى. ولكن هناك من المرضى من يكون إحساسهم باللامعنى عميقا غامرا. وقد قدر يونج يوما أن أكثر من ثلاثين بالمائة من مرضاه يطلبون العلاج بسبب إحساسهم بخلو حياتهم من المعنى.
6
يجب أن يرهف المعالج حسه لالتقاط البؤرة الإجمالية والوجهة العامة لحياة المريض. هل هذا المريض يتجاوز نفسه ويتناول باهتمامه أشياء تتخطى ذاته؟ يروي يالوم (1981م) أنه كان يعالج كثيرا من الشبان المنغمسين في أسلوب حياة العزاب بكاليفورنيا، والذي يتميز إلى حد كبير بالحسية والصخب الجنسي والسعي إلى الوضع المرموق والأهداف المادية. يذكر يالوم أن علاجه قلما كان يفيد ما لم يتمكن من إقناع المريض أن يركز على شيء ما يتجاوز هذه الأهداف.
بمجرد أن ينجح المعالج في أن يزيد حساسية مرضاه لهذه المسائل، يستطيع أن يعينهم على أن يركزوا على قيم تتجاوز أنفسهم. يستطيع مثلا أن يبدأ في سؤال المريض عن أنظمته الاعتقادية، ويتقصى بعمق مسألة حبه لشخص آخر، ويستعلم عن آماله وأهدافه البعيدة المدى، ويستكشف اهتماماته ومساعيه الإبداعية.
يقول فيكتور فرانكل، وهو خير من عرف للمعنى أهميته في السيكوباثولوجيا المعاصرة: «السعادة تأتي ولا يؤتى بها.»
فكلما التمسنا الإشباع الذاتي عن عمد وقصد راوغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر. ويرى فرانكل أن هذا يعني بعض المرضى يجب أن نحثهم على أن يصرفوا نظرهم عن أنفسهم. وهو ما يسميه فرانكل «خفض التفكر»
dereflection .
يجب أن يجد المعالجون طريقة تنمي في مرضاهم شيئا من الشغف بالآخرين والاهتمام بهم. ولعل العلاج الجمعي أنسب وسط يمكن أن تتم فيه هذه المحاولة. ولنضرب مثلا بالمرضى النرجسيين المنغمسين بذاتهم. إن الأسلوب الذي به يأخذون دون أن يعطوا يصبح ساطع الوضوح في العلاج الجمعي. في مثل هذه الحالات يجمل بالمعالج أن يزيد ميل الفرد وقدرته على أن يشارك الآخرين وجداناتهم بأن يطلب من المرضى من حين لآخر أن يحدسوا بما يشعر به الآخرون إبان التقلبات المختلفة في مسيرة الجماعة.
ويبقى الحل الأمثل لمشكلة اللامعنى هو المشاركة. فالمشاركة المخلصة في أي نشاط من أنشطة الحياة التي لا تحصى يعزز احتمال أن يسلك الفرد أحداث حياته في شكل متسق ما. أن تجد بيتا، أن تهتم بأفراد آخرين، أن تهتم ببعض الأفكار والمشروعات، أن تبحث، أن تبدع، أن تبني. لكل هذه الأشياء ولغيرها من صور المشاركة جزاء مضاعف. فهي تثري حياة الفرد داخليا، وتذهب عنه الضيق والكرب الناجم عما يمطره به الوجود من معطيات خام متشظية لا ينتظمها شكل ولا يأتلفها معنى.
يجب أن يتناول المعالج مسألة المشاركة بنفس التوجه الموقفي الذي يستخدمه بشأن الرغبة. فليس بمقدور المعالج أن يخلق المشاركة أو يبث في المريض روح المشاركة، ولا هذا بالشيء الضروري. فالحق أن الرغبة في المشاركة في الحياة هي دائما كامنة بالمريض، وما على المعالج إلا أن يزيل من دونها العوائق، فيشرع في استكشاف ماذا يمنع المريض من أن يحب شخصا آخر؟ لماذا لا يجد رضا وإشباعا في علاقته مع الآخرين؟ لماذا لا يجد إشباعا في عمله؟ ماذا يصده عن أن يبحث عن عمل على مقاس مواهبه واهتماماته؟ أو أن يجد بعض الجوانب السارة في عمله الحالي؟ لماذا أهمل السعي الإبداعي والكدح الديني والأهداف المتجاوزة لذاته؟
الفصل السادس
تطبيقات
«هناك وحش أقبح وأخبث وأقذر منها جميعا،
وإن كان لا يطلق حركات كبيرة ولا صيحات شديدة،
ولو شاء لجعل الأرض حطاما وابتلع العالم في تثاؤبة واحدة.
إنه السأم؛ هذا المسخ الرقيق الذي يحلم بالمقاصل وهو يدخن نارجيلته، وفي عينيه دمعة تمتلئ بها رغما عنه.»
بودلير، إلى القارئ، أزهار الشر
في كثير من الأحيان تكون طبيعة الموقف العلاجي هي التي تملي المدخل العلاجي الأنسب لها. وهي قاعدة تنسحب بدورها على العلاج الوجودي. وعلى المعالج في كل برنامج علاجي أن يحدد أهدافه المرجوة وفق ما يقتضيه الموقف العلاجي. ففي الحالات الحادة، على سبيل المثال، حيث يقيم المريض في المستشفى أسبوعا أو اثنين، تكون غاية المعالج هي التدخل السريع لتخفيف الأعراض وإعادة المريض إلى مستوى أدائه السابق على الأزمة. ومن غير الواقعي وغير المناسب في هذا المقام أن يطمح المعالج إلى غايات أبعد أو أهداف أعمق (كأن يزيد وعي المريض بالصراعات الوجودية ).
أما في المواقف التي لا يقنع فيها المريض بإزالة الأعراض بل يصبو إلى تحقيق مزيد من النمو الشخصي، فإن المدخل الوجودي يكون خيارا مفيدا. ويعد المدخل الوجودي الدقيق بأهدافه الطموحة هو أنسب المداخل في العلاج الطويل الأمد. بل إن العلاجات القصيرة الأمد لا تستغني في أغلب الأحيان عن بعض العناصر الوجودية؛ من مثل التأكيد على المسئولية، والقرار، والمواجهة الأصيلة بين المعالج والمريض ، وعمل الحزن ... وما إلى ذلك.
