إن اتحاد المؤمنين بالمسيح أو ثبوتهم فيه ينحصر بمعرفتهم تعاليمه، وسيرهم طبقا لإرادته ووصاياه، وخضوعهم بكليتهم له، ومن يتخذ هذا الاتحاد مع المسيح يغدو معه كنفس واحدة، وهو - أي الاتحاد - مكمل لخلاصنا، أو هو الغاية الوحيدة التي ينبغي أن يكون مدار حياتنا عليه كما قال كاروز الأمم: إنه يجب علينا في جميع أيام حياتنا أن نعمل لخلاصنا، ثم إن اتحاد الواحد مع المسيح يجر وراءه اتحاد جميع المسيحيين مع بعضهم، وإذ ذاك تتم كلمات مخلصنا التي لفظها بصلاته للآب السماوي، حيث قال: «ليكن الجميع واحدا، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك؛ ليكونوا هم أيضا واحدا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني؛ ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد؛ أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد.» «يو 17 عدد 21-24». وعليه فإن جميع المؤمنين بالمسيح يؤلفون واحدا صحيحا، وذلك لا يحتاج إلى زيادة بحث، فإن الإنسان الذي يبذل وسعه للاتحاد مع المسيح لا يمكنه أن يكره أو يحسب الذين يسعون سعيه ويحذون حذوه غرباء عنه، فالمؤمنون إذن متحدون بوحدة الإيمان، والمسيح مخلصنا يستقبلنا في طريق الخلاص، فإذا كان - له المجد - يبدي لي مساعدة بالحصول على الخلاص، فهل يخطر على بال بأنه يضن به على واحد من المؤمنين به والساعين للحصول عليه، ولذلك فالمؤمنون بالمسيح يتحدون كلهم به كواحد، قال الرسول: «إنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدا، ونقض حائط السياج المتوسط الفاصل بين السماء والأرض، وعلى الأرض بين اليهود واليونان، وقد صالح هؤلاء وأولئك بالصليب قاتلا العداوة به، فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين؛ لأن لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب.» «إفسس ص2 عدد 18». وكنيسة المسيح تقوم بذلك الاتحاد الذي أشرنا إليه؛ لأنها هي جماعة المؤمنين التي هي جسده وهو يترأسها ويحييها بنعمة الروح القدس، والمسيح كرأس الكنيسة سن لها أحسن القوانين التي تتضمن جميع وسائل الخلاص وكمال الحق القريبة لمداركنا، وكذلك وضع فيها الأسرار التي ترشد الجنس البشري إلى النعمة الخلاصية بواسطة صلبه المجيد «أي الأسرار»، تقدسهم وتبني منهم مسكنا لله بالروح «إفسس ص2 عدد 22». وبناء على ما تقدم فاتحاد المؤمنين بالمسيح لا يمكن أن يتم إلا في الكنيسة، وفيها وحدها ينبغي الاعتراف بالحق الصريح، وفيها نستطيع أن نعيش تلك العيشة الهنيئة الطاهرة؛ لأن مخلصنا - له المجد - قد وعدها وعدا صادقا بأنه سيكون معها إلى انقضاء الدهر، وقد قال أيضا: «إني أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.» ثم إن السيد المسيح لم يسلم الحقائق المسيحية لكل تلميذ على حدة، بل علمها لجميعهم معا، وقد أوصاهم أيضا أن يحبوا بعضهم بعضا محبة مشتركة، وهكذا تسلموا اتحادهم من مصطفيهم الإلهي الذي سلمهم أيضا كنيسته، وأمرهم بالكرازة والإنذار، فإذن الكنيسة التي يديرها رئيسها الإلهي ويحييها الروح القدس الساكن فيها هي وحدها مناط بها المحافظة على الحقائق الإلهية، وتعليمها، ونشرها، وهي أيضا بمثابة كلية أدبية يستقي منها أعضاؤها قوى النعمة التي تشدد ضعفهم وتقوي عزائمهم للثبوت على السير في طريق الخلاص الشاق، وقد تنبأ النبيان أشعيا «ص2 عدد 2 و4» وميخا «ص4 عدد 1 و8» عن حالة الكنيسة في مستقبل الأيام، حيث قالا: «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا في رأس الجبال ، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة، ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سنبله؛ لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب.»
ولما كانت الكنيسة - كما قدمنا - هي جماعة المؤمنين بالمسيح رئيسها ومحييها بنعمة الروح القدس، فقد أوجدت دائرة خاصة بها خارجية كمركز لحياتها الداخلية، وهي الكهنوت ودرجاته، وتلك الدائرة بحسب واجباتها نحو الرعية تحافظ أولا على تعليم المسيح صحيحا دون أن يمسه تغيير، وتنشره لدى اقتضاء الظروف والأحوال، وتكون واسطة لاتحاد المؤمنين بالمسيح بواسطة الأسرار، والمحافظة على طهارة الإيمان وآداب أعضاء الكنيسة، ثم إنه طبقا لنظام الوجود فإن الكنيسة الواحدة الجامعة تنوجد بصفة كنائس منفردة خاصة مرتبطة بالروح، ومنقسمة بحسب المكان والمجمع المكاني الذي يلتئم مؤقتا، أو يكون بصفة دائمة كالمجامع المقدسة «السينودس»، فهو مركز للكنيسة الخاصة.
