لقد نجحت الآن - بدرجة أرتاح إليها - في أن أبين أن بعض الصفات التي يظن في بعض الأحيان خطأ أنها من خصائص المدنية ليست - في الواقع - منها في شيء. وقد حاولت أن أستبعد كل ما ليس بالضروري. ورأينا أن الفضائل البدائية لا تتنافى وحالة الهمجية، وأن الأسماك الهلامية تطاوع قانون الطبيعة. ورأينا أن المجتمعات المتمدنة - أو المجتمعات الهمجية - لا يسودها نظام معين من النظم السياسية، كما رأينا أن القبائل المتوحشة قد أحرزت انتصارات عظيمة وتغلبت على دول قوية. ورأينا أن تلك الجماعات التي يقر لها الرأي العام بين المتعلمين في العالم طرا برقي المدنية لم تبلغ فيها جميعا المخترعات الميكانيكية أو النظم التي تؤدي لخير الإنسانية درجة من الكفاية المرموقة، وإن كنت في هذا أمس موضوعا يتعلق بفصل آت من فصول الكتاب. وسأبحث في الفصل الآتي عن الصفات المميزة المشتركة التي تتصف بها الجماعات التي يقر لها الرأي العام المثقف في العالم طرا برقي المدنية، وسوف أعتبر هذه الصفات أسس المدنية، ولذا فإن كل من لا يشاطر الرأي العام المثقف الاعتقاد في المدنية الرفيعة لدى هذه المجتمعات لن يجد ضرورة لما أصل إليه من نتائج ما دام ينكر ما ابتدأت به من مقدمات. ولن تكون لهذه المقالة عنده قيمة أكثر من أهميتها من الناحية العلمية. وإني لأزعم - بناء على إجماع الرأي العام المثقف الذي يكاد أن يكون شاملا - رقي المدنية في مجتمعات ثلاثة مختلفة.
ولست أزعم، بل ولا أحلم أني أزعم، أن هذه المجتمعات وحدها هي المتمدنة. إنما اخترت المجتمعات الثلاثة التي يبدو لي أنه ليس على رقي مدنيتها أي نزاع، والتي تصادف أني أعرف عنها بعض الشيء. هناك مجتمعات لها حق قوي في أن تعد من المجتمعات المتقدمة في المدنية، غير أن هناك من يدلي إزاء هذا الحق بحجج قوية تنافيه، ومن الواضح أنه لا ينبغي لي أن أتجه إلى هذه المجتمعات باحثا عن مميزات المدنية، كما أن هناك مجتمعات أخرى، نسلم جميعا بتمدنها، بيد أنه عند البحث يتبين لنا أنا لا نعلم عنها إلا القليل حتى إنا لا نكاد نستطيع أن ننسب إليها صفات معينة ونحن واثقون. وإني لأشعر - رغم هذا - أن كثيرا من الناس يصرون على الإضافة إلى القائمة التي تخيرتها. وإني لأرجو هؤلاء الناس ألا يعارضوني فيما وصلت إليه من نتائج حتى يتثبتوا من أن الصفات المشتركة بين المدنيات الثلاث النموذجية التي تخيرتها لا تشاطرها المدنيات التي يودون إضافتها. ولست أرى داعيا لأن نعتبر ما بيننا خلافا أساسيا ، حتى إن هم رأوا من الضروري أن يدخلوا بالإضافة أو بالنقصان تعديلا في القائمة التي قدمتها عن صفات المدنية. فسوف يظل بيننا ميدان مشترك يكفي لتدعيم تعريفي، وسوف نرى.
