ولهذا كنت حريصا في كلمتي عن التليفزيون على القول إني لا أنقد برامج هذه الأيام ولا دور التليفزيون هذه الأيام، وإنما أنا أذكر دوره منذ إنشائه وقيامه وإلى الآن، وهو دور كان ولا يزال إلى حد كبير يمثل دور «البلياتشو» الذي يزغزغ الناس ويرفه عنهم ويضحكهم، وكنت أريده إلى جانب هذا أن يقوم بدور المعلم، المعلم لا بالتلقين وإنما بالإمتاع ودور المثقف ليس فقط ببرامج الأستاذ فاروق شوشة المتخصصة الشيقة، وإنما ببرامج كلها ثقافة ولكنها لا تخيف الناس بقولها إنها برامج ثقافية، وإذا أردت أن تعرف ما أعني بالضبط فإني أرجو من التليفزيون - إن استطاع - أن يسجل يوما بأكمله من إرسال التليفزيون البريطاني، أو حتى الهندي، وأن يذيعه علينا مترجما لنرى الفارق.
نعم، إن التليفزيون هو أخطر وسيلة اكتشفتها البشرية إلى الآن في صناعة وصياغة الرأي العام وحتى المواطن الخاص، والتعامل مع هذا الجهاز يجب أن يتم من منطلق الإدراك التام لخطورته الشديدة، فنحن مثلا لو كنا قد عملنا تحقيقا تليفزيونيا صريحا عن حالات الغش الجماعي ومع الأساتذة الذين طعنوا بالمطاوي، ومع الطلبة، لاجتثثنا هذا المرض بأكمله دون أن نذكر نصيحة واحدة؛ إذ هكذا يستعمل التليفزيون في المجتمعات الأكثر ذكاء في استعمال التليفزيون والمدركة لخطورته وأهميته، والتي تستخدمه كوسيلة عظمى للترقي والتمدن والتحضر؛ ولهذا كنت أنقده منذ إنشائه.
ولأني وجدته لم يصنع شيئا طوال أكثر من خمسة وعشرين عاما إلا أنه رفه عنا قليلا، وفي المقابل فرض علينا فكرا متخلفا وخرافات وديماجوجية، أرأيت إلى هذا العالم الذي قال منذ أسبوع مضى: إذا رأيت حلما سيئا فابصق ثلاث مرات إلى اليسار حين تصحو من النوم، وإذا رأيت حلما حسنا فابصق ثلاث مرات إلى اليمين لدى صحوك من النوم؟! أي ثقافة تلك بربك؟ أي مفهومات للحياة يرسيها هذا الجهاز؟ أي كارثة يتعلمها الطفل والمراهق والشاب الذي يأخذ ما يشاهده في التليفزيون على أنه قول لا يناقش ولا يمكن أن يشك في صحته؟
ولهذا أيضا فنحن أمام هذا الجهاز بعد ربع قرن من إنشائه في حاجة إلى وقفة لا بد تنتهي بعد نقاشنا حولها إلى وضع سياسة إعلامية تليفزيونية ثابتة، يكون الهدف منها أن نرتفع بمستوى الشعب ثقافيا وصحيا وعلميا وتعليميا خلال السنوات الخمس القادمة بمقدار لا يقل عن 50 في المائة زيادة على مستوانا الآن.