إن رعاة الكنيسة كخلفاء للرسل، يتخذون بعض أعضاء لها بإلهام إلهي لمساعدتهم، وتنحصر وظيفتهم في حق الحل والربط، أو أنهم عند الاقتضاء يرشدون الناس طرق الخلاص أو يمنعونهم عن بعضها، ولا يدعون إليهم سبيلا للانتفاع بتلك الطرق، وهذا الحق مبني على كلام مؤسس الكنيسة الإلهي القائل: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما؛ إن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة، وإن لم يسمع منك فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار.» «مت ص18 عدد 15-17». ومعنى كلام السيد المسيح هو: إذا أخطأ مؤمن مثلك، أو قريبك، أو أخوك بالروح، ضد إيماننا؛ سواء كان بالفكر أو بالقول أو الفعل فوبخه باحتراس على حدة كأخ، فإذا لم يسمع منك وحدك فوبخه بتعقل ولطف أمام شاهدين أو ثلاثة من إخوانك في الإيمان؛ فإذا لم يسمع منكم جميعا فأعلم الكنيسة به وهي فلتوبخه بلطف كأب يوبخ أولاده، وإذا لم يسمع من الكنيسة فلا يبقى له محاكمة على الأرض، بل اترك محاكمته النهائية على عناده إلى قضاء الله، واعتبره إذ ذاك غريبا عنك وبعيدا منك ومفروزا، ولقد سارت الكنيسة منذ إنشائها حسب كلام مؤسسها، وعملت به مع الذين كانوا ينكرون جوهر تعاليمها وأساس حياتها، ولقد طرق مرة مسامع رسول الأمم بأنه ظهر في كنيسة غلاطية التي أسسها معلمون كذبة قد حولوا بعض أعضائها البسطاء عن الإيمان فكتب إليهم: إنني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما «أي مفروزا» «غلا ص1 عدد 6 و8».
ولقد كتب أيضا إلى كنيسة كورنتوس: بلغني خبر صادق، وهو أنه ظهرت بينكم خطية عظمى لم يسمع بمثلها عند الوثنيين ... ثم آمر بأن يفصل الفاعل عن الكنيسة، وتصرف الرسول هذا يورث الانذهال والعجب؛ لأننا إذا طالعنا الفصل الثالث عشر من كورنتوس، ورأينا ما نادى به هذا الرسول من فضل المحبة وواجباتها نستكبر كيف أنه الآن ضاق ذرعا، ونفد صبرا، وتصرف بمثل ذلك التصرف، ولم يستطع احتمال ظهور تلك الخطية بين المؤمنين، ومن هذا القبيل إذا مرض أحد أعضاء الجسم، فإما أن نعالجه حتى يبرأ أو أن نبتره لئلا يفسد بقية الأعضاء، وهكذا تفعل الكنيسة مع الأعضاء الفاسدة التي لا تقبل الشفاء؛ لأن لها نظامات وشرائع تسير عليها، ولن تحيد عنها مطلقا، وهي توجه الأناثيما لكل من يسعى بتقويض أركان حياتها وخرق قوانينها ونظاماتها.
غير أنه لسوء الحظ يوجد كثيرون في روسيا وغيرها لا يدركون معنى تلك اللفظة؛ إما لقلة إدراكهم أو لابتعادهم عن المسيح، ولعدم فهمهم كلامه الواضح، فأولئك هم المخطئون؛ لأنهم هم قد أوجدوا بغير عدل كلام اللعنة، ونحن لا نغلط إذا عبرنا عن الأناثيما الحقيقي الذي توجهه الكنيسة المقدسة إلى أعضائها المضرين بها، وغير الخاضعين لها بهاتين الكلمتين: «اتركونا وشأننا» ونتبعهما بالصلاة إلى الإله الرحوم؛ لكي يردهم إلى أحضان كنيسته. ثم بعد ذلك نقول لهم: إنكم لا تؤمنون كما أمرنا الرب أن نؤمن، بل إنكم ترفضون وصاياه المقدسة ، وتجتهدون لملاشاة نعمته الطاهرة، وتهزأون بشرائع كنيسته التي أنشأها واشتراها بدمه، ووعد أن يحفظها إلى انقضاء الدهر، وقد وضع فيها جميع كنوز عمله الفدائي، وفوق ذلك فإنكم تسعون لكي تدخلوا فيها جميع تعاليمكم، وبنات أفكاركم الفاسدة، وعدا ذلك فإنكم تحتقرون وظائف رجال الكنيسة، وتتهكمون على شعائرها ونظاماتها، ولا تعتبرون فيها شيئا مقدسا، ولا تحتاجون لشيء منها «فاتركونا وشأننا» ونحن نبقى مع ذلك مسالمين لكم كبقية الناس الذين لا يعرفون تعليم المسيح ويجهلون شريعته، ولا جناح علينا من مجاورتكم ومشاركتكم في أتعاب الحياة، ولكن لا نستطيع مشاركتكم في الأفكار الدينية، ولا في الصلوات والأسرار، ولا في رباط المحبة الروحية.
