Ucla .
ولكن انبثاقة الرغبة في التلبية سرعان ما توقفت؛ فقد رنت في أذني كلمة «أستاذ» ولو كان زائرا للجامعة.
فكل الدعوات السابقة كانت دعوات ثقافية سياحية ومقابلات مع كتاب وفنانين ومثقفين وحضور مؤتمرات.
تنحنحت وقلت: يا دكتورة عفاف ... تقولين أستاذا زائرا؟ - نعم. - ولكن أستاذ ماذا؟ أستاذ لتدريس الأدب العربي؟ - شيء كهذا. - ولكن هذا التدريس لم أجربه أبدا ولا أصلح له، لا أطيق أن أكون أستاذا أو أدرس شيئا؛ فأنا كثير التغيير والتبديل في آرائي، والحقيقة عندي بالغة الصعوبة في الوصول إلى مرحلة اليقين فيها، والأستاذ لا بد أن يكون قد «وصل» إلى ما يتصور أنه الحقيقة ليستطيع أن «يعلمها» لغيره، ألا تعرفون هذا في جامعة لوس أنجلوس عني؟ أنا دكتور طبيب يا دكتورة ولم أنل أية دكتوراه، وكنت قد تنازلت عن اللقب ككاتب وظللت ردحا طويلا أكتب اسمي فقط، إلى أن عينني الأستاذ هيكل في الأهرام، ورأى أن يكتب اسمي مضافا إليه لقب دكتور، وهكذا ذهبت مثلا، والتصق اللقب بي، وكأن نبوءة المرحوم الشاعر كامل الشناوي قد تحققت؛ إذ حين خلفت ابني الأول والأكبر (سامح) ظللت طويلا حائرا في تسميته؛ فقد كنت أريد أن أسميه محمدا وكانت أمه قد قرأت قصة لي اسمها «لعبة البيت» وبطلها طفل اسمه سامح، فأصرت على أن تسميه «سامحا » حتى لا يغضب منا اللغويون؛ إذ إن العائلتين مليئتان باسم محمد، ويومها - وأنا حائر في اختيار الاسم - قال المرحوم كامل الشناوي: اسمع يا يوسف، ما رأيك أن تسميه دكتور (والمرحوم كان دائم التشهير بطبي ومتطببي) بحيث ستجبر الناس على أن يقولوا: «دكتور يوسف إدريس» يقولونها لسامح وإن لم يقولوها لي.
طبعا لم أقل كل هذا للدكتورة عفاف؛ فهي تتكلم من مسافة لا تقل عن سبعة عشر ألف كيلو متر والدقيقة بالشيء الفلاني، ولكن فكرت في كل هذا، وفي جملة لخصت لها الموقف: أنا لا أصلح أستاذ أدب أو مدرسا لتلاميذ.
فوجئت بها تقول: ولكننا نعرف هذا ولهذا دعوناك. - دعوتموني لهذا؟! - نعم، لتعطينا وتعطي الخريجين المتخصصين وأعضاء تدريس الأدب العربي رؤيتك كمبدع في القصة والمسرح. - ولكن هناك في جامعات مصر أساتذة كبار يفيدونكم أكثر. - في الحقيقة نحن نتبع نظاما أصبح معمولا به في أمريكا الآن، وهو دعوة الروائيين والشعراء وكتاب القصة والمسرح كأساتذة زائرين يناقشهم الطلبة في أعمالهم ويقتربون من المبدعين الخلاقين؛ لكي يثيروا فيهم حبهم للأدب والفن ويدخلوا تيارات غير أكاديمية على عقولهم، بحيث لا تعود الجامعات أديرة مقفلة بعيدة عن الواقع العلمي أو الفني الحي؛ ولهذا نحن نرحب بالكتاب ليقولوا هم نظرتهم الشخصية أو النقدية إلى عملية الخلق وإلى آرائهم في النقد حتى في طريقة تدريس الفن أو الأدب ...
ورغم أن الكلام كان مقنعا جدا، إلا أن فكرة أستاذ وجامعة ودراسة ظلت تدور في عقلي وتقترب من محيط الرفض حتى وأنا أقول لها: ولكن ثلاثة أشهر مدة طويلة. - سوف تجد أنها ليست كذلك حين تأتي. - إذن شكرا يا دكتورة على الدعوة ومبدئيا أنا أقبلها. •••
سبع عشرة ساعة من الطيران المتواصل، 11 ساعة من القاهرة لنيويورك، وانتظار ساعتين ثم ست ساعات للوصول إلى لوس أنجلوس.
برأس دار حول نصف الكرة الأرضية في رحلة متصلة وصلت «مدينة الملائكة»، (أنجلوس بالإسباني تعني ملائكة)، وأنا بالكاد أدرك من أنا، وبدا لي المطار الكبير المتوهج بالأضواء وبالسلالم وبالوجوه لوحة قد اختلطت وتداخلت، لوحة لا بد رسمها تجريدي مجنون، ولولا أني لمحت وسطها وجها أعرفه جيدا هو زميلنا السابق في الأهرام الدكتور إبراهيم كروان عضو مركز الدراسات بها أو هكذا خيل إلي؛ إذ كانت قد أضيفت إلى وجهه ذقن صغيرة أنيقة جعلته يبدو وكأنه جزء من اللوحة يضيع في عدم اليقين.
ولكنه كان هو.
Page inconnue