وتمس الحاجة إلى المدخل الوجودي حين يكون المريض مواجها لأحد المواقف الحدية؛ كأن يكون في مواجهة مع الموت، أو في مواجهة قرار مصيري، أو حين تلقي به الظروف في عزلة مفاجئة، أو حين يمر بمعالم حياتية تمثل نقاط تحول كبرى وانتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة جديدة (مثل ترك الأبناء بيت العائلة، ومثل التقاعد، والفشل المهني، والانفصال الزوجي، والطلاق، والمرض الجسيم). غير أن الأمر لا يقتصر على هذه الأزمات الوجودية الصريحة؛ ففي كل برنامج علاجي، كما أشرنا آنفا، هناك أدلة وافرة على معاناة المرضى من كروب ناجمة عن صراعات وجودية لا يفطن لها إلا معالج وجودي اتسعت مداركه وتهيأ توجهه الموقفي لالتقاط مثل هذه المعطيات. ولا يصح العمل العلاجي على هذه المستويات الأعمق إلا بقرار يشترك كل من المعالج والمريض في اتخاذه. (1) التقييم
evaluation
1
تقييم العلاج النفسي مهمة صعبة دائما. وكقاعدة عامة: كلما كان المدخل والأهداف العلاجية أكثر تحددا واقتصارا كانت النتائج أسمح بالقياس وأيسر في التقييم. فبمقدور المرء أحيانا أن يقيس زوال الأعراض وتغير السلوك الظاهر بدقة كبيرة. ولكن العلاجات الأكثر طموحا، والتي تستهدف من الفرد الطبقات الأعمق من نمط وجوده في العالم، هي علاجات تتأبى على القياس وتند عن التكميم
quantification . وفيما يلي عرض موجز لحالتين أوردهما يالوم (1981م) تتمثل فيهما مشاكل التقييم بجلاء ووضوح.
الأولى: امرأة في السادسة والأربعين ترافق أصغر أبنائها الأربعة إلى المطار حيث يرحل عنها إلى الجامعة. لقد قضت هذه المرأة أعوامها الستة والعشرين الأخيرة تربي أبناءها وتتوق إلى هذا اليوم. لا أعباء بعد الآن ولا مكابدة من أجل الآخرين، ولا إلحاح طهي، ولا تجهيز ملابس ... أخيرا أصبحت حرة.
غير أنها لم تكد تودع ولدها حتى بدأت تنشج بحرقة على غير توقع. وفي طريقها من المطار إلى البيت غشيتها رعدة عميقة أخذت بمجامع جسدها. حدثت نفسها: «هذا أمر طبيعي ... إنه جزع الفراق ... فراق واحد من أعز الأحبة». غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. فسرعان ما تحولت الرعدة إلى قلق دائم لا يشفى ولا يندمل. واستشارت معالجا شخص حالتها تشخيصا شائعا: «متلازمة - أو زملة - العش الخالي»
empty nest syndrome . طبيعي أن تكون قلقة. وكيف لا وقد أسست ثقتها واعتبارها طيلة سنوات على أدائها كأم، وفجأة فقدت هذا الأساس وتغير برنامج يومها المألوف وشكل حياتها المعتاد؟ كان هذا تشخيص المعالج الذي مد إليها يد العون. وشيئا فشيئا، وبمساعدة الفاليوم، والعلاج التدعيمي، وجماعة التدريب على تأكيد الذات، وعدد من الدراسات الحرة، ورفيق أو اثنين، وعمل تطوعي نصف وقتي ... انخفضت الرعدة إلى رعشة خفيفة ما لبثت أن زالت تماما. وعادت صاحبتنا إلى سكينتها الماضية وتكيفها السابق.
وتصادف أن تكون هذه المريضة جزءا من مشروع بحث علمي عن العلاج النفسي. فطبقت عليها القياسات النفسية المتعلقة بالنتائج العلاجية. ويمكن أن نصف نتائج علاجها بأنها كانت ممتازة على جميع المقاييس المستخدمة: مقياس قوائم الأعراض، تقييم المشكلة المستهدفة، مقياس اعتبار الذات ... واضح أنها حققت تحسنا عظيما.
رغم كل ذلك، يمكننا أن نقول بكل الثقة: إننا نعتبر هذه الحالة واحدة من الحالات التي فاتتها الفرصة العلاجية الحقيقية، ونعتبر هذا العلاج واحدا من العلاجات واحدا من العلاجات التي أخطأت المرمى!
ولننعم النظر في حالة مريضة أخرى تمر بنفس الموقف الحياتي ونفس الظروف والملابسات على نحو يكاد يكون صورة طبق الأصل. في هذه الحالة الثانية عمد المعالج - وكان ذا توجه وجودي - إلى تعزيز الرعدة لا تخديرها. كانت هذه المريضة تمر بما أسماه كيركجارد «القلق الإبداعي». وقد شاء كل من المعالج والمريضة أن يدعا القلق يقودهما إلى أصقاع هامة للبحث والاستقصاء. حقا كانت هذه المريضة تعاني من متلازمة (زملة) العش الخالي، ومن مشاكل اعتبار الذات، وكانت تحب ولدها، وإن كانت أيضا تحسده على الفرص الحياتية التي لم تتح لها أبدا. وبطبيعة الحال كانت تشعر بالذنب إزاء هذه الوجدانات الوضيعة.