وكذلك لا نستطيع مشاطرتكم آمالنا ورجاءنا؛ لأنكم صرتم وثنيين، وأنكرتم طهارة وكمال الإيمان المسيحي، وأصبحتم عندنا كما كان العشارون عند قدماء اليهود، ولذلك فنحن نعتبركم كما أمرنا ربنا بقوله: «وليكن عندك كالوثني والعشار.» وأنتم لكم الخيار ومطلق الحرية أن تكونوا كيفما تريدون، ونحن تأمرنا واجباتنا أن نعتبركم كما أمرنا ربنا يسوع المسيح الذي نؤمن به، وننتظر منه الخلاص الأبدي، وإنما حسب وصيته ينبغي علينا أن نصلي من أجلكم قائلين: «أيها الثالوث الأقدس، اطلع وأنر عقولهم؛ لكي يعرفوا نور تعليمك الحقيقي السرمدي».
ثم إني أوجه السؤال الآتي إلى معشر الأدباء، وهو: هل تستطيع الكنيسة أن تصرح أو تشير بأن من يعلم الإيمان على طريقة تخالف معتقداتها وشرائعها بأنه من أبنائها؟ أو هل تستطيع الكنيسة أن تنظر بارتياح إلى أعضائها الذين يتبعون في اعتقاداتهم اعتقادا مخالفا لها؟ وهل تستطيع أن تصمت عندما تشاهد أعضاءها يقطعون رباط اتحادهم معها ويسيرون على طريق الهلاك الأدبي؟ فإذا سكتت في مثل هذه الظروف تكون قد قصرت بواجباتها كذاك الذي يضع السراج تحت المكيال وليس على المنارة. أجل، إن الكنيسة تعرف نفسها بأنها وحدها حائزة كمال الحقائق الدينية، وأن الابتعاد عنها يسبب الهلاك لأولئك الذين يفتشون على الخلاص، ولذلك فإنه يتعين عليها أن تجاهر علنا على مسمع العالم كله بقطع النظر عن الأشخاص وأهميتهم بذلك الحق، وتنادي به على رءوس الأشهاد غير ملتفتة إذا جلبت لها تلك المناداة ملاما أو عداء، ثم إنه لا يخفى على ذوي الفكرة النقادة بأن كل جمعية سواء كانت علمية أو سياسية يكون لها قانون يسير عليه أعضاؤها، ولا يسوغ لأحد منهم مخالفته إذا كان اللهم لا يريد الانسلاخ عن تلك الجمعية؛ ذلك لأن حياتها تتوقف على محافظة الأعضاء عليه، وموتها يتوقف على مخالفته، وعلى هذا القياس ينبغي علينا أن نعتبر الكنيسة وأعضاءها المرتبطين معا بالإيمان وشريعة الله المقدسة وأسراره الطاهرة، فإذا أمعنتم النظر تتفقون معنا بأن الكنيسة لا تقدر أن تصمت عندما ترى أعضاءها يدوسون شرائعها، وما دامت حية «وستكون حية إلى انقضاء الدهر» ينبغي عليها أن ترفع صوتها شهادة للحق؛ لأنها عامود الحق وقاعدته «1 تي ص3 عدد 15»، وعلى ذلك تتوقف حياتها.
ولا ريب بعد هذا تزول الشكوك من نفوس أولئك المعتقدين خلاف هذا الاعتقاد، ويتفقون معنا على أن الكنيسة لها الحق؛ بل يقتضي عليها أن تؤدي شهادة صريحة عن الأشخاص التابعين لها والخارجين عنها، وإنما يبقى علينا أن نعرف أمرا واحدا، وهو هل لديها قاعدة تسير عليها في معرفة تابعي المسيح الصادقين والكاذبين؟ فنجيب على ذلك: نعم، إنه لديها قاعدة صحيحة مسلمة لها وهي: أن المسيحي هو ذاك الذي يؤمن بالإله الذي جاء بالجسد، ولقد كتب بهذا المعنى الرسول الإنجيلي حبيب المسيح الذي استند إلى صدره ليلة العشاء السري فقال: أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله؛ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم. أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم؛ لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم.
وهذه هي القاعدة التي تقدر بها الكنيسة أن تعرف الخراف التي تخص قطيع المسيح، أو - حسب كلام المخلص - التي تسمع صوت راعيها «يوحنا ص10 عدد 26».
وبناء على ذلك فإنه ليس كل روح تسير على الأرض في النور الذي أتى به المسيح، بل تلك الروح التي تعترف بأن المسيح قد جاء إلى الأرض بالجسد، وتعترف أيضا بأنه هو ابن الله حقيقة الذي تجسد من مريم العذراء، وهذا التعليم يؤلف أهم فصول دستور الإيمان الذي وضعه المجمع المسكوني الثاني، وصار من ذلك الوقت دستورا للكنيسة المسيحية؛ لتعرف بموجبه التابعين لها والخارجين عنها.
Page inconnue