La Cité Parfaite selon les philosophes du dix-huitième siècle
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
على أنه بعد أن يلقي دانتي بيانه هذا يتعثر سير المجادلة؛ إذ بماذا نستطيع أن نرد على حججه، أو على حجج القديس توماس؟ وهما قالا ومهما قلت فلا سبيل إلى أن أرى أنا أو يريا هما أننا نتكلم في الموضوع، وقد يشكل الأمر علينا فلا يسهل على واحد منا أن يتبين موقفه من المجادلة بالضبط، ولكنني أستطيع أن أتأكد على كل حال من أمر واحد، هو أن الرجلين يستعملان أسلوبا واحدا لإحاطة الموضوع بالغموض، وإذا ما أدركت هذا كله فإني أدفع نفسي وأحملها على حسن الظن، فألتمس لضيفي الجليلين عذرا، وأقول: إنهما ليسا هذه المرة على ما ينبغي لهما أن يكونا عليه من حسن التوفيق، ثم بعد ذلك أتمتم معتذرا أنهما لا يقدمان حججا بل هراء، ويصح جدا أن يكون الأمر كذلك، بل من المؤكد أنه بالنسبة لعقول الناس في أيامنا هذه هو ذلك، فلا يقدم عاقل في زمننا على أن يعيد طبع كتاب الملوكية للدعوة لتأييد جمعية الأمم، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي أن دانتي والقديس توماس لم يكونا عديمي الذكاء، وكيف أظنهما كذلك، وقد شهدت لهما الأجيال المتعاقبة بأنهما كانا حقا من صفوة الخلق، وإذا كانا يتحدثان حديثا غير مفهوم، فلا يرجع ذلك إلى قلة الفهم من جانبهما، فإنهما كانا - على أقل تقدير - على تلك الدرجة من الفهم ومن العلم التي ننسبها لأولئك الذين تحدثوا في زماننا في موضوع جمعية الأمم، لها أو عليها، فهما - مثلا - لا يقلان ذكاء عن كليمنصو ولا يقلان علما عن ويلسون.
3
فكيف إذن نفسر الإشكال؟ قد ييسر لنا تفسيره أن نتذكر العبارة التي اقتبسها الأستاذ وايتهد
4
من أدب القرن السابع عشر، فذاع أمرها من جديد، وهي «الجو الفكري».
هذه عبارة لازمة جدا، ومؤداها أن ما تملكه حجة ما من قوة الإقناع أو عدمه لا يتوقف على المنطق الذي تعرض به بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه قوام حياتها، وعلى ذلك فإن الذي يجعل حجج دانتي أو تحديدات القديس توماس عديمة المعنى في نظرنا، ليس سوء الاستدلال أو سقم الفهم، إنما هو كونها تنسب للجو الفكري الذي ساد العصور الوسطى، أو بعبارة أخرى، كونها ترتبط بأفكار فطرية معينة، وبنسق عالمي تصوري خاص، وهذا كله فرض على دانتي وعلى القديس توماس استعمالا خاصا للفهم، واستعمالا خاصا لنوع من المنطق، فإذا أردنا إذن أن نعرف علة عجزنا عن متابعة الرجلين في حججهما يلزمنا أن نفهم بالقدر الذي نستطيع طبيعة الجو الفكري في العصور الوسطى، فأقول:
من المعلوم تماما أن نسق العالم الذي عرفته العصور الوسطى له مصدران، منطق اليونان والتاريخ كما روته الكتب المقدسة النصرانية، ومعلوم أن الكنيسة هي التي تولت تشكيل ذلك النسق؛ إذ كانت هي الهيئة التي فرضت سلطانها خلال تلك العصور على المجتمع الأوروبي الغربي النازع إلى الفوضى والتفكك، وليس مما يصعب علينا أن نصف الجو الفكري إذ ذاك. لا يصعب ذلك؛ لأن العقل الحديث يجيد الملاحظة بما طبع عليه من حب الاستطلاع، كما يجيد العناية بدقة الوصف، ولكنه إذ يسجل ويصف لا يستطيع أن يحيا في جو العصور الوسطى، ومما كان يوقن به الناس إذ ذاك إيقانا لا يتطرق إليه الشك، أن الله الأب خلق العالم، بما فيه الإنسان، في ستة أيام، وأن الله عقل خير أحاط بكل شيء علما، وأنه خلق كل شيء لغاية، وإن كانت لا تدرك، وأنه خلق الإنسان كاملا، ولكنه عصى ربه فهوى من نعمته ورضاه إلى الإثم والضلال، واستحق بذلك المقت الأزلي، إلا أن الله أتاح له سبيل التفكير والنجاة بأن ضحى ابنه الوحيد بنفسه تقربا وزلفى، وبينما الإنسان في ذاته عاجز عن أن يتقي جزاءه العادل من غضب الله، إلا أن الله رحمة منه بعبده فتح للإنسان باب مغفرة الإثم والضلالة، إن هو تواضع وخضع لمشيئة ربه، وما الحياة الدنيا إلا طريق المغفرة، يمتحن الله فيها مخلوقاته، وعندما يأتي أمر الله، تكون نهاية الدنيا ويبيد العالم لهبا، وعندئذ يكون يوم الفصل، فأما العاصون المتمردون فيعذبون العذاب الأبدي، وأما المخلصون فيحظون بلقاء ربهم في جنة الخلد حيث الكمال والسعادة السرمديان.