نماذج الكمال
اعتاد المؤرخون الذين ينهجون النهج القديم، والذين يتميزون بأسلوب منمق ممتع في معالجة الماضي أن يحددوا في بيداء التاريخ أربعة عصور من المدنية الرفيعة: العصر الأثيني (بل يجب أن أقول العصر الأيوني، إذا أردت الدقة، ولكني لا أعتزم أن أكون دقيقا) من موقعة ماراتون في عام 480ق.م. حتى وفاة الإسكندر في عام 323ق.م. والقرنين الأول والثاني من الإمبراطورية الرومانية، وإيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفرنسا من نهاية الفروند (1653م) حتى عصر الكاتب، إن كان الكاتب - مثل فلتير - يكتب في القرن الثامن عشر، وحتى الثورة إن كان يكتب في القرن التاسع عشر. ولا أحسب أن شخصا متعلما من الأحياء - رجلا كان أو امرأة - ينكر رقي المدنية في ثلاثة من هذه العصور الأربعة. ولكن كثيرين يترددون عند ذكر اسم روما، وآخرون يحبون أن يضيفوا تانج وسنج، وما يعرف معرفة غامضة، أو يتحدث عنه باسم المدنية الفارسية. ويكاد الكل أن يجمع على أن يضع المدنية الأثينية على رأس القائمة، غير أن بعضهم يحدد هذه التحفة الاجتماعية بذلك المدى الضيق الذي يمتد خلال ستين عاما مشرقا ما بين 480 وعام 420، ويطلق عليه عصر بركليز، في حين أن بعضهم الآخر يطيل المدى حتى أرسطو والإسكندر، ويمده إلى الوراء حتى سولون. إنني لا أرضخ لأحد في إعجابي بالقرن السادس فيما بلغ من فن النحت الذي أعده أعلى مظهر من مظاهر عبقرية الفنون التشكيلية عند الإغريق، وإعجابي بالحركة العقلية القوية التي منها ينحدر كل تفكير حديث جدي، وبرغم هذا فإني أشاطر الرأي العام عزوفه عن وصف القرن السادس بالمدنية الرفيعة. في حين أني أخلع هذه الصفة دون تردد على القرن الخامس، وبغير تردد شديد على القرن الرابع. وينطوي هذا الاحساس - الذي أعتقد أن أكثر المتعلمين يشاطرونني إياه - على أهمية كبيرة؛ ذلك أننا نحس أن مدنية عصر من العصور لا تقاس كلية بجمال فنها أو بروعة فكرها. إنا نشعر - أو أنا على الأقل أشعر - أن عصر المدنية الأثينية الرفيعة لا يبدأ قبل ماراتون، في حين أني لا أستطيع بأن أقر بأن هذا العصر ينتهي قبل موت أرسطو في عام 322ق.م. وإن كان يؤلمني أن أعرف انحطاط الفترة التي تلت الحرب في يقظتها العامة، وفي المذاهب الخاصة وإن يكن ذلك بدرجة أقل. أما الفترة التي تقع بين سولون واندحار الفرس نهائيا، فهي تبدو لي - كما تبدو لأكثر الناس - فترة عظيمة، ولكنها ليست كاملة التمدن. في حين أن الفترة التي تقع بين سقوط الديمقراطية الأثينية وغزوات الإسكندر فهي أقل عظمة، ولكنها أرقى في سلم المدنية. ومهما يكن من أمر، فإنه لا يحتمل الآن أن ينكر أحد ذلك الشرف الذي قد تخلعه هذه العبارة «المدنية الرفيعة» على عصر أفلاطون، وما تلاه من عصر أرستوفان وبراكسيتيلس وأرسطو. وقل من ينكر أن هذه الفترة جزء لا يتجزأ من المدنية الأثينية العظيمة التي سوف أعود إليها بين الحين والحين، والتي لا بد بحق أن يدرسها في تعمق وبعقل متفتح كل من يأمل أن يكتشف طبيعة المدنية.
ومن المؤكد أن حق أي فترة من فترات التاريخ الروماني في احتلال مكانة بين عصور المدنية الكبرى - من المؤكد أن هذا الحق يلقى اليوم اعتراضا حارا ذا أثر بالغ. ولن تجد بين النماذج الكاملة للمدنية التي أقدمها فترة رومانية. ولو أني لخصت هنا الحجج التي أقنعتني أنه لا يجوز قبول إحدى هذه الفترات، فمن الواضح أني أتعجل بذلك في ذكر نتائج أرجو أن أبلغها بعد قليل. وما دمنا لم نقرر بعد ما هي صفات المدنية فلا أستطيع أن أزعم أن روما كانت تخلو من هذه الصفات، وكل ما أستطيعه أن أشير إلى الدليل الذي حدا بي إلى إساءة الظن بالعقل الروماني والإحساس الروماني. ولنذكر أن ذلك كله لا يقوم دليلا - ولا ينبغي حقا أن يكون - ضد حق روما في المدنية الرفيعة. ولا يصرفني عن النظر في تاريخها إلا أن كثيرين ممن لا يمكن أن نغفل إنكارهم للمدنية في روما ينازعون نزاعا جديا حق الرومان فيها، وعلى أية حال فلن تبلغ بي قلة الصراحة أن أزعم أني لا أشاطرهم سوء الظن بتاريخ الرومان. وسوف أبادر إلى ذكر الأسباب أو بعضها التي تدعوني إلى ذلك. أما لماذا - على وجه الدقة - أحسب أن روما لم تكن قط رفيعة المدنية فلن يتضح تماما إلا خلال مقالتي.
