La Cité Parfaite à Travers l'Histoire
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
3
أن «كل الأمكنة متساوية في البعد عن هاديس».
هذه الأفكار تبناها بعد ذلك الكلبيون الذين نظروا إلى تنظيمات الدولة باعتبارها مضادة للنظام الطبيعي للأشياء، واستهجنوا الفروق الطبقية والقومية، كما أخذتها المدرسة الرواقية، التي أسسها زينون الكيتيوني، فرفضت الخضوع للإلزام الخارجي، وتبعت «القانون الداخلي الذي يتجلى في الطبيعة». أما مجتمع زينون المثالي فقد حرص على التخلص من الدول أو التنظيمات السياسية، ولم يبق إلا على الحرية والمساواة الكاملة بين جميع البشر، مع إلغاء الزواج، والمعابد، والمحاكم، والمدارس والنقود. ومع ذلك فلم يخلط زينون بين الحرية والترخص أو عدم المسئولية. لقد اعتقد أن الغريزة الاجتماعية للبشر تمد جذورها في الحياة الجماعية المشتركة، وتجد التعبير عنها في الإحساس بالعدل، وأن الإنسان يجمع بين الحاجة إلى الحرية الشخصية والإحساس بالمسئولية عن أفعاله.
كان أفلاطون يمثل رد الفعل المضاد للاتجاهات الرئيسية للفكر الفلسفي في عصره، إذ آمن بضرورة الإلزام الأخلاقي والخارجي، وبعدم المساواة والسلطة، وبالقوانين الصارمة والتنظيمات الثابتة، وتفوق الإغريق على «البرابرة». وعلى الرغم من أن تأثيره في الفكر الحديث كان أعظم بكثير من تأثير الفلاسفة الآخرين، فإن هناك فترات نادى فيها بعض المفكرين، مثل الرواقيين، ب «الحق الطبيعي» للبشر في الحرية والمساواة الكاملتين.
ومع أن أفلاطون، مثل السوفسطائيين والرواقيين، كان مقتنعا بأن تنظيماته متوافقة مع قانون الطبيعة، فإنه رأى أن الطبيعة قد أوجدت بعض البشر ليكونوا حكاما وبعضهم الآخر ليكونوا محكومين. يقول في الجمهورية:
إن الحقيقة التي أقرتها الطبيعة هي أن المريض، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ينبغي عليه أن ينتظر على باب الطبيب، وأن كل إنسان يحتاج إلى أن يكون محكوما، يجب عليه أن ينتظر على باب القادر على الحكم.
وبعد أن استنكر أفلاطون أن يتولى كل إنسان حكم نفسه، وأقر ضرورة وجود طبقة حاكمة، كان من المنطقي أن يتجه لإقامة حكومة قوية، لا تقتصر قوتها على السلطة التي يمكن أن تمارسها على عامة الشعب، بل تتمثل فضلا عن ذلك في تفوقها الأخلاقي والعقلي ووحدتها الداخلية. ولا يجوز اختيار الحكام أو الحراس في جمهوريته المثالية على أساس نسبهم أو ثروتهم، ولكن على أساس الخصال التي تؤهلهم للقيام بمهمتهم؛ فلا بد أن ينحدروا من سلالة طيبة ، وأن يتمتعوا بصحة جيدة، وأن يكون لهم عقل راجح ويتلقوا تربية حسنة. وها هو ذا سقراط يشرح لجلوكون الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر للحراس: - وهكذا ترى أنه كلما ازدادت أهمية حرفة الحراس تطلبت زمنا وفنا وعناية أعظم. - بلا شك. - ولكن ألا يلزم لهذا الفن أيضا صفات طبيعية فطرية في المحارب؟ - يقينا. - وإذن فعلينا، إن استطعنا أن نختار أولئك الذين تؤهلهم طبيعتهم وقدرتهم الفطرية ليكونوا حراسا للدولة. - هذا واجب علينا دون شك. - الحق أن المهمة لن تكون هينة، ومع ذلك فلنستجمع شجاعتنا، ولنبذل كل ما في طاقتنا. - هذا ضروري. - حسنا. أترى، فيما يتعلق بالحراسة، فروقا بين طبيعة كل أصيل، وبين فتى عريق الولد؟ - ماذا تعني؟ - أعني أن كليهما لا بد أن تتوافر له قوة ملاحظة الأعداء، وسرعة الانقضاض عليهم، والقدرة على العراك إذا ما هوجم. - لا شك أنه بحاجة إلى كل هذه الصفات. - وهو بحاجة إلى الشجاعة أيضا ليجيد القتال. - بلا شك. - ولكن، أيستطيع فرس أو كلب أو أي حيوان أن يكون شجاعا ما لم يكن غضوبا متحمسا؟ ألم تلاحظ أن الحماسة لا تغلب ولا تقهر، وأنها إذا تملكت نفسا فلن تخشى شيئا أو تلين لشيء؟ - لقد لاحظت ذلك بالفعل. - وهكذا ترى بوضوح الصفات المطلوبة في الحارس. - أجل. - وتدرك كذلك أن الصفة النفسية هي الحماسة الفياضة. - نعم. - ولكن من كانت لهم هذه الصفات، ألن يكونوا عدوانيين في سلوكهم، بعضهم نحو بعض، ونحو كل مخلوق آخر؟ - الحق أنه ليس من السهل عليهم أن يتغلبوا على هذا الشعور. - ومع ذلك، فمن المحتم عليهم أن يظهروا الوداعة مع مواطنيهم، والشراسة مع أعدائهم، وإلا ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يهلكهم الآخرون. - هذا حق. - ولكن ما العمل؟ وأين لنا أن نجد طبيعة تجمع اللين والشدة؟ إن الوداعة والشراسة لتتنافران وتتناقضان. - أجل، هذا واضح. - ومع ذلك، فلو افتقر الحارس إلى إحداهما، لما عاد صالحا لعمله. على أن الجمع بينهما يبدو محالا ، وهكذا يبدو أن من المستحيل أن نهتدي إلى حارس صالح. - أخشى أن يكون الأمر كذلك. - ماذا تعني؟ - أعني أنه توجد بحق طبائع تجمع بين هذه الصفات المتناقضة، التي بدا الجمع بينها مستحيلا. - وكيف يكون ذلك؟ - إن ذلك ليتبدى في حيوانات متعددة، وبخاصة في ذلك الذي كنا نقارنه بحراسنا. فأنت تعلم ولا شك أن طبيعة الكلاب الأصلية هي أن تكون على أعظم قدر من الوداعة بالنسبة إلى من ألفتهم ومن عرفتهم، وأن تكون على عكس ذلك بالنسبة إلى من لا تعرفهم؟ - أجل، أعلم ذلك. - إذن فحل المشكلة ممكن، ولن نكون مخالفين للطبيعة إذا سعينا إلى الاهتداء إلى حارس تتوافر له هذه الصفات. - ذلك لا يبدو مستحيلا. - ولكن ألا يبدو أن من أردناه حارسا ما زال يفتقر إلى صفة معينة حتى يبلغ الكمال في حراسته، وهي أن يجمع إلى الحماسة الفياضة صفات الفيلسوف؟ - إنني لا أفهم ما تعنيه. - إن الصفة التي أتحدث عنها يمكن الاهتداء إليها لدى الكلب أيضا، وهي صفة تستحق التقدير فيه. - أي صفة تعني؟ - أعني أن الكلب يثور كلما رأى غريبا، وإن لم ينله منه أي أذى، على حين أنه يرحب بمن يعرفه، حتى لو لم يتلق منه خيرا. ألم تلاحظ ذلك من قبل؟ - الحق أنني لم أوجه انتباهي إلى هذا الأمر مطلقا، ولكن من المؤكد أن الكلب يسلك كما تقول. ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف بحق. - كيف ذلك؟ - ذلك لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدهما. وأظنك ترى معي أن حيوانا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، لا بد أن يكون من محبي المعرفة والعلم. - لا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك. - حسنا، ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد؟ - إنهما حقا شيء واحد. - فلنسلم إذن، ونحن على ثقة من صحة ما نقول، بأن وداعة المرء مع أصدقائه ومعارفه تقتضي أن يكون بطبيعته فيلسوفا محبا للحكمة. - أجل، يمكننا أن نؤكد ذلك ونحن مطمئنون. - وإذن، فمن أردناه أن يكون حارسا صالحا لدولتنا، لا بد أن يجمع بين الفلسفة والحماسة، والاندفاع والقوة.
