الإهداء
فاتحة الكتاب
1 - نشأة المدائح النبوية
2 - مدح أهل البيت
3 - الكميت بن زيد الأسدي
4 - هاشميات الكميت
5 - تائية دعبل في أهل البيت
6 - قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء
7 - قصائد مهيار في أهل البيت
8 - بردة البوصيري
9 - عناصر البردة
10 - أثر البردة في اللغة العربية
11 - بديعية ابن حجة الحموي1
12 - مدائح ابن نباتة المصري
خاتمة الكتاب: قصة المولد النبوي
الإهداء
فاتحة الكتاب
1 - نشأة المدائح النبوية
2 - مدح أهل البيت
3 - الكميت بن زيد الأسدي
4 - هاشميات الكميت
5 - تائية دعبل في أهل البيت
6 - قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء
7 - قصائد مهيار في أهل البيت
8 - بردة البوصيري
9 - عناصر البردة
10 - أثر البردة في اللغة العربية
11 - بديعية ابن حجة الحموي1
12 - مدائح ابن نباتة المصري
خاتمة الكتاب: قصة المولد النبوي
المدائح النبوية في الأدب العربي
المدائح النبوية في الأدب العربي
تأليف
زكي مبارك
الإهداء
إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق.
أهدي هذا الكتاب، تحية لمودة غالية دامت عشرين عاما، فلم يزدها تقادم العهد إلا قوة إلى قوة، وصفاء إلى صفاء.
المخلص
زكي مبارك
مصر الجديدة في 27 رجب سنة 1354ه
25 أكتوبر سنة 1935م
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
فاتحة الكتاب
باسمك اللهم أفتتح هذا الكتاب، ومنك وحدك أنتظر حسن الجزاء.
أما بعد؛ فهذا كتاب لم يكن ظهوره في الحسبان، فهو في الأصل باب من كتاب قدمته إلى الجامعة المصرية عن «أثر التصوف في الأدب والأخلاق»، وألفت لدرسه لجنة مكونة من الدكتور منصور فهمي، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والدكتور عبد الوهاب عزام، ورأت هذه اللجنة أن الباب الخاص بالمدائح النبوية خليق بأن يظهر مستقلا عن الأصل بعض الاستقلال، وكان هذا الاقتراح فرصة تلقفتها في نشوة الجذلان؛ لأني كنت أشعر أن المدائح النبوية في الأدب العربي تستأهل الظهور في كتاب خاص.
ومن الخير أن أصارح القارئ بأن هذه الفصول نسخت نسخا من الكتاب الأصيل، فلم يحذف منها شيء، ولم يضف إليها شيء؛ لأني قدمتها إلى المطبعة في أيام كانت كلها شواغل، ولأني آثرت أن تظهر كما فاض بها القلب، فلا يفسدها تأنق، ولا يزورها تنميق.
والحق أني لا أستطيع أبدا أن أكتب البحث الواحد مرتين؛ لأني أنتزع أدبي من ثورة العقل والقلب، وقد درست نفسي مرات كثيرة؛ فرأيت السهم الأول أنفذ في جميع الأحيان، ورأيت معاودة الصقل والتهذيب ضربا من الزخرف لا تسيغه طبيعة فطرت على الثورة والاقتحام.
وإني لأعترف بأني مأخوذ بنشوة النصر وأنا أقدم هذا الكتاب إلى القراء، فما كنت أحسب أن الزمان سينصفني هذا الإنصاف؛ فأكون أول من يرسم خصائص المدائح النبوية في الأدب العربي، وهو موضوع كان يجب أن تعين رسومه وحدوده منذ أزمان.
وقد تلقيت جزائي سلفا على تحبير هذه الفصول، فلن أنسى ما حييت تلك التحيات الطيبات التي تلقيتها من الدكتور منصور فهمي، والأستاذ مصطفى عبد الرازق، والدكتور عبد الوهاب عزام، ومن قبل هذا أنست بموضوع البحث، فكان ذلك الأنس أفضل جزاء.
وأي أنس أعظم من شغل النفس بتلك الأقباس الروحانية التي بثها نبي الإسلام في أرجاء الوجود؟
إن ذلك الروح القهار، روح الرجل الذي اتهمه معاصروه بالشعر والسحر والجنون، إن ذلك الروح هو شعلة أبدية ستظل ما بقيت الأرض والسماء فتنة للعقول والقلوب، وسيأتي زمان يرتاب فيه الناس في مكانة محمد بن عبد الله من التاريخ، وسيقول قوم إن شمائل ذلك الرجل أقوى وأخطر من أن يسمح بمثلها الوجود، وسيقولون إنه لم يكن إلا رمزا تمثل به الناس كيف تكون مكارم الأخلاق.
إي والله، سيقولون ذلك، فلنسبقهم نحن بهذا القول مع الاعتراف بأنه عرف هذه الدنيا وشهد هذا الوجود، وأي غرابة في أن يخلق الله رجالا يمثلون العظمة الروحانية، ويظلون على الدهر مضرب الأمثال؟
وقد كان حظ النبي محمد أوفى الحظوظ بين الرسل والأنبياء، فكل نبي قامت من حوله الأساطير، وصورت شمائله بألوان صيغ أكثرها من الخيال، أما النبي محمد فحجته الباقية هي القرآن، وهو كتاب لم يضف إليه سطر واحد بعد موت ذلك الرسول، فهو من الوثائق التاريخية التي يندر أن يكون لها مثيل.
وإلى من نوجه هذا القول؟
أتروننا ندافع عن ذلك الكتاب المجيد؟
ومن عسى أن يكون أعداء ذلك الكتاب؟
وهل كان الملحدون إلا ناسا سخفاء طاشت حلومهم، وظنوا الزيغ من البراقع التي تستر الغباوة والجهل؟
ومن العجب أن نرى بين أعداء القرآن من يعجب بشعر أبي نواس، ويراه صالحا لأن يوضع في الميزان مع أكبر شعراء اليونان.
فأين شعر أبي نواس كله من آية واحدة ستظل أعجوبة البيان في جميع الأزمان؟
وما أدري والله كيف يعقل من يهذي بمثل هذا القول، إلا أن يكون السخف صار من علائم التفوق في هذا الزمن الرقيع!
إن أعداء القرآن لا يعادونه عن عقل، وكيف يعقل من يعادي البدر المشرق، والجبل الركين؟ إنها نزوات تطوف برءوس الممرورين الجبناء الذين توهموا أنه لم يبق للإسلام أوس ولا خزرج، وأن الوادي خلا من الأسد الغضاب، ألا ساء ما يتوهمون.
ومع ذلك سيذهب الملحدون مع الذاهبين، وإن بقيت لهم ذكرى فستكون صورة من صور إبليس، فإن تعللوا بأن الشهرة مغنم عظيم، فليتذكروا أن إبليس سيظل أشهر منهم، وإن قضوا طوال الأعمار في خدمة الإفك والضلال.
سيقول السفهاء من الناس: وما دخل هذا الكلام في مقدمة كتاب المدائح النبوية؟
ونجيب بأننا نصور حالة من أحوال هذا الزمان، فنحن لم نخلق أعداء نحاربهم، وإنما نحارب أعداء نراهم رأي العين، وهم - والله - أحقر من أن نعرض لهم بنقد أو ملام، ولكن حقارتهم لا تمنع المؤمن من وخز صدورهم بلواذع الهجاء، فقديما كان الشيطان الرجيم ملعونا بألسنة المؤمنين.
وما الذي يمنع من حرب الزور والبهتان؟
إن التورع عن لحوم الآثمين ليس إلا ضربا من الجبن، وبفضله استنسر البغاث، وصار للآثمين أشياع وأحزاب.
ومن العجب في مصر بلد العجائب أن تحيا الغيرة على الأطلال، وتموت الغيرة على الحقائق، فلو انتهب حجر من أحجار الكرنك لكان انتهابه نكبة وطنية، وكان الصراخ لضياعه عملا يثاب عليه من يحسن البكاء والعويل.
أما زعزعة الإيمان في هذا البلد، فهي أقل خطرا من سقوط حجر أثري تحرسه وزارة الأشغال؛ لأن رعاية الآثار بدعة عصرية يعرفها الأوروبيون، والأمريكان، أما رعاية العقائد فسنة قديمة سحب عليها الدهر ذيل النسيان.
وما أقول هذا تعصبا للدين - وهو تعصب شريف - وإنما أقوله تعصبا لحقيقة أدبية تغار عليها الأذواق، فليست الثقافة أن نعرف أوهام المشرق والمغرب، وإنما الثقافة أن نعرف ما يجب أن يعرف، وقد آن أن يفهم الغافلون أن الأمة التي يحفظ أطفالها القرآن، هي أهدى من أمثال الأمة التي يحفظ أطفالها أقاصيص لافونتين.
وما أقول هذه الحقيقة وحدي، وإنما يعرفها خلق كثير لا يصدهم عن الجهر بها إلا الخوف من الاتهام بالتعصب والرجعية، وهو اتهام لا أقيم له أي وزن؛ لأن حزب الشيطان أضعف من أن يحسب له حساب.
وقرائي من غير المسلمين لا يسيئهم هذا القول، فليس القرآن ملكا للمسلمين، وإنما هو ملك للإنسانية جمعاء، وكذلك كانت التوراة وكان الإنجيل، وهل كانت الشرائع إلا موارد يفزع إليها الظماء في عالم العقول، والقلوب، والأذواق؟
ونعود إلى موضوع الكتاب فنقول: كانت المدائح النبوية أول الأمر نوعا من المدائح التي تجري على الطرائق الجاهلية، وقد فصلنا ذلك في الفصل الأول من الكتاب، فعرضنا لدالية الأعشى، ولامية كعب، وقصائد حسان، ثم تكلمنا عما وقع في خطب علي بن أبي طالب من المدائح، وبينا كيف نشأ مدح أهل البيت، وكيف ترعرع هذا الفن في البيئات الإسلامية، ثم خصصنا الكميت بدراسة وافية، وهو شاعر فحل شرع للشيعة مذاهب القول، وعلمهم أساليب الجدل والحجاج، وأتبعنا ذلك بفصل عن دعبل، وهو شاعر خبيث اللسان، ولكنه ترك لنا تائية قليلة النظائر والأمثال. ومضينا إلى قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء، وقصائد مهيار في أهل البيت، فأعطينا القارئ فرصة يتعرف فيها إلى طوائف من النوازع الروحية، قل من اهتم بها من الباحثين.
فلما وصلنا إلى البوصيري، وقفنا على آثاره وقفة طويلة، وحدثنا القارئ عما عنده من ضروب السحر والفتون، ثم تكلمنا عن أثر البردة في اللغة العربية، وأرينا القارئ كيف انتهى فن المدائح النبوية إلى فن أدبي رفيع ، هو فن البديعيات، الذي أذاع في الناس ألوانا من الثقافة الأدبية، وساقنا ذلك إلى التحدث عن رجل شهير بين أصحاب البديعيات: هو ابن حجة الحموي الذي أذاع أدب مصر والشام في القرن الثامن.
ثم تكلمنا عن المدائح النبوية في شعر ابن نباتة المصري، وختمنا الكتاب بالكلام عن قصة المولد النبوي.
ذلك موضوع الكتاب الذي نقدمه إلى القراء فرحين مغتبطين، وليس فيه بحمد الله ما نعتذر عنه إلا الإيجاز، وهو عذر يقبله القارئ حين يتذكر أنه كان في الأصل بابا من كتاب.
ولنسارع فنحدث القارئ بأننا لم نرد الاستقصاء، وإنما اكتفينا بالكلام عن آثار الشعراء الفحول، ولو أردنا التحدث عن هذا الفن من جميع نواحيه لساقنا البحث إلى الكلام عن ناس لم يكن لهم من الذوق الأدبي خلاق.
والله نسأل أن يتقبل هذا البحث الذي لم نرد به حين أنشأناه غير وجهه الكريم.
محمد زكي عبد السلام مبارك
الفصل الأول
نشأة المدائح النبوية
الفرق بين المدح والرثاء - دالية الأعشى - لامية كعب بن زهير - مدائح حسان - مدائح علي بن أبي طالب - ميمية الفرزدق - مدح أهل البيت - النسيب في صدور المدائح النبوية. *** (1)
المدائح النبوية من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهي لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع؛ لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص.
وأكثر المدائح النبوية قيل بعد وفاة الرسول، وما يقال بعد الوفاة يسمى رثاء، ولكنه في الرسول يسمى مدحا، كأنهم لحظوا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
موصول الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء. وقد يمكن القول بأن الثناء على الميت لا يسمى رثاء إلا إذا قيل في أعقاب الموت؛ ولذلك نراهم يقولون: «قال حسان يرثي النبي
صلى الله عليه وسلم » ليفرقوا بين حالين من الثناء: ما كان في حياة الرسول، وما كان بعد موت الرسول، بخلاف ما يقع من شاعر ولد بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإن ثناءه عليه مديح لا رثاء؛ لأنه لا موجب للتفرقة بين حال وحال، ولأن الرثاء يقصد به إعلان التحزن والتفجع، على حين لا يراد بالمدائح النبوية إلا التقرب إلى الله بنشر محاسن الدين، والثناء على شمائل الرسول. (2)
ولم يعن أحد من القدماء أو المحدثين بتأريخ هذا الفن في اللغة العربية؛ لأن الذين أجادوه لم يكونوا في الأغلب من فحول الشعراء، ولأنه لم يطرد في التاريخ، ولم يكن فنا ظاهرا بين الفنون الشعرية كالرثاء، والوصف، والنسيب، وإنما هو فن نشأ في البيئات الصوفية، ولم يهتم به من غير المتصوفة إلا القليل، غير أنه مع ذلك جدير بالدرس؛ لأن فيه بدائع من القصائد والمقطوعات، ولأن له شمائل غير شمائل المديح، ولأن لأصحابه غايات دينية وأدبية خليقة بأن تدرس، وبأن يرفع عنها إصر الخمول.
وسنحاول في هذا الكتاب تأريخ هذا الفن من بدء ظهوره إلى اليوم، والإشادة بالشخصيات القوية التي نشرت أعلامه في تاريخ اللغة العربية، وتحليل القصائد التي أثرت في البيئات الشعبية، والكشف عما في آثار هذا الفن من الألفاظ والتعابير والمصطلحات. ولسنا نزعم أننا سنستقصي كل ما يتصل بهذا الفن، فذلك يحتاج إلى مجلدات، وإنما نرجو أن نشعر القارئ بأنا كشفنا النقاب عن فن مجهول كان خليقا بأن يشغل الباحثين في تاريخ الأدب، ولكنهم انصرفوا عنه، كما انصرفوا عن درس البلاغة الدينية، مع أنه في جملته أجود من بعض ما شغلوا به كتشبيهات ابن المعتز، ومدائح البحتري، وخمريات أبي نواس. (3)
من أقدم ما مدح به الرسول
صلى الله عليه وسلم
قصيدة الأعشى التي يقول في مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وعادك ما عاد السليم المسهدا
1
وما ذاك من عشق النساء وإنما
تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
2
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاه عاد فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وفيها يقول لناقته:
فآليت لا أرثي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقي من فواضله ندى
ولكن هذا ليس من المدائح النبوية؛ أي ليس من الفن الذي ندرسه في هذا الكتاب؛ لأن الأعشى لم يقل هذا الشعر وهو صادق النية في مدح الرسول، وإنما كانت محاولة أراد بها التقرب من نبي الإسلام، وآية ذلك أنه انصرف حين صرفته قريش، ولو كان صادقا ما تحول، فقد حدثوا أن قريشا رصدوه على طريقه حين بلغهم خبره وسألوه أين يريد، فأخبرهم أنه يريد محمدا ليسلم، فأفهموه أنه ينهاه عن الزنا والقمار والربا والخمر، فقال: لقد تركني الزنا وما تركته. وأبدى زهادته في القمار رجاء أن يصيب من النبي عوضا منه، وقال عن الربا: ما دنت ولا ادنت.
وأبدى جزعه عند ذكر الخمر وقال: أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها.
فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك!
وجمع له أبو سفيان من قريش مائة ناقة، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوخة
3
رمى به بعيره فقتله.
4
وهذه القصة تدل على أن مدحه للرسول لم يكن إلا محاولة كسائر محاولات الشعراء الذين يتكسبون بالمديح، وليست قصيدته أثرا لعاطفة دينية قوية حتى تلحق بالمدائح النبوية. (4)
وكذلك الحال في قصيدة «بانت سعاد» التي قالها كعب بن زهير في مدح الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فإنها لم تنظم إلا في سبيل النجاة من القتل، وحديث ذلك أن كعبا خرج هو وأخوه بجير إلى رسول الله حتى بلغا أبرق العزاف،
5
فقال كعب لبجير: الحق الرجل، وأنا مقيم ها هنا، فانظر ما يقول لك. فقدم بجير على رسول الله فسمع منه وأسلم، وبلغ ذلك كعبا فقال:
من مبلغ عني بجيرا رسالة
فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا
شربت مع المأمون كأسا روية
فأنهلك المأمون منها وعلكا
6
وخالفت أسباب الهدى واتبعته
على أي شيء ويب غيرك دلكا
7
على خلق لم تلف أما ولا أبا
عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف
ولا قائل إما عثرت لعا لكا
8
وبعث بها إلى بجير، فكره أن يكتمها رسول الله، فأنشده إياها، ثم قال بجير لكعب:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي
تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله - لا العزى ولا اللات - وحده
فتنجو إذا كان النجاة وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت
من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه
ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، فقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها الرسول، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل من جهينة، فغدا به إلى رسول الله حين صلى الصبح، فصلى معه، ثم أشار له إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: هذا رسول الله، قم إليه فاستأمنه. فقام حتى جلس إليه فوضع يده في يده، وكان رسول الله لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله: نعم! فقال: أنا، يا رسول الله، كعب بن زهير! ثم أنشده القصيدة.
9
وهذه الظروف ترينا أن كعب بن زهير لم يقل لاميته وهو مأخوذ بعاطفة دينية قوية، تسمو به إلى روح التصوف، إنما هي قصيدة من قصائد المديح، يقولها الرجل حين يرجو أو يخاف، وليست من المدائح النبوية في شيء. (5)
تقع لامية كعب في ثمانية وخمسين بيتا، وهي من الشعر المحكم الرصين - وإن خلت من قوة الروح - وتجري على التقاليد الأدبية لشعراء الجاهلية ، فيبدؤها الشاعر بهذا النسيب :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
10
أكرم بها خلة لو أنها صدقت
موعودها أو لو ان النصح مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها
فجع وولع وإخلاف وتبديل
11
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت
إن الأماني والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
وما مواعيدها إلا الأباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتها
وما إخال لدينا منك تنويل
أمست سعاد بأرض لا يبلغها
إلا العتاق النجيبات المراسيل
12
وهنا ينتقل فيصف الناقة وصفا مفصلا يذكر بدالية طرفة بن العبد، وهو في ذلك يتابع ما كان معروفا لذلك العهد من التقاليد الشعرية، إلى أن يقول في مدح الرسول:
وقال كل خليل كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم
فكل ما قدر الرحمن مفعول
13
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
ويقول بعد أبيات:
إن الرسول لنور يستضاء به
وصارم من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
14
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
15
لا يفرحون إذا نالت رماحهم
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
ضرب إذا عرد السود التنابيل
16
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل
وقد نظرت طويلا في هذه القصيدة فلم أر غير ما قررت، فهي قصيدة جاهلية تغلب عليها قوة السبك، ولكنها تكاد تخلو من روح الدين، ولا غرابة في ذلك، فإن كعب بن زهير لم يمدح الرسول إلا لينجو من الموت، ومن كان في مثل حاله لا ينتظر منه صدق الثناء. (6)
والذي نقول به في هذه القصيدة لم يقل به أحد من المتقدمين، فقد اهتموا بها اهتماما عظيما، وعدوها من أجل ما قيل في مدح الرسول، وعني بها الشعراء فشطروها وخمسوها وعارضوها، وأولع بشرحها فريق من كبار الرجال.
فمن الذين شطروها عبد القادر سعيد الرافعي، وأول تشطيره:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
والنوم والسهد مقطوع وموصول
والجسم بعد سعاد مدنف وصب
متيم إثرها لم يفد مكبول
ومن الذين خمسوها شعبان بن محمد بن داود المصري المتوفى سنة 828ه وله ثلاثة تخاميس، مطلع التخميس الثاني:
قل للعواذل مهما شئتمو قولوا
فليس لي بعد من أهواه معقول
ناديت يوم النوى والدمع مسبول
بانت سعاد ... ... ... ... ... ... ... ...
وأحمد بن محمد الجرجاوي، ومطلع تخميسه:
قلبي على حب من أهواه مجبول
ونقل شوقي لدى العشاق مقبول
17
ومن الذين شرحوها مسعود بن حسن بكري القنائي، واسم شرحه «الإسعاد لحل نظم بانت سعاد»، ومحمد صالح السباعي، واسم شرحه «بلوغ المراد على بانت سعاد»، وأحمد بن محمد اليمني، واسم شرحه «الجوهر الوقاد في شرح بانت سعاد»، وابن هشام الأنصاري، وقد رأينا شرحه يدرس في الأزهر غير مرة، فقد صير «بانت سعاد» مادة صالحة للفوائد اللغوية والنحوية، واعتمد الناصري على هذا الشرح، وشرحها عطاء الله بن أحمد مرتين، اسم الشرح الأول «حسن السير بقصيدة كعب بن زهير»، واسم الثاني «طريق الرشاد إلى تحقيق بانت سعاد»، وعلي بن سلطان الهروي، واسم شرحه «فتح باب الإسعاد في شرح بانت سعاد»، ومحمد حسن المرصفي، واسم شرحه «القول المراد من بانت سعاد»، وجمال الدين السيوطي، واسم شرحه «كنه المراد في شرح بانت سعاد».
ومن الذين عارضوها ابن نباتة المصري، ومطلع قصيدته:
ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول
هذا وكم بيننا من ربعكم ميل
وابن سيد الناس اليعمري، واسم قصيدته «عدة المعاد في عروض بانت سعاد»، والمطلع:
قلبي بكم يا أهيل الحي مأهول
وحبله بأماني الوصل موصول
وعارضها أبو حيان الأندلسي بقصيدة سماها «المورد العذب في معارضة قصيدة كعب»، والمطلع:
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول
العقل مختبل والقلب متبول
وعارضها أيضا القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم قال:
لقد قال كعب في النبي قصيدة
وقلنا عسى في مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة
كرحمة كعب فهو كعب مبارك
وتوارث المسلمون احترام قصيدة كعب، حتى قال أبو جعفر الألبري: «حدثني بعض أشياخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله قصيدة كعب أنشدها بين يديك؟ فقال: نعم، وأنا أحبها وأحب من أحبها. قال: فعاهدت الله أنني لا أخلو من قراءتها كل يوم.»
قال أبو جعفر: «ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبركا بمن أنشدت بين يديه، ونسب مدحها إليه.»
18
واهتم بها المستشرقون، فترجمها رنيه باسيه إلى الفرنسية، واهتم الدكتور ر. و. بترجمة حاشية الباجوري إلى الفرنسية، وكذلك شغلت الشراح والناسخين والطابعين في الشرق والغرب.
ويمكن الحكم بأن شهرتها في البيئات الأدبية والدينية نقشت اسمها في ذهن كل من شدا في الأدب والدين.
ومن الواضح أن تلك الرؤيا النبوية لا تدل على شيء أكثر من اهتمام المتصوفين بتلك القصيدة، وإيمانهم بأنها ظفرت من الرسول بأحسن القبول.
وجملة ما كتب في شرح قصيدة كعب، وما قيل في تشطيرها وتخميسها، يبين أثرها في اللغة والأدب، ولولا ما في ألفاظها من الوعورة لشاعت في البيئات الصوفية وأصبحت من جملة الأوراد، وكان لها ما صار للبردة من السيرورة بين العوام والخواص.
ومن أسباب وقوفها عند الدوائر الأدبية واللغوية ما جاء فيها من الوصف المطول للناقة، فإنه من المعاني «المحلية» التي لا يتذوقها غير الأعراب. (7)
ويأتي بعد شعر الأعشى وشعر كعب شعر حسان بن ثابت، وهذا الرجل كان أكبر شعراء الرسول، ويمتاز بالصدق والإخلاص، ولكن شعره على قوة روحه لا يكاد يضاف إلى المدائح النبوية التي ندرسها في هذا الكتاب، فقد كان يمدح الرسول ويقارع خصومه على الطرائق الجاهلية، وكان الرسول أوصاه أن يتعلم الأنساب من أبي بكر ليكون شعره أوجع في الهجاء، وكذلك استطاع بفضل ما عرف من أنساب قريش أن يهجوهم هجاء موجعا كان النبي يراه أشد عليهم من وقع النبل.
وأقوى قصيدة في مدائح حسان هي العينية، والظرف الذي قيلت فيه يعين مذهب الشاعر: فهو يقارع الخصوم ويلاحيهم، ويتخذ مدح الرسول ومدح أهله سنادا لما عمد إليه من المقارعة والملاحاة. ومن حديث هذه العينية أن وفد تميم لما قدموا على النبي قالوا: جئنا لنفاخرك، وقد جئنا بشاعرنا وخطيبنا، فقام خطيبهم عطارد بن حاجب فتكلم، وقام خطيب الرسول ثابت بن قيس فأجاب، ثم قام شاعرهم الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
منا الملوك وفينا يقسم الربع
19
وكم قسرنا من الأحياء كلهم
عند النهاب وفضل العز يتبع
20
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا
من الشواء إذا لم يؤنس القزع
21
ثم ترى الناس تأتينا سراتهم
من كل أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا
للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
22
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم
إلا استقادوا وكان الرأس يقتطع
23
إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا
فيرجع القوم والأخبار تستمع
فقام حسان فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم
عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
ولا يضنون عن مولى بفضلهم
ولا يصيبهم في مطمع طبع
لا يجهلون وإن حاولت جهلهم
في فضل أحلامهم عن ذاك متسع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم
لا يطبعون ولا يرديهم الطمع
24
كم من صديق لهم نالوا كرامته
ومن عدو عليهم جاهد جدعوا
25
أعطوا نبي الهدى والبر طاعتهم
فما ونى نصرهم عنه وما نزعوا
إن قال سيروا أجدوا السير جهدهم
أو قال عوجوا علينا ساعة ربعوا
26
ما زال سيرهم حتى استقاد لهم
أهل الصليب ومن كانت له البيع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا
ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم - فاترك عداوتهم -
شرا يخاض عليه الصاب والسلع
27
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها
إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم
وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع
أسد ببيشة في أرساغها فدع
28
إذا نصبنا لقوم لا ندب لهم
كما يدب إلى الوحشية الذرع
29
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
إذا تفرقت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحي قلب يؤازره
فيما يحب لسان حائك صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم
إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
30
وهذه القصيدة تمجيد لأتباع الرسول، والشاعر مدفوع إليها بقوة العصبية، وليس فيها من روح الدين إلا إشارته إلى وحي القلب؛ إذ يقول:
أهدى لهم مدحي قلب يؤازره
فيما يحب لسان حائك صنع (8)
ومن جيد شعر حسان قصيدته الهمزية في مدح الرسول وهجاء أبي سفيان، وهي كذلك تجري على الطرائق الجاهلية، يبدؤها الشاعر بذكرى الديار الخالية، فيقول:
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء
31
ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الروامس والسماء
32
وكانت لا يزال بها أنيس
خلال مروجها نعم وشاء
وينتقل إلى الحديث عن طيف محبوبته، فيقول:
فدع هذا ولكن من لطيف
يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته
فليس لقلبه منها شفاء
كأن سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
33
على أنيابها أو طعم غض
من التفاح هصره اجتناء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما
فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا
إذا ما كان مغث أو لحاء
34
ونشربها فتتركنا ملوكا
وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
35
وهذا الاستطراد من النسيب إلى الخمريات كان معروفا في الجاهلية، وقد وقع مثله في لامية كعب التي مدح بها الرسول، ولنا أن نلاحظ أن هذين الشاعرين لم يغيرا شيئا من المذاهب الشعرية حين خاطبا النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولم يتورعا عن ذكر الخمر والنساء، والتحسر على ملاعب الشباب.
وليس هذا بغريب، فإن المذاهب الأدبية لا تتغير في عام أو عامين، ومن الإسراف أن ننتظر ذلك، فسنرى حين يمتد بنا البحث أن الكلام عن الخمر والنساء سيصير من المألوف في المدائح النبوية، غير أنه كان عند هذين الشاعرين من الحقائق، وسيصير عند المتأخرين من الرمزيات، فشعثاء وسعاد في همزية حسان ولامية كعب حسناوان كان لهما وجود، والخمر كانت مما عرف هذان الشاعران، ولو في الجاهلية، أما عند المتأخرين من شعراء الصوفية فليلى أو شعثاء أو سعاد، والصهباء أو الشمول، كل أولئك من الأسماء الرمزية، وأثر الحقيقة هنا ليس أقوى من أثر الخيال هناك.
وانتقل حسان إلى تهديد أعداء النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
36
يبارين الأعنة مصعدات
على أكتافها الأسل الظماء
37
تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء
38
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعز الله فيه من يشاء
39
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه
فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد سيرت جندا
هم الأنصار عرضتها اللقاء
40
لنا في كل يوم من معد
سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء
41
ألا أبلغ أبا سفيان عني
مغلغلة فقد برح الخفاء
42
بأن سيوفنا تركتك عبدا
وعبد الدار سادتها الإماء
43
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا
أمين الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وهنا تظهر بوادر التصوف، فالشاعر كان ينتظر الجزاء من الله حين أجاب عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ويجعل أباه وجده وعرضه وقاء لعرض النبي من خصومه الألداء، وكذلك يمكن عد هذه القصيدة من بذور المدائح النبوية. (9)
وفي ديوان حسان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة
44
تحتبي بفناء قبتها، ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمرا ولحما ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين،
45
فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: هل لها من لبن؟ قالت هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى، ودعا لها في شأنها فتفاجت
46
عليه، ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه حتى علاه البهاء
47
ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم، ثم أراضوا،
48
ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى امتلأ الإناء ثم غادره عندها، وارتحلوا عنها، فما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، تساوك
49
هزالا، مخاخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال،
50
ولا حلوب في البيت؟! قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة،
51
ولم تزر به صعلة،
52
وسيما قسيما، في عينيه دعج وفي أشفاره وطف،
53
وفي عنقه سطع ،
54
وفي صوته صحل،
55
وفي لحيته كثاثة، أزج، أقرن،
56
إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأملحهم من قريب، حلو المنطق فصل، لا نزر ولا هزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة: لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
57
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت بأن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، فأصبح صوت بمكة عاليا، يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فخار لا يبارى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح درة الشاة مزبد
58
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
فلما سمع بذلك حسان قال يجاوب الهاتف:
لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم
وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم، من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا
عمى وهداة يهتدون بمهتد
لقد نزلت منه على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته، من يسعد الله يسعد
وقد نقلنا قصة أم معبد وشعر حسان وشعر الهاتف لأن لهذه القطع الثلاث أثرا في تلوين المدائح النبوية، وحديث أم معبد معروف ، وقد أشار إليه القاضي عياض في الشفاء،
59
وهو - إن صحت نسبته إلى ذلك العهد - أساس لأكثر ما جاء في المدائح النبوية من الأوصاف الحسية، فسنرى في «الموالد» كيف يوصف الرسول بأنه أبلج الوجه، أدعج العينين، أزج الحاجبين، إلى آخر ما قيل فيه من شائق الصفات. وحسان بن ثابت نفسه يصفه بالحسن والجمال فيقول:
وأحسن منك لم تر قط عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
والإشادة بجمال النبي وحسنه ليست من الفضول، كما يتوهم بعض الناس، فإن فن المديح يوجب هذا اللون من الوصف، وقد عرض الصفدي في شرح لامية العجم إلى هذه المسألة فقال: «وما زال الشعراء يصفون الممدوح بالحسن والصباحة والطلاقة، ويشبهونه بالشمس والبدر والصبح، وذلك مشهور لا يحتاج إلى شاهد يؤيده.»
60
يضاف إلى ذلك أن أصحاب رسول الله درجوا على وصف ملامحه الجسمية، ولذلك مواطن في كتب الحديث، وهو نفسه كان جميلا، والأنبياء في الغالب كانوا من أهل الجمال؛ لأن الدعوة إلى الحق تحتاج إلى شفيع من الوجه المقبول.