يعتقد فلتير أن الثقافة الرومانية بلغت أوجها في القرن الأول من الإمبراطورية. غير أن المعجبين بالرومان اليوم يؤثرون فيها أحسب أن يقفوا عند القرن الثاني. وقد اتضحت للمؤرخين منذ زمان بعيد البربرية والهمجية والوحشية التي اتصفت بها الجمهورية، وبلغ من وضوحها أن بدأ الطلاب الأذكياء يرتابون في العصور المتأخرة. وما إن بدأ الباحثون يتساءلون إن كان من المحتمل أن تكون مغامرات قيصر أو مروءات كاتو قد غيرت نوع الحياة تغيرا أساسيا، ما إن بدءوا يتساءلون في هذا حتى اكتشفوا أن المجتمع الروماني بقي - إلى حد كبير - تحت حكم الأباطرة الرومان الأوائل على ما كان عليه في أيام الجمهورية. من أجل هذا تعتقد الأقلية الصغرى - التي ما زالت تؤمن بعظمة روما - أن القرن الثاني، في السنوات التي تقع بين اعتلاء نرفا العرش وموت ماركس أورينيس، كان عصر نور وعذوبة. وهناك مدرسة أكبر وأحدث، أزعم لنفسي فيها مكانة متواضعة على مقعد التلميذ، تعتقد أن روما في كل تقلباتها السياسية بقيت همجية تافهة في أساسها. لا نجد في آدابها وفنونها وفكرها وثقافتها العامة شيئا ذا قيمة ليس صدى مملا للإغريق، ويبدو لنا أن الغالبية العظمى من الكتاب اللاتينيين لم تعتقد قط أن لغتها تصلح وسيلة للتعبير الذاتي، وإنما استخدموها كما يستخدمها طلاب الصف السادس في المدارس إلى حد كبير، يترجمون إليها بدلا من أن يعبروا بها عن أنفسهم. إنك تلمس في أكثر الأدب اللاتيني طابع التمرين الذي لا يخطئ. وقد كان الكتاب الرومان في أكثر الأحيان يأملون أن يصدروا كتبا تشبه الكتب. أما أن يكتب المرء ليعبر عن رأيه أو إحساسه الخاص فقد كان بالنسبة إليهم أمرا غير طبيعي. ومن ثم كان الانتقال من هومر إلى فرجيل، أو من سوفوكليز إلى سنكا، كالانتقال من كتاب «رحلة الحاج» إلى موعظة من مواعظ الكنائس الصغرى، فقد كتب هومر وسوفوكليز لأن لديهما ما يقولان، أما فيرجيل وسنكا فقد كتبا لأنه بدا لهما من الصواب أن يقولا شيئا ما، وإذا استثنينا كانلس ولوكريشس، فمن من المؤلفين اللاتينيين حمل إلينا معنى يدل على خبرة حقة؟ هناك - ولا شك - واحد أو اثنان، وهل هناك نحات روماني واحد عبر عن أي معنى من المعاني؟ ليس هناك من أعرفه، وأن الفلسفة الرومانية لتذكر المرء بنقاش مرتفع المستوى بدرجة استثنائية في مجلس العموم. مثل هذا النقاش - بصفة عامة - يتجه وجهة طيبة، ولكنه لن يقرب المرء من قلب الموضوع، والفلسفة التي لا تحاول حتى أن تبلغ اللب قمينة بأن تكون تافهة، وإذا كانت فلسفة الرومان (مثل دي اميكاتيا، أودى بروفد نشيا لسنكا) تذكر المرء بالمناقشات البرلمانية، فإن رسائلهم الخاصة تذكر بأحاديث شيوخ عهد فكتوريا في حجرات التدخين، فهي ودية، معقولة، طريفة، ولكنها ليست البتة قلبية، أو فطنة، أو خيالية، ومن أن تاستس كانت له أمثال، ومع أن هجاء جوفنال صادر من صميم القلب، وفيه فطنة وخيال، إلا إن الرومانيين عامة كانوا لا يدرون شيئا. كانوا يستطيعون أن يتكلموا كلاما معقولا عن الأمور العملية، ولكنه ككلام العرفاء في المدارس الخاصة. كانت لهم نكات، وآراء، وضروب من السخط، وكانت لهم شهوات، وكانوا يحترمون - كما يفعل خيار رجال الأعمال الإنجليز - تلك الواجبات الودية النبيلة التي تربط الإنسان بالإنسان في المكاتب والمحاكم وفي عربات القطارات وفي الملاعب، ولكنهم لم يقتربوا البتة من أي أمر ذي بال، ومن أجل هذا كانت رائحة روما النفاذة تذكرني - وهي تخترق العصور - في أحسن حالاتها بمجلس العموم وحفلات العشاء السياسية، وفي أسوأ حالاتها بالبترول وبرائحة النبات والنسيج والجلد الجديد .