لم يكن هذا المعالج يقنع بالحل اليسير فيدبر لها طرقا تساعدها على ملء وقتها الشاغر. بل انطلق في استكشاف لمعنى الخوف من العش الخالي. لقد كانت دائما تتوق إلى الحرية، فما بالها الآن فزعة منها؟ ما السبب؟
شاء حسن الطالع أن يضع في يد المعالج هذا الحلم الذي أضاء له معنى الرعدة. روت المريضة أنها رأت في المنام أنها تمسك بشريحة فوتوغرافية مقاس 35 ميليمترا تصور ولدها وهو يتلاعب بالكرات كالحاوي ويتشقلب كالبهلوان. وجعلت تتأمل الشريحة ببساطة وحسن نية. إلا أنها كانت صورة غير عادية، إذ كانت تبرز الحركة. لقد شهدت ولدها في أوضاع حركية عديدة في نفس الوقت. وفي تحليل الحلم كانت تداعياتها الذهنية تدور حول تيمة «الوقت» ... «الزمن». كانت الصورة تقبض على الزمن والحركة وتؤطرهما. كانت تحفظ كل شيء حيا؛ ولكنها توقف كل شيء أيضا وتثبته. كانت تجمد الحياة. «الزمن يتحرك»، قالت: «ولا سبيل إلى إيقافه؛ لم أرد جون أن يكبر ... سواء أردت ذلك أم لم أرد فالوقت يتحرك ... يتحرك بالنسبة لجون ويتحرك بالنسبة لي أيضا.»
التناهي ... الفناء ... هو موضوع هذا الحلم. لقد وضع لها تناهيها في بؤرة واضحة. وبدلا من أن تهرع إلى شغل الوقت بشتى التلهيات فقد تعلمت أن تعرف للوقت قيمته وتقدره حق قدره كما لم تفعل من قبل. لقد دخلت في النطاق الذي وصفه هيدجر ب «الوجود الأصيل»
authentic being
وأخذها الدهش، لا للطريقة التي توجد بها الأشياء، بل بالأحرى لوجود الأشياء على الإطلاق ... الوجود ذاته.
يستطيع المرء أن يبرهن بالحجة على أن المريضة الثانية قد أفادت من العلاج أكثر مما أفادت المريضة الأولى. ولكن من غير المتاح أن يثبت هذه النتيجة بأي مقياس معياري للمآل. لعل المريضة الثانية قد بقي لها من القلق أكثر مما بقي للمريضة الأولى. ولكن القلق جزء من الوجود، ولن يتسنى لأي فرد آخذ في النمو والإبداع أن يتحرر منه أبدا. (2) العلاج
يجد العلاج الوجودي مجاله ويصول صولته في المشهد العلاجي الفردي بالدرجة الأساس. غير أن كثيرا من التيمات والبصائر الوجودية قد تطبق بنجاح في كافة المواقف العلاجية الأخرى بما فيها العلاج الجمعي والعلاج الأسري وعلاج الأزواج، وغيرها.
ويحظى مفهوم المسئولية على وجه الخصوص بقابلية واسعة للتطبيق، فهو عماد العملية العلاجية الجمعية. يقوم العلاج الجمعي أساسا على العلاج البينشخصي. فالشكل الجمعي هو المضمار المثالي لاختبار شتى صور السلوك اللاتكيفي وتصحيحها. ولكن تيمة المسئولية تبقى دائما أساسا وطيدا لكثير من العمل البينشخصي. ولنتفحص على سبيل المثال هذا التتابع الذي يحاول خلاله المعالجون الجمعيون، بشكل صريح أو ضمني، أن يوجهوا مرضاهم: (1)
يتعرف المرضى كيف ينظر الآخرون إلى سلوكهم (يتعلم المرضى خلال التغذية الراجعة
feed-back
من باقي أعضاء الجماعة أن يروا أنفسهم بعيون الآخرين). (2)
يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم على شعور الآخرين (خلال مشاركة الأعضاء بعضهم بعضا استجاباتهم الوجدانية الشخصية). (3)
يتعرف المرضى كيف يشكل سلوكهم آراء الآخرين فيهم (يتعلم الأعضاء عن طريق مشاركة مشاعر «هنا والآن» أن الآخرين يكونون آراء معينة عنهم وفق سلوكهم). (4)
يتعرف المرضى كيف يؤثر سلوكهم في آرائهم عن أنفسهم (فالمعلومات المحصلة من الخطوات الثلاث الأولى تؤدي بالمريض إلى صياغة تقييمات معينة عن نفسه).
تبدأ كل خطوة من هذه الخطوات الأربع - كما نرى - بسلوك المرضى ذاته. ذلك السلوك الذي يؤكد دورهم في تشكيل العلاقات البينشخصية. والنقطة الأخيرة في هذا التتابع هي أن أعضاء الجماعة يبدءون في استيعاب أنهم مسئولون عن الطريقة التي يعاملهم بها الآخرون، بل أيضا عن الطريقة التي يقيمون بها أنفسهم.
هذه إحدى الجوانب الرائعة للعلاج الجمعي: كل الأعضاء يولدون معا ... ينطلقون من خط بداية واحد. كل عضو يفرغ لنفسه مكانا في الجماعة ويضع لهذا المكان شكله الخاص. بذلك يكون كل عضو مسئولا عن الوضع البينشخصي الذي أفرغه لنفسه في الجماعة (وبالتالي في الحياة أيضا).
2
العمل العلاجي الجمعي إذن لا يتيح للأفراد فحسب أن يعيروا أسلوب علاقتهم بعضهم ببعض، بل يكشف لهم أيضا بقوة ووضوح إلى أي حد كانوا هم أنفسهم مساهمين في خلق مأزقهم الحياتي الخاص، وهو كما نرى ميكانيزم علاجي وجودي واضح.
وكثيرا ما يستخدم المعالج مشاعره الخاصة لكي يستبين مدى إسهام المريض في خلق مأزقه الحياتي الخاص. ولنضرب لذلك المثال التالي:
هذه مريضة بالاكتئاب في الثامنة والأربعين من عمرها، كانت تشكو بمرارة سوء معاملة الأبناء لها. كان أبناؤها لا يحفلون برأيها، وكانوا يضجرون منها ، وحين يحزب أمر يتوجهون بحديثهم إلى أبيهم. عندما أرهف المعالج انتباهه إلى أحاسيسه تجاه هذه المريضة تبين في صوتها نبرة ناحبة تهيب به ألا يأخذ كلامها مأخذ الجد، وأن ينظر إليها كطفلة بشكل ما. وقد أفضى إليها بهذه المشاعر فعاد عليها ذلك بفائدة عظيمة، وبدأت تفطن إلى طفولية سلوكها في مجالات كثيرة، وتدرك كيف أن أبناءها كانوا يعاملونها بالضبط كما كانت «تطلب» هي أن تعامل (تطلب ذلك ضمنا خلال نحيب صوتها وأعذارها القائمة على الضعف واكتئابها ومسكنتها).