4
إن مسئولية اختيار هؤلاء الحراس ستقع على عدد قليل من الرجال الذين يتميزون بأنهم فلاسفة حقيقيون، ويعرفون الأشخاص المناسبين للطبقة الحاكمة. ولا يشرح أفلاطون بوضوح كيف تنشأ حكومة الفلاسفة هذه، وإنما يكتفي بالقول بأن من الواجب في جمهوريته أن يصبح الفلاسفة ملوكا، وأن يصبح الملوك فلاسفة. وبعد أن يتولى الفلاسفة زمام الحكم تكون مهمتهم الأولى هي اختيار هؤلاء الذين سيصبحون حراسا.
وتشرح هذه الفقرة كيف سيتم ذلك: - وعلى ذلك لا بد أن ننتقي، من بين حراسنا، أشدهم إخلاصا لهذا المبدأ الأساسي، وهو أن يرعى المرء في كل ما يفعل مصلحة الدولة وحدها. وعلينا أن نختبرهم منذ طفولتهم، بأن نعهد إليهم بالأعمال التي تعرضهم لنسيان هذا المبدأ أو تؤدي بهم إلى الخطأ، ثم ننتقي منهم من يظل يتمسك به، ومن يصعب إغراؤه، بينما نستبعد من لم يكن كذلك. أوليس هذا ما ينبغي عمله؟ - بلى. - كذلك ينبغي أن نعرضهم لأعمال مرهقة ومعارك شاقة، ونلاحظ مدى وجود نفس الصفات فيهم. - الحق معك في هذا. - وينبغي أن يمروا بعد ذلك بتجربة ثالثة، هي أن نغريهم بالسلطة والنفوذ، ونلاحظهم وهم يتسابقون فيما بينهم. وكما يقود المرء الحصان القوي وسط الجلبة والضوضاء ليرى إن كان جبانا، فكذلك ينبغي أن نلقي بمحاربينا في صغرهم وسط أشياء مخيفة ثم نغمرهم بالملذات، ونعجم عودهم خلال ذلك باختبار أقسى من ذلك الذي يختبر فيه المرء الذهب بالنار، لنعلم إن كانوا يقاومون المغريات ويظلوا على استقامتهم في كل الظروف، وإن كانوا حراسا صالحين لأنفسهم وللموسيقى التي تعلموا دروسها، وإن كانوا يحتفظون في كل سلوك لهم بما في الموسيقى من إيقاع وتوافق. مثل هؤلاء الحراس هم أنفع الناس لأنفسهم ولوطنهم. فإذا ما وجدنا منهم شخصا اجتاز، دون أن تشوبه شائبة، كل ما وضعناه له من اختبارات متتابعة في طفولته وشبابه ورجولته، فلننصبه حارسا يرعى شئون الدولة، ولنكلله بألقاب الشرف طوال حياته وبعد مماته، ونخلد ذكراه بأفخم القبور والنصب التذكارية. أما من لم يكن منهم كذلك، فسوف نستبعده حتما. تلك يا جلوكون، في صورة عامة ودون الدخول في التفاصيل، هي الوسيلة التي أرى من الواجب اتباعها من أجل اختيار الحكام والحراس. - يبدو لي أيضا أن هذه خير وسيلة تتبع. - ولكن إن شئنا أن نتكلم بدقة، فالأصح أن نطلق اسم الحراس على أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يفعلوا ما من شأنه ألا يكون لأعداء الدولة في الخارج المقدرة على إلحاق الضرر بها، ولا لأتباعها في الداخل الرغبة في ذلك، وأن نطلق اسم المساعدين أو منفذي قرارات الحكام على الشبان الذين كنا من قبل نسميهم حراسا.
Page inconnue