وما نحب أن يغلب علينا التزمت فيفوتنا النص على أثر الصنعة في حديث أم معبد، فالقصة تبدو لنا كالمصنوعة، وهي على كل حال شاهد على ما كان يحب القدماء أن يوصف به الرسول، وشعر الهاتف كذلك مصنوع، وهو مع أبيات حسان من طلائع المدائح النبوية. (10)
ويظهر الروح الديني في مدائح حسان لمن يقرأ مراثيه للرسول، وهي مراث مصبوغة بالصبغة الدينية، يتكلم فيها الشاعر عن المنبر والمصلى والمسجد والوحي، ويذكر بكاء الأرض والسموات، ويتشوق إلى لقاء النبي
صلى الله عليه وسلم
في الفردوس، ويشير إلى ما ورث عنه المسلمون من الرشد والهدى، وله في ذلك قصائد ثلاث دالية تفيض بالمعاني الرقيقة السمحة، وتنم عن روح ديني مصقول، وهي قصائد لينة من حيث النسج، بحيث نخشى أن تكون من الشعر المنحول، فإنها لو أضيفت إلى رجل كالبوصيري لقبلت؛ لما يغلب عليها من الرقة واللين، ويكفي أن نقدم أولى هذه القصائد:
بطيبة رسم للرسول ومعهد
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
61
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة
بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آيات وباقي معالم
وربع له فيه مصلى ومسجد
به حجرات كان ينزل وسطها
من الله نور يستضاء ويوقد
62
معالم لم تطمس على العهد آيها
أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
وقبرا به واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت
عيون ومثلاها من الجفن تسعد
63
تذكر آلاء الرسول - وما أرى
لها محصيا - نفسي فنفسي تبلد
64
مفجعة قد شفها فقد أحمد
فظلت لآلاء الرسول تعدد
65
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها
على طلل القبر الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
66
وبورك لحد منك ضمن طيبا
عليه بناء من صفيح منضد
67
تهيل عليه الترب أيد وأعين
عليه وقد غارت بذلك أسعد
68
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة
عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السموات يومه
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
69
وهل عدلت يوما رزية هالك
رزية يوم مات فيه محمد؟
تقطع فيه منزل الوحي عنهم
وقد كان ذا نور يغور وينجد
70
يدل على الرحمن من يقتدي به
وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا
معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
عفو عن الزلات يقبل عذرهم
وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
فبينا هم في نعمة الله بينهم
دليل به نهج الطريقة يقصد
عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى
حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثني جناحه
إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
71
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا
إلى نورهم سهم من الموت مقصد
72
فأصبح محمودا إلى الله راجعا
يبكيه جفن المرسلات ويحمد
73
إلى أن يقول:
فبكي رسول الله يا عين عبرة
ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
74
وما لك لا تبكين ذا النعمة التي
على الناس منها سابغ يتغمد؟
75
وما فقد الماضون مثل محمد
ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمة بعد ذمة
وأقرب منه نائلا لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالد
إذا ضن معطاء بما كان يتلد
76
وأكرم حيا في البيوت إذا انتمى
وأكرم جدا أبطحيا يسود
77
رباه وليدا فاستتم تمامه
على أكرم الخيرات رب ممجد
تناهت وصاة المسلمين بكفه
فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند
أقول ولا يلفى لقولي عائب
من الناس إلا عازب العقل مبعد
78
وليس هوائي نازعا عن ثنائه
لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره
وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
وهذه القصيدة ضعيفة من الوجهة الشعرية، ولكنها من خير الشواهد لما نحن بسبيله من تأريخ المدائح النبوية، والقارئ يلاحظ أن هذه المرثية لم تقل عقب وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وإنما قيلت بعد موته بزمان، بدليل قوله:
معالم لم تطمس على العهد آيها
أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
وقبرا به واراه في الترب ملحد
ورثاء النبي بعد موته بمدة فيه نزعة صوفية، ويؤيد هذا ما جاء في ختام القصيدة من رغبة الشاعر في أن يثيبه الله على مدحه بالخلد في جنة الخلد، ورجائه أن يكون من جيران المصطفى في الدار الباقية، وهو يعلن أنه في نيل ذلك اليوم يسعى ويجهد، فبكاء الرسول في هذه المرثية ليس إلا ثناء عليه وعلى دينه القويم، وليس من الرثاء المألوف الذي يقع من الشاعر حين يفجع في رئيس أو صديق.
ومن الألفاظ التي تجب الإشارة إليها بين ألفاظ هذه القصيدة كلمة «طيبة»، وسيكثر ذكرها في المدائح النبوية، وكذلك وصف الرسول
صلى الله عليه وسلم
بأنه «الهادي»، أما كلمة «الطريقة» في قوله:
فبينا هم في نعمة الله بينهم
دليل به نهج الطريقة يقصد
فستصير كلمة اصطلاحية عند الصوفية، وسنراهم يقولون: «كل شيخ له طريقة»، وسيقولون: «الطريقة الشاذلية» و«الطريقة الخلوتية» إلى آخر ما ابتدعوا من الطرائق.
وفي قصيدة أخرى يقول:
يا بكر آمنة المبارك بكرها
ولدته محصنة بسعد الأسعد
ووصف الرسول بأنه ابن آمنة من كلمات التمجيد التي أذاعها حسان، وستكثر في المدائح النبوية، وقوله في ختام إحدى القصائد:
صلى الإله ومن يحف بعرشه
والطيبون على المبارك أحمد
سيصير من التعابير المألوفة في كلام من يمدحون الرسول.
وعبارة «صلى الإله» جملة دعائية، كان حسان يقولها في الرسول، وفي أصحابه، كقوله يرثي أصحاب الرجيع:
صلى الإله على الذين تتابعوا
يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا
ونجد مويلك المزموم يرثي امرأته فيقول:
صلى عليك الله من مفقودة
إذ لا يلائمك المكان البلقع
ونرى آخر يقول:
صلى الإله على صفيي مدرك
يوم الحساب ومجمع الأشهاد
ولكن هذه العبارة ستقصر فيما بعد على الرسول، وستحل محلها في الرثاء عبارة «يرحمه الله» كقول أحد الشعراء:
يرحمك الله من أخي ثقة
لم يك في صفو وده كدر (11)
وبعد مدائح حسان ومراثيه تجيء الفقرات المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، ونثر علي من المشكوك في صحته ولكنا نستشهد به لأمرين؛ الأول: تصويره لما كان يفهم القدماء من حال علي الروحية، فهو - على فرض وضعه - صورة للأدب الذي كان يتمثلون ذيوعه في تلك الأيام في خطب أصحاب الرسول.
الثاني: أننا نرجح صحة ما نسب إلى علي في التحميدات والعظات، فإن الذين طعنوا في صحة نثره وقفوا عند المصاولات التي وقعت بينه وبين معاوية بن أبي سفيان.
يضاف إلى هذين الأمرين أن المدائح النبوية التي وقعت في خطب علي لا يظهر فيها تكلف، فهي فقرات افتتحت بها بعض الخطب، وليس فيها قصد إلى مدح الرسول.
ولهذا المنهج أهمية، فسنرى الثناء على النبي يطرد في أكثر الخطب المنبرية، ونكاد نجزم بأن حمد الله والثناء على نبيه صحب الخطب منذ ازدهر هذا الفن على المنابر الإسلامية؛ بدليل أنهم دهشوا لخلو خطبة زياد من الحمد فسموها البتراء.
والمدائح النبوية في كلام علي ذات أفانين، فتارة يثني على النبي وعلى كتابه ويبين ما كان عليه الناس قبل البعثة، فيقول:
أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجا بالبينات، وتحذيرا بالآيات، وتخويفا بالمثلات،
79
والناس في فتن انجذم
80
فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري
81
اليقين، واختلف النجر،
82
وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، إذ عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان ... إلخ.
83
وفي هذا المعنى يقول في خطبة ثانية:
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعترام
84
من الفتن، وانتشار
85
من الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة
86
لأهلها عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف.
87
وفي هذه القطعة يصف علي كيف كانت الحياة قبل بعثة الرسول، ويغلب عليه الفن، فيلون كلامه بفنون من الخيال، ويذكر أن الدنيا كانت كاسفة النور، وأنها كانت مصفرة الورق، وأن ثمرها كان ميئوسا منه، وأنها كانت غائرة الماء، ثم يمضي فيذكر تجهمها وعبوسها، ويجعل من ثمرها الفتنة، ومن طعامها الجيفة، ويقضي بأن شعارها الخوف، ودثارها السيف.
والافتنان في وصف ما كانت عليه الجاهلية من الظلمات سيصير أساسا لأكثر ما يكتب في بيان فضل الرسول، وهذه معان لم يخلقها علي بن أبي طالب، وإنما وضعت أصولها الأولى في القرآن.
وفي مكان آخر يذكر أن النبوة قديمة، تنقلت من صلب إلى صلب حتى وصلت إلى سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ، ويقول في وصف الأنبياء:
استودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر، تناسخهم كرائم الأصلاب، إلى مطهرات الأرحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف، حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، وأعز الأرومات
88
مغرسا: من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتخب منها أمناءه، عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال، وثمرات لا تنال، فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوءه، وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل .
89
وهذا المعنى سيعتمد عليه مؤلفو «الموالد» وسيذكرون أن نور النبوة تنقل من صلب إلى صلب حتى وصل إلى نبي الإسلام. والاهتمام بطهارة نسب الرسول يرجع إلى العقلية العربية التي تعول كثيرا على طهارة الأنساب، وفي بعض الآثار تنزيه لنسب الرسول عن سفاح الجاهلية، ولهذا معناه في تقدير شرف الأصل.
وعلي بن أبي طالب قد يفتن ببعض المعاني فيعود إليها من خطبة إلى خطبة، ومن حديث إلى حديث، ولننظر كيف يعود فيصف ما كان عليه الجاهليون:
بعثه والناس ضلال في حيرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة، والموعظة الحسنة.
90
وكلمة «الطريقة» مرت بنا في شعر حسان، وعادت إلينا في كلام علي، وقد أشرنا إلى أنها ستصير كلمة اصطلاحية عند الصوفية.
ولننظر أيضا كيف يعود فيتحدث عن أرومة الرسول:
مستقره خير مستقر، ومنبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، ومماهد السلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الأبصار.
91
ويصور هذا المعنى بصورة أخرى فيقول:
اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة.
92
ويمدح النبي
صلى الله عليه وسلم
بالزهد فيقول:
قد حقر الدنيا وصغرها، وأهونها وهونها، وعلم أن الله زواها عنه اختيارا، وبسطها لغيره احتقارا، فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، أو يرجو فيها مقاما.
93
وهذه النزعة ستكون كذلك أصلا لكثير من المدائح النبوية.
ومما تجب الإشارة إليه الجمع بين الثناء على الرسول والدعاء له ولدينه في قول علي:
أورى قبسا لقابس، وأنار علما لحابس، فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة، اللهم اقسم له مقسما من عدلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نزله، وشرف لديك منزلته، وآته الوسيلة، وأعطه السناء والفضيلة، واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا نادمين، ولا ناكثين ولا ضالين ولا مضلين.
94
وكلمة «الوسيلة» سيكثر ورودها في كلام الصوفية، وهذه القطعة ستكون نمطا لكثير من الأدعية والصلوات.
ولو مضينا نستقري ما في كلام علي من أمثال هذه الفقرات لطال بنا القول، فلنكتف بما أسلفنا من كلامه، فما نريد الاستقصاء، وإنما الغرض أن ندل على ما في خطبه من أصول المدائح النبوية. (12)
والذي يتأمل كلام علي يجده ينتقل من مدح النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى مدح آل البيت، وكذلك يفعل الكميت بن زيد الأسدي في قصائده الهاشميات، وسنعود إليها بدرس خاص وندرس معها تائية دعبل، ونشير الآن إلى أن الفرزدق اتفق له أن يقف موقفا يمدح فيه الرسول وعترته، فقد حدثوا أنه حج بعدما كبر وقد أتت له سبعون سنة، وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام، فرأى علي بن الحسين رضي الله عنهما في غمار الناس في الطواف فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟ فقالوا: هذا علي بن الحسين.
95
فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبق
من كف أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرفه قدما وعظمه
جرى بذاك له في لوحه القلم
أي الخلائق ليست في رقابهم
لأولية هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
تستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا
حلو الشمائل تحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
لا يخلف الوعد مأمون نقيبته
رحب الفناء أريب حين يعتزم
عم البرية بالإحسان فانقشعت
عنها الغيابة والإملاق والعدم
ينمى إلى ذروة الدين التي قصرت
عنها الأكف وعن إدراكها القدم
من جده دان فضل الأنبياء له
وفضل أمته دانت له الأمم
مشتقة من رسول الله نبعته
طابت مغارسه والخيم والشيم
ينشق ثوب الدجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجى ومعتصم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل بدء ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد جودهم
ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
يستدفع الشر والبلوى بحبهم
ويسترب به الإحسان والنعم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم
خيم كريم وأيد بالندى ديم
وفي هذه القصيدة الجيدة نفحات من التصوف، فالشاعر يقرن شكر الله بشكر آل الرسول ويرى أن حبهم دين وبغضهم كفر، وتلك أقصى غايات الصدق في الحب، ويؤيد هذا ما وقع للشاعر بعد إنشاد هذه القصيدة؛ فقد غضب هشام وحبسه، وأنفذ له زين العابدين وهو في الحبس اثني عشر ألف درهم فردها وقال: «مدحته لله تعالى لا للعطاء.»
والمدح لله هو عين التصوف، ولا يغض من هذا قبوله العطية بعد ذلك؛ فقد تلطف زين العابدين وقال: «إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده.»
96
وكذلك يكون قبول هذه العطية بابا من الأدب في رعاية أسباط الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد يمكن القول بأن مدح الفرزدق للنبي وأهله هو بداية الصدق في المدائح النبوية؛ ذلك بأن مدائح حسان وقعت في أيام كان مدح النبي فيها ينفع الشاعر ولا يضره، أما مدح النبي وأهله في أيام الفرزدق فكان بابا من الشر يفتح للمادحين؛ لأن تلك المدائح ما كانت تروق خلفاء بني أمية ، وكيف تروقهم وهي تزكية لخصوم أولئك الخلفاء؟! إن أقوى حجة عند خصوم بني أمية كانت قرابتهم من الرسول، فلا بدع أن يكون مدح الرسول تنويها بشأن أولئك المعارضين، ألم تر كيف غضب هشام وسجن الفرزدق؟
ومعنى هذا أن السياسة كانت بدأت تستقل عن الدين بعض الاستقلال، فمدح الرسول وأبنائه في نظر خلفاء بني أمية كان ضربا من التمرد والشغب والخروج على الدولة، وتعليل ذلك سهل؛ فموقف علي بن الحسين من بني أمية شبيه بموقف خلفه الشريف الرضي من بني العباس، والشريف هو الذي يقول:
ردوا تراث محمد ردوا
ليس القضيب لكم ولا البرد
وتراث محمد كان أهم ما فيه ولاية أمر المسلمين، وقد انتزعت من آل البيت، انتزعها بنو أمية، ثم بنو العباس.
نقول هذا لنبين أثر الشجاعة الصوفية عند الفرزدق حين مدح علي بن الحسين في حضرة هشام بن عبد الملك، وقوله حين رفض العطية: «مدحته لله تعالى لا للعطاء» يذكر بالكميت، وقد دخل عليه جعفر بن محمد بعطاء وكسوة فقال: «والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله.»
فإن لم يكن مثل هذا الحب تصوفا وروحانية، فما منزلته بين نوازع الود والوفاء؟ (13)
رأينا كيف نشأت المدائح النبوية وكيف تطورت: رأينا كيف كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يمدح، كما يمدح الرؤساء المسيطرون، في شعر الأعشى وكعب بن زهير، وكيف مدح بشيء من روح العطف والحنان في شعر حسان، وكيف مدح تدينا في خطب علي بن أبي طالب، وكيف درج الشعراء بعد ذلك على الجمع بين مدحه ومدح آل البيت، فلنذكر الآن أن هذا الفن بلغ أشده في القرن الرابع، وسندرس ما وقع منه في شعر الكميت ودعبل والشريف الرضي ومهيار الديلمي، ونسارع فنقرر أن من أهم الشواهد على نضج هذا الفن في ذلك العصر أن الثعالبي جمع منه شذرات في كتابه «سحر البلاغة»، وهو كتاب يمثل النزعات الفنية في عصر المؤلف، ومادة ذلك الكتاب لم تؤخذ عن كاتب واحد، ولا شاعر واحد، وإنما هي فقرات أخرجها من ألفاظ عدد كبير من الكتاب والشعراء.
وإلى القارئ طائفة من تلك التعابير:
سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة - جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور - محمد نبي الله وصفوته، وخيرته من بريته - خيرة الله من خلقه، وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه، والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده - مبارك مولده، سعيد مورده - ساطع صباحه، متوقد مصباحه - مظفرة حروبه، ميسرة خطوبه - آخر الأنبياء في الدنيا عصرا، وأولهم يوم الدين ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجة وبرهانا.
وإليك طائفة أخرى في الصلوات:
صلى الله على محمد خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجحت بالصلاة عليه الطلبات - صلى الله على محمد خير نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث - صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق - صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب: محمد الذي أدى الأمانة مخلصا، وصدع بالرسالة مبلغا ملخصا - صلى الله على أتم بريته خيرا وفضلا، وأطيبهم فرعا وأصلا، وأكرمهم عودا ونجرا، وأعلاهم منصبا وفخرا.
وبعد هذين اللونين من مدح الرسول والصلاة عليه نقل الثعالبي فقرات في الثناء على آل البيت، وهذا دليل آخر على الجمع بين مدح النبي ومدح عترته، وأغلب الظن أن هذه الطريقة كانت مما سن الشيعة في مختلف الأمصار الإسلامية، وسنرى كيف يعود المادحون فيفردون النبي
صلى الله عليه وسلم
بالثناء حين يسلمون من النزعات الحزبية، والتشيع تحزب، وإن غلب على كثير من أهله صدق اليقين. (14)
هذا وقد رأى القارئ أن أقدم قصيدة قيلت في مدح الرسول
صلى الله عليه وسلم
بدئت بالنسيب، وسيرى ذلك سنة في أكثر المدائح النبوية، فلنقيد هنا أنهم نصوا على «أن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل، ويتشبب مطربا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب والغوير ولعلع وأكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد والتغزل في ثقل الردف، ودقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد وخضرة العذار، وما أشبه ذلك.»
97
وهذا الأدب يلحظ أيضا في مدح أهل البيت، وقد عاب ابن حجة على السري الرفاء أن يتغزل في صدر قصيدة مدح بها الفاطميين وجدهم الرسول
صلى الله عليه وسلم
بمثل هذا التشبيب:
نطوي الليالي علما أن ستطوينا
فشعشعيها بماء المزن واسقينا
98
وتوجي بكئوس الراح راحتنا
فإنما خلقت للراح أيدينا
قامت تهز قواما ناعما سرقت
شمائل البان من أعطافه اللينا
تدير خمرا تلقاها المزاج كما
ألقيت فوق جني الورد نسرينا
فلست أدري أتسقينا وقد نفحت
روائح المسك منها أم تحيينا
والمواطن التي أشار إليها ابن حجة مواطن عربية متصلة من قرب أو من بعد بمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، والقول بالوقوف عندها في التغزل فيه تعسف، فمن حق الشاعر إن تغزل أن يصدق، وقد حن البوصيري مثلا إلى أحبابه بذي سلم وكان أولى لو تشوق إلى أحبابه في بلبيس أو فاقوس، وعذر ابن حجة أن مثل ذلك النسيب هو في الأغلب تمهيد للمديح، والكلام عن تلك المواطن بالذات يقع في المدائح النبوية وكأنه براعة استهلال.
الفصل الثاني
مدح أهل البيت
نشأة العطف على أهل البيت - مقتل الحسين - النوح في يوم عاشوراء - الصلاة على الحسن والحسين في بعض الخطب المنبرية - مصرع ابن السكيت - دسائس الأمويين ضد الحسن بن علي - المبالغة في بكاء الحسين - أشياع علي في حضرة معاوية وغيره من الخلفاء - مدح شعراء الفاطميين لأهل البيت ليس من التصوف. *** (1)
ولد العطف على أهل البيت منذ اليوم الذي خذل فيه علي، وكان يرى نفسه صاحب الحق في الخلافة الإسلامية، وبلغ العطف أشده يوم قتل، وأتيحت بقتله الفرصة لقيام الخلافة الأموية، ثم تأصلت جذور ذلك العطف في أفئدة المسلمين بعد قتل الحسين رضي الله عنه وما تلاه من أحزان أهل البيت.
والواقع أن دماء أهل البيت كانت هزت قلوب المسلمين، ويكفي أن نتصور ما حدث به الفيروزابادي في مادة «سور» من القاموس المحيط؛ إذ قال:
وسورين: نهر بالري وأهلها يتطيرون منه؛ لأن السيف الذي قتل به يحيى بن زيد بن علي بن الحسين غسل فيه.
والتطير من نهر غسل فيه سيف قتل به رجل من أهل البيت يمثل أقصى معاني التصوف في حب أسباط الرسول. (2)
ومقتل الحسين خاصة من الحوادث التي شغلت خواطر المسلمين أجيالا طوالا، ولو كان التصوير من الفنون التي شجعها الإسلام لملأت صورة الحسين أقطار الأرض، كالذي وقع في صورة المسيح التي تزدان بها الكنائس الصغيرة والكبيرة والمنازل في مختلف البقاع النصرانية.
ولكن الحماسة التي عدمت مكانها في مجال التصوير انتقلت إلى الخطب والرسائل والقصائد، ومن ملاحظات المسيو بلانشو
Blanchot
في كتاب
Les Elapes de la Peinture
أن الحسين عند المسلمين يذكر بأدونيس عند اليونان، وتتلخص هذه القصة في أن أفروديت إلهة الجمال كان لها ابن وسيم الطلعة نضير الشباب اسمه أدونيس، فخرج يوما يتصيد فهاجمه خنزير بري فقتله، ونبتت من دمه شقائق النعمان، ثم مضى اليونان يحيون ذكراه في كل ربيع، فيبكون ويندبون، وأمامهم تابوت يمثل نعش أدونيس.
1
وكذلك فعل المسلمون في ذكرى الحسين، فكانوا يحيون ذكراه يوم عاشوراء حتى لنجد صاحب كتاب النجوم الزاهرة يقول في أخبار سنة ثمان وتسعين وثلثمائة:
في يوم عاشوراء عمل أهل الكرخ ما جرت به العادة من النوح وغيره، واتفق يوم عاشوراء يوم المهرجان، فأخره عميد الجيوش إلى اليوم الثاني مراعاة للرافضة. هذا ما كان ببغداد، فأما مصر فإنه كان يفعل بها في يوم عاشوراء من النوح والبكاء والصراخ وتعليق المسوح أضعاف ذلك.
وقد كانت عادة النوح على الحسين في يوم عاشوراء تجري في القاهرة إلى زمن قريب، وكنت أسمع بأخبار ذلك وأنا طالب في الأزهر فلا أصدق؛ لأني كنت أقضي يوم عاشوراء بين أهلي في الريف، فبقيت في القاهرة عمدا في أحد الأعوام، ورأيت الموكب بعيني، وكان الشيعة يطوفون حول مسجد الحسين رضي الله عنه وأجسامهم مخضبة بالدماء، وقد اختفى هذا المنظر منذ غلبت المدنية الحديثة، ولكني شهدت منذ أعوام قلائل حفلة في حي الحمزاوي، فرأيت الناس يبكون ويصرخون وهم يسمعون سيرة الحسين في ليلة عاشوراء. (3)
وقد أضيفت الصلاة على علي وابنيه الحسن والحسين إلى الصلاة على رسول الله في طائفة من الخطب المنبرية؛ فقد خطب أبو المنيع قرواش بن المقلد خطبة الجمعة بالقاهرة رابع المحرم سنة إحدى وأربعمائة بحضرة الحاكم، فقال:
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... اصطفاه واختاره لهداية الخلق، وإقامة الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وهدى من الضلالة ... صلى الله عليه وعلى أول مستجيب له علي أمير المؤمنين، وسيد الوصيين.
وقال في الخطبة الثانية بعد حمد الله والثناء على نبيه:
اللهم وصل على وليك الأزهر، وصفيك الأكبر، علي بن أبي طالب أبي الخلفاء الراشدين المهديين، اللهم وصل على السبطين الطاهرين الحسن والحسين.
وحدثني السيد فوزان السابق وكيل حكومة الحجاز بالقاهرة أنه وجد في أحد مساجد المغرب وثيقة زواج ذكرت فيها الصلاة على الحسن والحسين، وأنه رشا خازن تلك الوثيقة وأخذها منه. جرى هذا الحديث منذ ثلاثة عشر عاما بمنزله في عين شمس وبحضرة المرحوم الشيخ عبد الباقي سرور نعيم، وقد مازحته يومئذ فقلت: أترى الوهابيين يجيزون الرشوة؟ (4)
ولو مضينا إلى المكاتب المبثوثة في حي الأزهر واشترينا طائفة من الخطب المنبرية لرأينا في أكثرها خطبة ثابتة ليوم عاشوراء، ورأينا مؤلفي تلك الخطب يزعمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أوصى بأن يوسع الرجل على أطفاله في يوم عاشوراء، وأكاد أجزم بأن أهل الريف في مصر يحتفلون بذلك اليوم احتفالهم بعيد الأضحى من حيث التوسع في المطاعم. وفي مصر نوع من الحلوى اسمه «عاشوراء» يؤكل في ذلك اليوم، ويتخيره ناس للفطور في رمضان حتى الأرمن واليونان يقدمونه لزبائنهم في القهوات! (5)
وسنرى كيف يكون مدح أهل البيت مما يتبارى فيه الكتاب والشعراء، وسنرى كيف يحرص الشريف الرضي على إحياء يوم عاشوراء من كل عام بقصيدة يبكي فيها الحسين.
2
وسنرى طوائف من المآسي تقع لبعض العلماء بسبب التعصب للحسن والحسين، فقد حدثنا ياقوت
3
أن ابن السكيت كان خرج إلى سر من رأى فصيره عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى المتوكل، فضم إليه ولده يؤدبهم ، وأسنى له الرزق، ثم دعاه إلى منادمته، فنهاه عبد الله بن عبد العزيز عن ذلك، فظن أنه حسده، وأجاب إلى ما دعي إليه. فبينما هو مع المتوكل يوما جاء المعتز والمؤيد، فقال له المتوكل: يا يعقوب، أيما أحب إليك: ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فذكر الحسن والحسين رضي الله عنهما بما هما أهله، وسكت عن ابنيه، وقيل إنه قال له: إن قنبر خادم علي أحب إلي من ابنيك. فأمر المتوكل الأتراك فسلوا لسانه، وداسوا بطنه، وحمل إلى بيته، فعاش يوما وبعض آخر ومات، ووجه المتوكل من الغد عشرة آلاف درهم ديته إلى أهله، ولما بلغ عبد الله بن عبد العزيز الذي نهاه عن المنادمة خبر قتله أنشد:
نهيتك يا يعقوب عن قرب شادن
إذا ما سطا أربى على كل ضيغم
فذق واحس إني لا أقول الغداة إذ
عثرت لعا بل لليدين وللفم
ولهذا الخبر دلالة على ما كان تمكن في صدور الناس من حب أهل البيت والتصوف في ذلك الحب؛ فابن السكيت كان يخفي التشيع إخفاء شديدا، بحيث خدع فيه المتوكل، وعهد إليه بتأديب ولديه، ولكن الشراب يفضح المكتوم من أخبار السرائر والنفوس، فلما أخذت منه الكأس أعلن ما كتم، وصرح بأن قنبر خادم علي أحب إليه من ابني المتوكل، فاستهدف للقتل. (6)
ولا ينبغي أن ننسى أن الشعراء والخطباء والقصاص لونوا قتل الحسين رضي الله عنه بألوان شعرية، ألم يقل قائلهم: إن الدم كان يجري من ذلك الفم الذي طالما قبله الرسول؟
إن هذه اللمحة هي وحدها صورة شعرية تهيج ما غفا من المشاعر والأحاسيس. (7)
ولنتذكر أن بني أمية قاوموا هذه الصور الشعرية، ولكنهم لم يفلحوا، فقد ظل الناس يحبون الحسين. أما دسائس الأمويين ضد الحسين فقد ظفرت ببعض النجاح، ألم يستطيعوا أن يشيعوا في المشرق والمغرب أن الحسن لم يكن صالحا للملك، وأنه كان رجلا مفتونا بحب النساء؟
ومن العجيب أن بني أمية حاربوا الحسن بلباقة سياسية منقطعة النظير، فقد كانوا يودون اتهامه بضعف الأخلاق، وحب الإثم والفسوق، فلما عز عليهم ذلك قالوا: إنه لم يكن يتمتع بالنساء إلا عن طريق الحلال، فكان يتزوج المرأة ليلهو بها يوما أو بعض يوم، ثم يطلقها ليبحث عن امرأة أفتن وجها، وأنضر شبابا.
ومن العجيب أيضا أن الهاشميين لم يقاوموا هذه الدسيسة، وأعجب من ذلك أن يعدوها من مفاخر ذلك السيد المزواج!
ومن طريف الفكاهات أني كنت نشرت كلمة في جريدة البلاغ عن شواطئ الإسكندرية قلت فيها: «إن أجسام الملاح في تلك الشواطئ تغرس الشوق إلى الاعتزاز بالقومية المصرية»، فعاتبني الشيخ محمد الحكيم المصحح بجريدة البلاغ، وقال: هذه دعوة إلى المجون.
وكنت أعرف أن العمامة الخضراء التي تزين رأسه ستغنيني في إقناعه، فالتفت إليه وقلت: حتى أنت يا سليل الحسن بن علي، تنكر الدعوة إلى تقديس الجمال؟! فابتسم، وطابت نفسه، وانشرح صدره، وترحم على جده، وانطلق يحدث عن نوادره مع النساء.
وقليل من التنبه كاف لتعريفنا بخطر هذه الدسيسة في عالم السياسة، فإن الرجل الذي يشغل نفسه بسياسة المرأة يعسر عليه أن يتفرغ لسياسة الدولة، وهذا المغمز لا يزال معروفا في ميادين النضال السياسي، ولو شئنا لضربنا لذلك الأمثال.
4 (8)
نجح الأمويون في تشويه سمعة الحسن من الوجهة السياسية، ولكنهم لم ينجحوا في تشويه سمعة الحسين؛ ولذلك رأينا الشعراء يبدئون ويعيدون في الثناء على هذا الشهيد، ورأينا منهم من يتمثل مصرعه في الأحلام. روى الثعالبي عن أحد معاصريه قال: أخبرني علي بن بشر أنه كان له جد لأم يعرف بكولان، وكان هو من أهل الأدب والكتابة، وحسن الشعر والخطابة، قال لي: حججت سنة من السنين، وجاورت بمكة حرسها الله، فاعتللت علة تطاولت بي، وضاق معها خلقي، ثم صلحت منها بعض الصلاح، ففكرت في أني عملت في أهل البيت تسعا وأربعين قصيدة مدحا، فقلت: أكملها خمسين، ثم ابتدأت فقلت:
بني أحمد يا بني أحمد
ثم أرتج علي فلم أقدر على زيادة، فعظم ذلك علي، واجتهدت في أن أكمل البيت فلم أقدر، فحدث لي من الغم بهذه الحالة ما زاد على غمي بإضاقتي وعلتي، فنمت اهتماما بالحال، فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم ، فجئت إليه، فشكوت ما أنا فيه من الإضاقة، وما أجده من العلة، وأخرى من القلة، فقال لي: تصدق يوسع الله عليك، وصم يصح جسمك. فقلت له: يا رسول الله، وأعظم مما شكوته إليك أنني رجل شاعر أتشيع، وأخص بالمحبة ولدك الحسين، وتداخلني له رحمة لما جرى عليه من القتل، وكنت قد عملت في أهل بيتك تسعا وأربعين قصيدة، فلما خلوت بنفسي في هذا الموضع حاولت أن أكملها خمسين، فبدأت قصيدة قلت فيها مصراعا وأرتج علي إجازته، ونفر عني كل ما كنت أعرفه، فما أقدر على قول حرف. قال: فقال لي قولا نحا فيه إلى أنه ليس هذا إلي، لقول الله تعالى:
وما علمناه الشعر وما ينبغي له ، ثم قال لي: اذهب إلى صاحبك. وأومأ بيده الشريفة إلى ناحية من نواحي المسجد، وأمر رسولا أن يمضي بي إلى حيث أومأ، فمضى بي الرسول إلى ناس معهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له الرسول: أخوك وجه إليك بهذا الرجل فاسمع ما يقوله. قال: فسلمت عليه، وقصصت عليه قصتي كما قصصت على النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لي: فما المصراع؟ فقلت: «بني أحمد يا بني أحمد» فقال للوقت قل:
بكت لكمو عمد المسجد
بيثرب واهتز قبر النبي
أبي القاسم السيد الأصيد
وأظلمت الأفق أفق البلاد
وذر على الأرض كالإثمد
ومكة مادت ببطحائها
لإعظام فعل بني الأعبد
ومال الحطيم بأركانه
وما بالبنية من جلمد
وكان وليكم خاذلا
ولو شاء كان طويل اليد
قال: ورددها علي ثلاث مرات، فانتبهت وقد حفظتها.