كثيرا ما يواجه المعالجون حالات مرضى مصابين بهلع بسبب أزمة قرار يمرون بها. يصف يالوم (1981م) طريقة علاجية لتناول مثل هذا الموقف. تتمثل الخطة الأساسية للمعالج في كشف النقاب عن المتضمنات الوجودية للقرار وتقييمها. كانت مريضة يالوم أرملة في السادسة والستين من عمرها. جاءت تلتمس العلاج إذ كانت حائرة مكروبة بسبب أزمة قرار. كان لديها منزل صيفي تريد بيعه ولكنها عاجزة عن اتخاذ قرار البيع. كان هذا المنزل يبعد مائة وخمسين ميلا عن محل إقامتها الدائم. وكان يتطلب عناية دائمة وانتباها مستمرا لرعاية الحديقة والصيانة والحماية، مما يشكل عبئا كبيرا على امرأة واهنة مسنة. وكان للاعتبارات المالية دخل أيضا في هذا القرار. وقد سألت كثيرا من الماليين والعقاريين أن يقدموا لها العون في اتخاذ الرأي.
شرع المعالج والمريضة يستكشفان كثيرا من العوامل الداخلة في القرار. ثم أمعنا في الاستكشاف إلى عمق أكبر. وفي الحال بزغ عدد من الأمور المؤلمة: كان زوجها قد توفي قبل عام وكانت لا تزال في حداد عليه. وكان المنزل لا يزال يغنى بحضوره، والأدراج والخزانات تعج بممتلكاته الشخصية. كان قرار بيع المنزل يستلزم قرارا آخر بأن تستوعب المرأة حقيقة أن زوجها لن يعود أبدا. وثمة عامل آخر هو القيمة الترفيهية للمنزل. لقد طالما أسمته فندقها؛ لأنها كانت تستضيف فيه دائما أعدادا كبيرة من الناس. كانت السيدة تعتبر المنزل هو «ورقتها الرابحة»، وقد بدأت تداخلها شكوك كبيرة فيما إذا كان أحد سوف يظل يزورها دون إغراء عقارها الجميل. كان قرار البيع إذن يطوي داخله امتحانا لإخلاص أصدقائها وولائهم، ومجازفة قد تورث الوحدة والعزلة. وكان هناك سبب بعد يتمركز على مأساة حياتها الكبرى؛ فقد كانت هذه السيدة بتراء لا أبناء لها. وقد طالما تخيلت العقار ينتقل إلى أولادها وأولاد أولادها. إلا أنها كانت الورقة الأخيرة ونهاية الخط. بذلك يكون قرار بيع المنزل بمثابة اعتراف بفشل مشروعها الأكبر للخلود الرمزي. لقد استخدم المعالج قرار بيع المنزل كنقطة انطلاق إلى هذه المسائل الأعمق، وتمكن في النهاية أن يساعد هذه السيدة على أن تندب زوجها ونفسها وأولادها الذين لم يولدوا.
ما إن يتم التناول الاستيعابي للمعاني الأعمق لقرار ما حتى ينزلق القرار بذاته بتلقائية ويسر. وفي حالة مريضتنا هذه فقد استطاعت بعد حوالي اثنتي عشرة جلسة أن تتخذ قرار البيع دون جهد. (3) إدارة العلاقة العلاجية
العلاج الوجودي هو نموذج إرشادي
paradigm
أو إطار مرجعي
frame of reference
وليس تنظيما ذا قواعد محددة المعالم. وهذا ما يجعل ترتيبات الممارسة اليومية الخاصة به شيئا يصعب تحديده. فهي تتباين تباينا كبيرا وتتوقف على انتماء المعالج الأيديولوجي والتنظيمي.
يسعى المعالجون ذوو التوجه الوجودي لتحقيق علاقات مع مرضاهم تتسم بالصدق والمكاشفة المتبادلة. وهم وفق ذلك ينظمون المشهد العلاجي. فلا مناضد تقف بين المريض والمعالج، ولا حوائط مغطاة بشهادات توحي بالسلطة. يتخاطب المعالج والمريض بندية وبالاسم الأول لكليهما. يحاول المعالج جهده أن يخفض الغموض والسرية في العملية العلاجية، ويجيب عن الأسئلة بصراحة وتمام، لا أن يبقى جامدا في محاولة لإثارة التحريفات الطرحية.
تؤدي العلاقة بين المعالج والمريض وظائف مركزية كثيرة في العلاج. فهي مثلا تساعد المريض على أن يجلو علاقاته الأخرى ويخلصها من الشوائب. فجميع المرضى تقريبا يحرفون جانبا من علاقتهم بمعالجتهم. وبوسع المعالج، إذ يمتح من معرفته بنفسه وخبرته برأي الآخرين فيه، أن يساعد المريض على أن يميز بين الواقع والتحريف.
هناك أيضا فائدة كامنة فيما ينهجه المدخل الوجودي من دفع المريض إلى إقامة علاقة حقيقية مع المعالج (كنقيض لعلاقة الطرح). فما إن يصبح المريض قادرا على أن يقيم علاقة عميقة بالمعالج حتى يكون ذلك شهادة على أنه قد تغير. إنه ليتعلم أن إمكانية الحب تكمن داخله، وتعوده مشاعر كانت هاجعة فيه. ولا ضير أن تكون صلته بالمعالج عابرة مؤقتة؛ فخبرة الألفة هي خبرة باقية لا يمكن أن تسلب أو تنتزع. فهي تبقى في عالمه الداخلي كنقطة مرجعية دائمة وعلامة تذكره بقدرته على الاقتراب الحميم، وقابليته للود والألفة.
إن لقاء حميما مع معالج هو خبرة تحمل للمريض ما لا تحمله علاقاته بسائر الناس. فالمعالج أولا: هو شخص يكن له المريض احتراما خاصا. والمعالج ثانيا: وهو الأهم، هو شخص (ربما الوحيد) يعرف المريض معرفة حقة ... يعرفه كما هو بالفعل. فأن تفضي إلى شخص بأدق أسرارك وأفحش أفكارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولا من جانبه؛ تلك خبرة إيجابية إلى أقصى حد.