كان الرومانيون فيما أرى عاجزون عن الحب العنيف لأي شيء، وعن الإحساس العميق بالجمال، وعن التفكير الدقيق، والحديث الساحر، أو الرذائل الجذابة. لم يكن لديهم إحساس بحقيقة عالم الفكر والشعور، وما استطاعوا أن يحصلوا من ثقافة حصلوه في القرن الثاني، وكان إغريقيا خالصا، وأن حفنة من الكتاب والمفكرين الإغريق لتمثل هذا العصر تمثيلا غامضا، ونستطيع أن ندرك كيف أن هذا التفكير لم يتغلغل في كتلة الشعب الروماني لو علمنا أن الخرافة بلغت في ذلك الحين مبلغا عظيما حتى إن خير العقول - كما يقول رينان - مالت قبل كل شيء إلى المسيحية نظرا للأساس العقلي الذي تقوم عليه نسبيا. ولم يتخذ القانون الروماني - وهو أعظم وأنفع ما أخرجته الإمبراطورية - صبغته المألوفة إلا في القرن الثاني - وهو لم ينسق في شكل قانون بطبيعة الحال إلا بعد أكثر من ثلاثمائة عام. والقانون الروماني - كما نعرفه - إغريقي أساسا، ذلك أن الفقهاء البارزين، لم يكونوا سوى رواقيين، يعدلون ويطورون النظريات الرومانية القديمة على الأسس التي يشير إليها مذهبهم الفلسفي، ويستبدلون قانون الشعوب بالقانون الجمهوري.
أما من ناحية الذوق الروماني، فإن مما يعلمه كل إنسان عابر أن هادريان - وهو من أكثر الحكام الرومانيين تهذيبا وتشبعا بالروح الهلينية - شيد لنفسه في تفولى فلا من عجب تذكر المرء بوصفها بأسوأ ما شيد لنفسه مليونير حديث من مأوى، وقد كان ذلك مما يدعو إلى تحمس جريجور فيس، ذلك الرجل الطيب، فهو يقول: «... إن هذه الفلا التي بناها هادريان وفقا لتصميمه، ليست سوى صورة وانعكاس لأجمل ما أعجب به في هذه الدنيا». وقد أطلق على أجزاء معينة من الفلا أسماء بعض المباني في أثينا. فاشتملت على ليسيوم، وأكادمي، وبريتانيم، وبوسيل، بل وعلى وادي تمبى يتدفق في ثناياه بينيس، وكذلك اليزيم وترتارس. كما خصص جزءا لعجائب النيل وأطلق عليه اسم كانوبس وهو اسم ملاعب اللهو الساحرة للإسكندريين .. وبإشارة من الإمبراطور كانت هذه الكهوف والأودية والقاعات تنبض بميثولوجيا أولمبس، وتحج مواكب الكهان إلى كانوبس، وتسكن تارتارس واليزيم صور من هومر، وقد تتجول زرافات من المعربدين خلال وادي تمبي، وربما سمعت جوقات من يوربديز في المسرح الإغريقي، وقد تعيد الأساطيل معركة زركيس في قتال صوري، ولو أن الكهرباء سرت في كل الأرجاء لبلغت حد الكمال.
ولا ينكر أحد أن تأثير روما على العالم كان بالغا. ولا ينكر أحد أيضا أنه كان كذلك تأثيرا نافعا من وجوه كثيرة. غير أن هذا لا يدل على أن الرومانيين كانوا على مستوى عال من المدنية، إذا أدركنا أنا نستطيع أن نحكم على البرابرة الجرمان الذين اجتاحوا الإمبراطورية وخربوها حكمنا عليهم. إن ما ندين به لروما على وجه الدقة لا يزال موضع نزاع. غير أنه مما لا جدال فيه أن كثيرا من ذوي الرأي الأكفاء ينكرون عليها رقيها في المدنية. ومن ثم فإني لا أستطيع - إن أردت - أن أستخلص من تاريخها حقائق يقبلها الجميع.
وفيما بين وفاة بوكاشيو في عام 1375م وغزو روما في عام 1527م يقر الباحثون عامة أن الإيطاليين بلغوا قنة عالية من قنن المدنية، وإني لا أجد في هذا الرأي بالتأكيد أي مأخذ. نعم هناك من يشكو أساليب السياسة في هذا العصر، ولكني أقول لهؤلاء أولا أننا لسنا على ثقة بعد بأن الأخلاق السياسية ظاهرة ضرورية من ظواهر المدنية الرفيعة، وأقول لهم ثانيا إن الاغتيال السياسي قد يحل محل الحرية، وإن قتل الفرد أفضل عادة من قتل الألوف. وليس من شك في أن الأذكياء والمثقفين من الإيطاليين لعهد النهضة كانوا أشد من الإيطاليين لعهدنا الحاضر ازدراء للقوة الوحشية، وهي مقارنة لا تمت فيما أحسب إلى موضوعنا بسبب كبير.
Page inconnue