5 (9)
ومن أقوى مظاهر التصوف في حب أهل البيت ما كان يقع من أنصارهم في حضرة معاوية، ومن شواهده ما وقع من أبي الطفيل، وكان معاوية يتشهى أن يراه فلم يزل يكاتبه ويلطف له حتى قدم عليه، فجعل يسائله عن أمر الجاهلية، ودخل عليه عمرو بن العاص ونفر معه، فقال لهم معاوية: أما تعرفون هذا؟ هذا خليل أبي الحسن! ثم قال: يا أبا الطفيل، ما بلغ من حبك لعلي؟ قال: حب أم موسى موسى، قال: فما بلغ من بكائك عليه؟ قال: بكاء العجوز الثكلى والشيخ الرقوب، وإلى الله أشكو التقصير!
قال معاوية: إن أصحابي هؤلاء لو كانوا سئلوا عني ما قالوا في ما قلت في صاحبك!
قالوا: إذن والله لا نقول الباطل.
فقال لهم معاوية: لا والله، ولا الحق تقولون!
6
وحدثوا أن معاوية كان يسمر مع جماعة من بني أمية، فذكر اسم الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها بصفين، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: أشيروا علي في أمرها، فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به علي، أيحسن بمثلي أن يتحدث عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها؟ وكتب إلى عامله بالكوفة، فأوفدها إليه، ثم قال لها بعد الترحيب: أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم؟! قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين تحضين على القتال، وتوقدين الحرب، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين! مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: «أيها الناس! ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عند قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء، بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها! إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس! إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق ودمغ الحق الباطل، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف وأنى، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده .»
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
فقالت: أحسن الله شارتك، وأدام سلامتك، فمثلك بشر بخير وسر جليسه.
قال: أويسرك ذلك؟
فقالت: نعم والله لقد سررت بالخبر، فأنى لك بتصديق الفعل؟!
فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك. فقالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا.
7
وحدثوا أيضا أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال لها دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها. فقال: ما جاء بك يا ابنة حام؟ فقالت لست لحام، إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبك ما ليس لك بحق، وواليت عليا على ما عقد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الولاء وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى، قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك! قالت: يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك، لأبي! قال معاوية: يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها، فرجعت وسكنت، ثم قال: يا هذه، هل رأيت عليا؟ قالت: إي والله! قال: فكيف رأيته؟ قالت رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك! قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم، والله! فكان يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت صدأ الطست. قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أوتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها. قال : تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: سبحان الله! أو دونه! فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم
فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد
جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا!
قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين!
8 (10)
ولهذه المواقف الثلاثة نظائر كثيرة في الأدب العربي، وهي تحتمل ثلاثة فروض:
الفرض الأول:
أن تكون صحيحة، وهي عندئذ شاهد صحيح على التصوف في حب علي، والوفاء للميت بمثل هذه الصورة لا يكون إلا من قلوب عامرة بالإخلاص، ولا سيما إذا تذكرنا أن ذلك الميت انهزم في ميدان السياسة وانهزم ناصروه، وتمت لعدوه الغلبة فاستأثر بالحول والطول.
والفرض الثاني:
أن تكون من وضع العلويين، وهي عندئذ صورة من أهوائهم في حب أهل البيت.
والفرض الثالث:
أن تكون من وضع الأمويين، ويكون الغرض من وضعها تزكية آل حرب ووصفهم برجاحة الأحلام، فهي أيضا صورة لما كان مفروضا من وفاء بعض الناس لأهل البيت، والفرض الأخير لا يمكن قبوله في جميع الحالات؛ ففي بعض المواقف قذف لآل حرب، ورمي بالبغي والفسوق، وتذكير بمخازيهم في الجاهلية والإسلام، وفي هذه الحال لا يقبل غير الفرض الثاني؛ لأن معاوية مهما حلم فعنده هيبة الملك، وهي كفيلة بأن تقف سفه الخطاب عند الحد المعقول. (11)
ويشبه هذه المواقف ما أنطق به الرواة الخليفة المأمون في مدح علي بن أبي طالب، وأغلب الظن عندنا أن ذلك مصنوع بأيد هاشمية، وهذا الصنع له دلالته على أي حال، فحماسة الشيعة كانت في البداية حماسة سياسية، ثم انقلبت إلى حماسة روحية، فهم يبدئون ويعيدون في مدح أهل البيت بقلوب غمرها التصوف العميق. (12)
على أن هذه المواقف ليست كل شيء، فهناك شعراء قضوا أعمارهم في الدفاع عن أهل البيت، ولقوا في ذلك من المحن والمكاره ما يدل على نصيبهم من صدق الوجدان، أمثال: الكميت، ودعبل، وأبي الطفيل، وهناك شعراء لم يقفوا حياتهم على هذا الفن، ولكن كانت لهم فيه مواقف موصولة بصدق اليقين، أمثال: الشريف الرضي، ومهيار، وسيكون لهؤلاء مكان في هذا الكتاب. (13)
وهناك شعراء أطالوا القول في مدح أهل البيت، وهم شعراء الدولة الفاطمية، ولكن هؤلاء صدقهم مشوب بروح النفع؛ لأن الفاطميين كانوا أقاموا ملكا عظيما في مصر والمغرب، وانتصارهم كاف لتشكيكنا في عواطف من مدحوهم من الشعراء.
وليس معنى ذلك أن مدح المنتصر يخلو من الصدق، لا، ولكن معناه أنه بعيد من التصوف لأنه متهم بحب النفع، وهيهات أن يقف مثل ابن هانئ الأندلسي في صف شاعر مثل الكميت!
إن أمثال ابن هانئ يمدحون أهل البيت وهم محميون بقوة الفواطم، والمنافع تجري حولهم من كل جانب، أما أمثال أبي الطفيل والكميت فكانوا يمدحون أهل البيت والدنيا من حولهم مظلمة، والأنس في قلوبهم مفقود، فهم أوفياء يائسون، والوفاء من اليائس خلق عظيم.
وفي هذه الحقيقة ما يغنينا عن الجواب إذا سئلنا عن إغفال كثير من الشعراء الذين مدحوا أهل البيت، إن علامة التصوف هي الشجاعة، والشجاعة لا يحتاج إليها إلا في مواطن الخوف، وهي عندئذ دليل على حفظ العهد وصدق اليقين.
الفصل الثالث
الكميت بن زيد الأسدي
مولده وطفولته - بدايته الشعرية - اهتمام الرواة والنقاد بشعره - إخوانياته ووفاؤه - أهاجيه ومعرفته بالأنساب والأشعار وأحوال الجاهلية - حبه لأهل البيت - اعتذاره عن مدح بني أمية. *** (1)
ولد الكميت بن زيد بالكوفة سنة ستين للهجرة، وبعض من ترجموا له لا يعينون سنة مولده، وإنما يقولون: ولد أيام مقتل الحسين، وعند تأمل أساليب العرب في تقييد المواليد نجد لهم ملحظا ظريفا في ذلك، فهم يقولون إن عمر بن أبي ربيعة ولد في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب ليصح لهم أن يعقبوا بهذه النكتة، فيقولوا: فأي خير رفع، وأي شر وضع! لأن عمر الذي مات كان مثال الوقار، أما عمر الذي ولد فكان مثال الطيش، وكذلك قالوا إن الكميت ولد في أيام مقتل الحسين، ليشيروا إلى أنه جاء إلى الدنيا في أيام الأحزان العلوية، وأنه بقصائده الهاشميات سيشفي الأحزان التي أحدقت بالعالم الإسلامي يوم جاء إلى الوجود. (2)
مرت طفولة الكميت بين النباهة والخمول، فلم يعرف عنها شيء ذو بال، ولعل أول ما لفت النظر إلى ذكائه ما وقع له مع الفرزدق، فقد حدثوا أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد أشعاره، فراع الفرزدق حسن استماع الكميت، وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي، وقال: هل أعجبك شعري يا بني؟ فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طربا لم أشعر بمثله من قبل! فانتشى الفرزدق، وأخذ العجب منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلا، ولكن يسرني أن تكون أمي! فحضر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها.
وهذه النادرة مع شاعر في منزلة الفرزدق كانت كفيلة بأن تجعل لذلك الطفل شهرة بين الناس. (3)
ويأبى الرواة إلا أن يجعلوا الكميت من الأعاجيب؛ فهم لا يريدون أن يجعلوه شاعرا كسائر الشعراء، يبدأ بداية عادية، ثم يتسامى فيسمو إلى منازل الشعر الرفيع، وإنما يزعمون أنه نبغ دفعة واحدة، ويذكرون أن عمه كان رئيس قومه، وأنه قال يوما: يا كميت لم لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء، وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة، فأنشد متمثلا:
يا لك من قنبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
فقال له عمه ورحمه: قد قلت شعرا فاخرج! فقال الكميت: لا أخرج أو أقول لنفسي! فما رام حتى عمل قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا، فجمعهم له فأنشد:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب
1
وسنرى أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره؛ لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة شاعر فحل طال منه الصيال. (4)
نترك طفولة الكميت وصباه، ونذكر أن شاعريته ملأت الدنيا ضجيجا، وأصبح في عصره وبعد عصره مضرب الأمثال، فقد عرض بديع الزمان الهمذاني لاسمه في رسالة الذهب والأدب فقال:
واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت ألفا ومائتي بيت، من شعر الكميت، فلم يغن.
وعني ابن الأعرابي بدرسه، وكان ابن الأعرابي لا يشغل نفسه إلا بالشعراء الفحول الذين يعرفون الأنساب، أو يمتون بعرق إلى الأساليب الجاهلية، وكان الجاهليون عندهم أئمة البيان.
ولم يعن ابن الأعرابي بدرس شعر الكميت فحسب، بل كان يذكر به من يغفلون عنه حين يعرضون عليه ما عرفوا من معاني الشعراء.
2
وقد شهد له الفرزدق بقوة الشاعرية، فإنه لما قدم الكوفة أسرع إليه الكميت، فقال له: إني قد قلت شيئا فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فأنشده قوله في أهل البيت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب
ولم تلهني دار ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنان مخضب
ولا السانحات البارحات عشية
أمر سليم القرن أم مر أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم
إلى الله فيما نالني أتقرب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة
إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وكنت لهم من هؤلاك وهؤلا
مجنا على أني أذم وأقصب
وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها
وإني لأوذى فيهمو وأؤنب
فقال له الفرزدق: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فلا نطرب، ولا طرب من كان قبلنا إلا إلى ما تركت أنت الطرب إليه، ثم قال له: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي.
3
وشهادة الفرزدق لها قيمة؛ فقد كان من المتقدمين من يرى الشعراء أصحاب الحق الأول في نقد الشعر لأنهم أعرف بعيون الكلام، وأبصر بالمآزق التي يتعرض لها الشعراء.
وبلغ من شاعرية الكميت أن صارت ديباجته عنوانا عليه يعرفه بها الرواة، وإن لم يقرن اسمه إلى شعره، فقد حدثوا أن هشاما اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له: «إنه يريد خلعك» فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرئت عليه، وهي:
تألق برق عندنا وتقابلت
أثاف لقدر الحرب أخشى اقتبالها
فدونك قدر الحرب وهي مقرة
لكفيك واجعل دون قدر جعالها
ولن تنتهي أو يبلغ الأمر حده
فنلها برسل قبل ألا تنالها
فتجشم منها ما جشمت من التي
بسوراء هرت نحو حالك حالها
4
تلاف أمور الناس قبل تفاقم
بعقدة حزم لا تخاف انحلالها
فما أبرم الأقوام يوما لحيلة
من الأمر إلا قلدوك احتيالها
وقد تخبر الحرب العوان بسرها
وإن لم تبح من لا يريد سؤالها
فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة، فجمعوا فأمر بالأبيات فقرئت عليهم فقال: شعر من تشبه هذه الأبيات؟
فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت.
فقال هشام: نعم! هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله.
5
ودلالة الأسلوب على صاحبه مظهر من مظاهر قوة الشخصية بغض النظر عن القيمة الذاتية لآثار الكتاب والشعراء.
وكان بشار يتحامل على الكميت، ويقول: ما كان الكميت شاعرا، فقيل له: كيف وهو الذي يقول:
أنصف امرئ من نصف حي يسبني
لعمري لقد لاقيت خطبا من الخطب
هنيئا لكلب أن كلبا يسبني
وأني لم أردد جوابا على كلب
فبهت بشار، وأجاب بجواب سخيف.
6
وتحامل بشار على الكميت ليس بشيء، فإن الشعراء قد يجازي بعضهم بعضا أسوأ الجزاء، وقد يكون من أسباب حقد بشار على الكميت رغبته في أن يغيظ أشياعه من الرواة والنقاد، وما قيمة تحامل بشار بجانب شهادة الجاحظ الذي قال: ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقوله:
فإن هي لم تصلح لحي سواهم
فإن ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثه
لقد شركت فيه بجيل وأرحب
7
وكان الجاحظ من أعلم الناس بتطور الحركات العقلية في الأحزاب الإسلامية.
ومن أقرب الشهادات إلى معاني الوفاء ما وقع يوم التقت ريا بنت الكميت، وفاطمة بنت أبان بن الوليد بمكة، وهما حاجتان، فتساءلتا حتى تعارفتا، فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها، فقالت لها بنت الكميت: جزاكم الله خيرا يا آل أبان! فما تتركون بركم بنا قديما ولا حديثا. فقالت لها بنت أبان: بل أنتم فجزاكم الله خيرا، فإنا أعطيناكم ما يبيد ويفنى، وأعطيتمونا من المجد والشرف ما يبقى أبدا ولا يبيد، يتناشده الناس في المحافل، فيحيي ميت الذكر، ويرفع بقية العقب.
8
وكان الكميت أجاد مدح أبان بن الوليد.
وكان بنو أسد يعدون الكميت من مفاخرهم، ويقولون: فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منزل منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت؛ لأنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في النوم، فقال له أنشدني:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
فأنشده فقال له: بوركت وبورك قومك!
9
وحدث أبو عكرمة الضبي عن أبيه فقال: أدركت الناس بالكوفة يقولون:
من لم يرو: «طربت وما شوقا إلى البيض أطرب» فليس بهاشمي.
ومن لم يرو: «ذكر القلب إلفه المهجورا» فليس بأموي.
ومن لم يرو: «هلا عرفت منازلا بالأبرق» فليس بمهلبي.
ومن لم يرو: «طربت وهاجك الشوق الحثيث» فليس بثقفي.
10
وكان إلى هذا كله يوزن رأيه في الحكم على الشعراء، وقد أثبت صاحب الأغاني رأيه في شعر أمية بن أبي الصلت.
11
وكان هو نفسه مفتونا بالإجادة، فقد قيل له: إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل. فأجاب: إني إذا قلت أحببت أن أحسن.
12
وقد استشهد النحاة بشعره غير مرة، وإن كره ذلك المفضل الذي سلكه مع كثير وذي الرمة والطرماح
13
على حين كان يراه معاذ الهراء أشعر الأولين والآخرين.
14
تلك منزلة الكميت عند القدماء، فإن سألتم أين منزلته في العصر الحديث فإنا نذكر أنه آخر من يهتم به أساتذة الأدب في المعاهد العلمية، وقد سبق المستشرقون إلى إحياء شعره فطبعوا هاشمياته في ليدن سنة 1904م، وكتب لها أحدهم مقدمة وتصحيحات باللغة الألمانية.
15 (5)
كانت حياة الكميت موزعة بين طائفة من الأهواء والميول ، فكان من الوجهة النفسية رجلا يعرف حقوق الإخوان، فيصطفي من يصطفي على أساس العقل، وقد لاحظ معاصروه أن ما كان بينه وبين الطرماح من المودة لم يكن بين اثنين على تفاوت المذهب والعصبية فقيل له: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة.
16
ومعنى هذا أن قرابة العقل كانت تجمع بين الرجلين، وتلك لفتة خلقية لا يدرك قيمتها إلا الأقلون، ومن أجل هذا اهتم ابن قتيبة برواية شعره في باب الإخوان من عيون الأخبار، فروى له في باب المودة بالتشاكل هذه الأبيات:
وما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي
إذا صد عنه ذو المودة يقرب
ولكنه إن دام دمت وإن يكن
له مذهب عني فلي عنه مذهب
ألا إن خير الود ود تطوعت
به النفس لا ود أتى وهو متعب
وروى له في باب شرار الإخوان:
وقد يخذل المولى دعائي ويجتدي
أذاتي وإن يعدل به الضيم أغضب
فأونس من بعض الصديق ملالة الد
نو فأستبقيهمو بالتجنب
ويتصل بصدق الأخوة في نفسه ما وقع له يوم مدح الحكم بن الصلت بقصيدته:
طربت وهاجك الشوق الحثيث
فإنه لما فرغ من إنشاده دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة، ثم دعا بأبان بن الوليد فأدخل عليه وهو مكبل بالحديد، فطالبه بما عليه من المال، فالتفت الكميت فرآه فدمعت عيناه، وأقبل على الحكم، فقال: أصلح الله الأمير! اجعل جائزتي لأبان.
وكان حوشب بن يزيد الشيباني بالمجلس، وكان يكره الكميت وأبان معا وساءه أن يشفع الكميت لأبان، فقال: أصلح الله الأمير! أتشفع حمار بني أسد في عبد بجيلة؟
فقال له الكميت: لئن قلت ذاك فوالله ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا، ولا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا ... وكان يقال إن حوشبا فر عن أبيه في بعض الحروب، فقتل أبوه ونجا هو.
وفيه يقول الشاعر:
نجى حشاشته وأسلم شيخه
لما رأى وقع الأسنة حوشب
17 (6)
وكما كان الكميت عذب المودة كان مر العداوة، وقد هاجى فريقا من الشعراء، وتعرض للحبس بسبب هجائه لبعض الأمراء ، عرض له الكلبي بهذين البيتين:
ما سرني أن أمي من بني أسد
وأن ربي نجاني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم
وأن لي كل يوم ألف دينار
فأجاب الكميت:
يا كلب ما لك أم من بني أسد
معروفة فاحترق يا كلب بالنار
لكن أمك من قوم شنئت بهم
قد قنعوك قناع الخزي والعار
18
وحمله غرامه بالهجاء على التفوق في علم الأنساب، فإنه لا شيء أخطر في الخصومات من معرفة قديم المثالب حين تضطرم نار السباب، ويظهر أن الكميت كان عفى على الأولين من النسابين، فقد نقل ياقوت أن ابن عبدة النساب قال: «ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات فأظهر بها علما كثيرا، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحدا أعلم منه بالعرب وأيامها.»
19
وفي الأغاني أن الكميت وحمادا الراوية اجتمعا في مسجد الكوفة فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال الكميت: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟ قال: ما هو إلا الظن؟ هذا والله اليقين! فغضب الكميت ثم قال: لكم شاعر بصير يقال له عمرو بن فلان تروي؟ ولكم شاعر أعور أو أعمى اسمه فلان بن عمرو تروي؟ فقال حماد قولا غير مقنع، فجعل الكميت يذكر رجلا رجلا من صنف صنف، ويسأل حمادا هل يعرفه؟ فإذا قال لا، أنشده من شعره جزءا جزءا حتى ضجر السامعون، ثم قال له الكميت: فإني سائلك عن شيء من الشعر، فسأل عن قول يزيد بن طعمة الخطمي:
طرحوا أصحابهم في ورطة
قذفك المقلة شطر المعترك
فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:
تدريننا بالقول حتى كأنما
تدرين ولدانا تصيد الرهادنا
فأفحم حماد، فقال له الكميت: أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة: حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء، والشطر: النصيب، والمعترك: الموضع الذي يختصمون فيه في الماء، فيلقونها هناك عند الشرب، وقوله : «تدريننا» يعني النساء؛ أي ختلننا فرميننا، والرهادن: طير بمكة كالعصافير.
20
ولم يقف الكميت بعلمه عند أنساب العرب وأشعارها، بل مضى فعرف أخبار الناس في الجاهلية، وكانت له جدتان أدركتا ذلك العهد، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، ومن هنا كان علمه بالبادية في أكثره علم سماع لا علم معاينة، وقد تنبه إلى ذلك ذو الرمة حين أنشده بائيته التي عارض بها قصيدته.
ما بال عينك منها الماء ينسكب
فقال له: «ويحك! إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدا منه، بل تقع قريبا منه.»
فقال الكميت: أوتدري لم ذلك؟ قال: لا. فقال: لأنك تصف شيئا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئا وصف لي وليست المعاينة كالوصف.
21
وهذا كله يدلنا على أن الكميت استعد للثقافة الشعرية استعدادا بلغ فيه أقصى الجهد، وكثير من شعره يجري مجرى التلميح لما وقع بين القبائل، على نحو ما نرى في هذا البيت:
كأن الغطامط من غليها
أراجيز أسلم تهجو غفارا
22 (7)
ننتقل إلى الأهم من أمر الكميت، وهو حبه لأهل البيت، وليس من المغالاة أن نقول إن حبه للرسول وأهله كان أقوى ما عرف من عواطف الشعراء لذلك العهد، وهو في حبه هذا يمثل الروحانية أصدق تمثيل، وما ظنكم برجل يفنى في حبه فناء تنمحي الدنيا في سبيله، أو تكاد، ويمضي فيتغنى بحب الرسول وأهل بيته في أيام كان مدح الرسول فيها يعرض الشاعر لغضب بني أمية، وبيدهم الحول والطول، وما كان بنو أمية بكافرين حتى يؤذيهم مدح الرسول، ولكن السياسة كما أشرنا من قبل كانت ترى في مدح الرسول تزكية للهاشميين، وكان الكميت يصرح بأنهم انتهبوا الخلافة بغير حق، وهي في رأيه ميراث الرسول لا يصلح لها إلا أهله الأقربون.
وشواهد التاريخ تدلنا على أن الهاشميين كانوا في حال من اليأس لا يرهبهم فيها عدو، ولا يرجوهم صديق ، وهذا يزيد في أقدار من تعصبوا لهم من الشعراء، ولا سيما إذا لاحظنا أن الكميت كان يتوجع لبني هاشم توجعا يثير الدمع، وكان يحن إلى مودتهم حنينا هو أقباس من التصوف، وكانت له معهم نوادر تفصح عن صدق سريرته أجمل إفصاح، وإليك هذا المثال:
دخل الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد، فقال له: جعلت فداك! ألا أنشدك؟
فقال أبو عبد الله: إنها أيام عظام! فقال الكميت: إنها فيكم. فقال هات! وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب فأنشده، وكثر البكاء حين أتى على هذا البيت:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
فيا آخرا أسدى له الغي أول
فرفع أبو عبد الله يديه، وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتى يرضى!
ومن المؤكد عندنا أن هذه الدعوة كانت أحب إلى قلب الكميت من سني العطاء، ودليلنا على ذلك أنه دخل يوما على أبي عبد الله فأعطاه ألف دينار وكسوة، فقال له الكميت: «والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم، فأنا أقبلها لبركتها، وأما المال فلا أقبله» وكذلك رد المال، وقبل الثياب.
23
ودخل على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت!
وجيء بقدح فيه سويق فحركته بيدها، وسقت الكميت فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب، فهملت عيناه، وقال: «والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا.»
24
فإن لم يكن هذا الولاء تصوفا وروحانية، فأين يكون التصوف، وأين تكون الروحانية؟ وكان هو نفسه يؤمن بأنه يسير في طريق الحق، ويعتقد بأنه يتقرب إلى الله بحب أهل البيت، وشاهد ذلك أنه رأى النبي في نومه، وهو مختف بعد أن هرب من السجن، فقال له الرسول: مم خوفك؟
فقال: يا رسول الله، من بني أمية، وأنشده:
ألم ترني من حب آل محمد
أروح وأغدو خائفا أترقب
فقال له رسول الله: اظهر فإن الله قد أمنك في الدنيا والآخرة.
وقد اطمأنت جماهير المسلمين إلى صدق الكميت، وكان خصومه من الشعراء يعادونه في هيبة وحذر خوفا من غضب الرسول، وقد حدثوا أن دعبلا لما ناقض الكميت في قصيدته التي هجا بها قبائل اليمن رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في النوم فنهاه عن ذكر الكميت بسوء.
25
والعلم الذي نعرفه، وهو علم قليل، يشرح هذه الأحلام شرحا مقبولا، وهو يجعلها دليلا على نيات من يحلمون، فإذا استطاع العلم بعد اليوم أن يثبت صلة الأرواح بالأحياء، فسنعرف يومئذ أن الكميت كان قريبا كل القرب من روح الرسول. (8)
وقد أثرت عن الكميت مواطن مدح فيها بني أمية، فكيف يتفق ذلك لشاعر أخلص في حب أهل البيت؟ ونجيب بأنه كان ينتمي أحيانا إلى بني أمية ليقي أعراض بني هاشم، فقد لامه ابنه على أن افتخر ببني أمية، وهو يهاجي الكلبي عدوه، فأجاب: «يا بني، أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية، وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت عليا لترك ذكري، وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت عليا له، ولا أجد له ناصرا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته.»
26
وكان الأمر كما قال: أمسك الكلبي عن جوابه فغلب عليه وأفحم الكلبي.
ودخل يوما على أبي جعفر محمد بن علي، فقال له: يا كميت، أنت القائل:
والآن صرت إلى أمي
ة والأمور إلى مصاير
فأجاب الكميت: نعم! قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم.
27
وهذا الجواب غاية في أدب النفس؛ فالشاعر لا ينكر أنه مدح بني أمية وإنما يعترف بأنه لم يرد بذلك إلا الدنيا، أما الآخرة فقد أرادها بمدح أهل البيت.
ولنتذكر أنه قال هذا القول بمسمع من بني أمية، وبأيديهم مفاتيح الخزائن ومقاليد السجون؛ فهو منهم بين الرجاء والخوف، ولم يمنعه ذلك الموقف الحرج من التصريح بأنه لم يمدحهم إلا للدنيا الفانية، وهذا التصريح هو في ذاته قصيدة هجاء، وهل ينكر أحد أن الاعتراف يهدم الاقتراف؟
على أنه إن صح أن الشعر دليل على وجدان الشاعر، فسيبقى من شواهد صدقه أن شعره في الهاشميين أقوى من شعره في بني أمية، فليست أشعاره في الأمويين إلا قصائد مديح لها نظائر وأمثال في اللغة العربية، أما قصائده الهاشميات فهي أعز من أن يكون لها نظائر وأمثال.
الفصل الرابع
هاشميات الكميت
إلحاح الشاعر في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق - تعلق المنهزمين في السياسة بأهداب المثل الأعلى - صور من أخلاق الهاشميين - الهاشميات من القصائد الطوال - مظاهر التجديد عند الكميت - مدح أهل البيت فرع من المدائح النبوية - مقارعة الأمويين في البائية واللامية - ملامح من هاتين القصيدتين - مظهر التصوف في البائية. *** (1)
أول خصيصة لهذه القصائد هي الروح العقلية، فالشاعر لا يشغلنا بنفسه ولا بفنه، وإنما يشغلنا بالتفكير في مصير الأمة الإسلامية، وهو يسوق ذلك بتصوف عجيب، فالخلافة ليست عنده ولاية للحكم تعود على الخلفاء وأشياعهم بالجاه وبالأموال، وإنما هي ميزان للعدل لا يقوم به إلا المصطفون الأخيار.
ومن أجل ذلك نراه يلح في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق. ويظهر مما اطلعنا عليه أن الهاشميين كانوا في ذلك العهد أقرب الناس إلى لطف الشمائل، وكرم الخصال. وقليل من الاستقصاء يرينا أن الحرص على الأخلاق الشريفة يكون غالبا من خواص من ينهزمون في الميادين السياسية، ولنا على ذلك شواهد في الشرق والغرب: فالحزب الملكي في فرنسا يظهر غيرة شديدة على الأخلاق، والحزب الوطني في مصر يميل أنصاره إلى مؤازرة الجمعيات الإسلامية، وتعليل ذلك سهل؛ فإن المرء يحب أن يتسلح بالقوة، فإن أعوزته القوة تسلح بالخلق الجميل.
وليس معنى هذا أن المنهزمين في ميادين السياسة يتجرون بالأخلاق، لا ولكن معناه أن قوى المنهزمين في السياسة تتحول إلى معان روحية ووجدانية وعلى أكتاف هؤلاء المنهزمين تقوم المبادئ الصوفية، التي لا تترعرع إلا في صدور من خلصوا من هموم السلطان، وأقبلوا على عالم الروح.
ومن هنا نفهم أن الكميت كان يدافع عن المثل الأعلى، كان يريد أن تقوم الدولة على أساس الدين؛ أي على أساس النزاهة المطلقة التي لا يشوبها جور ولا رياء ولا خداع، وهذا المثل الأعلى هو الذي هزم الهاشميين ونصر الأمويين؛ ذلك بأنه لا يكفي أن تقوم النزاهة من جانب واحد هو جانب الحكام، وإنما يجب لنصرة المثل الأعلى أن تغمر النزاهة أيضا صدور المحكومين، والدنيا كما عرفناها وعرفها الناس فيها الرشد والغي، والقناعة والطمع، والبر والعقوق. وقيام الملك لا يغني فيه زهد علي، كما يغني دهاء معاوية؛ ولهذا رأينا الحكماء يتمثلون حكومة العدل المطلق حكومة وهمية، فيصورونها في كتبهم على أنها أماني وأحلام، ويا بعد ما بين الحقيقة والخيال!
فمن جوانب الضعف عند الكميت ألا يفهم أن الأخلاق دولة أعز من دولة السلطان، وأنه لا يليق بصاحب الخلق المتين أن يبكي ما ضاع منه كلما رأى أهل الدنيا يمرحون في ظلال الترف والنعيم.
ولكن هذا الضعف هو عين القوة، فالرجل يرى المثل الأعلى في الجمع بين السيطرة والزهد، ولو صح لنا أن نلومه على ذلك لجاز أن نتصور أن صيحات المصلحين لغو وفضول.
وأهل الدنيا في الأغلب يرون كلمات الحكماء نوعا من الثرثرة، ولكن العواقب تحكم دائما بأن الحق كان من نصيب أولئك المستضعفين، على أن أمثال بني أمية لم يستتب لهم الملك لأنهم عرفوا كيف يبثون الرجاء والخوف، وإنما تماسك الناس بفضل ما عرفوا واصطنعوا من الخلق والدين، ولو ترك المسيطرون وجها لوجه أمام الجماهير التي لا يميلها غير الرجاء، ولا يرهبها غير الخوف، لانهزموا أقبح انهزام، فإن الشعب الذي لا يتماسك بفضل ما ورث من الأخلاق لا يمسكه خوف ولا رجاء.
وخلاصة هذه الفكرة أن الكميت لم يفهم كيف يقوم الملك، ولو قد فهم لنصح الهاشميين باصطناع ما اصطنع الأمويون من التخلق بخلق المعاش، وللمعاش أخلاق يحسنها من يعرفون كيف تجمع الثروة، وكيف يخلق الأنصار والأعوان، كما فعل معاوية الذي لم يقض سنيه عبثا يوم ولاه عمر بن الخطاب على الأقطار الشامية، بل بذل ما يملك من جهد ودهاء في خلق الأنصار والأعوان، لتكون الشام ذخيرة حربية حين يبدو في أفق السياسة ما يدعو إلى الزحف للأخذ بناصية الملك.
ولكن هذه الغفلة من جانب الكميت هي أساس القوة الروحية، فلو أنه شك لحظة في صحة ما عليه الهاشميون من الأخلاق لما نافح عنهم بتلك القصائد الطوال، ولو تطرق إلى ذهنه أن الملك يحتاج إلى المداهنة في معاملة الناس لما وصل إلى تلك العظمة النفسية التي تطالعنا بوادرها كلما نظرنا في الهاشميات.