أيها الصديق العزيز ألا زلت تختلف معي وتقول إن قلمي قد «شط»؟
إننا نختنق ... نختنق
الساعة الثالثة بعد الظهر، نقطة التلاقي بين شارع الجلاء الذي توجد به الأهرام وبين شارع 26 يوليو نقطة عبثية تماما، وكأنها منتزعة من فيلم تسجيلي عن يوم القيامة:
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه ، أو بالمعنى المعاصر يوم يفر راكب الدراجة من راكب الموتوسيكل من السائر هائما على وجهه من ديناصورات النقل الكبيرة و«التريللات» الساحبة وراءها مركبة لا تقل عنها ضخامة من عربات السوزوكي والتويوتا ورمسيس وعربات الأوتوبيس والعربات الخاصة، وأبدا لا يتوقف المرور في الاتجاهين معا، والشاطر هو الذي «يدخل» على الثاني، وقيادة السيارات بالدراع وبأعلى «سارينة» وبالخبط في الجنب أو في الاكصدامات، ويا ويل العابر على قدميه أو راكب الدراجة؛ فحياته ممكن لو لم يستعمل كل بهلوانيته وسرعته، لو كان مريضا أو كبير السن، لو كانت سيدة بدينة، ممكن أن ترتفع إلى بارئها في لحظة، والغريب أنه لم تقع حادثة دموية واحدة في هذا التقاطع طوال السنوات العشر التي أستعمله فيها عائدا إلى منزلي، وليس هذا بالطبع لحسن إدارة عسكري المرور المسكين القادم لتوه من التجنيد الإجباري، وإنما لأننا نحن القاهريين قد علمتنا سنوات التدفق السكاني والازدحام غير البشري أنماطا كثيرة للسلوك البهلواني والاتكالية والضرب عرض الحائط بمخاطر عبور الشوارع والميادين، ناهيك عن القدرة على النفاذ بين عربتي نقل مخيفتين أو عربتي أوتوبيس تكادان تتلاصقان بحمولتيهما البشرية الضخمة، المهم أني لا أكتب هذا انتقادا لحركة المرور في هذا التقاطع؛ فقد كان مفروضا أن تحل من زمن كبير، وكان مفروضا أن يكون أول نفق تحت الأرض ينشأ في مصر أن ينشأ في ميدان الإسعاف ويشمل بالتالي تقاطع الجلاء مع 26 يوليو؛ فتلك المساحة، أو اللامساحة، هي أكثف حركة مرور في القاهرة كلها.
ولكن بما أن القاهرة الجديدة كلها قد نشأت عشوائية بلا أي استعانة بعلم تخطيط المدن، وهو من أهلم العلوم الهندسية وموجود في كلياتنا، ولكن كل خريجيه بلا استثناء يهاجرون إلى البلاد التي تخطط مدنها فعلا، لدرجة أني قابلت مرة ثلاثة مهندسين حاملين للدكتوراه في تخطيط المدن يعملون في مدينة بوسطن الأمريكية، واحدة من أجمل مدن العالم تخطيطا! بينما قاهرتهم في مجاعة شديدة لهذا النوع من المهندسين، ولكن شئوننا البلدية والقروية لم تكن تحفل بالتخطيط، وحين انتقل الأمر إلى محافظة القاهرة وإلى رؤساء الأحياء فسدت الأمور أكثر وأكثر، ولولا أن قيض الله أخيرا للقاهرة محافظا واسع الأفق والتفكير، عارفا وقادرا على عمله بلا أي كلل أو تقاعس هو اللواء يوسف صبري أبو طالب، وبدأ يذيقنا بلمساته معنى أن تكون المدينة مخططة، وأن يكون لكل حي حديقته، ولم يبق إلا أن يعود لكل شارع أرصفته ولكل عمارة أمكنة انتظارها.
أقول لا أكتب هذا انتقادا لحركة المرور في تقاطع الجلاء-26 يوليو، ولكني أكتبه للمنظر الذي رأيته وشممته واختنقت به، ولا أزال أفعل كل يوم الساعة الثالثة كما سبق وقلت، وحركة المرور على أشدها، موظفون عائدون راكبين وراجلين وأوتوبيسات سردينية المحتوى هرقلية الحجم والجثير وعربات نقل ... إلى آخره. كنت واقفا في إشارة المرور، احتراما للإشارة التي لا يريد أحد أن يحترمها، أحاول أن أرى من خلال زجاج السيارة إن كانت الإشارة فتحت أم لا تزال حمراء، وفجأة تبينت أن هناك ما يشبه العاصفة الرملية أو الترابية بالكاد أستطيع أن أرى من خلالها، وفتحت زجاج السيارة لأرى المنظر على حقيقته، وكم روعني ما رأيت، فلا يوجد ماسورة عادم لعربة أوتوبيس أو نقل أو ميكروباص أو تاكسي قديم إلا وهي تنفث نافورة أفقية من الدخان نتيجة اختلاط كيروسينها بزيتها أو بديزلها، دخان دخان دخان، لا يملأ الجو فقط، ولكنه يخنق التنفس، ويثير مع التراب الكثير الذي يحفل به الشارع سحبا متجمعة متضاربة منتشرة إلى الجوانب وإلى أعلى واصلة إلى كل حلق وفتحة عين.
Page inconnue