ثمة خلاف كبير حول طبيعة العلاقة المثالية التي ينبغي أن تكون عليها علاقة المعالج والمريض. فالمعالج لا يخلو عالمه من غضاضة ليس منها بد؛ إن مفاهيم مثل: جلسات مدتها خمسون دقيقة، كذا جنيها في الساعة، الدفع عند طرف ثالث؛ لا شك غير مريحة ولا تتسق مع تصورنا المعتاد للعلاقة الراعية الأصيلة. زد على ذلك أن علاقة «المعالج-المريض» تفتقر تماما إلى صفة التبادلية؛ فالمريض هو الذي يذهب إلى المعالج طلبا للعون، بينما المعالج لا يذهب إلى المريض.
يؤكد جميع المفكرين الوجوديين من أمثال إريك فروم
E. Fromm
3
وأبراهام ماسلو
A. Maslow
ومارتن بيوبر
M. Buber
أن العناية الحقيقية بشخص آخر تعني أن نهتم بنمو هذا الآخر وأن نحيي فيه شيئا ما. إن مبرر وجود المعالج هو أن يكون «قابلة»
midwife
يولد في المريض تلك الحياة التي لم يعشها بعد.
ويستخدم بيوبر مصطلح «البسط»
unfolding
بوصفه السبيل التي يجب أن يسلكها كل من المعلم والمعالج. ويعني البسط أن يرفع المرء النقاب عما كان هناك طيلة الوقت. ويعج مصطلح «البسط» بتضمينات ثرية، ويقف على نقيض تام من أهداف المعالجين من المدارس الأخرى (مثل إعادة البناء، فض الإشراط، التشكيل السلوكي، الوالدية المعادة). يساعد المعالج مريضه على أن ينبسط بواسطة التلاقي ... التواصل الوجودي. فالمعالج ليس مشكلا ولا موجها، بل هو على حد قول سكوين
Sequin «كاشف إمكانيات»
، (1965م، ص123).
ربما يكون أهم المفهومات قاطبة في وصف علاقة «المعالج-المريض» هو ما أسماه رولو ماي وآخرون (1958م) بالمواكبة أو الحضور
presence . فالمعالج يجب أن يواكب المريض وأن يسعى نحو علاقة أصيلة به. وحتى لو كان المعالج يقضي معه ساعة واحدة كل أسبوع فإن من الأهمية بمكان أن يكون المعالج «هناك» طيلة هذه الساعة؛ أن يكون حضوره تاما مليئا، ومشاركته مركزة مكثفة. أما إذا أخذه السأم والضجر والغفلة عن مريضه، أو كان يترقب انتهاء الساعة بصبر نافد؛ فإنه يفشل بنفس الدرجة في أن يمد المريض بالعلاقة التي هو في أمس الحاجة إليها. (4) مثال من حالة مرضية (4-1) حالة طلاق بسيطة
إنها حالة أحد العلماء، وهو في الخمسين من عمره، وسنسميه ديفيد. كان متزوجا طوال سبعة وعشرين عاما. وقد قرر حديثا أن ينفصل عن زوجته. تقدم ديفيد للعلاج بسبب القلق الذي كان يساوره وهو يترقب مواجهة زوجته بهذا القرار.
يعد هذا الموقف من أوجه عديدة سيناريو نموذجيا لمنتصف العمر. كان للمريض ولدان أتما تعليمهما وتخرج أصغرهما توا في الجامعة. كان الأبناء من وجهة نظره هم العنصر الوحيد الذي يربطه بزوجته، وها قد أصبحوا في كامل النضج والاعتماد على النفس، ولم يعد هناك ما يبرر استمرار الزواج. يروي ديفيد أنه لم يكن قط قانعا بزواجه طوال هذه السنوات. وقد سبق له أن ترك زوجته ثلاث مرات، ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيته بعد أيام قليلة خزيان منكسرا. وانتهى إلى قناعة أن زواجه على رداءته وسوئه كان أهون على كل حال من حياة الوحدة.
كان السبب الأساسي لتعاسته الزوجية هو الملل. لقد التقى بزوجته وهو في السابعة عشرة من عمره، في وقت كان فيه عديم الثقة بنفسه، خاصة في علاقته بالنساء. كانت زوجته أول امرأة في حياته تبدي اهتماما به. ينحدر ديفيد - وكذلك زوجته - من عائلة من الطبقة الكادحة. كان موهوبا ذهنيا بدرجة غير عادية، وأول فرد من عائلته يلتحق بالجامعة. فاز ديفيد بمنحة دراسية بإحدى الكليات النظرية. وحصل على درجتين من الدراسات العليا. وانطلق في سيرة بحثية أكاديمية بارزة. لم تكن زوجة ديفيد موهوبة ذهنيا، ولم تشأ أن تلتحق بالجامعة. وكانت تعمل في السنوات الأولى من الزواج لتسانده ماديا أثناء دراسته العليا.
كانت الزوجة مكبة معظم الوقت على رعاية الأبناء، بينما كان ديفيد يواصل مسيرته المهنية بشدة وعرامة. كان دائم الملل من صحبتها ودائم الإحساس بخواء علاقتهما الزوجية. فهي في رأيه متواضعة الذهن للغاية ومحدودة الآفاق؛ بحيث يبرم من الانفراد بها ويتحرج أن يقدمها لأصدقائه. كان يحس أنه يتحول وينمو بلا توقف، بينما هي تزداد على الأيام تصلبا وجمودا وعجزا عن تقبل الأفكار الجديدة.
ويتم السيناريو المعهود لرجل في أزمة منتصف العمر ينشد الطلاق، بظهور «المرأة الأخرى»؛ كانت امرأة ذكية جذابة مفعمة بالحيوية، تصغره بخمسة عشر عاما.
كان علاج ديفيد طويلا معقدا برزت أثناءه تيمات وجودية عديدة.