والهاشميون أنفسهم لو حاولوا التخلق بأخلاق الأمويين لانهزموا في ميدان الدنيا وميدان الدين، وقوة الرجل أن يقف حيث وقفته الفطرة، فيقسو ويرق وفقا لما في فطرته من عناصر العنف واللين. (2)
أقول هذا لأبين أثر السذاجة في أحكام هذا الشاعر من الوجهة النفسية، فهو حين يمدح الهاشميين بكرم الأخلاق يقف عند الشمائل الصريحة التي يتحلى بها أهل الشهامة والنبل، فيقول:
بل هواي الذي أجن وأبدي
لبني هاشم فروع الأنام
للقريبين من ندى والبعيدي
ن من الجور في عرى الأحكام
والمصيبين باب ما أخطأ النا
س ومرسي قواعد الإسلام
والحماة الكفاة في الحرب إن لف
ضرام وقوده بضرام
والغيوث الذين إن أمحل النا
س فمأوى حواضن الأيتام
والولاة الكفاة للأمر إن طر
ق يتنا بمجهض أو تمام
والأساة الشفاة للداء ذي الري
بة والمدركين بالأوغام
لكثيرين طيبين من النا
س وبرين صادقين كرام
واضحي أوجه كرام جدود
واسطي نسبة لهام فهام
للذرى فالذرى من الحسب الثا
قب بين القمقام فالقمقام
1
راجحي الوزن كاملي العدل في السي
رة طببن بالأمور العظام
مستفيدين متلفين مواهي
ب مطاعيم غير ما أبرام
2
ومداريك للذحول متاري
ك وإن أحفظوا لعور الكلام
3
لا حباهم تحل للمنطق الشغ
ب ولا للطام يوم اللطام
وإذا الحرب أومضت بسنا الحر
ب وسار الهمام نحو الهمام
فهم الأسد في الوغى لا اللواتي
بين خيس العرين والآجام
أسد حرب غيوث جدب بهالي
ل مقاويل غير ما أفدام
4
لا مهاذير في الندي مكاثي
ر ولا مصمتون بالإفحام
وهم الآخذون من ثقة الأم
ر بتقواهم عرى لا انفصام
ومحلون محرمون مقرو
ن لحل قراره وحرام
وتلك أخلاق صريحة كلها شرف ونبل، وهي تمثل فهم الكميت لخلائق الأشراف، وأهل البيت في شعره رجال بررة، كرام، شجعان، فصحاء لا يكثرون في هذر، ولا يصمتون مفحمين، وهم فوق ذلك كله يعتصمون بالتقوى فلا يحلون ولا يحرمون إلا بوحي الدين الحنيف.
وهم مع هذه الأخلاق الصريحة ساسة، ولكنهم ليسوا كالساسة الذين يرعون الناس كما يرعون الأنعام:
لا كعبد المليك أو كوليد
أو كسليمان بعد أو كهشام
رأيه فيهم كرأي ذوي الثل
ة في الثائجات جنح الظلام
5
جز ذي الصوف وانتقاء لذي المخ
ة نعقا ودعدعا بالبهام
من يمت لا يمت فقيدا وإن يح
ي فلا ذو إل ولا ذو ذمام
وهذه الأبيات تمثل رأيه في بني أمية، كل همهم أن يعاملوا الرعية معاملة الضأن: يجزون ذوات الصوف، ويأكلون السمينات.
وهجاء بني أمية عنصر أصيل من عناصر الهاشميات، وهو على كثرة ألوانه يرجع إلى أصلين؛ الأول: أن بني أمية انتهبوا الخلافة من غير حق، والثاني: أنهم ساروا في الناس سيرة الجور والاعتساف. (3)
ندع هذا، وننتقل إلى التعريف بالهاشميات فنقول:
أهم هذه القصائد أربع: بائيتان، مطلع الأولى:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني وذو الشوق يلعب
وعدة أبياتها 138، ومطلع الثانية:
أنى ومن أين آبك الطرب
من حيث لا صبوة ولا ريب
وعدة أبياتها 67، والثالثة لامية، ومطلعها:
ألا هل عم في رأيه متأمل
وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وعدة أبياتها 89، والرابعة ميمية، ومطلعها:
من لقلب متيم مستهام
غير ما صبوة ولا أحلام
وعدة أبياتها 102.
فهي إذن قصائد طوال، والذي عالج الشعر في اللغة العربية يعرف أن القصيدة لا تجاوز المائة بيت إلا حين تستبد بعقل الشاعر وخياله وهواه، فإن وحدة الوزن والقافية في الشعر العربي تفرض طبع الذهن على غرار موحد، وتدور بالشاعر حول أنغام موسيقية متماثلة الأوضاع. والشاعر الأوروبي الذي ينظم قصيدة من مائة بيت لا تحوم نفسه في جو واحد على نحو ما يفعل الشاعر العربي؛ لأن اختلاف الوزن والقافية في الأشعار اللاتينية والسكسونية يعطي فرصا من راحة النفس لا يظفر بها الشاعر العربي الذي يلتزم وحدة الوزن والقافية، ونخرج من هذا بنتيجة محتومة: هي أن الكميت احتفل بهاشمياته كل الاحتفال، وأساس التجويد في جميع الفنون هو التهيؤ والاستعداد لإنضاج الصور الشعرية والملامح الفنية.
والكميت نفسه يشعر بخطر هذه القصائد، فيقول في ختام اللامية:
فدونكموها يال أحمد إنها
مقللة لم يأل فيها المقلل
6
مهذبة غراء في غب قولها
غداة غد تفسير ما قال مجمل
أتتكم على هول الجنان ولم تطع
لنا ناهيا ممن يئن ويرحل
وما ضرها أن كان في الترب ثاويا
زهير وأودى ذو القروح وجرول
وهذا الزهو يحدثنا بأفصح بيان عن اطمئنان الكميت إلى قوة هذه القصائد الطوال، وهو يضع نفسه في منزلة زهير وامرئ القيس والحطيئة، في أيام كان فيها أولئك الشعراء من السباقين الذين لا يشق لهم غبار. (4)
ولا مندوحة لنا من الإشارة إلى ما في تلك القصائد من بعض السمات الجاهلية، فوصف الناقة له في تلك المطولات مكان، وكان وصف الناقة من البدع الشعرية التي أذاعها الجاهليون وتابعهم فيها فريق من الشعراء الإسلاميين، وهي بدعة كان يوحيها ظرف الزمان والمعاش، ولكنها تحولت إلى موضوع فني يتسابق إلى التجويد فيه كبار الشعراء بسبب ما في النوق من الجمال. (5)
ومن مظاهر التجديد في الفن الشعري عند الكميت هو زهده في بكاء الأطلال والرسوم، وقصر هواه على الحنين إلى أهل البيت، وسينتهب أبو نواس هذه اللفتة، وسيقول الناس - وقد قالوا - إن أبا نواس هو أول من زهد في بكاء الرسوم والأطلال، فلنعلم الآن أن الكميت هو صاحب هذه البدعة الشعرية، والفرق بين الرجلين: أن الكميت ينصرف عن بكاء الدمن الدوارس ليمدح أهل البيت، رهط الرسول، أما أبو نواس فينصرف عن وصف الديار الخالية ليقف همه على وصف الخمر ومجالس الشراب. (6)
والكميت لا يمدح أهل البيت لذواتهم، وإنما يعلل مدحه إياهم بقرابتهم من الرسول، كقوله في البائية الكبرى:
إلى النفر البيض الذين بحبهم
إلى الله فيما نالني أتقرب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
وقوله في الميمية:
أسرة الصادق الحديث أبي القا
سم فرع القدامس القدام
7
خير حي وميت من بني آ
دم طرا مأمومهم والإمام
كان ميتا جنازة خير ميت
غيبته مقابر الأقوام
وجنينا ومرضعا ساكن المه
د وبعد الرضاع عند الفطام
خير مسترضع وخير فطيم
وجنين أقر في الأرحام
وغلاما وناشئا ثم كهلا
خير كهل وناشئ وغلام
أنقذ الله شلونا من شفا النا
ر به نعمة من المنعام
لو فدى الحي ميتا قلت نفسي
وبني الفدا لتلك العظام
وقوله أيضا في تلك البائية وهو يقارع الأمويين:
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا
وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
يرون لهم حقا على الناس واجبا
سفاها وحق الهاشميين أوجب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي
به دان شرقي لكم ومغرب
فدى لك موروثا أبي وأبو أبي
ونفسي ونفسي بعد بالناس أطيب
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة
فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب
حياتك كانت مجدنا وسناءنا
وموتك جدع للعرانين موعب
وأنت أمين الله في الناس كلهم
عليها وفيها اختار شرق ومغرب
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وبورك قبر أنت فيه وبوركت
به وله أهل لذلك يثرب
لقد غيبوا برا وصدقا ونائلا
عشية واراك الصفيح المنصب
وهذه الشواهد تكفي للدلالة على أن مدح أهل البيت عند هذا الشاعر فرع من المدائح النبوية، فأهل البيت يكرمون عليه لأنهم أسباط الرسول، ولولا هذه الآصرة لما انعطف إليهم كل هذا الانعطاف. (7)
ولكن ما هي كبرى هذه القصائد وأحقها بالخلود؟
إن القدماء مجمعون على أن البائية الأولى هي خير تلك القصائد، والكميت نفسه يرى هذا الرأي، أما أنا فأرى اللامية أضخم وأفحل، ولا عجب في أن يختلف رأي الشاعر والناقد؛ فإن الناقد يتفق له أحيانا أن يرى ما لا يرى الشاعر في الحكم على قصائده، ولكل منهما وجهة، فالشاعر يقدم إحساسه الخاص، والناقد ينظر إلى نواح فنية قد لا يتنبه إليها الشاعر في بعض الأحيان، ألا يقع في كل يوم أن يتعصب الأب لأحد أبنائه على حين يرى الناس ذلك الابن أقل إخوته علما، وأضعفهم رأيا، وأسقمهم بيانا؟
وقد اتفق للمرحوم شوقي أن أعلن أن خير قصائده هي النونية التي قالها في توت عنخ آمون، فلما لقيته قلت له: أنت يا شوقي بك لا تعرف شعرك، إن خير قصائدك هي قصيدة «الأندلس الجديدة». فابتسم وأخذ يجهد نفسه في تعرف خصائص تلك القصيدة التي لم يرها خير ما قال!
فلنأخذ الآن في موازنة قصيرة جدا بين موضوعات هاتين القصيدتين: البائية واللامية؛ لنرى أيهما أرجح في الميزان. (8)
تقع البائية في 138 بيت، وتقع اللامية في 89 بيتا، فالأولى أطول من الثانية، وعند الدرس نجد البائية افتتحت بأربعة أبيات جرت مجرى التمهيد، ونجد الشاعر وصف الناقة بأبيات بلغت عدتها 27، وعلى ذلك يكون ما وقع من القصيدتين في صميم الموضوع متقاربا في الطول.
ولنسارع فنقرر أن الذي حبب البائية إلى الناس هو عناية الشاعر ببكاء القتلى من أهل البيت، وأن الذي حبب اللامية إلينا هو إلحاح الشاعر في تقبيح الظلم والظالمين، فمعاصرو الكميت ينظرون إلى البائية بعين، ونحن ننظر إلى اللامية بعين، وقد يكون مما يقدم قصيدة على قصيدة أن ينظر إلى ما في الشعر من المعاني الباقية، فالرثاء ضرورة وقتية، أما حرب الظلم فيبقى ما بقي الإنسان الذي سماه أرسطو: «الحيوان الناطق» ونسميه نحن: «الحيوان اللئيم».
وقد عرض الكميت في البائية لمقتل الحسين فوصفه بمنعفر الخدين مترب الجبين، ومن أجل ذلك كانت بائية الكميت أثيرة لديه ولدى النقاد لما تعرضت له من شرح الفواجع التي حلت بأهل البيت، وقد رأينا من قبل أن المناحة كانت تقام لإنشاد تلك البائية، ولننظر قوله في التوجع لمصاب الحسين:
ومن أكبر الأحداث كانت مصيبة
علينا قتيل الأدعياء الملحب
8
قتيل بجنب الطف من آل هاشم
فيا لك لحما ليس عنه مذبب
ومنعفر الخدين من آل هاشم
ألا حبذا ذاك الجبين المترب
قتيل كأن الوله العفر حوله
يطفن به شم العرانين ربرب
9
وقد سبقت هذه الأبيات بشعر فيه ذكرى من مضوا قبل الحسين، وعقبت بأبيات عمن حصدهم بعده الموت، ثم قال:
مضوا سلفا لا بد أن مصيرنا
إليهم فغاد نحوهم متأوب
كذاك المنايا لا رضيعا رأيتها
تخطى ولا ذا هيبة تتهيب
وقد غادروا فينا مصابيح أنجما
لنا ثقة أيان نخشى ونرهب
أولئك إن شطت بهم غربة النوى
أماني نفسي والهوى حيث يسقب
10 (9)
ونذكر بعد ذلك أن البائية واللامية تلتقيان في بعض الموضوعات، فإن الشاعر عرض لهجاء بني أمية ورميهم بالظلم والاستبداد غير حذر ولا هياب، فرماهم في البائية بإيثار الفتنة، ومجانبة الحق، والتحزب للضلال، فقال:
فيا لك أمرا قد أشتت أموره
ودنيا أرى أسبابها تتقضب
يروضون دين الحق صعبا مخرما
بأفواههم والرائض الدين أصعب
إذا شرعوا يوما على الغي فتنة
طريقهم فيها عن الحق أنكب
رضوا بخلاف المهتدين وفيهم
مخبأة أخرى تصان وتحجب
وإن زوجوا أمرين جورا وبدعة
أناخوا لأخرى ذات ودقين تخطب
ألحوا ولجوا في بعاد وبغضة
فقد نشبوا في حبل غي وأنشبوا
تفرقت الدنيا بهم وتعرضت
لهم بالنطاف الآجنات فأشربوا
إذا قيل هذا الحق لا ميل دونه
فأنقاضهم في الحق حسرى ولغب
وإن عرضت دون الضلالة حومة
أخاضوا إليها طائعين وأوثبوا
وقد درسوا القرآن وافتلجوا به
فكلهم راض به متحزب
فمن أين أو أنى وكيف ضلالهم
هدى والهوى شتى بهم متشعب (10)
أما اللامية فهي صرخة من سوء الحكم لعهد بني أمية، استهلها الشاعر بهذا التقريع الذي يبعث الحمية، ويثير ما غفا من نوازي الضغائن والحفائظ والحقود:
ألا هل عم في رأيه متأمل
وهل مدبر بعد الإساءة مقبل
وهل أمة مستيقظون لرشدهم
فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى
مساويهم لو كان ذا الميل يعدل
وعطلت الأحكام حتى كأننا
على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا
وأفعال أهل الجاهلية نفعل
رضينا بدنيا لا نريد فراقها
على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها مستمسكون كأنها
لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها
يجد بنا في كل يوم ونهزل
نعالج مرمقا من العيش فانيا
له حارك لا يحمل العبء أجزل
11
فتلك أمور الناس أضحت كأنها
أمور مضيع آثر النوم بهل
12
ثم يمضي في عنف الجدل، فيقول:
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم
ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم
على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة
فريقان شتى تسمنون ونهزل
13
أنصلح دنيانا جميعا وديننا
على ما به ضاع السوام المؤبل
14
برينا كبري القدح أوهن متنه
من القوم لا شار ولا متنبل
15
ولاية سلغد ألف كأنه
من الرهق المخلوط بالنوك أثول
16
كأن كتاب الله يعنى بأمره
وبالنهي فيه الكودني المركل
17
ألم يتدبر آية فتدله
على ترك ما يأتي أم القلب مقفل
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم
فحتام حتام العناء المطول
رضوا بفعال السوء من أمر دينهم
فقد أيتموا طورا عداء وأثكلوا
كما رضيت بخلا وسوء ولاية
لكلبتها في أول الدهر حومل
18
نباحا إذا ما الليل أظلم دونها
وضربا وتجويعا خبال مخبل
وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا
بأجور من حكامنا المتمثل
همو خوفونا بالعمى هوة الردى
كما شب نار الحالفين المهول
19
لهم كل عام بدعة يحدثونها
أزلوا بها أتباعهم ثم أوجلوا
20
كما ابتدع الرهبان ما لم يجئ به
كتاب ولا وحي من الله منزل
تحل دماء المسلمين لديهم
ويحرم طلع النخلة المتهدل
وليس لنا في الفيء حظ لديهم
وليس لنا في رحلة الناس أرحل
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى
عليهم؟ وهل إلا عليك المعول؟
وهذه القطعة أقوى من نظيرتها في البائية، والافتنان فيها أظهر، والشاعر فيها يصول بمنكب أضخم، وساعد أفتك، وفيها بيت نادر، هو قوله:
تحل دماء المسلمين لديهم
ويحرم طلع النخلة المتهدل
وهو معنى انتهبه أحد المحدثين؛ إذ قال:
قتل امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
مسألة فيها نظر
وبيت الكميت لا تفنى عجائبه عند التأمل، فالظالمون في جميع العصور يرفقون بالأشياء ويقسون على الأشخاص؛ فطلع النخلة حرام، وقتل الأبرياء حلال.
والكميت يحرص على إبراز آصار الظلم، وهي عنده تتمثل في سمنة الظالمين وهزال المظلومين.
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم
على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
فكيف ومن أنى وإذ نحن خلفة
فريقان شتى تسمنون ونهزل
وسيأخذ دعبل معنى هذا البيت، فيقول:
فآل رسول الله نحف جسومهم
وآل زياد حفل القصرات
21
والكميت يلح في تصوير الهزال، فيذكر أن قد أصابهم ما أصاب القدح من عنف البري، ويمثل ولاية بني أمية بولاية الذئب، وكان عندهم مضرب المثل في الطغيان، ثم يجأر بهذا البيت:
وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا
بأجور من حكامنا المتمثل
ويشبه بني أمية بالرهبان يبتدعون ما لم يجئ به وحي ولا كتاب، وكان هذا التشبيه لعهده غاية في القوة بفضل ما في القرآن من الإشارة إلى أعمال الأحبار والرهبان. (11)
ولم ينس الكميت أن يتحدث في اللامية عن فواجع أهل البيت، وإن كان لم يستقص أخبارهم كما صنع في البائية، فقد وقف عند مصرع الحسين، ولكن أسلوبه في اللامية أقوى وأرشق.
ومن عجب لم أقضه أن خيلهم
لأجوافها تحت العجاجة أزمل
22
هماهم بالمستلئمين عوابس
كحدآن يوم الدجن تعلو وتسفل
23
يحلئن عن ماء الفرات وظله
حسينا ولم يشهر عليهن منصل
24
كأن حسينا والبهاليل حوله
لأسيافهم ما يختلي المتبقل
25
يخضن به من آل أحمد في الوغى
دما ظل منهم كالبهيم المحجل
وغاب نبي الله عنهم وفقده
على الناس رزء ما هناك مجلل
فلم أر مخذولا أجل مصيبة
وأوجب منه نصرة حين يخذل
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
فيا آخرا أسدى له الغي أول
تهافت ذبان المطامع حوله
فريقان شتى ذو سلاح وأعزل
26
إذا شرعت فيه الأسنة كبرت
غواتهم من كل أوب وهللوا
فما ظفر المجرى إليهم برأسه
ولا عذل الباكي عليه المولول
فلم أر موتورين أهل بصيرة
وحق لهم أيد صحاح وأرجل
كشيعته والحرب قد ثفيت لهم
أمامهم قدر تجيش ومرجل
27
فريقان هذا راكب في عداوة
وباك على خذلانه الحق معول
فما نفع المستأخرين نكيصهم
ولا ضر أهل السابقات التعجل (12)
وفي القصيدتين وصف لأخلاق بني هاشم، فهم في البائية:
أناس بهم عزت قريش فأصبحوا
وفيهم خباء المكرمات المطنب
خضمون أشراف لهاميم سادة
مطاعيم أيسار إذا الناس أجدبوا
وهم سادة الجود والعلم والرأي:
إذا نشأت منهم بأرض سحابة
فلا النبت محظور ولا البرق خلب
وإن هاج نبت العلم في الناس لم تزل
لهم تلعة خضراء منه ومذنب
28
إذا ادلمست ظلماء أمرين حندس
فبدر لهم فيها مضيء وكوكب
وهم في اللامية نجوم يهتدي بها السارون، وغيوث يشتفي بها الممحلون:
وإن نزلت بالناس عمياء لم يكن
لهم بصر إلا بهم حين تشكل
وإنهم للناس فيما ينوبهم
أكف ندى تجدي عليهم وتفضل
لأهل العمى فيهم شفاء من العمى
مع النصح لو أن النصيحة تقبل (13)
هذا، ولا مفر من الاعتراف برقة الحنين في البائية، فقد بلغ الشاعر بحبه أقصى غايات التصوف، إذ يقول:
فقل للذي في ظل عمياء جونة
ترى الجور عدلا أين لا أين تذهب
29
بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عارا علي وتحسب
فما لي إلا آل أحمد شيعة
وما لي إلا مشعب الحق مشعب
ومن غيرهم أرضى لنفسي شيعة
ومن بعدهم؟ لا من أجل وأرجب
30
أريب رجالا منهم وتريبني
خلائق مما أحدثوهن أريب
إليكم ذوي آل النبي تطلعت
نوازع من قلبي ظماء وألبب
فإني عن الأمر الذي تكرهونه
بقولي وفعلي ما استطعت لأجنب
يشيرون بالأيدي إلي وقولهم
ألا خاب هذا والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم
وطائفة قالوا مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم
ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم
على حبكم بل يسخرون وأعجب
وقالوا ترابي هواه ورأيه
بذلك أدعى فيهم وألقب
31
وأحمل أحقاد الأقارب فيكم
وينصب لي في الأبعدين فأنصب
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها
ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
ألم ترني من حب آل محمد
أروح وأغدو خائفا أترقب
على أي جرم أم بأية سيرة
أعنف في تقريظهم وأؤنب
وفي اللامية أمثال لهذا الولاء، ولكنه في البائية أقوى وأصدق، رحم الله الكميت، وأكرم مثواه!
الفصل الخامس
تائية دعبل في أهل البيت
رأي دعبل في لؤم الناس - ميله إلى الصعاليك - رأي البحتري والمأمون في شعره - نفسية دعبل - بغضه للخلفاء وحبه لأهل البيت - سيرورة التائية في الأقطار الإسلامية وأخبارها في عالم الجن - الإمام المنتظر. *** (1)
نحن الآن أمام «شاعر متقدم مطبوع هجاء خبيث اللسان لم يسلم عليه أحد من الخلفاء، ولا من وزرائهم، ولا أولادهم، ولا ذو نباهة أحسن إليه، أو لم يحسن».
1
والعجب أن تسري الروحانية إلى صدر رجل مثل دعبل، فقد كان ذلك الرجل يعتقد اعتقادا سيئا في الناس، ويؤمن بأنهم لا يصلحون بغير الهجاء، يدلنا على ذلك ما حدث به أبو خالد الخزاعي إذ قال: قلت لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد، ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك!
فقال دعبل: ويحك! إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت غيره وفضحته اتقاك على نفسه، وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع.
2
وهو بهذا التصريح يفصح عن رأيه في الناس؛ فهم عنده لئام جبناء يتقون الشتم أكثر مما يرغبون في التشريف، وكان بالفعل لا ينفك ينظم قصائد الهجاء، وكان يسأل أحيانا عن موضوع أهاجيه فيجيب: ما استحقه أحد بعينه بعد، وليس له صاحب.
فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشر فيه، وذكر اسمه،
3
فقصائد الهجاء عنده كأمثال الثياب عند تجار الملابس، تعد إعدادا، ثم تقدم حين تلوح الفرصة!
وكان يتفق له أن يسيء إلى أصدقائه من حيث لا يريد، فقد هجا أحمد بن أبي دواد، وكان تزوج امرأتين من بني عجل في سنة واحدة، فقال:
غصبت عجلا على فرجين في سنة
أفسدتهم ثم ما أصلحت من نسبك
ولو خطبت إلى طوق وأسرته
فزوجوك لما زادوك في حسبك
إن كان قوم أراد الله خزيهم
فزوجوك ارتغابا منك في ذهبك
فذاك يوجب أن النبع يجمعه
إلى خلافك في العيدان أو غربك
ولو سكت ولم تخطب إلى عرب
لما نبشت الذي تطويه من سببك
عد البيوت التي ترضى بخطبتها
تجد فزارة العكلي من عربك
فلقيه فزارة العكلي فقال له: يا أبا علي، ما حملك على ذكري حتى فضحتني، وأنا صديقك؟ فقال: يا أخي، والله ما اعتمدتك بمكروه، ولكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبه الله عز وجل عليك!
وأثر عنه أنه كان يقول: ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته!
4
وبمثل هذا القول يفسر الحديث المأثور: «اتق شر من أحسنت إليه.» (2)
وكان دعبل في بداية أمره من قطاع الطريق، وكان يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها، ويرجع وقد أفاد وأثرى، وكان الصعاليك يلقونه فلا يؤذونه، ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه، ودعاهم إليه، ودعا بغلاميه، فأقعدهما يغنيان، وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم، وكان الصعاليك يواصلونه ويصلونه،
5
وهذا يفسر جانبا من حياته الخلقية، فهو رجل يجمع بين حب الصعلكة وحب الفتك. وكان أكثر الصعاليك من أهل الشهامة والنبل، ولكنهم كانوا معروفين بحب القسوة والبطش، وقد بقي في نفسه شيء من الحياء، وذلك أيضا بقية من آداب الصعاليك، ومن شواهد ذلك أنه دخل الري في أيام الربيع فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء، فأنشد شاعر من أهل الري هذه الأبيات:
جاءنا دعبل بثلج من الشع
ر فجادت سماؤنا بالثلوج
نزل الري بعدما سكن البر
د وقد أينعت رياض المروج
فكسانا ببرده لا كساه الله
ثوبا من كرسف محلوج
وكتبها في رقعة، وألقاها في دهليز دعبل، فلما قرأها ارتحل عن الري.
6 (3)
وكان على ما فيه من اللؤم والوقاحة والعنف من أشعر الناس، وكان البحتري يراه أشعر من مسلم بن الوليد، وقد سئل عن ذلك فقال: كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم ، ومذهبه أشبه بمذاهبهم.
7
ومن شواهد اطلاعه أن بعضهم أنكر عليه كلاما جرى فيه قوله: «ليسك» فقال: دخل زيد الخيل على النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال له: «يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليسك» يريد غيرك.
8
وكان المأمون يعجب بشعره ولا سيما هذه الأبيات:
ألم يأن للسفر الذين تحملوا
إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
وكان يقول: ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري ومسليتي حتى أعود. (4)
نعود إلى المشكلة الحقيقية في نفسية دعبل: كان ذلك الرجل شريرا وكان كلفا بإيذاء الناس فكيف يتفق له التصوف في حب أهل البيت؟ وكيف يغرم بالنيل من أعراض الخلفاء والأمراء والوزراء وبأيديهم أسباب الأرزاق، ثم يعطف على ناس ألحت عليهم النوائب وأتمرت بهم أحداث الزمان؟ تلك مشكلة نفسية، فأين الحل؟
يغلب على الظن أن الرجل تلقى في طفولته حب أهل البيت، فصار حبهم كاللحن القديم الذي يسمعه الإنسان وهو طفل فيظل يلاحقه بأنغامه وهو كهل، وهناك نفوس لا تعرف غير هوى واحد في عالم السياسة، ويتأصل فيها ذلك الهوى حين تنهزم، ولا تزال تحرص عليه حتى يتحول إلى تصوف، وإذا انقلب الهوى إلى تصوف فلا نجاة منه ولا خلاص.
ولو أن أهل البيت لعهد دعبل استطاعوا أن ينتصروا وأن يزحزحوا السياسيين لاستطاعت الدنيا أن تغير من نفسه قواعد ذلك الهوى، ولكنهم ظلوا مدحورين فبقي الإشفاق عليهم حيا في نفسه حياة قوية، وظل حبهم يعذبه ويعنيه فينطقه في البكاء عليهم بأرق ما عرف شعراء الوجدان.
ومن الذي يتصور أن ذلك الرجل الذي يلؤم أشنع اللؤم في معاملة الخلفاء يمضي فيستوهب ثوبا من علي بن موسى؟ ولم يستوهب ذلك الثوب؟ ليجعله في أكفانه يوم يموت!
إن قصة ذلك الثوب عجيبة: فقد خلع علي بن موسى جبة كانت عليه وأعطاها دعبلا، وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبا، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، وإلا فأنت أعلم! فقال لهم: إني والله لا أعطيكم إياها طوعا، ولا تنفعكم غصبا، فإنها إنما تراد لله عز وجل، وهي محرمة عليكم. فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فرد كم ليكون في أكفانه. وتلك حادثة غريبة المعنى والمدلول، لكن غرابتها لا تظهر إلا لمن يجهلون أسرار النفوس، وإلا فأي غرابة في أن تجتمع الرقة والقسوة والعنف واللين في قلب الشاعر الموهوب؟
إن الشاعرية لا تقوم إلا على أساس التطرف في الحب والبغض، وقد جمع دعبل بين العاطفتين، فكان يوجه قسوته إلى الخلفاء، وكان يوجه رقته إلى أهل البيت.
ونحن نشهد في دنيانا رجالا على جانب عظيم من العنف يخضعون أتم الخضوع لبعض النوازع الوجدانية، ونرى ناسا يقضون أيامهم في اللهو والقصف، فإذا جاءت فرصة للهدى رأيناهم أول المنيبين.
والحق أن النفس الإنسانية معقدة أصعب التعقد ومشتبكة أخطر الاشتباك، والبساطة في الأهواء من شيم الأطفال، أما اقتتال الحق والباطل، واصطراع الهدى والضلال، فلا يكون إلا في النفوس القوية التي تدرك كيف يكون اصطدام العقول وتصاول الآراء.
والذين وقفوا عند الجانب السخيف من أخبار دعبل لم يفهموه حق الفهم، ولو قد فهموه لتمثلوا تلك الروح الصوفية، التي أوحت إليه أن يكتب تائيته على ثوب ويحرم فيه ثم يأمر بأن يكون ذلك الثوب في أكفانه يوم يموت.
فإن هذه اللمحة الشعرية لا تقع إلا من رجل خاشع القلب رقيق الوجدان، ومن الظلم أن ننسى هذه المعالم الروحية حين نتحدث عن ذلك الشاعر الذي أضيف إلى زمرة الخونة والصعاليك.
وما الذي يمنع أن نفهم أن سوء ظنه بالناس لم يقع إلا لنكبته بسيادة الظلم والظالمين؟
أروني رجلا واحدا لم يفسد حكمه على الأشياء والأشخاص والمعاني بسبب ما يبتلى به من انهدام صرح العدالة حين يرى الظلم يطارده أو يطارد من يحب!
وهذا التصعلك الذي ابتدأ به دعبل وانتهى إليه هو مصير كل رجل تخذله المقادير السياسية، والمنهزمون في السياسة لا ينظرون إلى الأمور إلا من جانب واحد؛ لأن الهزيمة تذهب بأصول التفكير المعقول، وتقف الرجل على أهوائه وآماله، وتحول فلسفته في الحياة إلى أمشاج من الضغن والتلوم والقنوط.
والوزراء الذين كان يكلف بهجائهم دعبل، من هم؟ لا نريد أن نسأل عن ذاتيتهم في حقيقة الأمر، فقد يكون فيهم ناس نبلاء، ولكن من هم في نفس دعبل؟ هم ظلمة عاونوا الظالمين، وخونة عاونوا الخائنين، ويكفي أن تثور معاني الظلم والعدل في نفس شاعر ليصبح وهو ثائر مخبول.
وما أريد بهذا أن أدافع عن دعبل، ولكني أريد أن أفهم كيف اتفق أن يكون قلبه مسرحا لحوادث العنف واللين، وكيف صح له أن يجمع بين سفه اللئيم ورفق الحليم، وكيف جاز أن يكون أحط الناس وأشرف الناس؟ وأظنني وصلت من ذلك إلى بعض ما أريد.
ولو كان الرواة فطنوا إلى ما كان في نفس دعبل من التعقد والاشتباك لما عدوا عليه خيانته للرشيد، فقد ذكروا أن الرشيد طرب حين غني بين يديه:
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
وسأل عن صاحب الشعر فقيل له: دعبل بن علي، وهو غلام نشأ من خزاعة، فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه، فأحضر ذلك فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته، وقال له: اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي، فإذا دللت عليه فأعطه هذا، وقل له ليحضر إن شاء، وإن لم يحب ذلك فدعه ... فسار الغلام إلى دعبل وأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه، وحضر دعبل إلى الرشيد فأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا.