فكانت الحياة، كما تصوروها في العصور الوسطى «دراما» تامة السبك، تدور حول فكرة رئيسية، ومسرحها الكون، صدرت عن مؤلف مهيمن، محيط، وتجري أحداثها ووقائعها طبقا لخطة معقولة، والدراما كاملة في عقل المؤلف قبل أن يخرجها بالفعل، مسطرة من قبل بدء الخلق لآخر حرف من حروف آخر كلمة تقع عند انتهاء الزمان، ولا يتطرق إليها تغيير ما، لا للخير ولا للشر، وليس للإنسان إلا أن يحاول فهم الحكمة أو العلة أو الغاية الإلهية بالقدر الذي يستطيع، ولكن لا سبيل له إلى تفادي واقعة من الوقائع أو حادثة من الأحداث جرى بها القضاء، إلى أن يحين الأجل المسمى، وواجب الإنسان جلي، هو أولا التسليم بأحكام القضاء؛ إذ هو لا يملك لها دفعا أو تبديلا، وهو ثانيا، أن يقوم بنصيبه في هذه الدراما الكونية العظمى، وهنا السؤال: كيف يتيسر له إحسان الأداء على الوجه الذي أراده المؤلف؟ لكي يتيسر له ذلك، تتولى السلطتان الخاضعتان لله والمستمدتان من مشيئته السلطان الشرعي على عباده - وهما الكنيسة والدولة - إلانة قلب الإنسان واجتذابه للخضوع الذي ينبغي للعبد، وتلقينه ما يلزمه لأداء العمل الذي قسم له، وهذه الغاية هي سر إقامة الكنيسة والدولة، ولا ينبغي بحال أن نتصور الحياة أمرا آليا، على الضد، لقد منح الله الناس نعمة العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ولكن كيف يستعملونه، ينبغي أن يكون ذلك في حدود، وأن يجري في نظام، فمثلا من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك؛ لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضا، بل ومن العصيان، أن يحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وبعد فما هو عمل العقل؟ هو أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهي، وأن يوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية، وبين النسق العقلي للعالم المسلم به بالإيمان.
هذه كانت مهمة العقل في جو العصور الوسطى، وكانت المهمة عظيمة، شحذت القوى العقلية، فانطبع تفكير أفضل رجال تلك العصور بطابع عقلي تام، وأنا أعرف أنني حينما أقول هذا أخالف ما جرى عليه العرف الشائع، أعرف أن العرف جرى بتسمية القرن الثالث عشر عصر الإيمان، تمييزا له بهذا الوصف عن القرن الثامن عشر، الذي نسبوا إليه أنه كان قبل كل شيء عصر العقل، والتمييز إلى حد ما صحيح، فإن كلمة «عقل» تفيد كغيرها من الكلمات أكثر من معنى، فدلت في الاستعمال الشائع على «غير المؤمن» أو «الملحد» الذي يكفر بالنصرانية، ويرجع ذلك إلى أن الكتاب في القرن الثامن عشر استعملوا حججا عقلية لإثبات بطلان العقيدة المسيحية، وبهذا المعنى الشائع كان فولتير - مثلا - رجل عقل، والقديس توماس رجل إيمان، ولكن هذا الاستخدام لكلمة «عقل» سقيم لسبب بين، فالعقل قد يستخدم لدعم الإيمان كما يستخدم لهدمه، والواقع أن بين فولتير والقديس توماس - على عظم ما بينهما من فوارق - اتفاقا تاما على أن معتقداتهما يمكنهما إثبات صحتها عقليا، ويصح لنا إذن أن نقول: إن القرن الثامن عشر كان عصر إيمان، كما كان أيضا عصر عقل، وإن القرن الثالث عشر كان عصر عقل، كما كان أيضا عصر إيمان.
وليس في هذا القول تناقض، فكثيرا ما يجمع الإنسان بين حرارة الإيمان واستخدام الحجج العقلية استخدام الخبير بأساليبها، وفيما عدا البسطاء من العامة والمتصوفة الجديرين بهذا الوصف - فإن معظم الناس - بما فيهم أولئك الأذكياء الذين يوقنون يقينا خالصا حارا بالله في ملكوته وبأن الدنيا بخير - يشعرون بالحاجة إلى تبرير إيمانهم بحجج معقولة كافية، ويزداد إحساسهم بتلك الحاجة إذا ما بدأت بعض الشكوك تساورهم وتزعجهم، ولعل هذا يفسر لم استمسك المفكرون في عصر دانتي بالاستدلالات العقلية استمساك المستميت، لم يكن ذلك لأن العقيدة كانت قد اختل نظامها وانتثر عقدها، بل كان ذلك لأن أقدر المؤمنين أخذوا يشعرون بأنه لا يكفيها أن تستند إلى العواطف الدينية الغريزية فقط، فبدا لهم أن لا بد لهم من برهان عقلي حاسم، لا يغفل شيئا ما ولا يتهرب من صعوبة ما، وإذا شئنا أن نوضح ما ذهبنا إليه بالاستشهاد بالقديس توماس قلنا: إن الذي دعا ذلك القديس للبحث عن برهان عقلي قاطع على أن العالم نظام إلهي حكيم هو بالضبط إيمانه بأن العالم نظام إلهي حكيم، وإذن فلا يمكن للقديس توماس أن يجري على لسانه القول المأثور عن ترتوليان: «إني أومن بما يحسبه العقل سخيفا.» ولكنه - أي توماس - كان يمكنه أن يقول ما قاله القديس أنسلم: «إني أومن لكي أعلم.» وله أن يضيف إلى عبارة أنسلم: «ولشد ما يحزنني ألا أستطيع التدليل بالعقل على ما أعلم.»
Page inconnue