من هذه التيمات تيمة «المسئولية». فقد كانت المسئولية مسألة على جانب كبير من الأهمية في قراره ترك زوجته. هناك أولا المعنى الأخلاقي للمسئولية. إن زوجته، بعد كل شيء، هي التي أولدته أولاده وربتهم، ودعمته ماديا خلال دراسته العليا. أما باعتبار السن فهو الآن بالمقارنة بزوجته يعد أكثر رواجا بكثير. فهو أقدر منها كثيرا على كسب العيش. وهو لا يزال من الوجهة البيولوجية قادرا على إنجاب أطفال وتنشئتهم. السؤال إذن: ما هي مسئولية ديفيد الأخلاقية تجاه زوجته؟
كان لدى ديفيد حس أخلاقي عال كفيل أن يعذبه بقية عمره بهذا السؤال. وكان لا بد لهذا السؤال أن يطرح أثناء العلاج ويمحص. ومن ثم كان لا بد للمعالج أن يواجه ديفيد صراحة بموضوع المسئولية الأخلاقية أثناء عملية صنع القرار. كانت أفضل طريقة للتعامل مع هذا الكرب التوقعي هي ألا يدخر ديفيد وسعا في محاولة تحسين أوضاعه الزوجية، وبالتالي إنقاذ زواجه.
التحم المفهوم الوجودي للمسئولية بعملية إنقاذ الزواج هذه. وبدأ المعالج يمحص مدى مسئولية ديفيد عن فشل الزواج. فإلى أي حد كان ديفيد مسئولا عن حياة زوجته وشكل وجودها معه؟ لم يكن خافيا على المعالج ما يتمتع به ديفيد من بديهة حاضرة وخاطر سريع رشيق. بل لعل المعالج نفسه كان يحس بشيء من التهيب إزاء عقل ديفيد، وبشيء من الخشية من أن ينتقده ديفيد أو يدينه. فإلى أي حد كان ديفيد انتقاديا مدينا؟ أليس من المحتمل أن هذا الرجل هو الذي سحق زوجته وأخمد جذوتها؟ وأنه كان بإمكانه أن يساعدها على أن تزيد حصيلتها من المرونة والتلقائية والوعي بالذات؟
قام المعالج أيضا بمساعدة ديفيد على استقصاء مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية: هل كان زواج ديفيد مجرد رمز لشيء آخر هو هو مصدر الكرب في حياته؟ هل كان يعلق على شماعة الزواج خيبات تنتمي إلى بقاع أخرى من حياته؟ ما إن بدأ ديفيد يبحث هذه المسألة حتى قاده البحث إلى قلب الديناميات الأزلية لأزمة منتصف العمر. فقد روى ديفيد حلما مهد الطريق إلى بعض الديناميات الهامة: «كان لدي مشكلة بخصوص تميع الأرض بالقرب من حمام السباحة عندي. جون (صديق كان يشارف الموت بالسرطان) يغوص في الأرض. كأنما هي رمال متحركة. أخذت أثقب أسفل الرمال المتحركة بحفار ضخم. كنت أتوقع أن أجد نوعا من الفراغ تحت الأرض، ولكن بدلا من ذلك وجدت لوحا من الأسمنت على بعد خمسة إلى ستة أقدام إلى أسفل. وجدت على اللوح إيصالا نقديا بموجبه دفع لي أحد الأشخاص مبلغ 501 دولار. كنت في الحلم قلقا جدا من أمر هذا الإيصال، لأن المبلغ كان أكبر بكثير مما يحق أن يكون.»
من أهم الموضوعات التي يدور حولها هذا الحلم موضوع الموت والشيخوخة . فهناك أولا مسألة هذا الصديق المصاب بالسرطان. حاول ديفيد أن يعثر على صديقه باستخدام مثقاب ضخم. أحس ديفيد في الحلم شعورا بالتحكم والقوة أثناء عملية الحفر. بدا واضحا أن الحفار رمز قضيبي، وأتاح ذلك استقصاء مفيدا للجانب الجنسي؛ كان ديفيد دائما مدفوعا جنسيا، وقد أوضح الحلم كيف أنه كان يستخدم الجنس (وبخاصة مع امرأة شابة) كوسيلة يتغلب بها على الشيخوخة والموت. وأخيرا يفاجأ باللوح الأسمنتي (الذي يثير تداعيات المشرحة والقبور وأحجار القبور).
وقد أدهشته الصور الرقمية في الحلم؛ فاللوح كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال كان بخمسمائة وواحد دولار بالضبط. وقد قدم ديفيد في تداعياته ملاحظة مثيرة؛ هي أن عمره خمسون عاما، وأن ليلة الحلم كانت ليلة ميلاده الحادي والخمسين. ورغم أنه لم يكن مشغولا بعمره على مستوى الشعور، فقد كشف الحلم أنه كان مهموما على مستوى اللاشعور بكونه قد تجاوز الخمسين. فإلى جانب اللوح الذي كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال الذي تجاوز الخمسمائة دولار توا، كان هناك أيضا قلقه البالغ في الحلم من ضخامة المبلغ الذي يحمله الإيصال. لقد كان ديفيد ينكر علو سنه على مستوى الشعور. وكان موقفه الغالب هو أنه ينمو ويتوسع بسرعة كبيرة، وأنه أوفر صحة من أي وقت مضى، وأنه جعل حديثا يجري عشرة أميال كل يوم. أما عن مسيرته المهنية فقد كان يعتبر نفسه في مرحلة نمو سريع، وأنه مشرف على تحقيق كشف علمي اختراقي كبير.
فإذا كانت أزمة ديفيد الكبرى نابعة من وعيه المتنامي بشيخوخته واضمحلاله، إذن يكون تعجيله بالانفصال عن زوجته بمثابة رمية خاطئة، أو محاولة لحل مشكلة غير المشكلة الحقيقية. هذا ما جعل المعالج يدفع ديفيد إلى استقصاء دقيق لمشاعره تجاه شيخوخته وفنائه. فلم يكن بد من الإحاطة التامة بهذه الأمور قبل أن يكون بوسعه تقدير الحجم الفعلي لمصاعبه الزوجية. وقد قام المعالج والمريض باستقصاء هذه المسائل شهورا عديدة، حاول ديفيد خلالها أن يكون أكثر صدقا وإخلاصا من ذي قبل في معاملة زوجته، كما استعان هو وزوجته بمعالج زواجي لعدة أشهر.