ولكنه ما كاد يسمع بموت الرشيد حتى كافأه على ما صنع به من الغنى بعد الفقر والنباهة بعد الخمول أقبح مكافأة، وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد :
وليس حي من الأحياء نعلمه
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم
كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة
فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذورين إن قتلوا
ولا أرى لبني العباس من عذر
اربع بطوس على القبر الزكي إذا
ما كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس خير الناس كلهم
وقبر شرهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
له يداه فخذ ما شئت أو فذر
وهو يعني قبر الرشيد، وقبر علي الرضا، وكان يعرف ما سيلقى من أبناء الرشيد.
9
فهذه الجرأة هي سمة التصوف في الحب، وأخذ هذا الشاعر لعطايا الرشيد وذمه بعد ذلك لون من الانحراف، ولكنه دليل على أن هوى الشاعر كان كله موجها إلى أهل البيت، ولولا ذلك الهوى لاستطاع أن ينعم بدنيا المأمون. والتصوف في ذاته خبال في المقاصد الدنيوية، ولكن جماله يرجع إلى الشجاعة في احتقار ما في الدنيا من لذة ومتاع، وهل هناك شجاعة أقوى من أن يخرج المرء على الغالبين ليناصر المغلوبين؟ وهل هناك زهد أبلغ من ترك دعبل طيبات الحياة في قصور الخلفاء ليدور في الدنيا كما يدور الصعاليك؟ (5)
لقد كان لدعبل مدائح كثيرة في أهل البيت، ولكنها ضاعت ولم يبق إلا القليل، ومن جيد ما بقي قوله في رثاء الحسين:
رأس ابن بنت محمد ووصيه
يا للرجال على قناة ترفع
والمسلمون بمنظر وبمسمع
لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى
وأنمت عينا لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عماية
وأصم نعيك كل أذن تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها
لك مضجع ولخط قبرك موضع (6)
وأشهر قصائده وأبقاها على الزمان وأجدرها بالخلود هي التائية ذات المطلع المفجع:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
وقد كان لهذه القصيدة صدى في أكثر العصور الأدبية عند العرب، ويكفي أن نعرف أن ياقوتا حين ترجم لابن لنكك البصري ذكر من أخباره أنه كان يروي قصيدة دعبل التي مطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ... ... ...
كأن رواية تلك القصيدة من مناقب الرجال.
وكان المأمون لإعجابه ببراعة دعبل في تلك التائية يتمنى أن يسمعها من الشاعر نفسه، فتلطف لإحضار دعبل، فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه، ثم قال أنشدني:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
فجزع دعبل، فقال له المأمون: لك الأمان فلا تخف! وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك، فأنشده إياها إلى آخرها، والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه.
وكان أهل البيت يطربون لتلك القصيدة ويرون فيها العزاء عما أصابهم من الفواجع، وقد حدث دعبل قال: دخلت على علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال لي: أنشدني شيئا مما أحدثت، فأنشدته:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى انتهيت إلى قولي:
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم
أكفا عن الأوتار منقبضات
فبكى حتى أغمي عليه، وأومأ إلي خادم كان على رأسه أن اسكت، فسكت ساعة ثم قال لي: أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا، فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى، وأومأ الخادم إلي أن اسكت ... فمكث ساعة أخرى، ثم قال لي أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت ثلاث مرات، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه، ولم تكن وقعت إلى أحد بعد، فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة آلاف درهم اشتراها مني الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم.
10
وقد فتن دعبل نفسه بهذه التائية فتنة شديدة، ومضى يحدث الناس بأن أخبارها طارت إلى الجن، وأن أحدهم هبط إليه ليسمعها منه، فلنسمع كلام دعبل في هذا الخيال الطريف، قال: لما هربت من الخليفة بت ليلة بنيسابور وحدي، وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة، فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود علي: «السلام عليكم ورحمة الله! انج يرحمك الله.»
فاقشعر بدني من ذلك ونالني أمر عظيم، فقال لي : لا ترع عافاك الله! فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن، طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
فأحببت أن أسمعها منك.
قال دعبل: فأنشدته إياها، فبكى حتى خر، ثم قال: رحمك الله! ألا أحدثك بحديث يزيد في نيتك، ويعينك على التمسك بمذهبك؟ قلت: بلى! قال: مكثت حينا أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السلام، فصرت إلى المدينة فسمعته يقول: حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «علي وشيعته هم الفائزون.»
قال دعبل: ثم ودعني لينصرف، فقلت له: يرحمك الله! إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل. فقال: أنا ظبيان بن عامر.
11
والحكاية في ذاتها طريفة، وهي تمثل سذاجة الناس من أنصار أهل البيت لذلك العهد.
والجن من أهل اليمن كانوا بعيدين عن مقر الدعوات الإسلامية، فتفضل الرواة ونقلوهم تارة إلى المدينة، وتارة إلى العراق، ولهم في كتب الأدب أخبار لا تخلو من طرافة وظرف. (7)
ننتقل بعد ذلك إلى مواجهة تلك التائية، ولنذكر أن ياقوتا أثبت منها 45 بيتا، وأنه أخبرنا أن نسخها مختلفة، وأن في بعضها زيادات يظن أنها مصنوعة ألحقها بها أناس من الشيعة، وتلك الخمسة والأربعون بيتا هي ما صح من القصيدة في نظر ياقوت.
12
وأهمية هذه القصيدة ترجع إلى ما فيها من التحزن والتفجع، وهي لذلك من خير ما قيل في الانتصار لأهل البيت، وفيها فوق ذلك تصريح عن عقيدة الشيعة في الإمام المنتظر الذي يؤمن دعبل بأنه خارج لا محالة، وأنه يقوم على اسم الله والبركات. ولنترك الشاعر يحدثنا عما كان يضطرب في صدره من آلام وآمال:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى
وبالركن والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر
وحمزة والسجاد ذي الثفنات
ديار عفاها كل جون مبادر
ولم تعف للأيام والسنوات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها
متى عهدها بالصوم والصلوات
وأين الألى شطت بهم غربة النوى
أفانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا
وهم خير قادات وخير حماة
وما الناس إلا حاسد ومكذب
ومضطغن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر
ويوم حنين أسبلوا العبرات
قبور بكوفان وأخرى بطيبة
وأخرى بفخ نالها صلواتي
وقبر ببغداد لنفس زكية
تضمنها الرحمن في الغرفات
فأما المصمات التي لست بالغا
مبالغها مني بكنه صفات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائما
يفرج منها الهم والكربات
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا
معرسهم فيها بشط فرات
تقسمهم ريب الزمان كما ترى
لهم عفرة مغشية الحجرات
سوى أن منهم بالمدينة عصبة
مدى الدهر أنضاء من الأزمات
قليلة زوار سوى أن زورا
من الضبع والعقبان والرخمات
لهم كل حين نومة بمضاجع
لهم في نواحي الأرض مختلفات
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها
مغاوير يختارون في السروات
تنكب لأواء السنين جوارهم
فلا تصطليهم جمرة الجمرات
إذا وردوا خيلا تشمس بالقنا
مساعر جمر الموت والغمرات
وإن فخروا يوما أتوا بمحمد
وجبريل والفرقان ذي السورات •••
ملامك في أهل النبي فإنهم
أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشدا لأمري فإنهم
على كل حال خيرة الخيرات
فيا رب زدني من يقيني بصيرة
وزد حبهم يا رب في حسناتي
بنفسي أنتم من كهول وفتية
لفك عناة أو لحمل ديات
أحب قصي الرحم من أجل حبكم
وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وأكتم حبيكم مخافة كاشح
عنيد لأهل الخير غير موات
لقد حفت الأيام حولي بشرها
وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم
وآل زياد حفل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم
أكفا عن الأوتار منقبضات •••
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد
لقطع قلبي إثرهم حسراتي
خروج إمام لا محالة خارج
يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل
ويجزي على النعماء والنقمات
سأقصر نفسي جاهدا عن جدالهم
كفاني ما ألقى من العبرات
فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري
فغير بعيد كل ما هو آت
فإن قرب الرحمن من تلك مدتي
وأخر من عمري لطول حياتي
شفيت ولم أترك لنفسي رزية
ورويت منهم منصلي وقناتي
أحاول نقل الشمس من مستقرها
وأسمع أحجارا من الصلدات
فمن عارف لم ينتفع ومعاند
يميل مع الأهواء والشبهات
قصاراي منهم أن أموت بغصة
تردد بين الصدر واللهوات
كأنك بالأضلاع قد ضاق رحبها
لما ضمنت من شدة الزفرات (8)
هذا، ولدعبل أخبار كثيرة يجدها القارئ في الجزء الثامن عشر من الأغاني، وجاءه الحتف بسبب أهاجيه لمالك بن طوق، وكانت وفاته سنة 246ه رحمه الله وعفا عنه!
الفصل السادس
قصائد الشريف الرضي في صريع كربلاء
(1)
للشريف الرضي قصائد كثيرة في مدح أهل البيت، وهي في جملتها من آثار التصوف، وإن كانت العصبية تغلب عليها في بعض الأحيان فتنقلها من رقة الوفاء إلى عنجهية الفخر والخيلاء، من ذلك قوله في رثاء أمه:
آباؤك الغر الذين تفجرت
بهم ينابيع من النعماء
من ناصر للحق أو داع إلى
سبل الهدى أو كاشف الغماء
نزلوا بعرعرة السنام من العلا
وعلوا على الأثباج والأمطاء
1
من كل مستبق اليدين إلى الندى
ومسدد الأقوال والآراء
يرجى على النظر الحديد تكرما
ويخاف في الإطراق والإغضاء
درجوا على أثر القرون وخلفوا
طرقا معبدة من العلياء
فهذا من جيد القول في مدح أهل البيت، ولكنه لم يقصد لمعناه الروحي، وإنما أريد به التمدح بشرف الأنساب كالذي جاء في قصيدة:
لنا كل يوم رنة خلف ذاهب
التي رثى بها خاله أحمد بن الحسين، ومن ذلك ما جاء في بائيته القوية:
لغير العلا مني القلا والتجنب
إذ قال:
أهذب في مدح اللئام خواطري
فأصدق في حسن المعاني وأكذب
وما المدح إلا في النبي وآله
يرام وبعض القول ما يتجنب
وأولى بمدحي من أعز بفخره
ولا يشكر النعماء إلا المهذب
أرى الشعر فيهم باقيا وكأنما
تحلق بالأشعار عنقاء مغرب
وقالوا عجيب عجب مثلي بنفسه
وأين على الأيام مثل أبي أب
لعمرك ما أعجبت إلا بمدحهم
ويحسب أني بالقصائد معجب
أعد لفخري في المقام محمدا
وأدعو عليا للعلا حين أركب
وهذا ليس من التصوف في شيء، وإنما هو زهو بقوة العصبية.
ومن ذلك قوله في رثاء أهل البيت:
سقى الله المدينة من محل
لباب الماء والنطف العذاب
وجاد على البقيع وساكنيه
رخي الذيل ملآن الوطاب
2
وأعلام الغري وما استباحت
معالمها من الحسب اللباب
3
وقبرا بالطفوف يضم شلوا
قضى ظمأ إلى برد الشراب
وسامرا وبغدادا وطوسا
هطول الودق منخرق العباب
قبور تنطف العبرات فيها
كما نطف الصبير على الروابي
4
فلو بخل السحاب على ثراها
لذابت فوقها قطع السراب
سقاك فكم ظمئت إليك شوقا
على عدواء داري واقترابي
إلى أن يقول:
بكم في الشعر فخري لا بشعري
وعنكم طال باعي في الخطاب
أجل عن القبائح غير أني
لكم أرمي وأرمى بالسباب
فأجهر بالولاء ولا أوري
وأنطق بالبراء ولا أحابي
ومن أولى بكم مني وليا
وفي أيديكم طرف انتسابي
ولا مرية في أن نزعة الفخر أغلب على مثل هذا الشعر من نزعة التصوف، وأصرح منه في الفخر قوله يرد على جماعة افتخروا على ولد علي بن أبي طالب:
ولولا علي ما علوا سرواتها
ولا جعجعوا منها بمرعى ومورد
5
أخذنا عليهم بالنبي وفاطم
طلاع المساعي من مقام ومقعد
وطلنا بسبطي أحمد ووصيه
رقاب الورى من متهمين ومنجد
وحزنا عتيقا وهو غاية فخركم
بمولد بنت القاسم بن محمد
فجد نبي ثم جد خليفة
فما بعد جدينا علي وأحمد (2)
وتظهر طلائع التصوف في قصيدته التي أثنى فيها على رفق عمر بن عبد العزيز بأهل البيت، وقد نقل إليه أن جعفرا الصادق قال: «كان العبد الصالح أبو حفص يهدي إلينا الدراهم والدنانير في زقاق العسل خوفا من أهل بيته.» ولنواجه أنفاس الحنان في هذا الشعر الرقيق:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العي
ن فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول إنك قد طب
ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك
أنت نزهتنا عن السب والقذ
ف فلو أمكن الجزاء جزيتك
ولو اني رأيت قبرك لاستح
ييت من أن أرى وما حييتك
وقليل أن لو بذلت دماء ال
بدن حزنا على الذرى وسقيتك
دير سمعان لا أغبك غاد
خير ميت من آل مروان ميتك
أنت بالذكر بين عيني وقلبي
إن تدانيت منك أو قد نأيتك
وإذا حرك الحشا خاطر من
ك توهمت أنني قد رأيتك
وعجيب أني قليت بني مر
وان طرا وأنني ما قليتك
قرب العدل منك لما نأى الجو
ر بهم فاجتويتهم واجتبيتك
فلو اني ملكت دفعا لما نا
بك من طارق الردى لفديتك (3)
ولم يظهر توجع الشريف على أهل البيت ظهورا قويا إلا في قصائده التي بكى بها الحسين، وقد جمعت بين حرارة العصبية وصدق الوفاء.
وللشريف الرضي في بكاء الحسين خمس قصائد طوال، الأولى رائية قالها في سنة 377ه، والثانية لامية قالها سنة 387ه، والثالثة دالية قالها سنة 390ه، والرابعة دالية أيضا قالها سنة 390ه، والخامسة مقصورة لم يذكر لها تاريخ. (4)
بدأ الشاعر قصيدته الرائية بأبيات في وصف ما يغمره من الحزن والقلق، ثم اندفع يذكر ما يساوره لذكرى عاشوراء، فقال:
ورب قائلة والهم يتحفني
بناظر من نطاف الدمع ممطور
خفض عليك فللأحزان آونة
وما المقيم على حزن بمعذور
فقلت هيهات فات السمع لائمه
لا يفهم الحزن إلا يوم عاشور
يوم حدا الظعن فيه بابن فاطمة
سنان مطرد الكعبين مطرور
6
وخر للموت لا كف تقلبه
إلا بوطء من الجرد المحاضير
7
ظمآن سلى نجيع الطعن غلته
عن بارد من عباب الماء مقرور
8
وفي هذه الأبيات يسمي الحسين «ابن فاطمة» لتكون الذكرى أوجع، ويذكر أنه مات ظمآن لم يسله عن الماء إلا الدم النجيع، وسنرى كيف يحرص الشاعر في سائر قصائده على هذه الذكرى الأليمة، وهي موت الحسين وهو ظمآن.
ثم قال في التوجع لمصرع ذلك السبط النبيل:
كأن بيض المواضي وهي تنهبه
نار تحكم في جسم من النور
لله ملقى على الرمضاء عض به
فم الردى بين إقدام وتشمير
تحنو عليه الربا ظلا وتستره
عن النواظر أذيال الأعاصير
تهابه الوحش أن تدنو لمصرعه
وقد أقام ثلاثا غير مقبور
وهو يصفه بالكرامة في الممات، فيذكر أن الربا أظلته، وأن أذيال الأعاصير سترته عن العيون، وأن الوحش هابه فلم ينهش لحمه، مع أنه أقام ثلاث ليال غير مقبور.
ثم قال يذم بني أمية، ويهدد بالثأر لأهل البيت:
بني أمية ما الأسياف نائمة
عن شاهر في أقاصي الأرض موتور
والبارقات تلوى في مغامدها
والسابقات تمطى في المضامير
إني لأرقب يوما لا خفاء له
عريان يقلق منه كل مغرور
وللصوارم ما شاءت مضاربها
من الرقاب شراب غير منزور
أكل يوم لآل المصطفى قمر
يهوي بوقع العوالي والمباتير
وكل يوم لهم بيضاء صافية
يشوبها الدهر من رنق وتكدير
مغوار قوم يروع الموت من يده
أمسى وأصبح نهبا للمقادير
وأبيض الوجه مشهور تغطرفه
مضى بيوم من الأيام مشهور
ما لي تعجبت من همي ونفرته
والحزن جرح بقلبي غير مسبور
ومهاجمة بني أمية لا موجب لها في هذا الموطن؛ لأن دولتهم كانت دالت، وإنما يهدد خلفاء بني العباس.
ثم قال يخاطب الحسين:
يا جد، لا زال لي هم يحرضني
على الدموع ووجد غير مقهور
والدمع تحفزه عين مؤرقة
حفز الحنية عن نزع وتوتير
9
إن السلو لمحظور على كبدي
وما السلو على قلب بمحظور (5)
وفي قصيدته اللامية يبدأ فيتحدث عن الدنيا وفتكها بالناس فيقول:
راحل أنت والليالي نزول
ومضر بك البقاء الطويل
لا شجاع يبقى فيعتنق البي
ض ولا آمل ولا مأمول
غاية الناس في الزمان فناء
وكذا غاية الغصون الذبول
إنما المرء للمنية مخبو
ء وللطعن تستجم الخيول
من مقيل بين الضلوع إلى طو
ل عناء وفي التراب مقيل
فهو كالغيم ألفته جنوب
يوم دجن ومزقته قبول
عادة للزمان في كل يوم
يتناءى خل وتبكى طلول
فالليالي عون عليك مع البي
ن كما ساعد الذوابل طول
10
ربما وافق الفتى من زمان
فرح غيره به متبول
هي دنيا إن واصلت ذا جفت ه
ذا ملالا كأنها عطبول
11
كل باك يبكى عليه وإن طا
ل بقاء والثاكل المثكول
والأماني حسرة وعناء
للذي ظن أنها تعليل
وفي هذه القطعة يتكلم الشريف كلام الحكيم المحزون، والحكمة أحيانا يخلقها الحزن البليغ، والقارئ يعجب من وفرة الخيال في هذه الأبيات: فنعيم الدنيا غيم ألفته ريح الجنوب، ثم مزقته ريح القبول، والناس يستريحون حينا ليواجهوا بعد الراحة تعب الموت، كما تستجم الخيول لأيام الطعان، وغاية الناس الفناء كما أن غاية الغصون الذبول، والليالي عون على المرء مع البين، فكأنها الطول في الرماح الذوابل، والدنيا كالحسناء الغادرة تواصل هذا وتجفو ذاك، وكل باك سيبكى عليه وإن طال البقاء، وكل ثاكل سيصبح يوما وهو مثكول، والأماني حسرة وعناء لمن يحسب لجهله أنها لهو وتعليل.
ثم أخذ في خطاب الحسين ورمى قاتليه بنقض عهد الرسول:
يا ابن بنت الرسول ضيعت العه
د رجال والحافظون قليل
ما أطاعوا النبي فيك وقد ما
لت بأرماحهم إليك الذحول
12
وأحالوا على المقادير في حر
بك لو أن عذرهم مقبول
واستقالوا من بعد ما أجلبوا في
ها أألآن أيها المستقيل؟!
إن أمرا قنعت من دونه السي
ف لمن حازه لمرعى وبيل
يا حساما فلت مضاربه الها
م وقد فله الحسام الصقيل
يا جوادا أدمى الجواد من الطع
ن وولى ونحره مبلول
أتراني أعير وجهي صونا
وعلى وجهه تجول الخيول
أتراني ألذ ماء ولما
يرو من مهجة الإمام الغليل
وفي هذه الأبيات إثارة لأكرم العواطف الدينية، فالشاعر يذكر أن قاتلي الحسين ضيعوا العهد، وخفروا ذمة النبي، ولم يقاتلوا الحسين في سبيل الحق، وإنما قاتلوه في سبيل الذحول، وليتأمل القارئ دقة هذا البيت:
إن أمرا قنعت من دونه السي
ف لمن حازه لمرعى وبيل
يريد أن الدنيا التي لا تصفو لأصحابها إلا بقتل الحسين دنيا كدرة لن يكون لها صفاء.
ثم شرع يصف مصرع الحسين، وفزع نسائه يوم ذلك الهول، فقال:
قبلته الرماح وانتضلت في
ه المنايا وعانقته النصول
13
والسبايا على النجائب تستا
ق وقد نالت الجيوب الذيول
من قلوب يدمى بها ناظر الوج
د ومن أدمع مراها الهمول
قد سلبن القناع عن كل وجه
فيه للصون من قناع بديل
وتنقبن بالأنامل والدم
ع على كل ذي نقاب دليل
وتشاكين والشكاة بكاء
وتنادين والنداء عويل
وللقارئ أن يتأمل البيت الثالث من هذه الأبيات فهو يذكر أن القلوب لها نواظر هي نواظر الوجد، وفي البيت الرابع يذكر أن الصون بديل من القناع في أوجه من سلبن القناع من نساء الحسين، والتنقب بالأنامل من صور الهول، وكذلك التشاكي بالبكاء، والتنادي بالعويل.
ولينظر القارئ رقة المناجاة في هذه الأبيات:
يا غريب الديار صبري غريب
وقتيل الأعداء نومي قتيل
بي نزاع يطغى إليك وشوق
وغرام وزفرة وعويل
ليت أني ضجيع قبرك أو أن
ثراه بمدمعي مطلول
وعاد إلى المناداة بطلب الثأر، فقال:
يا بني أحمد إليكم سناني
غائب عن طعانه ممطول
وجيادي مربوطة والمطايا
ومقامي يروع عنه الدخيل
كم إلى كم تعلو الطغام وكم يح
كم في كل فاضل مفضول؟
قد أذاع الغليل قلبي ولكن
غير بدع أن استطب العليل
ليت أني أبقى فأمترق النا
س وفي الكف صارم مسلول
وأجر القنا لثارات يوم الط
ف يستلحق الرعيل الرعيل
والثأر الذي يدعو إليه في هذه الأبيات لا يقف عند بني أمية، ولكنه يجتاح بني العباس، ألا ترونه يقول:
كم إلى كم تعلو الطغام وكم يح
كم في كل فاضل مفضول؟
وكانت للرضي وثبات نفسية تسمو به إلى المطالبة بعرش الخلافة الإسلامية، وكان دم الحسين من الوسائل إلى ذلك الإرث المضاع.
وقد ختم الشريف لاميته هذه بأبيات في الفخر أضاعت روعة البكاء، وإن كنا نستجيد منها هذا البيت:
أترك الشيء عاذري فيه كل الن
اس من أجل أن لحاني عذول؟! (6)
أما الدالية فقد افتتحها بخمسة عشر بيتا في النسيب، ثم تخلص إلى بكاء الحسين، فقال:
شغل الدموع عن الديار بكاؤنا
لبكاء فاطمة على أولادها
أترى درت أن الحسين طريدة
لقنا بني الطرداء عند ولادها
كانت مآتم بالعراق تعدها
أموية بالشام من أعيادها
ما راقبت غضب النبي وقد غدا
زرع النبي مظنة لحصادها
باعت بصائر دينها بضلالها
وشرت معاطب غيها برشادها
جعلت رسول الله من خصمائها
فلبئس ما ذخرت ليوم معادها
نسل النبي على صعاب مطيها
ودم النبي على رءوس صعادها
وهو في هذه القطعة يعيد ما قال من قبل، فيذكر أن بني أمية لم يراقبوا غضب الرسول، فجعلوا زرعه من بعض ما يحصدون، ويذكر أن النبي سيكون خصمهم يوم المعاد، وبئس ما يذخرون!
ثم أخذ في هجاء بني أمية ومدح العلويين، فقال:
إن الخلافة أصبحت مزوية
عن شعبها ببياضها وسوادها
طمست منابرها علوج أمية
تنزو ذئابهم على أعوادها
هي صفوة الله التي أوحى لها
وقضى أوامره إلى أمجادها
أخذت بأطراف الفخار فعاذر
أن يصبح الثقلان من حسادها
الزهد والأحلام في فتاكها
والفتك لولا الله في زهادها
عصب يقمط بالنجاد وليدها
ومهود صبيتها ظهور جيادها
تروي مناقب فضلها أعداؤها
أبدا وتسنده إلى أضدادها
يا غيرة الله اغضبي لنبيه
وتزحزحي بالبيض عن أغمادها
من عصبة ضاعت دماء محمد
وبنيه بين يزيدها وزيادها
صفدات مال الله ملء أكفها
وأكف آل الله في أصفادها
ضربوا بسيف محمد أبناءه
ضرب الغرائب عدن بعد ذيادها
وللقارئ أن يتنسم روح الفتوة في هذا الشعر البليغ، وأن يتأمل كيف يكون النجاد قماط الوليد، وكيف تكون ظهور الجياد مهاد الأطفال، وأن يعجب بقوة العزم في هذا البيت:
الزهد والأحلام في فتاكها
والفتك لولا الله في زهادها
ثم لذعته الذكرى فدمدم بهذه الأبيات وقد عاوده خيال «الطف» و«عاشوراء»:
قف بي ولو لوث الإزار، فإنما
هي مهجة علق الجوى بفؤادها
بالطف حيث غدا مراق دمائها
ومناخ أينقها ليوم جلادها
القفر من أرواقها والطير من
طراقها والوحش من عوادها
تجري لها حبب الدموع وإنما
حب القلوب يكن من أمدادها
يا يوم عاشوراء كم لك لوعة
تترقص الأحشاء من إيقادها
ما عدت إلا عاد قلبي غلة
حرى ولو بالغت في إبرادها
مثل السليم مضيضة آناؤه
خزر العيون تعوده بعدادها
ثم قال يخاطبه بمثل ما خاطبه به في الرائية:
يا جد لا زالت كتائب حسرة
تغشى الضمير بكرها وطرادها
أبدا عليك وأدمع مسفوحة
إن لم يراوحها البكاء يغادها
هذا الثناء وما بلغت وإنما
هي حلبة خلعوا عذار جوادها
أأقول جادكم الربيع وأنتمو
في كل منزلة ربيع بلادها
أم أستزيد لكم علا بمدائحي
أين الجبال من الربا ووهادها (7)
والدالية الثانية ابتدأها الشاعر أيضا بالنسيب، وتلك سنة قديمة لم تخل منها قصائد الرثاء، والنسيب في أمثال هذه القصائد يخلو من النزق والطيش، ويقف فيه الشاعر عند حدود الشكوى والحنين، كأن يقول عن شاك قليل العواد:
يراعي نجوم الليل والهم كلما
مضى صادر عني بآخر وارد
توزع بين النجم والدمع طرفه
بمطروفة إنسانها غير راقد
وما يطبيها الغمض إلا لأنه
طريق إلى طيف الخيال المعاود
ذكرتكمو ذكر الصبا بعد عهده
قضى وطرا مني وليس بعائد
إذا جانبوني جانبا من وصالهم
علقت بأطراف المنى والمواعد
فيا نظرة لا تنظر العين أختها
إلى الدار من رمل اللوى المتقاود
هي الدار لا شوقي القديم بناقص
إليها ولا دمعي عليها بجامد
ولي كبد مقروحة لو أضاعها
من السقم غيري ما بغاها بناشد
أما فارق الأحباب قبلي مفارق
ولا شيع الأظعان مثلي بواجد
ثم تخلص إلى ذكرى الحسين، فقال:
تأوبني داء من الهم لم يزل
بقلبي حتى عادني منه عائدي
تذكرت يوم السبط من آل هاشم
وما يومنا من آل حرب بواحد
وتوجع لموت الحسين ظمآن كما فعل في القصائد الماضية، فقال:
وظام يريغ الماء قد حيل دونه
سقوه ذبابات الرقاق البوارد
أتاحوا له مر الموارد بالقنا
على ما أباحوا من عذاب الموارد
وقال يصف انتقال ميراثهم إلى بني أمية:
ويا رب ساع في الليالي لقاعد
على ما أرى بل كل ساع لقاعد
أضاعوا نفوسا بالرماح ضياعها
يعز على الباغين منا النواشد
أألله ما تنفك في صفحاتها
خموش لكلب من أمية عاقد
لئن رقد النصار عما أصابنا
فما الله عما نيل منا براقد
لقد علقوها بالنبي خصومة
إلى الله تغني عن يمين وشاهد
وهو في هذا المعنى يكرر ما قاله من قبل.
ولم يرضه أن يقف عند هجاء بني أمية، فغمز بني العباس بهذه الأبيات:
ويا رب أدنى من أمية لحمة
رمونا على الشنآن رمي الجلامد
طبعنا لهم سيفا فكنا لحده
ضرائب عن أيمانهم والسواعد
ألا ليس فعل الأولين وإن علا
على قبح فعل الآخرين بزائد (8)
بقيت المقصورة وهي ضعيفة بالقياس إلى هذه القصائد، وقد وصف بها الشاعر مصرع الحسين، وما لقي نساؤه من فزع وهول، واستثار إشفاق الرسول للسبط الشهيد، وتوجع لأهل البيت، وعجب كيف أمهل الله الظالمين فلم تنقلب بهم الأرض ولم ترجمهم السماء.
وخلاصة القول أن نكبة الحسين كانت ميدانا لقرائح القصاص والكتاب والشعراء، ومن آثارها هذه القصائد الخمس. والفتنة والقتل من أسباب البعث في الآداب والفنون.
الفصل السابع
قصائد مهيار في أهل البيت
(1)
لمهيار في أهل البيت عشر قصائد طوال، وجو تلك القصائد يشعر بأن معاصريه كانوا يستكثرون عليه أن يمعن في مدح آل الرسول، كأن العصبية لأهل البيت كانت تعتمد على الجنسية العربية، فإنا نراه يقول:
أنا العبد والاكم عقده
إذا القول بالقلب لم يعقد
وفيه ودادي وديني معا
وإن كان في «فارس» مولدي
خصمت ضلالي بكم فاهتديت
ولولاكم لم أكن أهتدي
وعبارة «وإن كان في فارس مولدي» تعين أن تشيع الفرس كان يقابل في بعض البيئات بشيء من الاستغراب، ويؤيد هذا ما جاء في التمهيد ليائيته في رثاء أهل البيت؛ إذ يقول جامع الديوان:
وقال يرثي أهل البيت، وبلغه أن بعض حاسديه يستكثر مدحه إياهم، ويدعي عليه أنه بما يظهر من المخالفة في الأصول لا يجوز أن يخلص في مدحهم ويذكر ذلك في آخر القصيدة.
ومعنى هذا الكلام أن مهيارا كان يتعصب للفرس، والتعصب للفرس ينافي التشيع لأهل البيت، ويكاد يكون من المعقول ألا يجتمع تشيع وشعوبية، ويوضح هذا قول مهيار في اليائية:
هذا لهم والقوم لا قومي هم
جنسا وعقر ديارهم لا داريا
إلا المحبة فالكريم بطبعه
يجد الكرام الأبعدين أدانيا
وقوله في خطاب علي بن أبي طالب:
وبرغمهم لأسيرنها شردا
ولأتبعن منها بديئا تاليا
غرا أقد من الجمال معانيا
فيها وألتقط النجوم قوافيا
شكرا لصنعك عند «فارس» أسرتي
وبما سلمت تفاؤلا وأياديا
وتعصبا ومودة لك صيرا
في حبك الشيعي من إخوانيا
وهذا نص في أن التشيع كان يوجب لذلك العهد وحدة العصبية العربية، وإن كان من العسير أن نجزم بأن الحال كان كذلك في جميع البيئات الإسلامية، فقد صارت فارس بعد ذلك من المعاقل الشيعية. (2)
كان مهيار يعنى بمدح آل البيت، وكانت تقترح عليه القصائد في مدحهم، فقد حدثنا جامع الديوان أنه أنشد قصيدة في مراثي أهل البيت من مرذول الشعر، وسئل أن يعمل أبياتا في وزنها وقافيتها.
