وأنا هنا لا أتحدث عن خلق الكون ولا عن الخالق سبحانه، إنني إنما فقط أورد بعضا من البحوث التي كتبت لسير هذا الشيء الكوني الذي نحن البشر منه، وهو منا، والذي يعتبر فيه الإنسان العين الوسيطة بين الكون الأكبر ال (...) والكون الأصغر الذي يوجد داخل الذرة ال (...) ولهذا فهو وحده الذي يدرك وجودهما معا، ورغم ذلك فمعلوماته عن كنه هذا الوجود لا تزال قشرية تماما، ولم تصل بعد إلى أي حد أدنى معقول لإدراك كنه التركيبة الكونية الصغرى أو الكبرى.
ذلك عن سر الكون ...
أما السر الذي يكاد يجاوز في صعوبته سر الكون، فهو سر الشعب المصري ... الشعب المصري بالذات، ولا أقولها كمصري منحاز لمصر، ولا فخور أو متفاخر، إنما أقولها لأؤكد حقيقة أنفقت حال عمري، ذلك الذي أنفقت نصفه في تأمل الكون وخالقه، أنفقت نصفه الآخر في تأمل شعبنا المصري هذا وسره.
إنه من جنس الإنسان قطعا، بل من المحتمل تماما أن يكون من أول الكائنات البشرية التي وجدت على سطح الأرض؛ ولهذا فتاريخه هو أطول تاريخ لأي شعب، فقد وحد الملك «مينا» القطرين من أكثر من خمسة آلاف سنة، ولكن قبل هذه الوحدة كانت هناك دولتان عاشتا طويلا ولم يعرف عنهما شيء، وقبل الدولتين كانت ثمة عشائر وقبائل وعصور صيد وزراعة وتاريخ طويل طويل، سر لا يمكن أن تعرف منه أبدا ماذا يريد هذا الشعب وماذا لا يريد، ماذا يغيظه وماذا يسعده! •••
لماذا تبادر إلى ذهني السران الآن؟
الجواب حقا غريب؛ إذ هو يتعلق بترشيح الرئيس حسني مبارك ومبايعته؛ ذلك أنني أمضيت الأسبوع الماضي كله أستمع إلى صرخات شباب متشنج يشجب الطريقة الإعلانية المواكبة المصطنعة التي تدور على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون. والغريب أني حين كنت أناقش هذا الساخط أو ذاك وأقول على سبيل الدعابة: وماذا يغضبك؟ هل أنت ضد مبارك؟ الغريب أن الجواب من كل الشباب الذين سألتهم كان يأتي على هيئة: أبدا، أنا مع مبارك، إذن لماذا غضبك؟
وهنا تبدأ تتفجر على ألسنة الجميع، من هنا وهناك، أجزاء من حمم بركانية طال غليانها في النفوس التي مجت طويلا فكرة فسرها على الإجماع وفكرة مبايعة المحافظين والوزراء للرئيس وبنقود الدولة والمواطنين، فكرة خلق ما يشبه الرأي العام الزائف والمزيف الداعي أولئك الذين يريدون وقرروا انتخاب مبارك فعلا، أن ينتخبوه!
لو كان هذا الخطأ البشع في حق مبارك وفي حق عهده قد ارتكب في بلد آخر أعصابه ليست في ثلاجة، كأعصاب الشعب المصري، لكان قد ركب رأسه وأسقط ذلك الرئيس الذي يدعون إليه بطريقة مستفزة لا ذوق فيها ولا صدق ولا شيء سوى النفاق الأعمى. تلك الحملة الغوغائية الإعلامية جعلت نفسي تجزع حقا عن أن أكتب رأيي في إعادة ترشيح مبارك، وبالطبع لم أكن وحدي، إني أعرف عشرات من عقلاء المصريين الفاهمين الواعين المقدرين لموقف مصر الخطير في وسط شرق أوسط تحكمه أمريكا وإسرائيل، ووضع داخلي يتحكم فيه الجشع والتعصب والجهل، أعرف عشرات من هؤلاء، كانوا ينوون، بل كتبوا فعلا، مقالات موضوعية تماما، تقييما لفترة حكم مبارك السابقة، وطلبوا منه أن يرشح نفسه لفترة قادمة، ولكنهم لا يفعلون هذا على بياض، كل منهم كان يطالب الرئيس بمجرد موافقة مجلس الشعب على ترشيحه أن يلقي بيانه الانتخابي الأول الذي يحدد فيه على وجه الدقة واليقين ماذا سيكون عليه أن يفعله خلال السنوات الست القدامة، وعلى ضوء هذا البرنامج يتم الاستفتاء؛ إذ هو سيشكل عقدا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا بين الرئيس وبين الشعب يرجع إليه وقت الخلاف أو الاختلاف، ويكون هو الأساس في الحكم والدستور المحدود للمرحلة القادمة.
ولكن هؤلاء العاقلين طووا الصفحات ووضعوا الأقلام باعتبار أن آراءهم تلك ستضيع وسط الزفة ووسط المواد، ووسط بضعة موظفين من موظفي الحكم المحلي، وللأسف جهات لها احترامها وتقديرها، لديهم نقود الشعوب يشترون بها صفحات الجرائد، ولديهم التليفزيون الملاكي يذيعون منه ويقولون ما يشاءون.
والشعب الماكر الخبيث يتفرج، ويضحك من صميم قلبه، حتى إذا التقى بصديق أو مسئول مهما كان صغيرا انفجر فيه بالسخط والغضب؛ سخط وغضب أعتقد أن مصدرهما هو هذه المحاولة البشعة للاعتداء على حق المواطنين في إبداء الرأي أو حتى في تكوين الرأي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أدرك الشعب أن كل هؤلاء المزيفين بمئات الألوف لآراء المحافظات والجامعات والهيئات معظمهم - ولا أقول كلهم - جماعات الانتهاز التي دأبت ومنذ هيئة التحرير إلى الآن على أن تركب أعلى الموجات، تصرخ وتزعق بآخر ما تستطيع وتمتلك من ميكروفونات، وتمتلك عبقرية خاصة في إزجاء المدح والنفاق دون الحاجة حتى إلى محترف كتابة يصوغ لها ما تريد قوله. إنهم إذن ليسوا ناخبين، أو مؤيدين لمبارك «بالروح والدم نفديك يا ...» «فلم يفد أحد أحدا لا بالدم ولا بالمال» إنهم إنما بإعلاناتهم يرشحون أنفسهم هم وليس مبارك ليبقوا في الصورة أثناء عهد الرئاسة القادم، أو ربما يضرب الحظ مع بعضهم ويختار لمناصب أعلى. •••
Page inconnue