بعد أن اتخذ ديفيد هذه الخطوات واستنفد هذه الوسائل، قرر هو وزوجته أن لا سبيل إلى إنقاذ الزواج، فانفصلا بالفعل. كانت الأشهر التي أعقبت الانفصال شديدة الصعوبة. وقد أمده المعالج بالطبع بالمساندة اللازمة خلال هذه المدة، ولكنه لم يحاول أن يحمل ديفيد على إزالة قلقه، بل حاول بالأحرى أن يساعده على أن يوظف القلق بشكل بناء. كان ديفيد أميل إلى التعجيل بزواج ثان، بينما ظل المعالج مصرا على أن يتريث ديفيد وينظر بعين الاعتبار إلى مسألة خوفه من العزلة، ذلك الخوف الذي كان يرده إلى زوجته عقب كل انفصال سابق. أصبح يتعين على ديفيد الآن أن يتثبت من أن الخوف ليس هو دافعه إلى التعجيل بزواج ثان.
كان صعبا على ديفيد أن يأبه بهذه النصيحة. فقد كان يحس بعاطفة حب جارفة تجاه المرأة الجديدة في حياته. إن حالة كون الإنسان «في حب» هي إحدى الخبرات العظيمة في الحياة، غير أنها في الموقف العلاجي تطرح مشكلات كثيرة. فكثيرا ما يكون الانجذاب للحب الرومانسي من القوة بحيث يكتسح أمامه أشد الجهود العلاجية وأكثرها هديا وحصافة. لقد وجد ديفيد أن رفيقته الجديدة امرأة مثالية، وأن ليس له امرأة سواها. وكان يحاول جهده أن يقضي معها كل وقته. فقد كان في وجودها يحس بحالة من النعمة الموصولة، تتلاشى فيها كل جوانب «الأنا» المنعزلة ولا تبقى إلا حالة مباركة من «النحن».
أما الشيء الذي حمل ديفيد في النهاية على أن يجد في العلاج، فهو أن صاحبته الجديدة بدأت تتخوف بعض الشيء من عنف ضمته، عندئذ فقط بدأ ديفيد يلتفت إلى خوفه البالغ من الوحدة ورغبته الانعكاسية في الاتحاد بامرأة. وشرع في برنامج لخفض الحساسية للوحدة، فكان يراقب مشاعره ويدونها في مفكرة يومية ويتناولها في جلسات العلاج بجد ومثابرة. دون ديفيد مثلا أن أيام الأحد كانت أصعب الأيام على الإطلاق. كان جدول ديفيد المهني مزدحما لأقصى درجة، فلم يكن لديه أية مصاعب طوال الأسبوع. أما عطلة الأحد فكانت يوم الفزع الأكبر . لقد بدأ يعي أن جزءا من هذا القلق كان مرده أن عليه يوم الأحد أن يرعى نفسه ويعتني بشئونه. فإذا أراد أن يفعل شيئا فعليه هو أن يجدول هذا النشاط. فهو لم يعد الآن يتكئ إلى ما كانت تعمله له زوجته. اكتشف ديفيد أن من أهم وظائف الطقوس في الثقافات المختلفة والجدولة المزدحمة في حياته الخاصة هو إخفاء الفراغ والخواء، وانعدام أي بنية أو نظام أو أرضية من تحت المرء.
4
أدت هذه الملاحظة بديفيد خلال الجلسات العلاجية إلى أن يرى ويجابه حاجته، إلى أن يرعى ويحمى. وظلت مخاوف العزلة والحرية تتخطفه شهورا عديدة. ولكنه تعلم شيئا فشيئا كيف يكون وحيدا في العالم، وماذا يعني أن يكون مسئولا عن وجوده الخاص. باختصار، تعلم ديفيد أن يكون هو أمه وأباه، وهو دائما هدف من أهم الأهداف العلاجية في العلاج النفسي.
خلاصة
ينظر العلاج الوجودي إلى المريض كشخص مباشر موجود، وليس كمركب من الدوافع والنماذج البدئية والارتباط الشرطي، صحيح أن للشخص دوافع غريزية وتاريخا، ولكنها غير داخلة في العلاج الوجودي إلا بصفتها أجزاء أو جوانب لكائن إنساني يفكر ويشعر ويكافح ... كائن له صراعاته الفريدة وله آماله ومخاوفه وعلاقاته. يؤكد العلاج الوجودي أن القلق السوي والشعور بالذنب كلاهما موجود في كل حياة إنسانية، ولا يلزمنا أن نغير بالعلاج إلا الصور العصابية منها. ولن يكون بمقدور الشخص أن يتحرر من القلق والذنب العصابيين ما لم يميز القلق والذنب السويين في نفس الوقت.
أما الانتقاد القديم للعلاج الوجودي - كعلاج مغرق في الفلسفة - فقد بدأ يخف منذ أدرك الناس أن كل علاج نفسي فعال لا يخلو من متضمنات فلسفية.
يهتم العلاج الوجودي بخبرة الوجود أو خبرة «أنا موجود»، وبالثقافة (العالم) التي يعيش فيها المريض، ودلالة الزمن وأهميته، وذلك الجانب من الوعي الذي يقال له «العلو» أو «التجاوز»
transcendence .
يؤكد العلاج الوجودي على الأهمية الكبرى لفعل «الحضور»
presence
وفعل المواجهة أو الملاقاة
encounter
من جانب المعالج. وقد تمثل ذلك في فيلم «الناس العاديون» حيث كانت الصفة الرئيسية للمعالج هي حضوره المواكب بإزاء عدوانية أحد المراهقين.
وقد وضع كارل ياسبرز - وهو طبيب نفسي صار فيما بعد فيلسوفا وجوديا - يده على أهمية الحضور وخطورة افتقاده: «كم فوتنا على أنفسنا من فرص للفهم، لأننا في لحظة حاسمة فريدة، ورغم كل ما نختزنه من معرفة، كنا نفتقد تلك الفضيلة البسيطة؛ فضيلة الحضور الإنساني المليء.»
إن هذا الحضور هو ما يريدنا العلاج الوجودي أن ننميه.