1
وأنه سئل عمل أبيات في مراثي أهل البيت عليهم السلام على هذا الوزن والروي، وهما مما تقل مساعدة الكلام المختار على مثله، ولم يجد لإجابة الملتمس لذلك بدا - على ما فيه من اللين والانحطاط - فقال ارتجالا على جهة الإملاء، ومقتضى إجابة السائل.
2
وهذا وذلك يدلان على أمرين؛ الأول: أن الشعر في أهل البيت كان يطلب، والثاني: أن مهيارا كان معروفا بحب أهل البيت.
ولا يفوتنا من الوجهة الفنية أن نشير إلى تنبه مهيار إلى خطر الوزن والقافية في التعبير عن مختلف الأغراض؛ وهذا ملحظ سبقه إليه أبو الفضل بن العميد، فقد حدث الصاحب بن عباد أنه كان «يتجاوز نقد الأبيات إلى نقد الحروف والكلمات، ولا يرضى بتهذيب المعنى حتى يطالب بتخير القافية والوزن» وأنه سمعه يقول: «إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر، ويبتدأ النسج؛ لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده والمعنى الذي اعتمده، وينظر في أي الأوزان يكون أحسن استمرارا، ومع أي القوافي يحصل أجمل اطراد، فيركب مركبا لا يخشى انقطاعه، والتياثه عليه.»
3
أما القصيدة فمطلعها:
يا ابنة القوم تراك
بالغ قتلي رضاك
وهي في وزن مرقص، وقافية تعتمد على رقة الخطاب، وهما لا يصلحان لمصاولة خصوم أهل البيت؛ ولذلك رأينا الشاعر ينظم اثنين وثلاثين بيتا في النسيب وفي التمهيد لبكاء أهل البيت، ثم ينظم ثلاثة وعشرين بيتا في الغرض الذي أنشئ فيه هذا القصيد، فجاء الغرض وكأنه تبع - من حيث الكمية - لشعر النسيب. (3)
والولاء لأهل البيت ظاهر الصدق في شعر مهيار، وهو يذكر أنه اهتدى بهداهم حين انتقل من الشرك إلى الإسلام، فيقول:
ركبت لكم لقمي فاستننت
وكنت أخابطه مجهلا
وفك من الشرك أسري وكا
ن غلا على منكبي مقفلا
أواليكم ما جرت مزنة
وما اصطخب الرعد أو جلجلا
وأبرأ ممن يعاديكم
فإن البراءة أصل الولا
ومولاكم لا يخاف العقا
ب فكونوا له في غد موئلا
ويقول:
يا هداة الله والنج
وة في يوم الهلاك
بكم استدللت في حي
رة أمري وارتباكي
أظلم الشك وكنتم
لي مصابيح المشاكي
ويقول في خطاب علي بن أبي طالب:
عاديت فيك الناس لم أحفل بهم
حتى رموني عن يد إلا الأقل
تفرغوا يعترقون غيبة
لحمي وفي مدحك لي عنهم شغل
4
عدلت أن ترضى بأن يسخط من
تقله الأرض علي فاعتدل
ولو يشق البحر ثم يلتقي
فلقاه فوقي في هواك لم أبل
علاقة بي لكم سابقة
لمجد «سلمان» إليكم تتصل
وسلمان في البيت الأخير هو سلمان الفارسي، وكان معروف الولاء لأهل البيت، وهو يكثر من الإشارة في شعره إلى ما جر عليه ولاؤه من المحن والأرزاء بسبب الأحقاد، فيقول:
هل يبلغنك يا أبا الحسن الذي
جوزيت فيك وكان ضد جزائيا
من معشر لما مدحتك غظتهم
فتناوشوا عرضي وشانوا شانيا
اسمع - لينصفني انتقامك - إنهم
بالجور راضوني فجئتك شاكيا
لما رأوا ما غاظ مني شنعوا
حاشاك أني قلت فيك مداجيا
لا كان إلا ميتا ميثاقه
من سره أن كان بعدك باقيا
وهذا نهاية التصوف في الولاء.
ولمهيار نظرة سياسية دقيقة فيما أصاب الحسين؛ فهو يرى أن ما وقع بين الصحابة يوم السقيفة كان تمهيدا لمصرعه في كربلاء، وانظر هذين البيتين:
فيوم السقيفة يا ابن النبي
طرق يومك في كربلا
وغصب أبيك على حقه
وأمك حسن أن تقتلا
يريد أن اجتراء القوم على زحزحة علي عن حقه في الخلافة وحرمان فاطمة من حقها في الميراث كان مما هون شأن أهل البيت، وأغرى خصومهم بدم الحسين، ولو جرى الأمر من أول يوم على حفظ الحقوق لأصحاب الحقوق لبقيت هيبة أهل البيت، وعز على خصومهم أن يطمعوا في دمائهم الزكية، ومكانهم ما نعرف من حب الرسول. (4)
أكثر مهيار من التوجع لفقد الحسين، ورأى قتله قريبا من الشرك، فقال:
أرى الدين من بعد يوم الحسين
غليلا له الموت بالمرصد
وما الشرك بالله من قبله
إذا أنت قست بمستبعد
وما آل حرب جنوا إنما
أعادوا الضلال على من بدي
سيعلم من «فاطم» خصمه
بأي نكال غدا يرتدي
ومن ساء «أحمد» يا سبطه
فباء بقتلك ماذا يدي؟
فداؤك نفسي ومن لي بذا
ك لو أن مولى بعبد فدي (5)
وأهم قصائد مهيار في مدح آل البيت هي العينية التي دافع بها عن حق علي بن أبي طالب، وهي من عيون القصائد، وتذكر بعينية حسان في المحاماة عن الرسول.
تقع هذه القصيدة في تسعة وأربعين بيتا، منها أربعة عشر في النسيب، ولكن أي نسيب، إنها نفحة من الشعر الوجداني الرصين، ولننظر كيف يقول:
هل بعد مفترق الأظعان مجتمع
أم هل زمان بهم قد فات يرتجع
تحملوا تسع البيداء ركبهم
ويحمل القلب فيهم فوق ما يسع
مغربين هم والشمس قد ألفوا
ألا تغيب مغيبا حيثما طلعوا
شاكين للبين أجفانا وأفئدة
مفجعين به أمثال ما فجعوا
تخطو بهم فاترات في أزمتها
أعناقها تحت إكراه النوى خضع
تشتاق نعمان لا ترضى بروضته
دارا ولو طاب مصطاف ومرتبع
فداء وافين تمشي الوافيات بهم
دمع دم وحشا في إثرهم قطع
الليل بعدهم كالهجر متصل
ما شاء والنوم مثل الوصل منقطع
ليت الذين أصاخوا يوم صاح بهم
داعي النوى ثوروا، صموا كما سمعوا
أو ليت ما أخذ التوديع من جسدي
قضى علي فللتعذيب ما يدع
ولما انتهى إلى مدح أهل البيت ضرب الغادرين بالقواصم، فقال:
هذي قضايا رسول الله مهملة
غدرا وشمل رسول الله منصدع
والناس للعهد ما لاقوا وما قربوا
وللخيانة ما غابوا وما شسعوا
5
وآله وهم آل الإله وهم
رعاة ذا الدين ضيموا بعده ورعوا
ميثاقه فيهم ملقى وأمته
مع من بغاهم وعاداهم له شيع
ثم انتقل إلى ما أضاعوا من بيعة يوم الغدير، وكانوا يرون أن النبي خطب الناس عنده، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، وقد استغل الشيعة هذا «التصريح» وعبر عن هواهم مهيار حين قال:
تضاع بيعته يوم الغدير لهم
بعد الرضا وتحاط الروم والبيع
6
مقسمين بأيمان هم جذبوا
ببوعها وبأسياف هم طبعوا
ما بين ناشر حبل أمس أبرمه
تعد مسنونة من بعده البدع
وبين مقتنص بالمكر يخدعه
عن آجل عاجل حلو فينخدع
وقائل لي علي كان وارثه
بالنص منه فهل أعطوه أم منعوا؟
فقلت كانت هنات لست أذكرها
يجزي بها الله أقواما بما صنعوا
واندفع يصاول خصوم أهل البيت مصاولة الفحول، فقال:
أبلغ رجالا إذا سميتهم عرفوا
لهم وجوه من الشحناء تمتقع
توافقوا وقناة الدين مائلة
فحين قامت تلاحوا فيه واقترعوا
أطاع أولهم في الغدر ثانيهم
وجاء ثالثهم يقفو ويتبع
قفوا على نظر في الحق نفرضه
والعقل يفصل والمحجوج ينقطع
بأي حكم بنوه يتبعونكم
وفخركم أنكم صحب له تبع
وكيف ضاقت على الأهلين تربته
وللأجانب من جنبيه مضطجع
وفيم صيرتم الإجماع حجتكم
والناس ما اتفقوا طوعا ولا اجتمعوا
وهذه القوة في الحجاج تذكرنا بوثبات الكميت في قصائده الهاشميات.
وقد ختم هذه القصيدة الرائعة بهذا الولاء وهو يخاطب علي بن أبي طالب:
آباي في فارس والدين دينكم
حقا لقد طاب لي أس ومرتبع
ما زلت مذ يفعت سني ألوذ بكم - حتى محا حقكم شكي - وأنتجع
وقد مضت فرطات إن كفلت بها
فرقت عن صحفي البأس الذي جمعوا
سولت نفسي غرورا إن ضمنت لها
أني بذخر سوى حبيك أنتفع
الفصل الثامن
بردة البوصيري
حياة البوصيري، وشعره في الموظفين - نماذج من شعره الفكاهي - سبب نظم البردة - الإكثار من الصلاة على الرسول - شاهد من القصيدة المضرية - أثر البردة في أحلام الصوفية - تعليل تلك الأحلام. ***
تعد قصيدة البردة أهم القصائد بين المدائح النبوية، فهي أولا: قصيدة جيدة، وهي ثانيا: أسير قصيدة في هذا الباب، وهي ثالثا: مصدر الوحي لكثير من القصائد التي أنشئت بعد البوصيري في مدح الرسول.
ولهذا كله نرى من الواجب أن نعرض للبوصيري وقصيدته بشيء من التفصيل. (1)
والبوصيري هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله بن صنهاج، كان أحد أبويه من «أبو صير»، والآخر من «دلاص» من قرى بني سويف، فركبت له منهما نسبة، وقيل: «الدلاصيري» لكنه اشتهر بالبوصيري، وكان يعاني صناعة الكتابة والتصرف، ويباشر الشرقية ببلبيس.
1
والبوصيري شاعر مصري ظريف من شعراء القرن السابع تجري في شعره النكت المستملحة، وله في شكوى حاله والتذمر من الموظفين قصائد لا تخلو من ذكاء، وفي شعره وصف للحالة الاجتماعية في عصره، وأحسبه من الصادقين؛ فهو يذكر أن الموظفين كانوا يسرقون الغلال، وأنهم لولا ذلك ما لبسوا الحرير، ولا شربوا الخمور، وأن من الكتاب طائفة تنسكت وعدت من الزهاد مع أنها تملأ بطونها بالسحت، وتأكل مال الأيتام، ويذكر أن القضاة خانوا الأمانة، وبرروا خيانتهم بتأويل القرآن والحديث، ويذكر أن المسلمين والأقباط كانوا مختلفين، فكان المسلمون يقولون: لنا بمصر حقوق، ونحن أولى الآخذين، وكان القبط يقولون: نحن ملوك مصر، ومن سوانا هم الغاصبون، وكان اليهود يستحلون مال الطوائف أجمعين، وفي ذلك يقول:
نقدت طوائف المستخدمينا
فلم أر فيهمو حرا أمينا
فقد عاشرتهم ولبثت فيهم
مع التجريب من عمري سنينا
فكتاب الشمال همو جميعا
فلا صحبت شمالهم اليمينا
فكم سرقوا الغلال وما عرفنا
بهم فكأنهم سرقوا العيونا
ولولا ذاك ما لبسوا حريرا
ولا شربوا خمور الأندرينا
ولا ربوا من المردان مردا
كأغصان يملن وينحنينا
وقد طلعت لبعضهمو ذقون
ولكن بعدما حلقوا ذقونا
وأقلام الجماعة جائلات
كأسياف بأيدي لاعبينا
وقد ساومتهم حرفا بحرف
وكل اسم يخطوا منه سينا
أمولاي الوزير غفلت عما
يتم من اللئام الكاتبينا
تنسك معشر منهم وعدوا
من الزهاد والمتورعينا
وقيل لهم دعاء مستجاب
وقد ملئوا من السحت البطونا
تفقهت القضاة فخان كل
أمانته وسموه الأمينا
وما أخشى على أموال مصر
سوى من معشر يتأولونا
يقول المسلمون لنا حقوق
بها ولنحن أولى الآخذينا
وقال القبط نحن ملوك مصر
وإن سواهمو هم غاصبونا
وحللت اليهود بحفظ سبت
لهم مال الطوائف أجمعينا
وما ابن قطيبة إلا شريك
لهم في كل ما يتخطفونا
أغار على قرى «فاقوس» منه
بجور يمنع النوم الجفونا
وصير عينها حملا ولكن
لمنزله وغلتها خزينا
وأصبح شغله تحصيل تبر
وكانت راؤه من قبل نونا
وقدمه الذين لهم وصول
فتمم نقصه صلة الذينا
وفي دار الوكالة أي نهب
فليتك لو نهبت الناهبينا
فقام بها يهودي خبيث
يسوم المسلمين أذى وهونا
إذا ألقى بها موسى عصاه
تلقفت القوافل والسفينا
وشاهدهم إذا اتهموا يؤدي
عن الكل الشهادة واليمينا (2)
وهذه القطعة ذكرها صاحب فوات الوفيات من قصيدة طويلة يذكر أنها كانت مشهورة، وشهرتها فيما نرى لا ترجع إلى قيمتها الأدبية؛ لأنها قصيدة ضعيفة يغلب عليها الابتذال، وإنما ترجع شهرتها إلى ما فيها من التنديد بالموظفين، والناس يبغضون الموظفين حين يعرفون بالطمع والاستبداد. ولهذه القصيدة قيمتها من الوجهة التاريخية، فهي شاهد على اختلاف الطوائف في مصر، وعلى ما كان يجري إذ ذاك بين المسلمين والنصارى واليهود، وهي كذلك شاهد على عيوب الإدارة في ذلك الحين.
والظاهر أنه كان مغرما بثلب الموظفين، فقد قال من قصيدة أخرى يحرض عليهم أحد كبار المماليك:
فلا تدن منهم واحدا منك ساعة
ولو فاح من برديه مسك وعنبر
وبرد فؤادي بانتقامك منهمو
فقد كاد قلبي منهمو يتفطر
منعت بهم حظي شهورا ولم أصل
إلى حظهم حتى مضت لي أشهر
أما فيهمو، لا بارك الله فيهمو
أخو قلم إلا يخون ويغدر
وفي هذه الأبيات ما يشعر بأن الموظفين كانوا يماطلونه في دفع المرتب، وقد صرح بذلك في قصيدة أخرى إذ يقول:
من لم يقم لي منهمو بوظيفتي
جرسته بملامتي تجريسا (3)
ومن شعر البوصيري فيما يجري مجرى الدعابة قوله في الحديث عن جارية راودها عن نفسها فأنكرت عليه الشيب والضعف:
أهوى والمشيب قد حال دونه
والتصابي بعد المشيب رعونه
أبت النفس أن تطيع وقالت
إن حبي لا يدخل القنينه
كيف أعصي الهوى وطينة قلبي
بالهوى قبل آدم معجونه
سلبته الرقاد بيضة خدر
ذات حسن كالدرة المكنونه
سمتها قبلة تسر بها النف
س فقالت كذا أكون حزينه
قلت لا بد أن تسيري إلى الدا
ر فقالت عسى! أنا مجنونه!
قلت سيري فإنني لك خير
من أب راحم وأم حنونه
أنا نعم القرين إن كنت تبغي
ن حلالا وأنت نعم القرينه
قالت اضرب عن وصل مثلي صفحا
واضرب الخل أو يصير طحينه
لا أرى أن تمسني يد شيخ
كيف أرضى به لطشتي مشينه
قلت إني كثير مال فقالت
هبك أنت المبارز القارونه
وهذا أيضا شعر ضعيف، ولكن فيه «حكاية ظريفة» من حكايات مولانا الشيخ رضي الله عنه وأرضاه! وأظرف من هذه القطعة أبياته التي بعث بها إلى ناظر الشرقية، وكانت له حمارة استعارها منه الناظر فأعجبته، فكتب على لسانها إليه:
يا أيها السيد الذي شهدت
أخلاقه لي بأنه فاضل
ما كان ظني يبيعني أحد
قط ولكن صاحبي جاهل
لو جرسوه علي من سفه
لقلت غيظا عليه يستاهل
أقصى مرادي لو كنت في بلدي
أرعى بها في جوانب الساحل
وبعد هذا فما يحل لكم
أخذي لأني من سيدي حامل
وقد استظرف ناظر الشرقية هذه الأبيات، ورد إليه الحمارة، ولم يكن فيها من الزاهدين! ونحن نستملح كذلك قصيدته التي بعث بها إلى أحد الوزراء في شكوى حاله، وهي قصيدة طريفة يذكر فيها أنه فقير، وأن أبناءه لا يجدون ما يأكلون، وأنهم يتحسرون لفقد الكعك أيام الأعياد، وأن امرأته زارت أختها، وشكت إليها سوء الحال، فأشارت عليها بضربه، ونتف ذقنه شعرة شعرة! وفي تفصيل ذلك يقول، وهو يخاطب ذلك الوزير:
إليك نشكو حالنا إننا
حاشاك من قوم أولي عسره
في قلة نحن ولكن لنا
عائلة في غاية الكثره
أحدث المولى الحديث الذي
جرى لهم بالخيط والإبره
صاموا مع الناس ولكنهم
كانوا لمن أبصرهم عبره
إن يشربوا فالبئر زير لهم
ما برحت والشربة الجره
لهم من الخبيز مسلوقة
في كل يوم تشبه النشره
أقول مهما اجتمعوا حولها
تنزهوا في الماء والخضره
وأقبل العيد وما عندهم
قمح ولا خبز ولا فطره
فارحمهمو إن عاينوا كعكة
في كف طفل أو رأوا تمره
تشخص أبصارهمو نحوها
بشهقة تتبعها زفره
كم قائل يا أبتا منهمو
قطعت عنا الخير في كره
ما صرت تاتينا بفلس ولا
بدرهم ورق ولا نقره
وأنت في خدمة قوم فهل
تخدمهمو يا أبت سخره
ويوم زارت أمهم أختها
والأخت في الغيرة كالضره
وأقبلت تشكو لها حالها
وصبرها مني على العشره
قالت لها كيف تكون النسا
كذا مع الأزواج يا عره!
قومي اطلبي حقك منه بلا
تخلف منك ولا فتره
وإن تأبى فخذي ذقنه
أو انتفيها شعرة شعره
قالت لها ما هكذا عادتي
فإن زوجي عنده ضجره
أخاف إن كلمته كلمة
طلقني قالت لها بعره
وهونت قدري في نفسها
فجاءت الزوجة مجتره
فقاتلتني فتهددتها
فاستقبلت رأسي بآجره
وحق من حالته هذه
أن ينظر المولى له أمره
وفي هذه القصيدة كثير من التعابير المصرية، ولا تزال بقاياها موجودة في بلبيس. (4)
وقد حدثنا البوصيري عن سبب وضعه للبردة فقال: «كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منها ما كان اقترحه علي الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن صاحبني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها، واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم ، فمسح وجهي بيده المباركة، وألقى علي بردة، فانتبهت ووجدت في نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحدا، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أيها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ورأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام.»
وفي هذه القطعة دلالة على عقلية البوصيري؛ فهو رجل فيه طيبة وسذاجة كأكثر الصوفية، فليس من المعقول أن يبرأ مريض من مرضه لآية يتلوها أو قصيدة ينشدها كما برئ البوصيري بقصيدته، ولو مرض مفتي الديار المصرية - لا سمح الله - ما استغنى بالبردة عن الطبيب،
2
ولعل حكاية البوصيري هذه هي سبب ما سار بجانب البردة من الخرافات، فقد ذكر بعض الشراح لكل بيت من أبياتها فائدة: فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون! وهذا النوع من الغفلة قديم، فقد كان الزمخشري يذكر شيئا من مثل هذا عن سور القرآن. ونلاحظ كذلك أن البوصيري كرر عبارة «
صلى الله عليه وسلم » خمس مرات في هذه الفقرة الصغيرة، وتكرار الصلاة على النبي كلما ذكر اسمه من وساوس المتأخرين، وقد زاد البوصيري على ذلك في القصيدة المضرية، فهو يدعو الله أن يصلي على النبي وشيعته وصحبه عدد الحصى والثرى والمدر، وعدد نجم السماء، ونبات الأرض، وعدد وزن مثاقيل الجبال، وقطر جميع الماء والمطر، وما حوت الأشجار من ورق، وعدد الجن والإنس والأملاك، وعدد الذر، والنمل، والحبوب، والشعر، والصوف، والريش، والوبر، وعدد ما أحاط به العلم المحيط، وما جرى به القلم والقدر، وعدد نعم الله على الخلائق مذ كانوا، ومذ حشروا، وعدد ما كان في الأكوان، وما يكون إلى يوم البعث، وتكون هذه الصلاة بهذا التحديد:
في كل طرفة عين يطرفون بها
أهل السموات والأرضين أو يذروا
ملء السموات والأرضين مع جبل
والفرش والعرش والكرسي وما حصروا
ما أعدم الله موجودا وأوجد مع
دوما صلاة دواما ليس تنحصر
تستغرق العد مع جمع الدهور كما
تحيط بالحد لا تبقي ولا تذر
وهذا النمط من الصلاة على النبي لم يكن معروفا في صدر الإسلام، وإنما هو تصرف من غلاة الصوفية أمثال صاحب «دلائل الخيرات». (5)
ومنام البوصيري كانت له أطياف في أذهان الصوفية، فقد استحبوا أن يقرأ المرء هذا البيت:
مولاي صل وسلم دائما أبدا
على حبيبك خير الخلق كلهم
بعد كل بيت من أبيات البردة، وذكروا أن الغزنوي كان يقرؤها في كل ليلة ليرى النبي في منامه، فلم تتيسر له الرؤيا، فشكا ذلك إلى شيخ كامل، فقال له: لعلك لا تراعي شرائطها! فقال: لا، بل أراعيها. فراقبه الشيخ ثم قال له: إنك لا تصلي بالصلاة التي كان يصلي بها الإمام البوصيري على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله: مولاي صل وسلم (البيت). قالوا: وحكمة اختياره هذا البيت دون غيره أنه رحمه الله لما أنشأ هذه القصيدة رأى النبي في المنام، فأنشدها بين يديه، فكان يتمايل طربا كتمايل الأغصان، فلما انتهى إلى قوله: «فمبلغ العلم فيه أنه بشر» لم يقدر على تكميل البيت، فقال له عليه الصلاة والسلام: اقرأ، فقال: إني لم أوفق للمصراع الثاني يا رسول الله. فقال له الرسول قل: «وأنه خير خلق الله كلهم»، فأدرج البوصيري هذا المصراع الذي قاله النبي في البيت المتقدم، وجعله صلاة مكررة بعد كل بيت حرصا على لفظ النبي عليه السلام.
وهذه المنامات تعليلها سهل، فحب البوصيري للرسول خلق منه قيثارة نبوية، وإيمان الصوفية بعظمة البوصيري ويمن قصيدته وجه أحلامهم إلى تصور الرسول في المنام بفضل الإكثار من تلاوة البردة مصحوبة بتلك الصلاة، والبردة في ذاتها لا تمكن كل إنسان من الكرامات، وإنما تنفعل النفس بما تؤمن به في صدق وإخلاص، فتتمثل الغرائب والأعاجيب، وكذلك كانت البردة عند بعض الناس مفتاحا للمثول بين يدي الرسول، ورؤيا النبي حق: عند الصوفية، وعند الفقهاء.
الفصل التاسع
عناصر البردة
(1)
تقع البردة في اثنين وثمانين ومائة بيت، فهي من القصائد الطوال، وأغلب الظن عندي أن البوصيري استأنس عند نظمها بميمية ابن الفارض، ودليل ذلك تشابه المطلعين، فإن مطلع قصيدة ابن الفارض:
هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم
أم بارق لاح في الزوراء فالعلم
أرواح نعمان هلا نسمة سحرا
وماء وجرة هلا نهلة بفم
ومطلع قصيدة البوصيري:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
فذو سلم، وهبوب الريح ، وإيماض البرق مما اشترك فيه الشاعران، مع وحدة الوزن والقافية، يضاف إلى هذا أن ابن الفارض قال:
يا لائما لامني في حبهم سفها
كف الملام فلو أحببت لم تلم
فتابعه البوصيري فقال:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك ولو أنصفت لم تلم
كما تابع شوقي البوصيري حين قال:
يا لائمي في هواه والهوى قدر
لو مسك الشوق لم تعذل ولم تلم
وقال ابن الفارض:
طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا
أفتى بسفك دمي في الحل والحرم
أصم لم يسمع الشكوى وأبكم لم
يحر جوابا وعن حال المشوق عمي
فدار البوصيري حول هذا المعنى إذ قال:
عدتك حالي لا سري بمستتر
عن الوشاة ولا دائي بمنحسم
محضتني النصح لكن لست أسمعه
إن المحب عن العذال في صمم (2)
وتشتمل البردة على عدة عناصر: ففي صدرها النسيب، ويليه التحذير من هوى النفس، ثم مدح النبي، والكلام عن مولده ومعجزاته، ثم القرآن والإسراء والمعراج والجهاد، ثم التوسل والمناجاة.
والنسيب في البردة يتصل بالشوق إلى المعالم العربية، وكنت لمت البوصيري على هذا في كتاب «الموازنة بين الشعراء» ثم تبينت أنه اختار تلك المواطن لصلتها بمولد الرسول، وخاصة إذا لاحظنا أن النسيب لم يقصد لذاته حتى يتحدث الشاعر عن هواه في بلبيس أو فاقوس، وإنما هو نسيب وقع موقع التمهيد لقصيدة دينية، ولولا حرص الشاعر على متابعة القدماء في افتتاح القصائد بالنسيب لما كان للتغزل في مثل هذه القصيدة مكان.
ومع أن الشاعر كان فارغ القلب من الصبوات الحسية، فإنا نراه قارب الإجادة في التعبير عن لوعة الوجد حين قال:
أيحسب الصب أن الحب منكتم
ما بين منسجم منه ومضطرم
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل
ولا أرقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حبا بعدما شهدت
به عليك عدول الدمع والسقم
وأثبت الوجد خطي عبرة وضنى
مثل البهار على خديك والعنم
نعم سرى طيف من أهوى فأرقني
والحب يعترض اللذات بالألم (3)
أما التحذير من هوى النفس فقد ابتدأه الشاعر بالكلام عن عذل الشيب ، وفي ذلك دليل على أن الشاعر نظم البردة في أيام الاكتهال، وأبياته في هذا المعنى جيدة، وفيها شطرات تجري مجرى الأمثال، كقوله:
والشيب أبعد في نصح عن التهم
وقوله:
إن الطعام يقوي شهوة النهم
وقوله:
إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وقوله:
فرب مخمصة شر من التخم
وقوله:
وما استقمت فما قولي لك استقم
وله نظرات في سياسة النفس على جانب من الدقة: كالتحذير من دسائس الشبع والجوع، وتشبيه النفس بالطفل «إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم»، وهو يرى أن أداء الفرائض رتبة صغيرة لا تصل به إلى درجات الأصفياء، ويقول:
ولا تزودت قبل الموت نافلة
ولم أصل سوى فرض ولم أصم (4)
وفي مدح النبي يتحدث عن تهجده، فيذكر أنه أدام قيام الليل حتى تورمت قدماه، ويتحدث عن إيثاره الجوع فيذكر أنه كان يشد أحشاءه من السغب، ويتكلم عن زهده فيذكر أن جبال الذهب راودته عن نفسه فاستعصم، ثم يذكر أنه سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم، وأنه الآمر الناهي، وأنه لا أحد أبر منه في قول «لا» و«نعم»، وأنه مرجو الشفاعة، وأن المستمسكين به مستمسكون بحبل غير منفصم، وأنه فاق النبيين في الخلق والخلق، ولم يدانوه في علم ولا كرم، ويمعن في ذلك فيقول:
وكلهم من رسول الله ملتمس
غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وواقفون لديه عند حدهم
من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
ويحكم بأنه هو «الذي تم معناه وصورته»، وأنه منزه عن الشريك في محاسنه، ويقول:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وله في مدح النبي أبيات جيدة حقا من الوجهة الشعرية، وانظر هذا البيت البارع الجميل:
لو ناسبت قدره آياته عظما
أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
وانظر هذه الوثبة الشعرية في تصوير شخصية الرسول:
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى
للقرب والبعد منه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد
صغيرة وتكل الطرف من أمم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته
قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر
وأنه خير خلق الله كلهم
أكرم بخلق نبي زانه خلق
بالحسن مشتمل بالبشر متسم
كالزهر في ترف والبدر في شرف
والبحر في كرم والدهر في همم
كأنه وهو فرد في جلالته
في عسكر حين تلقاه وفي حشم
وهذه أبيات في غاية من القوة، وإن كانت أخيلتها مقتبسة من معان قديمة، وقوله بعد ذلك:
كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف
من معدني منطق منه ومبتسم
من المعاني التي أكثر منها الشعراء، وقد نقلها البوصيري من النسيب إلى المديح، وقوله:
لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه
طوبى لمنتشق منه وملتثم
من الأخيلة العامية، وقوله في تفضيل النبي على سائر الأنبياء:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها
فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهرن أنوارها للناس في الظلم
هذا المعنى ينافي الأدب الجميل في رعاية حقوق الأنبياء، وهو يساير به نزعة ساذجة لا يقرها عقل، ولا يدعو إليها دين، وليس مما ينقص مجد النبي أن يكون لمن سبقوه من الأنبياء شخصية مستقلة عنه كل الاستقلال. (5)
ثم تكلم عن مولد النبي فذكر أن إيوان كسرى انصدع، وأن نار الفرس خمدت، وأن بحيرة ساوة غاضت، وأن الشهب انقضت فوق الأصنام، ولم يعرف لشيء من ذلك سند صحيح من التاريخ، ولا نعرف متى نشأت هذه الأخبار عند المسلمين، وأغلب الظن أنها من وضع القصاص الذين أرادوا أن يصوروا مولد الرسول بالصور التي أثرت عن أنبياء الهنود، وقد أكثر مؤرخو المولد من هذه الأخبار، وطاف بها جمهور الناظمين في المدائح النبوية. (6)
وتحدث عن المعجزات، فذكر سجود الأشجار للرسول، ومشيها إليه، وسير الغمامة أنى سار لتقيه حر الهجير، وما صنع الحمام والعنكبوت بالغار، وكيف كان لمس راحته يبرئ المريض، ويشفي من الجنون، وكيف كانت دعوته ترسل الأمطار في السنة الشهباء.
وبعض هذه الأخبار يحتاج إلى تحقيق. (7)
وتكلم عن القرآن فقال إنه ظهر «ظهور نار القرى ليلا على علم»، وإن المديح لا يتطاول إلى ما فيه من كرم الأخلاق والشيم، وإن آياته:
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا
عن المعاد وعن عاد وعن إرم
وإنها:
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
من النبيين إذ جاءت ولم تدم
وهذا أجمل ما يوصف به القرآن، فهو المعجزة الباقية، وهو أيضا المعجزة الصريحة التي يعتز بها العقل، ويصح للمسلمين أن يواجهوا بها العالم غير مترددين، أما نبع الماء بين يدي الرسول، وتظليل الغمام إياه، وسجود الأشجار له، وما إلى ذلك من المعجزات، فهي مسائل يحتاج عرضها إلى مخاطرة، وهي مخشية الضر قبل أن تكون مرجوة النفع.
وقوله في وصف آي القرآن:
ما حوربت قط إلا عاد من حرب
أعدى الأعادي إليها ملقي السلم
ردت بلاغتها دعوى معارضها
رد الغيور يد الجاني عن الحرم
كلمة صدق، ويكفي أن تقرأ القرآن بحيدة ونزاهة لتلمس هذه الحقيقة، فهو كتاب على جانب عظيم جدا من القوة، وليس عليه بعزيز أن يحمل عدوه على الإيمان بما فيه من روعة وجلال.
والمعاني الشعرية قليلة فيما وصف البوصيري به آي القرآن، ومع ذلك نستجيد له هذين البيتين:
لا تعجبن لحسود راح ينكرها
تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم
فالعين تنكر ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم (8)
ثم تحدث عن الإسراء بأبيات خفيفة الروح:
يا خير من يمم العافون ساحته
سعيا وفوق متون الأينق الرسم
ومن هو الآية الكبرى لمعتبر
ومن هو النعمة العظمى لمغتنم
سريت من حرم ليلا إلى حرم
كما سرى البدر في داج من الظلم
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
ثم وقع في أبيات لم يصقلها الذوق حين قال:
وقدمتك جميع الأنبياء بها
والرسل تقديم مخدوم على خدم
وأنت تخترق السبع الطباق بهم
في موكب كنت فيه صاحب العلم
حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق
من الدنو ولا مرقى لمستنم
خفضت كل مقام بالإضافة إذ
نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
والبيت الأخير ثقيل أضرت به التورية النحوية. (9)
وتكلم عن الجهاد فوصف النبي وأصحابه بالبأس والقوة، وبين أن الأعداء سقطوا من صدمة الرعب والفزع:
راعت قلوب العدا أنباء بعثته
كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
ما زال يلقاهم في كل معترك
حتى حكوا بالقنا لحما على وضم
ودوا الفرار فكادوا يغبطون به
أشلاء شالت مع العقبان والرخم
تمضي الليالي ولا يدرون عدتها
ما لم تكن من ليالي الأشهر الحرم
ويعجبنا قوله في وصف جند الرسول:
كأنما الدين ضيف حل ساحتهم
بكل قرم إلى لحم العدا قرم
يجر بحر خميس فوق سابحة
يرمي بموج من الأبطال ملتطم
من كل منتدب لله محتسب
يسطو بمستأصل للكفر مصطلم
حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم
من بعد غربتها موصولة الرحم
هم الجبال فسل عنهم مصادمهم
ماذا رأى منهم في كل مصطدم
المصدري البيض حمرا بعدما وردت
من العدا كل مسود من اللمم
والكاتبين بسمر الخط ما تركت
أقلامهم حرف جسم غير منعجم
شاكي السلاح لهم سيما تميزهم
والورد يمتاز بالسيما من السلم
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربا
من شدة الحزم لا من شدة الحزم
طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا
فما تفرق بين البهم والبهم
ومن تكن برسول الله نصرته
إن تلقه الأسد في آجامها تجم
أحل أمته في حرز ملته
كالليث حل مع الأشبال في أجم
وهذه الأبيات تخيرناها مما وصف به الجهاد والمجاهدين، وهي تمتاز بقوة السبك وروعة الخيال، وهي أيضا من نوادر الشعر في قصيدة البردة؛ لأن الشعر لا يتفق لهذا الرجل في جميع المقامات. (10)
وقد ظهرت نفحات التصوف ظهورا قويا في الجزء الأخير من البردة، وهو التوسل بالرسول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
ويخاطب نفسه، ويدعو ربه، فيقول:
يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت
إن الكبائر في الغفران كاللمم
لعل رحمة ربي حين يقسمها
تأتي على حسب العصيان في القسم
يا رب واجعل رجائي غير منعكس
لديك واجعل حسابي غير منخرم
ولنقيد أن الشطر الأخير من البردة ضعيف من الوجهة الشعرية، ولكنه لا يخلو من صدق، والصدق من أهم عناصر البيان.
الفصل العاشر
أثر البردة في اللغة العربية
أثرها في الجماهير الشعبية - أثرها في التأليف - أثرها في الدرس - عناية الشعراء بتضمينها، وتشطيرها، وتخميسها، ومعارضتها - ابتكار ابن جابر لفن البديعيات - فضل البردة في نشأة البديعيات ونشر الثقافة الأدبية. ***
يمكن رجع أثر البردة في اللغة العربية إلى خمس نواح: أثرها في الجماهير الشعبية، وأثرها في التأليف، وأثرها في الدرس، وأثرها في الأشعار، وأثرها في البديعيات. (1)
أما أثرها في الجماهير الشعبية فواضح جدا، ونستطيع الجزم بأن الجماهير في مختلف الأقطار الإسلامية لم تحفظ قصيدة مطولة كما حفظت البردة، فقد كانت ولا تزال من الأوراد: تقرأ في الصباح، وتقرأ في المساء، وكنت أرى لها مجلسا يعقد في ضريح الحسين بعد صلاة الفجر من كل يوم جمعة، وكان لذلك المجلس رهبة تأخذ بمجامع القلوب، والذي يزور ساحة المولد النبوي بالقاهرة يرى المئات يرتلونها في هيبة وخشوع، وكثير من الناس كانوا يجمعون الأطفال لقراءتها في الجنازات، ومن كتبة الأحجبة والتمائم من يعرف لكل بيت فائدة: فهذا البيت يشفي من الصرع، وذاك ينفع في حفظ المزارع والمنازل من التلف والحريق، وذلك يفيد في الجمع بين النافرين من الأحباب، إلى آخر ما ابتدعوا لها من الفوائد الحسية والمعنوية.
ومن أدلة هذا الذيوع ما نراه من تعدد الطبعات، فقد طبعت في فيينا والأستانة، ومكة، وبمباي، وطبعت في القاهرة نحو خمسين مرة، وأكثر الطبعات كتبت بخط جميل، وحفظت في رواسم ليطبع منها عند الطلب، وهي تطلب بالألوف، وفي دار الكتب المصرية نسخ من البردة حليت كتابتها بالذهب، على نحو ما يصنع المفتنون بنسخ المصحف الشريف.
والبوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابا من السيرة النبوية، وعن البردة تلقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال، وكذلك استطاع البوصيري بتصوفه أن يؤثر في الأدب والأخلاق تأثيرا لا يدرك كنهه إلا من رأى كيف تدور البردة على ألسنة العوام، وكيف تهذب ما انطبعوا عليه من عنجهية الخصال، وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول. (2)
وأما أثرها في التأليف فيظهر فيما وضع لها من الشروح، فقد شرحها ابن الصائغ المتوفى سنة 776ه، وشرحها علي بن محمد القلصاي - بفتحات - المتوفى سنة 891ه،
1
وشرحها شهاب الدين بن العماد المتوفى سنة 808ه، وشرحها الشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة 905ه، وشرحها علاء الدين البسطامي المتوفى سنة 875ه، وشرحها يوسف بن أبي اللطف القدسي المتوفى بعد الألف للهجرة، وشرحها يوسف البسطامي من علماء القرن التاسع، وشرحها ملا علي المتوفى سنة 1014ه، وشرحها شيخ زاده محيي الدين، ولم نعرف تاريخ وفاته، ولكن أقدم نسخة من شرحه يرجع تاريخها إلى سنة 949ه، وشرحها جلال الدين المحلي المتوفى سنة 864ه، وشرحها محمد بن أحمد المرزوقي المتوفى سنة 881ه، وشرحها عبد الحق بن عبد الفتاح من علماء القرن الثاني عشر، وشرحها محمد المصري من علماء القرن الحادي عشر، وشرحها ملا محمد من علماء القرن الحادي عشر، وشرحها زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926ه، وشرحها عمر الخربوتي من علماء القرن الثالث عشر، وشرحها القسطلاني المتوفى سنة 923ه وهو شارح البخاري، وشرحها محمد بن مصطفى المدرني من علماء القرن الثاني عشر، وشرحها محمد عثمان الميرغني من علماء القرن الثالث عشر، وشرحها الشيخ حسن العدوي الحمزاوي المتوفى سنة 1303ه، وشرحها الباجوري المتوفى سنة 1276ه.
وفي دار الكتب المصرية شروح أخر لم يعرف مؤلفوها.
ولأكثر هذه الشروح أسماء شعرية، مثل: «الرقم على البردة»، و«راحة الأرواح»، و«الجوهرة الفردة في شرح البردة»، و«الزبدة الرائقة في شرح البردة الفائقة»، و«عصيدة الشهدة في شرح البردة»، و«وردة المليح في شرح بردة المديح».
والبردة نفسها سماها المؤلف «الكواكب الدرية في مدح خير البرية».
وعند النظر في هذه الشروح نراها مجموعات نفيسة تزخر بالفقرات اللغوية، والأدبية ، والتاريخية، وشغل هؤلاء الشراح بالأدب واللغة والتاريخ يرجع الفضل فيه إلى تصوف ذلك الشاعر المجيد. (3)
وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة حاشية الباجوري على البردة، وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، وإنما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة لأن مثل هذا الدرس لم يكن من المقررات، فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ.
ولنتذكر أنه مضت سنون لم يكن يعرف فيها الأزهر كيف تكون دروس التاريخ الإسلامي، فكانت البردة وشروحها مما يسد النقص الفاحش في معهد ديني يجهل أهله غزوات الرسول. (4)
وأما أثر البردة في الشعر والشعراء، فعظيم جدا، فقد ضمنوها، وشطروها، وخمسوها، وسبعوها، وعشروها، وعارضوها، فمن الذين ضمنوها الشيخ قاسم (ولم نقف له على ترجمة) وأول تضمينه:
أمن تذكر أوطان على علم
أم من تفقد جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى كالقطر منهمرا
يجري على وجنة من مقلة بدم
ومن الذين شطروها أحمد بن شرقاوي الخلفي - نسبة إلى قرية يقال لها: الخليفة ملاصقة لمدينة جرجا، وبها توفي في سحر ليلة الجمعة التاسع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1250ه - وأول التشطير:
أمن تذكر جيران بذي سلم
أصبحت ذا خلد بالوجد مصطلم
أم من تفتت قلب في الحشا شغفا
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وأحمد بن عبد الوهاب الجرجاوي المتوفى سنة 1254ه، وأول التشطير:
أمن تذكر جيران بذي سلم
تصبب الدمع يجري حاكي الديم
وأحمد بن عثمان العوامي المدفون بجرجا (ولم يعلم تاريخ وفاته) وأول التشطير:
أمن تذكر جيران بذي سلم
جزمت أنك مقصور على الألم
وعندما هاجت الذكرى ولوعتها
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ورمضان حلاوة من علماء آخر القرن الثالث عشر، وأوائل الرابع عشر، وأول تشطيره:
أمن تذكر جيران بذي سلم
لبست ثوبا من الأشواق والألم
أم من عيون ظباء بالعقيق بدت
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وأبو الهدى الصيادي، وأحمد الحفظي، وعبد الرحيم الجرجاوي، ومحمد فرغلي الطهطاوي، وشطرها أخيرا سعادة عبد العزيز بك محمد، ومطلع تشطيره:
أمن تذكر جيران بذي سلم
فاضت شئونك ملتاعا لبينهم
أم من فؤادك مكلوما لوحشتهم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وقد نالته بركتها فعين وزيرا للأوقاف، ولعله يخمسها فيعين رئيسا للوزراء. (5)
وأما الذين خمسوها فيبلغ عدد من عرفنا أخبارهم نحو الثمانين، وفي دار الكتب المصرية مجموعة في تخاميس البردة تشتمل على تسعة وستين تخميسا، ومن أمثلة ذلك قول ناصر الدين الفيومي:
ما بال قلبك لا ينفك ذا ألم
مذ بان أهل الحمى والبان والعلم
وانحل مدمعك القاني بمنسجم
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ولم نر موجبا لعرض مطالع تلك التخميسات، فهي كثيرة، وقد شغلت نحو خمس صفحات من فهرس الأدب بدار الكتب المصرية، فمن احتاج إلى بيانها فليرجع إليها هناك.
ولكن لا بد من التنبيه إلى أن الذين خمسوا البردة لم يكونوا جميعا مصريين؛ ففيهم رجال من المغرب والشام والعراق، وفي هذا ما يدل على أنها شغلت الشعراء في أكثر الأقطار الإسلامية. (6)
ومن الذين سبعوها شهاب الدين أحمد بن عبد الله المكي، وقد التزم في أول كل تسبيع لبيت من أبيات البردة أن يذكر لفظ الجلالة، وأول التسبيع:
الله يعلم كم بالقلب من ألم
ومن غرام بأحشائي ومن سقم
على فراق فريق حل في الحرم
فقلت لما همى دمعي بمنسجم
على العقيق عقيقا غير منسجم
أمن تذكر جيران ... إلخ
وسبعها محمد المصري، وقد تقدم أنه من شراح البردة، والتزم في التسبيع أن يذكره أولا مصدرا بلفظ محمد، كقوله في المطلع:
محمد جاء بالآيات والحكم
مبشرا ونذيرا جملة الأمم
وهو معارضة للمكي الذي التزم لفظ الجلالة في أول تسبيع لكل بيت. (7)
وليس لتعشير البردة شواهد كثيرة، ولا نعرف غير نسخة ضمن مجموعة مخطوطة بدار الكتب المصرية، والناظم مجهول، وهذا النمط من توشية الشعر قليل. (8)
أما الذين عارضوا البردة، فيعدون بالعشرات، منهم والد مؤلف كتاب الكشكول،
2
ويمكن القول بأن جميع المدائح النبوية التي قيلت بعد البوصيري على الوزن والقافية كان أصحابها مسوقين بالروح البوصيرية، ولم يمض عصر إلا وللبردة فيه طراز، وأشهر من عارضوها أخيرا محمود سامي البارودي الذي سمى قصيدته: «كشف الغمة في مدح سيد الأمة» وعدد أبيات هذه القصيدة 447، والمطلع:
يا رائد البرق يمم دارة العلم
واحد الغمام إلى حي بذي سلم
وأحمد شوقي، وسمى قصيدته «نهج البردة»، وقد نظمها في سنة 1327ه، والمطلع:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وكان المرحوم الشيخ أحمد الحملاوي أسمعنا في درسه قصيدة سماها: «منهاج البردة» نظمها في طريقه إلى الحج، والمطلع:
يا غافر الذنب من جود ومن كرم
وقابل التوب من جان ومجترم
ومسبل الستر إحسانا ومرحمة
على العفاة بفيض الفضل والكرم
اقبل متابي واغفر ما جنته يدي
واستر عيوبي وباعدني عن التهم (9)
مات البوصيري سنة 696ه، وبعد موته بسنتين ولد أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن جابر الأندلسي، وكان ضريرا، ولكن لم تمنعه تلك العاهة القاسية من الرحلة إلى المشرق، فدخل مصر والشام، واستوطن حلب، ثم رجع إلى الأندلس فتوفي في ألبيرة في جمادى الآخرة سنة 780ه.
3
وقد افتتن ابن جابر بقصيدة البردة وظهر أثرها في شعره كقوله:
يا أهل طيبة في مغناكمو قمر
يهدي إلى كل محمود من الطرق
كالغيث في كرم والليث في حرم
والبدر في أفق والزهر في خلق
وقوله:
أما معاني المعاني فهي قد جمعت
في ذاته فبدت نارا على علم
كالبدر في شيم والبحر في ديم
والزهر في نعم والدهر في نقم
وقد شغل نفسه بمعارضة البردة، ولكن أي معارضة؟ لقد ابتكر فنا جديدا هو «البديعيات»، وذلك أن تكون القصيدة في مدح الرسول، ولكن كل بيت من أبياتها يشير إلى فن من فنون البديع، ومطلع هذه البديعية:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم
وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم
وقد رأى معاصرو ابن جابر قيمة هذا الفن، فتقدم صديقه أبو جعفر الألبيري لشرح بديعيته، واعترف له بالسبق؛ إذ قال في مقدمة الشرح: «نادرة في فنها، فريدة في حسنها، تجني ثمر البلاغة من غصنها، وتنهل سواكب الإجادة من مزنها، لم ينسج على منوالها، ولا سمحت قريحة بمثالها.»
وشرحها أبو جعفر بن يوسف الغرناطي الأندلسي المتوفى سنة 779ه واختصر هذا الشرح محمد بن إبراهيم البشتكي المتوفى سنة 830ه.
وهذه الشروح تمثل الحفاوة التي قوبلت بها تلك البديعية.
وفي عصر ابن جابر وضع صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750ه قصيدة سماها: «الكفاية البديعية في المدائح النبوية»، وأنشأ عز الدين الموصلي المتوفى سنة 789ه قصيدة بديعية، عقبها بشرح سماه: «التوصل بالبديع إلى التوسل بالشفيع»، وجاء ابن حجة الحموي المتوفى سنة 837ه، فنظم بديعية سنتكلم عنها بشيء من التفصيل، وجاء ابن المقري المتوفى سنة 837ه، فأنشأ بديعية سماها: «الجواهر اللامعة، في تجنيس الفرائد الجامعة للمعاني الرائعة»، ثم جاء السيوطي فعارض ابن حجة ببديعية سماها: «نظم البديع، في مدح خير شفيع»، ثم اندفع الناس في هذا الفن: فللسيدة الباعونية بديعيتان، ولأبي الوفاء بن عمر الفرضي بديعية، وللسيد عبد الهادي الإبياري بديعية، وللشيخ طاهر الجزائري بديعية، ولابن خير الله الخطيب العمري بديعية، ولعبد الغني النابلسي بديعيتان، ولقاسم بن محمد الحلبي بديعية، ولصدر الدين الحسيني بديعية، ولشعبان الآثاري بديعية.
4 (10)
ولأكثر هذه البديعيات شروح فيها الوسيط والوجيز والمبسوط وأكثر هؤلاء الشراح من المتفوقين في العلوم العربية، وفي شروحهم من الفوائد النحوية، والصرفية، والبلاغية، واللغوية، والأدبية، والتاريخية فنون أكثرها من المستملح المستطاب.
أرأيت أيها القارئ، كيف أثرت قصيدة البردة في اللغة العربية، وكيف ساد سلطانها بين العوام والخواص؟
إن الإخلاص هو الذي مكن البوصيري من ناصية المجد الأدبي، وهو الذي رفعه إلى منزلة الخلود.
الفصل الحادي عشر
بديعية ابن حجة الحموي1
موجز ترجمة الحموي - خزانة الأدب - كيف نظم الحموي بديعيته - اهتمامه بالمدائح النبوية - زهوه واختياله - أحكام ذوقية - نظراته في النقد - نموذج من نثره - أهمية خزانة الأدب - نقد بديعية الحموي. *** (1)
ولد أبو بكر تقي الدين بن علي بن عبد الله الحموي الأزراري
2
في حماة سنة 767ه، وتوفي بها سنة 837ه، وقد زار القاهرة واتصل بعلمائها وشعرائها وله في ذلك رسائل وأخبار يجدها القارئ مفرقة في كتابه «خزانة الأدب» الذي طبع بمطبعة بولاق سنة 1337ه. (2)
ترك ابن حجة طائفة من المؤلفات أكثرها موجود، بين مطبوع ومخطوط،
3
والذي يهمنا هو قصيدته البديعية وشرحها الذي سماه: «خزانة الأدب»، ولتلك القصيدة وذلك الشرح أهمية عظيمة، أما القصيدة فلجودتها بين البديعيات، وأما الشرح فلجمعه طرائف كثيرة من أدب القرن الثامن، وتكاد خزانة الأدب تعد من أجمل ما صنف في ذلك العهد، ولا يوازيها في الجمال إلا شرح لامية العجم للصفدي، فهذان المصنفان جمعا أخبارا كثيرة من أدب القرن الثامن، وهو في الواقع أدب هزيل، ولكن مؤرخ الأدب يحتاج إلى التعرف إلى جميع الفنون الأدبية، الغث منها والسمين.
ومن غريب ما لاحظت أنني أجد أنسا بهذين الكتابين قد لا أجده عند قراءة كتاب الأغاني، وقد جهدت في تعليل ذلك، ثم تبينت أن غرابة هذا الأدب من أسباب جاذبيته، فأكثر ما درسناه وما تلقيناه عن الأساتذة لا يكاد يخرج عما صنف في العصور الذهبية، ولو شئت لأضفت إلى ذلك أن هذين المصنفين يهتمان في الأغلب بأدب أهل مصر، وأهل الشام، ومزاج الأديب المصري مكون من هذين الأدبين، فلا بدع أن يجد عند الحموي والصفدي روحا لا يجده عند الأصفهاني. (3)
يحدثنا الحموي في صدر «خزانة الأدب» عن الظروف التي نظم فيها بديعيته فيقول:
وبعد فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه
صلى الله عليه وسلم
على منوال «طرز البردة» كان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة - جمل الله الوجود بوجوده - هو الذي ثقف لي هذه الصعدة، وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة، وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي - رحمه الله تعالى - التزم فيها بتسمية النوع البديعي، وورى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي - تغمده الله تعالى برحمته - لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل، غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع، ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي الأصبع، وربما رضي في الغالب بتسمية النوع، ولم يعرب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظما، فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه، ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام، وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام، فصرت أشيد البيت، فيرسم لي بهدمه، وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس، ويقول: بيت الصفي أصفى موردا، وأنور اقتباسا. فأسن كل ما حده الفكر، وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة، فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة، فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال.
وفي هذه الكلمات تصريح بأن نظم البديعية كان مما اقترحه الفقيه الكاتب محمد بن البارزي بعد أن وقف بدمشق على بديعية عز الدين الموصلي، وفيها أيضا تعريف بالطريقة التي نظمت بها البديعية، فقد كان الحموي ينظم والبارزي ينقد، وكانت المفاضلة بين بديعية الموصلي والحلي والحموي مما يهتم به ذلك الفقيه الأديب، فكان لا يسمح للناظم بالانتقال من بيت إلى بيت إلا بعد الاطمئنان إلى تفوقه على الموصلي والحلي، وذلك كله يبين ما في بديعية الحموي من التكلف والافتعال. (4)
والحموي - وإن نظم البديعية إجابة لاقتراح البارزي - كان من المولعين بنظم المدائح النبوية، وله في ذلك قصيدة اسمها: «أمان الخائف» قال في أولها:
شدت بكم العشاق لما ترنموا
فغنوا وقد طاب المقام وزمزم
وضاع شذاكم بين سلع وحاجر
فكان دليل الظاعنين إليكم
وجزتم بوادي الجزع فاخضر والتوى
على خده بالنبت صدغ منمنم
ولما روى أخبار نشر ثغوركم
أراك الحمى جاء الهوى يتنسم
ومنها:
فيا عرب الوادي المنيع حجابه
وأعني به قلبي الذي فيه خيموا
رفعتم قبابا نصب عيني ونحوها
تجر ذيول الشوق والقلب يجزم
4
ويا من أماتونا اشتياقا وصيروا
مدامعنا غسلا لنا وتيمموا
منعتم تحيات السلام لموتنا
غراما وقد متنا فصلوا وسلموا
يقولون لي في الحي أين قبابهم
ومن هم من السادات قلت هم هم
عريب لهم طرفي خباء مطنب
بدمعي وقلبي نارهم حين تضرم
أوري بذكر البان والرند والنقا
وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم
وفيها يقول في التخلص إلى مدح الرسول:
تقنعت في حبي لهم فتعصبوا
علي وهم سادات من قد تلثموا
لهم حسب عال ببطحاء مكة
لأن رسول الله في الأصل منهم
ويقول في ختام هذه القصيدة:
عسى وقفة أو قعدة لابن حجة
على بابكم يسعى بها وهو محرم
فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت
وقدرك في يوم الشفاعة أعظم
وقد ناله في عنفوان شبابه
هموم وسيف الهم للظهر يقصم
وعارضه قد شاب في زمن الصبا
عسى بك من ذا العارض الصعب يسلم
فيا وردنا الصافي طيور قلوبنا
عليك إذا ما نابها الضيم حوم
عليك سلام نشره كلما بدا
به يتغالى الطيب والمسك يختم
ولم نقف على هذه القصيدة كاملة، وما أثبتناه هنا ليس إلا شذرات جمعناها مما تفرق منها في خزانة الأدب، ولم نشر إلى هذه القصيدة إلا لندل على أن الحموي كان يتجه إلى هذا الفن، فإن بديعيته لم توضع في الأصل لمدح الرسول، وإنما هي قصيدة فنية مدح بها النبي مدحا صناعيا لتلحق بأمثالها من البديعيات، وبيان ذلك أن الشاعر لم يكن يهمه عند نظم البيت أن يبلغ مبالغ الصادقين في مدح الرسول، وإنما كان يهمه أن يجيد الإفصاح عما يقصد إليه من فنون البديع، وآية ذلك أنه لم يهتم في شرح البديعية بشيء يذكر من السيرة النبوية، وإنما وقف عند الفنون البديعية، ومجاراته للموصلي والحلي وقفت أيضا عند هذه الغاية، فلم ينظر فيها إلى المدح كما نظر إلى الفن؛ أعني علم البديع. والخلاصة أن خزانة الأدب - وهي مجلد ضخم يقع في 570 صفحة من القطع الكبير - لا يمكن على الإطلاق أن تعد كتابا في السيرة أو الشمائل النبوية، إنما هي كتاب في الأدب الصرف الذي قام على أساس المحسنات البديعية، ولم يفت هذا مصنفي فهارس دار الكتب المصرية، فقد وضعوها في فهرس البلاغة، ولم يرد لها ذكر في فهرس الأدب ولا فهرس التاريخ. (5)
والحموي في خزانته يزهو بنفسه ويختال، وهو يذكر بابن الأثير في كتاب المثل السائر، وإن كان ابن الأثير بالنسبة إليه من المتواضعين، وزهو الحموي يدلنا على أن النقد في عصره لم يكن قويا، ولو كان للنقد في زمانه سلطان لما أسرف في الاختيال. وإلى القارئ بعض الشواهد: (أ)
قال في براعة المطلع: «وأذكرني مهيار بحسن براعته ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة: صدر الدين، ملك المتأدبين، أبي الحسن علي بن الآدمي ... وهي رسالة مشتملة على نظم ونثر، فصدرت الجواب بقصيدة ترفل في حلل النسيب على طريق مهيار، وكلها براعة استهلال، أولها:
وصلت ولكن بعد طول تشوق
ودنت وقد رقت لقلبي الشيق
وما أحلى ما قلت بعده:
فثملت من طرب برجع حديثها
فكأنما قد نادمت بمعتق»
5 (ب)
وقال في الحديث عن إحدى قصائده النبوية: «ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزل صدر قصيدة نبوية قولي:
أوري بذكر البان والرند والنقا
وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم
ولم أزل في براعة الاستهلال أستهل أهلة هذه المعاني إلى أن وصلت إلى حسن التخلص.»
6 (ج)
وقال في تفضيل بديعيته: «وأما براعة بديعيتي، فإنها ببركة ممدوحها
صلى الله عليه وسلم
نور هذه المطالع، وقبلة هذا الكلام الجامع، فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت بأقراط غزلها الأسماع ... إلخ.»
7 (د)
وقال يتحدث عن إحدى قصائده: «وقلت بعد المطلع أخاطب النسيم بما هو أرق منه.»
8 (ه)
ويقول عن بعض مؤلفاته: «وقد عن لي أن أورد هنا ما سارت في الخافقين حكمه وأمثاله، وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لما ورد عليهم مثاله، وهو تأليفي الذي وسمته بتغريد الصادح.»
9
ولهذه الكلمات نظائر كثيرة في خزانة الأدب، وأرجو ألا يضجر القارئ من هذا الزهو، فهو صورة نفسية لشاعر وكاتب ومؤلف كان في زمانه من الأعلام، وليست مهمة الباحث أن يقدم ما يروق، ولكن مهمته أن يقيد المحاسن والعيوب. (6)
وللحموي أحكام ذوقية وأدبية لا نقبلها اليوم، فهو مثلا يستعذب هذا البيت:
يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف
ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف
10
ويستجيد هذا البيت:
أخرج حديثك من سمعي فما دخلا
لا ترم بالقول سهما ربما قتلا
وفي التعليق على هذا المطلع:
زار الصباح فكيف حالك يا دجى
قم فاستذم بفرعه أو فالنجا
يقول: «انظر إلى حسن هذا الابتداء، كيف جمع مع اجتناب الحشو بين رقة النسيب، وطرب التشبيب، وتناسب القسمين، وغرابة المعنى!»
11
ويرى مطلع ابن نباتة:
ما بت فيك بدمع عيني أشرق
إلا وأنت من الغزالة أشرق
أجود من مطلع المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق (7)
وله مع هذا نظرات دقيقة في النقد، من ذلك إنكاره أن يستهل ابن نباتة الخطيب خطبته في وفاة النبي بقوله: «الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه»،
12
وإن لم يكن أول من أنكر هذا الاستهلال. ومن ذلك أيضا استكراه الجناس؛ إذ يقول: «أما الجناس فإنه غير مذهبي، ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب، وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة، والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة.»
13
ويقول فيمن يؤثرون الجناس: «ولم يحتج إليه بكثرة استعماله إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ، وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية.»
14
وهو يرى - كما رأى ابن جني من قبله بأجيال - أن المولدين يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، ويؤكد أن لكل زمان بديعا، وأنه «ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد.»
15
واهتمامه بتدوين ما أثر عن أهل زمانه يؤيد هذا الرأي، فهو يوجز حين يستشهد بكلام القدماء، ويطنب حين يستشهد بكلام المحدثين. (8)
أما نثر الحموي فهو مملوء بالصنعة والزخرف، وفيه إشارات كثيرة إلى مصطلحات النحو والفقه والعروض، ويكفي هذا الشاهد في وصف البحر حين ركبه من الشام إلى مصر سنة 802ه. «وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر، وأحدث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج، وشاهدت منه سلطانا جائرا يأخذ كل سفينة غصبا، ونظرت إلى الجواري الحسان، وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى، فتحققت أن رأي من جاء يسعى في الفلك غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله، وقد قلت من شدة الظمأ: يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة!
وهل أباكر بحر النيل منشرحا
وأشرب الحلو من أكواب ملاح؟
بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف، وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقام مع، فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء استرقت مواليها وهي جارية، وغشيهم منها في اليم ما غشيهم، فهل أتاك حديث الغاشية؟ واقعها الريح فحملت بنا، ودخلها الماء فجاءها المخاض، وانشق قلبها لفقد رجالها، وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض، وتوشحت بالسواد في هذا المأتم، وسارت على البحر وهي مثل، وكم سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل ... إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود، وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، وتتشامم وهي كما قيل: أنف في السماء واست في الماء، وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء، فبها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم، وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدعي براءة الذمة، وكم أغرقت لهم من أموال. هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لما صار لأهداب مجاديفها على مقلة البحر اختلاج، وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها، وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها ... إلخ.»
16
وتلك كتابة كثيرة الافتنان، ولكنها قليلة المحصول. (9)
قلت: إن خزانة الأدب تمتاز بجمعها لطرائف كثيرة من أدب القرن الثامن، فلنذكر من شواهد ذلك ما أشار إليه المؤلف من معاني ابن نباتة التي أخذها الصلاح الصفدي، قال ابن نباتة:
ومولع بفخاخ
يمدها وشباك
قالت لي العين ماذا
يصيد قلت كراك
أخذه الصفدي فقال:
أغار على سرح الكرى عندما رمى ال
كراكي غزال للبدور يحاكي
فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه
ألم تنظريه كيف صاد كراك
وقال ابن نباتة:
اسعد بها يا قمري برزة
سعيدة الطالع والغارب
صرعت طيرا وسكنت الحشا
فما تعديت عن الواجب
أخذه الصفدي فقال:
قلت له والطير من فوقه
يصرعه بالبندق الصائب
سكنت في قلبي فحركته
فقال لم أخرج عن الواجب
وقال ابن نباتة:
وبمهجتي رشا يميس قوامه
فكأنه نشوان من شفتيه
شغف العذار بخده ورآه قد
نعست لواحظه فدب عليه
أخذه الصفدي فقال:
وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى
تميل حمامات الأراك إليه
له عارض لما رأى الطرف ناعسا
أتى خده سرا فدب عليه
وقال ابن نباتة:
بروحي عاطر الأنفاس ألمى
ملي الحسن حالي الوجنتين
له خالان في دينار خد
تباع له القلوب بحبتين
أخذه الصفدي فقال:
بروحي خده المحمر أضحت
عليه شامة شرط المحبه
كأن الحسن يعشقه قديما
فنقطه بدينار وحبه
ولما وقف ابن نباتة على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله! الشيخ صلاح الدين سرق - كما يقال - من الحبتين حبة!
ولهذا الحديث بقية يجدها القارئ في ص348 و351 من خزانة الأدب، وهو في الأصل منقول عن كتيب لابن نباتة اسمه: «خبز الشعير».
ودرس كتاب الحموي يعطي صورا كثيرة من أدب القرن الثامن، والمؤلف يدون أخبار ذلك العهد في حماسة قوية تمثل إعجابه بأدب الصنعة في تلك الأيام.