كانت الغاية المحورية لمؤسسي العلاج الوجودي هي أن تؤثر مفاهيمهم ومرتكزاتهم في جميع المدارس العلاجية، وقد كان.
يتجلى عمق الأفكار الوجودية فيما يطلق عليه «العصاب الوجودي»
existential neurosis . ويشير العصاب الوجودي إلى حالة الشخص الذي يشعر أن حياته لا معنى لها. وما يزال هذا العصاب يرى بشكل متزايد في المرضى من جميع المدارس العلاجية. كان فرويد في سنوات تكوينه لا يكاد يعاين إلا حالات هستيريا. أما الآن فتقرر جميع المدارس العلاجية أن مرضاها قلما يكونون من الهستيريين، ولكنهم مصابون في الأغلب الأعم بما نسميه بعصاب الشخصية أو الطبع
character neurosis
الذي هو صورة أخرى من صور العصاب الوجودي.
ينظر العلاج الوجودي إلى المريض دائما في سياق ثقافته الخاصة. فمعظم مشاكل البشر الآن هي الوحدة، والعزلة، والاغتراب.
إن عصرنا الحاضر هو عصر تفسخ الأعراف التاريخية والثقافية. الحب والزواج، الأسرة، العقائد الموروثة، وهلم جرا. هذا التفسخ هو الذي جعل العلاج النفسي في القرن العشرين يزدهر وينتشر بجميع أنواعه. الناس تصرخ طلبا للعون بسبب مشكلاتهم التي يخطئها الحصر. بذلك تشير كل التوقعات إلى أن التوكيد الوجودي على مختلف جوانب العالم (البيئة، والعالم الاجتماعي، والعالم الذاتي) ستزداد أهمية على مر الأيام. ويتنبأ الجميع أن المدخل الوجودي في العلاج سيكون له عندئذ السهم الوافر والاستخدام الأوسع.
المراجع
Arieti, S. (1977). Psychotherapy of severe depression. American Journal of Psychiatry, 134, 864-68.
Becker, E. (1973). Denial of Death. New York: Free Press.
Binswanger, L. (1956). Existential analysis and psychotherapy. In E. Fromm-Reichmann and J. L. Moreno (Eds.),
Stratton.
Boss, M. (1957a). The analysis of dreams. London: Rider & Co.
Boss, M. (1957b). Psychoanalyse und Daseinsanalytik. Bern & Stuttgart: Verlag Hans Huber.
Boss, M. (1982). Psychoanalysis and daseinanalysis. New York: Simon & Schuster.
Bugental, J. (1956). The search for authenticity. New York: Holt, Rinehart and Winston.
Bugental. J. (1976). The search for existential identity. San Francisco: Jossey-Bass.
Bynner, W. (Ed.) (1946). The way of life. according to Lao Tzu (An American version). New York: John Day.
Donne, J. (1952). Complete poetry and selected prose. New York: Modern Library.
Farber. L. (1966). The ways of the will: Essays toward a psychology and psychopathology of will. New York: Basic Books.
Farber, L. (1976). Lying, despair, jealousy, envy, sex, suicide, drugs, and the good life. New York: Basic Books.
Frankl, V. (1963). Man’s search for meaning: New York: World Publishing.
Havens, L. (1974). The existential use of the self. American Journal Psychiatry, 131.
Heidegger. M. (1962). Being and time. New York: Harper & Row.
Horney, K. (1950). Neurosis and human growth. New York: Norton.
Jung, G. G. (1966). Collected Works: The practice of psychotherapy (Vol. 16). New York: Pantheon, Bollingen Series.
Kaiser, H. (1950). Learning theory and personality dynamics. New York: Ronald
Kaiser, H. (1965). Effective psychotherapy. New York: Free Press.
Kant, I. (1954). The encyclopedia of philosophy (Vol. 4). P. Edwards (Ed.) New York: Macmillan and Free
Keirkegaard, S. (1954). Fear and trembling and the sickness unto death. Garden City. NY: Doubleday.
Koestenbaum, P. (1978). The new image of man. West Port, CT: Greenwood Press.
Lasch, C. (1979). The culture of narcissism. New York: Norton.
May, R. (1953). Man’s search for himself. New York: Norton.
May, R. (1961). Existential psychology. New York: Random House.
May, R. (1969). Love and will. New York: Norton.
May, R. (1977). The meaning of anxiety (rev. ed.). New York: Norton.
May, R. (1981). Freedom and destiny. New York: Norton.
May, R. (1982). The Problem of evil: An open letter to Carl Rogers. Journal of Humanistic Psychology, 3, 16.
May, R., Angel, E., & Ellenberger, H. (Eds.). (1958). Existence: A new dimension in psychiatry and psychology. New York: Basic Books.
Mijuskovic. B. (1979). Loneliness in philosophy,
Gorcum.
Mowrer, O. H. (1950). Time as a determinant in integrative learning. In O. H. Mowrer (Ed.). (pp. 418-454). Learning theory and personality dynamics. New York: Ronald
Mowrer, O. H., & UIIman, A. D. (1952). Time as a determinant in integrative learning. Psychological Review, 61-90.
UT: Real People Press.
Raskin, N. (1978). Becoming A therapist, A person, a partner, and a parent. Psychotherapy: Theory, Research and Practice, 4, 15.
Sartre. J. P. (1956). Being and nothingness. New York: Philosophical Library.
Sequin. C. (1965). Love and psychotherapy. New York: Libar Publishers.
Spence. K. (1956). Behavior therapy and conditioning. New Haven, CT: Yale University.
Spinoza, B. (1954). Cited by M. De Unamuno in The tragic sense of life (E. Flitch, Trans). New York: Dover.
Tillich, P. (1952). The courage to be. New Haven. CT: Yale University Press.
Tolstoy, L. (1960). The death of Ivan Illych and other stories. New York: Signet.
Van Kaam, A. (1966). Existential foundations of psychology. Pittsburgh: Duquesne University
Weisman, A. (1965). Existential core of psychoanalysis: Reality sense and responsibility. Boston: Little, Brown.
Yalom, 1. (1981). Existential psychotherapy. New York: Basic Books.
Page inconnue