ويزيد في قيمة ما في هذا الكتاب من فنون الاستطراد أنه يتحدث عن علماء وشعراء وكتاب لم يبق من آثارهم إلا القليل. (10)
وفي هذه الخزانة ألفاظ تستحق الدرس، من ذلك لفظة «أنفعل» في الصفحة الخامسة إذ يقول المؤلف: «وأما قصة إسحق بن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها»، ولفظة «استهليتها» في ص23، والصواب «استهللتها» وليست غلطة مطبعية، بل هي من غلط المؤلف، بدليل أنها لا تزال مستعملة في الأزهر؛ إذ يقول الأشياخ في دروس البيان: «اشتقينا» في مكان «اشتققنا»، واللغة العامية تؤيد هذا الغلط، فالناس يقولون مثلا: «استقلينا هذه الكمية»، ويندر أن يفكوا إدغام المثلين.
وكلمة «لالا» في ص30 إذ يقول المؤلف: ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح، وله «لالا» مليح:
ومليح لالاه يحكيه حسنا
فهو كالبدر في الدجى يتلالا
قلت قصدي من الأنام مليح
هكذا هكذا وإلا فلا لا
وكلمة «سافل» يكثر ورودها في الخزانة بمعنى ضعيف كقوله: «يشير إلى تقريظ كتبه لبعض أهل الأدب على مصنف سافل»، وهي تقابل كلمة
inferieur
الفرنسية، وكانت في ذلك الحين كلمة خفيفة، وهي اليوم من صور السباب. (11)
إلى هنا عرف القارئ أشياء عن ابن حجة وعن كتابه «خزانة الأدب»، فلنأخذ في نقد بديعيته في مدح الرسول، وهي تقع في اثنين وأربعين ومائة بيت، وهو عدد ما اهتم بعرضه من ضروب البديع، وهذه المناسبة العددية بين أبيات القصيدة وبين الفنون البديعية ترينا أن المؤلف لم يهتم بالمدح النبوي اهتمامه بالبديع، وإن كان لا يزال يتذكر أن قصيدته مدحة نبوية فقد رأيناه يقول: إنها ببركة ممدوحها نور هذه المطالع.
وإعجاب الحموي بقصيدته لا يمنعنا من القول بخلوها من النفحات الشعرية، فليست إلا منظومة تذكر بأمثالها من منظومات «المتون»، وأهميتها ترجع إلى الناحية التعليمية، ولنسارع فنختبر النسيب في هذه البديعية.
لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم
براعة تستهل الدمع في العلم
بالله سر بي فسربي طلقوا وطني
وركبوا في ضلوعي مطلق السقم
ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي
يسعى معي فسعى لكن أراق دمي
وذيل الهم همل الدمع لي فجرى
كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم
يا سعد ما تم لي سعد يطرفني
بقربهم وقليل الحظ لم يلم
هل من يفي ويقي إن صحفوا عذلي
وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم
قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا
لفظي عذل ملا الأسماع بالألم
أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم
يا معنوي فهدوني بجورهم
يكفي هذا للاستشهاد، فنسيب القصيدة كله من هذا القبيل، والمهم أن ندل القارئ على قيمة هذا النسيب، فهل رأى فيه معنى جيدا، أو لفظا طريفا؟ وهل يمكن الربط بين المعاني في أمثال هذه الأبيات؟ إن الشاعر نفسه لم يشرح معانيها في كتابه؛ لأنه لم يرد بها التشبيب، وإنما وقف عند ما قصد إليه من ضروب البديع، وهو نفسه حين فاضل بين أبياته وأبيات الموصلي والحلي لم يتحدث عن معاني النسيب، وإنما تحدث عن تأدية الفنون البديعية. والصنعة تظهر بصورة أوضح في مثل هذين البيتين في مخاطبة العذول:
يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا
توارب العقل مني واستفد حكمي
جمع الكلام إذا لم تغن حكمته
وجوده عند أهل الذوق كالعدم
فالبيت الأول تكلفه الشاعر ليشير إلى المواربة، والبيت الثاني حكمة مفتعلة أشار بها إلى الكلام الجامع، وأظهر من هذين في التعمل قوله في التذييل والتفويف:
والله ما طال تذييل اللقاء بهم
يا عاذلي وكفى بالله في القسم
خشن ألن إحزن افرح امنع اعط أنل
فوف أجد وش رقق شد حب لم
ولا موجب للوم الشاعر على هذا الكلام الثقيل، فقد أنصف من نفسه حين قال في شرح البيت الثاني: «التفويف تأملته فوجدته نوعا لم يفد غير إرشاد ناظمه إلى طريق العقادة، والشاعر إذا كان معنويا وتجشم مشاقه تقصر يده عن التطاول إلى اختراع معنى من المعاني الغريبة وتجفوه حسان الألفاظ، ولم يعطف عليه برقة، وتأنف كل قرينة صالحة أن تسكن له بيتا.»
ومعنى هذا أنه لم يقصد بنظمه غير التمثيل للنوع البديعي، أما هو فلا يراه من ألوان البيان، ولكن هذا الشرح وما فيه من تكلف التخيل جاء أثقل من التفويف!
ومما يؤكد أن الصنعة هي المقصودة من هذه المنظومات أن الحموي عاب قول الحلي:
لا لقبتني المعالي بابن بحدتها
يوم الفخار ولا بر التقى قسمي
وقال: «فيه نقص؛ لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأت ناظمه بجواب القسم إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده، وهو:
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة
من القوافي تؤم المجد عن أمم
وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلق بما بعده أو بما قبله لا يصلح أن يكون شاهدا على ذلك النوع.»
17
وهو بهذا التعقب يدلنا على أن أصحاب البديعيات كانت لهم تقاليد، منها أن يكون كل بيت شاهدا على نوعه بمجرده، ولا ندري كيف لا يصلح البيت أن يكون شاهدا على النوع المقصود إذا كان له تعلق بما بعده أو بما قبله، إن ذلك لمظهر جديد من تكلف أصحاب البديعيات. (12)
فإذا تجاوزنا النسيب إلى المديح رأيناه يتخلص فيقول:
ومن غدا قسمه التشبيب في غزل
حسن التخلص بالمختار من قسمي
محمد ابن الذبيحين الأمين أبو ال
بتول خير نبي في اطرادهم
عين الكمال كمال العين رؤيته
يا عكس طرف من الكفار عنه عمي
أبدى البديع له الوصف البديع وفي
نظم البديع حلا ترديده بفمي
كررت مدحي حلا في الزايد الكرم اب
ن الزايد الكرم ابن الزايد الكرم
وهذه القطعة تكفي لبيان ما في المديح من تكلف، وهو مديح غير مقصود لذاته، وإنما أريد به الوصول إلى عرض فنون البديع؛ فالبيت الأول في التخلص، والثاني في الاطراد، والثالث في العكس، والرابع في الترديد، والخامس في التكرار. فالناظم يلتزم كلمة خاصة في كل بيت، ويلتزم بجانب ذلك التمثيل، وهذا وذاك من موجبات التكلف والافتعال، والقصيدة كلها على هذا النمط فلا موجب للإسهاب.
الفصل الثاني عشر
مدائح ابن نباتة المصري
موجز ترجمة ابن نباتة - غلبة البديع على شعره - تحليل الهمزية - تحليل الرائية - تحليل العينية - تحليل اللامية - نقد الميمية - خلاصة القول في مدائح ابن نباتة. *** (1)
ابن نباتة المصري جمال الدين محمد بن محمد: شاعر مكثر من شعراء القرن الثامن، ولد بالقاهرة في زقاق القناديل في ربيع الأول سنة 686ه، وتوفي يوم الثلاثاء من صفر سنة 768ه بالبيماريستان المنصوري، ودفن خارج باب النصر بتربة الصوفية. وليتنبه القارئ إلى كلمة «تربة الصوفية» فهي من الدلائل على غلبة التصوف في ذلك الزمان. (2)
وأهم ما ترك ابن نباتة في المدائح النبوية خمس قصائد: الأولى همزية مطلعها:
شجون نحوها العشاق فاءوا
وصب ما له في الصبر راء
والثانية رائية ومطلعها:
صحا القلب لولا نسمة تتخطر
ولمعة برق بالغضا تتسعر
والثالثة عينية، ومطلعها:
يا دار جيرتنا بسفح الأجرع
ذكرتك أفواه الغيوث الهمع
والرابعة لامية، ومطلعها:
ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول
هذا وكم بيننا من ربعكم ميل
والخامسة ميمية، ومطلعها:
أوجز مديحك فالمقام عظيم
من دونه المنثور والمنظوم (3)
وهذه المدائح كسائر شعر ابن نباتة تغلب عليها فنون البديع، وكانت هذه الفنون غلبت على الشعر كله في تلك الأيام، فلا ينس القارئ أن هذا كان منتهى البلاغة عند شعراء القرن الثامن، وليتذكر أن موقفنا من هذه الفنون ليس موقف اللائم، ولكنه موقف المؤرخ، وما نستهجنه اليوم من هذه الفنون كان الظفر بنكتة منه غاية ما يصبو إليه كبار الشعراء في ذلك الحين. (4)
تقع الهمزية في تسعة وستين بيتا، منها ستة عشر في النسيب، والنسيب في هذه القصيدة تافه، والشاعر يفرح بالنكتة اللفظية كأن يقول:
ولاح ما له هاء وميم
له من صبوتي ميم وهاء
ويسره أن يغرب في التشبيه فيقول:
كأن الحب دائرة بقلبي
فحيث الانتهاء الابتداء
ومدح النبي في هذه القصيدة تافه أيضا؛ فهو يتحدث عن نار المجوس كما تحدث سواه فيقول:
وفي نار المجوس لنا دليل
لأنفسهم بها ولها انطفاء
ويتوهم أن ناسا ينكرون ذلك فيقول:
فقل للملحدين تنقلوها
جحيما إننا منكم براء
وإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وفي هذا ما يشعر بأنه كان يعارض همزية حسان بن ثابت.
ويذكر أن نور النبي أصل لنور الشمس :
وأين الشمس منه سنا ولولا
سناه لما ألم بها سناء
وأنه يحارب بالدعاء وبالرأي وبالجيش:
سهام دعا له وسهام رأي
لها في كل معركة مضاء
درى ذو الجيش ما صنعت ظباه
وما يدريه ما صنع الدعاء
ويذكر أن الناس كانوا يحجون البيت بسره قبل أن يولد بأزمان فيقول:
ولولاه لما حجت وعجت
وفود البيت ضاق بها الفضاء
فإن يتلى له في الحج حمد
فقدما قد تلته الأنبياء
ومن اللعب بالألفاظ هذان البيتان:
ونفس ذنبها كالنيل مدا
وما لوعود توبتها وفاء
مسوفة متى وعدت بخير
تقل سين وواو ثم فاء (5)
وتقع الرائية في تسعين بيتا، منها سبعة وثلاثون في النسيب، وهي خير ما قال في المدائح النبوية، وربما كانت خير ما في ديوانه من الشعر الجيد. وتمتاز هذه القصيدة بوضوح المعاني وقوة السبك، وفيها كذلك إشارة لبعض لفتات القدماء، ولا بد أن يكون معاصرو ابن نباتة تلقوها بكثير من القبول؛ لأنها بعث لروعة الشعر القديم، ولننظر كيف يقول:
صحا القلب لولا نسمة تتخطر
ولمعة برق بالغضا تتسعر
وذكر جبين البابلية إذ بدا
هلال الدجى والشيء بالشيء يذكر
سقى الله أكناف الغضا سائل الحيا
وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر
وعيشا نضا عنه الزمان بياضه
وخلفه في الرأس يزهو ويزهر
تغير ذاك اللون مع من أحبه
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
وكان الصبا ليلا وكنت كحالم
فيا أسفي والشيب كالصبح يسفر
يعللني تحت العمامة كتمه
فيعتاد قلبي حسرة حين أحسر
وينكرني ليلي وما خلت أنه
إذا وضع المرء العمامة ينكر
والقارئ يجد في هذا الشعر العذب كلمات «الغضا» و«البابلية»، ويجد «ومن ذا الذي يا عز لا يتغير»، ويجد «صحا القلب»، ويجد «العمامة»، وكل أولئك إشارات إلى معان تحدث عنها الشعراء الأقدمون.
وكذلك تطرد العذوبة في قوله بعد أبيات:
وغيداء أما جفنها فمؤنث
كليل وأما لحظها فمذكر
يروقك جمع الحسن في لحظاتها
على أنه بالجفن جمع مكسر
من الغيد تحتف الظبا بحجابها
ولكنها كالبدر في الماء يظهر
يشف وراء المشرفية خدها
كما شف من دون الزجاجة مسكر
ولا عيب فيها غير سحر جفونها
وأحبب بها سحارة حين تسحر
إذا جردت من بردها فهي عبلة
وإن جردت ألحاظها فهي عنتر
ومع حلاوة هذا الشعر فإنا لا نفهم جيدا كيف يؤنث الجفن ويذكر اللحظ، ولعله يريد فتور الجفن، وفتك اللحظ، والجمع المكسر في البيت الثاني فيه إشارة لطيفة. وقوله:
يشف وراء المشرفية خدها
كما شف من دون الزجاجة مسكر
فيه معنى جميل، و«المشرفية» هي اللثام، ولم أرها عند غير ابن نباتة، وهي كلمة مولدة، والبيت الأخير فيه تلاعب بالألفاظ، ولكنه مع ذلك مقبول.
وابن نباتة مغرم بأمثال هذه الألاعيب اللفظية، ونراه يقول في هذه القصيدة وهو يصف الناقة التي حملته إلى أرض الحجاز حيث قبر الرسول:
إذا ما حروف العيس خطت بقفرة
غدت موضع العنوان والعيس أسطر
فلله حرف لا ترام كأنها
لوشك السرى حرف لدى البيد مضمر
ومن أسماء الناقة: الحرف، فرأى الشاعر أن يجعل العيس أسطرا، وأن يجعل ناقته موضع العنوان، أما الحرف المضمر فوصف جميل، وإن لم يعرفه النحاة.
ثم يأخذ في مدح النبي فيبدأ بمعنى ساذج؛ إذ يذكر أن النبي تم مجده قبل أن يخلق آدم، وذلك قوله:
نبي أتم الله صورة فخره
وآدم في فخاره يتصور
وفي هذا البيت جناس سخيف.
ويجعل من شرفه أن جبريل خادمه، وأن عيسى بشر به، فيقول:
تحزم جبريل لخدمة وحيه
وأقبل عيسى بالبشارة يجهر
فمن ذا يضاهيه وجبريل خادم
لمقدمه العالي وعيسى مبشر
وعبارة «تحزم لخدمته» لا تزال حية في لغة التخاطب.
ويتحدث عن تهاوي النجوم ونضوب بحيرة ساوة ليلة مولده، كما تحدث غيره، فيقول:
تهاوى لمأتاه النجوم كأنها
تشافه بالخد الثرى وتعفر
وينضب طام من بحيرة ساوة
ولم لا وقد فاضت بكفيه أبحر
ويتمثل نوره يتنقل بين الأصلاب الكريمة، ويرى قوة إبراهيم وثورته على الأصنام فيضا من فضله، وكذلك يجعله السر في فدى الذبيحين ورد جيوش الفيل، وذلك قوله:
تنقل نورا بين أصلاب سادة
فلله منه في سما الفضل نير
به أيد الطهر الخليلي فانتحت
يداه على الأصنام تغزو وتكسر
ومن أجله جيء الذبيحان بالفدى
وصين دم بين الدماء مطهر
وردت جيوش الفيل عن دار قومه
فلله نصل قبل ما سل ينصر
والقصيدة على طولها ليس فيها جديد؛ فهي معان مكررة تعاورها المادحون من قبل، وقد ختمت القصيدة بقطعة جزلة توسل فيها الشاعر بالرسول، واستعداه على ما يقاسي من الذل والاغتراب. (6)
وتقع العينية في ثمانية وثمانين بيتا، منها ستة وعشرون في النسيب، والنسيب في هذه القصيدة ضعيف، والشاعر يمضي فيه على ما ألف من الإشارات، كان يقول:
بانت سعاد فليت يوم رحيلها
فسح اللقا فلثمت كعب مودعي
يشير إلى «سعاد» في قصيدة كعب بن زهير، والمدح في هذه القصيدة ضعيف أيضا، وهو فيه يقتبس بعض التعابير القديمة كقوله:
ماذا عسى المدح الطهور يدير من
كأس الثنا بعد الكتاب المترع
بعد الحواميم التي بثنائها
هبطت إليك من المحل الأرفع
والشطر الأخير من قصيدة ابن سينا في النفس.
والشاعر مفتون بهذه القصيدة، ويرى نفسه خليفة حسان فيقول:
إن كنت حسانا بمدحك نائبا
فسناك أرشده وقال لي اتبع
وفي القصيدة قطعة طويلة بكى فيها الشاعر صباه، وتألم من غفلته بعد الشيب عن المتاب. (7)
أما اللامية فتقع في تسعة وسبعين بيتا، منها خمسة وعشرون في النسيب، وهي قصيدة نظمها الشاعر معارضة لقصيدة بانت سعاد، وقد اقتبس من لامية كعب شطرات كثيرة، كقوله:
ما يمسك الهدب دمعي حين أذكركم
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
وهو مقتبس من قول كعب:
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
وقوله:
باتت زخارفها بالصبر واعدة
وما مواعيدها إلا الأباطيل
وهو مقتبس من قول كعب:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
وما مواعيدها إلا الأباطيل
وهو نفسه قد أفصح عما يؤكد هذه المعارضة إذ قال:
يا خاتم الرسل لي في المذنبين غدا
على شفاعتك الغراء تعويل
إن كان كعب بما قد قال ضيفك في
دار النعيم فلي في الباب تطفيل
وأين كابن زهير لي شذا كلم
ربيعها بغمام القرب مطلول
بانت معاذير عجزي عن نداك وعن
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
والنسيب في هذه القصيدة لا يخلو من روعة، كقوله في خطاب الأحباب:
يا باعثين سهادا لي وفيض بكا
مهما بعثتم على العينين محمول
هبكم منعتم جفوني من خيالكم
فكيف يمنع تذكار وتخييل
في ذمة الله قلب يوم بينكم
موزع ودم في الحب مطلول
شغلتم بصباح الأنس مبتسما
وناظري بظلام الليل مشغول
كأنما الأفق محراب عكفت به
والنيرات بأفقيه القناديل
وقوله: «مهما بعثتم على العينين محمول» من التعابير الحية في القرى المصرية.
ومن الكلام المقبول قوله في تفدية زمن الوصل:
يفدي الزمان الذي في عامه قصر
هذا الزمان الذي في يومه طول
أما قوله:
لو كنت أرتاع من عذل لروعني
سيف المشيب برأسي وهو مسلول
أما ترى الشيب قد دلت كواكبه
على الطريق لو ان الصب مدلول
حتام أسأل عن لهو وعن لعب
وفي غد أنا عن عقباه مسئول
فهو مسايرة للبوصيري في قصيدته الميمية.
فإذا انتقلنا إلى المديح رأيناه يعود إلى معانيه الماضية فيذكر أن محمدا جبل معنى نبوته قبل أن يجبل آدم، وأن تاج علاه ارتفع قبل أن يرتفع ضوء البدر والنجم، فيقول:
محمد المجتبى معنى جبلته
وما لآدم طين بعد مجبول
والمجتلى تاج علياه الرفيع وما
للبدر تاج ولا للنجم إكليل
ولا يكتفي بهذه الدعوى، بل يدعي أنه لولا النبي لم تخلق الأرض ولا الأفق ولا الزمان ولا الناس ولا المناسك، ولا كان في الدنيا وحي ولا تنزيل، وأن أبرهة لم ينهزم إلا بسره، وذلك حيث يقول:
لولاه ما كان أرض ولا أفق
ولا زمان ولا خلق ولا جيل
ولا مناسك فيها للهدى شهب
ولا ديار بها للوحي تنزيل
ذو المعجزات التي ما اسطاع أبرهة
يغزو منازلها كلا ولا الفيل
ويعود إلى ما تحدث عنه في الرائية من خدمة جبريل فيقول:
ما زال في الخلق ذا جاه وذا خدم
لكن خادمه المشهور جبريل
وقد سره أن يكون أبرهة انهزم بسر النبي قبل مولد النبي فعاد إليه في القصيدة نفسها مرة ثانية، فقال:
حامي حمى البيت بالرعب المقدم ما
ناواه أبرهة العادي ولا الفيل
وتحدث كما تحدث قبله ناس عن فيض الماء من أصابع النبي، وبركة ما مست راحته من الزاد، وما خاطبته به الوحوش، فقال:
فاض الزلال المهنى من أصابعه
نعم الأصابع من كفيه والنيل
وبورك الزاد إذ مسته راحته
فحبذا مشرب منها ومأكول
وخاطبته وحوش البيد مقبلة
فالرجل عاسلة واللفظ معسول
وفي هذه القصيدة قطعة في مدح أصحاب الرسول، نظر فيها الشاعر إلى معاني كعب ومعاني البوصيري، فليس فيها جديد، ومن أظهر الشواهد على ذلك أن البوصيري يقول:
والكاتبون بسمر الخط ما تركت
رماحهم حرف شرك غير منعجم
فيجيء ابن نباتة فيقول:
الكاتبون من الأجسام ما اعتبرت
سود وبيض فمنقوط ومشكول
ومن الغرام بالإشارات الاصطلاحية قوله في وصف الرسول:
مجاهدا في سبيل الله مصطبرا
على الجراح وبعض الجرح تعديل
يشير إلى بعض القواعد في علم مصطلح الحديث. (8)
أما الميمية فهي أقصر مدائحه وأضعفها، ولم يبتدئها بالنسيب كما فعل في أخواتها من قبل، ولم يأت فيها بمعنى طريف، وإنما أعاد الحديث عن نار كسرى، وذكرنا بألاعيبه اللفظية حين قال:
بمقامك المرفوع يخفض ذنبنا ال
منصوب إن رجاءنا المجزوم (9)
وخلاصة القول أن ابن نباتة كان من المولعين بالمدائح النبوية كأهل عصره، وله في ذلك قصائد بعضها جيد وبعضها ضعيف. ويجب أن نتذكر أن ابن نباتة كان من المفتونين بالمجون، وفي ديوانه مقطوعات كثيرة فيها دعارة وفسق، وفيها تزيين للإثم والغواية، وتلك اتجاهات نفسية توحي إلى من كان في مثل رقة حسه أن يفزع إلى الندم والمتاب، وكذلك نجد في مدائحه رقة المستغفر المنيب، ولا ينقض ذلك أن يكون شعره ضعيفا في الاستغفار والإنابة، فإن ذلك الضعف لا يرجع إلى قيمة الصدق في توبته، ولكنه يرجع إلى ضعف الشاعرية عند ابن نباتة، فلن نرى شعره في أصدق مواقفه أقوى من شعره في استغفاره وإنابته، وعودته إلى مدح الرسول من حين إلى حين تؤكد ميل نفسه إلى هذا الفن، وتدل على رغبته في الخلاص من آصار الذنوب.
ولا ننس النص على أن اهتمامه بمعارضة قصيدة كعب والإشارة إلى همزية حسان يدل على سيرورة تلك القصائد، وقربها من أذهان الناس، وعدها من أصول المدائح النبوية.
ولننص أيضا على أن جامع ديوان ابن نباتة رتبه على حروف المعجم، ورأى أن يجعل ما قيل في مدح الرسول رأس الباب؛ فالهمزية هي أولى القصائد في باب الهمزة، والرائية أولى القصائد في باب الراء، وهكذا، وفي ذلك ما يدل على منزلة المدائح النبوية في أنفس مصنفي الدواوين.
وأغرب ما لاحظناه أن ابن نباتة لم يشغل نفسه بمعارضة ميمية البوصيري، مع أنها كانت شغل الشعراء في ذلك الحين، فدل بذلك على أنه استقل عن الروح السائد في عصره بعض الاستقلال.
خاتمة الكتاب: قصة المولد النبوي
(1)
هذه القصة نوع من المدائح النبوية، وهي ليست قديمة العهد في التاريخ الإسلامي، وإن زعم بعض مؤلفي الموالد أن النبي أوصى في حياته بأن يحتفل المسلمون بمولده بعد أن يموت، وأغلب الظن أن الاحتفال بالمولد نشأ في بلاد فارس. وأقدم ما وصلت إليه في تاريخ هذا النوع من الاحتفال ما قرأته في نفح الطيب عن ابن دحية، وقد مر بأربل سنة 604ه ورأى مظهر الدين كوكبري معتنيا بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول من كل عام، فصنف له كتابا سماه: «التنوير في مولد السراج المنير» وختمه بقصيدة طويلة فأجازه مظهر الدين بألف دينار.
1
ومن المؤكد أن تأليف الموالد أقدم من ذلك؛ فقد استعملت لفظة «مولد» بمعنى «تاريخ» منذ عهد بعيد، وللواقدي كتاب اسمه: «مولد الحسن والحسين». (2)
لا جدال في أن المسلمين اهتموا منذ عهد بعيد بتدوين أخبار الرسول، أما وضع القصص الخيالية عن مولده ونبوته وأزواجه وغزواته، فهو من عمل الصوفية، وهم الذين اتخذوا قصة مولده أحبولة يتصيدون بها أهواء الناس. والذي ينظر في تقاليد الصوفية يراهم أدخلوا المولد في صميم الحياة الدينية؛ أي جعلوه عنصرا أصيلا في الحفلات الشعبية، فتقرأ القصة في ربيع الأول وفقا للتقاليد الرسمية ، ثم تقرأ في كل وقت حين تخلق المناسبات، كحفلات التهاني وحفلات الأعراس، وقد صار الاحتفال بالمولد من الأعياد الرسمية في مصر بفضل الدعاية الصوفية.
ولم نستطع الوصول إلى معرفة أول من ألف في الموالد، فليكتف القارئ الآن بأن يعرف أن من أقدم ما عرفنا من هذا النوع كتاب «العروس»، وهو مولد ألفه ابن الجوزي المتوفى سنة 597ه، ورسالة ابن جابر الأندلسي المتوفى سنة 780ه، ورسالة الرعيني الغرناطي المتوفى سنة 779ه.
وفي دار الكتب المصرية نحو أربعين مولدا ألفت في عصور مختلفة، ولو استقصينا لعرفنا أن هذا النوع من التأليف كثر جدا؛ فلكل طريقة مولد، بل لكل شيخ مولد، وهي جميعا تتشابه في الغرض والأسلوب. (3)
ولننص على أن أكثر الموالد نظم في نثره نظما غنائيا ليصلح للترتيل والتغني والإنشاد، ولم يرج بين الجمهور إلا الموالد التي روعي فيها نظام الفواصل المسجوعة التي تجري مجرى القصيد في التزام القافية، ولنذكر لذلك شاهدين:
الشاهد الأول قول البرزنجي:
وظهر عند ولادته خوارق وغرائب غيبية؛
إرهاصا بنبوته وإعلاما بأنه مختار الله تعالى ومجتباه؛
فزينت السماء حفظا ورد عنها المردة وذوو النفوس الشيطانية،
ورجمت رجوم النيرات كل رجيم في حال مرقاه،
وتدلت إليه
صلى الله عليه وسلم
الأنجم الزهرية،
واستنارت بنورها وهاد الحرم ورباه،
وخرج معه
صلى الله عليه وسلم
نور أضاءت له قصور الشام القيصرية،
فرآها من ببطاح مكة داره ومغناه،
وانصدع إيوان كسرى بالمدائن الكسروية،
الذي رفع أنوشروان سمكه وسواه،
وسقط أربع وعشر من شرفاته العلوية،
وكسر سرير الملك كسرى لهول ما أصابه وعراه،
وخمدت النيران المعبودة بالممالك الفارسية،
لطلوع بدره المنير وإشراق محياه،
وغاضت بحيرة ساوة وكانت بين همذان وقم من البلاد العجمية،
وجفت إذ كف واكف موجها الثجاج ينابيع هاتيك المياه،
وفاض وادي سماوة وهي مفازة في فلاة وبرية،
ولم يكن بها من قبل ما ينقع للظمآن اللهاة.
والشاهد الثاني قول المناوي:
2
وفي أول ليلة من ليالي حمله
صلى الله عليه وسلم
أغلقت أبواب الجحيم، وفتحت أبواب الجنان الرضوانية،
واطلع الحي القيوم وتجلى برحمته ورضوانه التجلي العام،
واهتز العرش طربا ومال الكرسي عجبا وانتشرت الرايات الربانية،
وتلألأت الكائنات بالأنوار، وتنكست على رءوسها الأصنام،
ونطقت دواب قريش بالمقالات العربية،
وقالت حمل برسول الله
صلى الله عليه وسلم
ورب الكعبة فهو إمام الدنيا وسراج الأنام،
وفرت وحوش المشارق إلى وحوش المغارب بالبشائر القولية،
وبشرت حيتان البحر بعضها بعضا بظهور مصباح الظلام،
ونادى لسان حال الكائنات جاءنا اليسر بعد الشدائد العسرية،
وظهر إمام العدل والرقيب من الحواسد نام،
ولم تجد أمه في حمله وحما ولا تعبا ولا كربية،
ولا ثقلا، ولا هزلا، ولا مس آلام،
وكان بدء حمله
صلى الله عليه وسلم
في ليلة جمعة من الليالي الرجبية،
وانتهاؤه في شهر ربيع الأول ليلة الاثنين الثاني عشر من الأيام،
وكان
صلى الله عليه وسلم
وهو في بطن أمه يسبح ويقدس ذات ربه الوحدانية،
فكانت السيدة تسمع تسبيحه وتقديسه وهو في بطنها، فسبحوا من لا ينام. (4)
ويضاف إلى هذه المنظومات النثرية منظومات شعرية ينشدها المنشدون بعد كل وصلة، والوصلة تختم بدعاء مكرر كأن يقول المناوي:
اللهم عطر قبره بالتعظيم والتحية،
واغفر لنا ذنوبنا والآثام.
وتلك المنظومات الشعرية ساذجة في ألفاظها ومعانيها؛ فهي ليست من الأدب الفحل، ولكن قيمتها ترجع إلى عمق أثرها في البيئات الشعبية. (5)
ومن التحامل أن ننكر قيمة هذه الموالد من الوجهة الأدبية؛ فقد نقلت إلى الجماهير شيئا من أخبار الغزوات، وحدثتهم عن أشياء كثيرة من شمائل الرسول، ثم صارت مع الزمن عنصرا من الحياة الغنائية، وأصبحنا نفتح دفتر التليفون فنجد أسماء كثيرة لناس يحترفون إنشاد قصة المولد النبوي، وهي حرفة شريفة لأن أهلها في الأغلب ينتظر منهم أن يكونوا من الأتقياء الصالحين. ومع أن الغناء تحول في الأيام الأخيرة إلى الأوساط العصرية فإنه لا يزال للشيخ علي محمود، والشيخ إسماعيل سكر، والشيخ حسن جابر، سلطان عظيم في الأوساط الشعبية. ومحطة الإذاعة الحكومية في مصر تهتم بدعوة أمثال الشيخ علي محمود والشيخة منيرة عبده لتلاوة الموالد النبوية، فينشدون قصائد بعضها في الحب، وبعضها في مدح الرسول، والجمهور يتلقى ذلك بكثير من الارتياح.
والواقع أن أكثر المغنين المشهورين كانوا في البداية من الذين ينشدون في حلقات الذكر ويقرءون قصة المولد النبوي. (6)
ولا بد من الإشارة إلى أن روح التشيع سرى إلى بعض من يقرءون قصة المولد النبوي بدون أن يتنبهوا إلى ذلك؛ فقد سمعت منهم قصائد في التفجع لمصرع الحسين.
والتصوف والتشيع يرجعان عند المسلمين إلى أصل واحد ولا يفصل بينهما إلا حاجز غير حصين من الرسوم والتقاليد. (7)
والذي يراجع الموالد النبوية يجدها مملوءة بالخرافات والأضاليل، وقد احتمل الناس لغوها زمنا طويلا؛ لأنها لم تكن تتلى إلا في البيئات العامية التي تصدق كل شيء، ولكن اتفق أخيرا أن أذاع وزير الأوقاف السابق سعادة محمد نجيب الغرابلي باشا في شهر ربيع الثاني سنة 1353ه كتابا في الصحف بين فيه أن الصيغ التي وضعت للمولد النبوي صيغ قديمة كانت تتفق في روحها وأسلوبها وألفاظها مع العصور التي وضعت فيها، ولكنها لا تتفق مع العصور الحالية، وأنها حشيت بقصص ضعيفة السند لا تصور المعروف من مولد الرسول وحياته في صورته الصحيحة. ثم دعا أهل العلم إلى وضع صيغة جديدة للمولد يراعى فيها أولا تحري الأخبار الصحيحة الثابتة عن مولد الرسول وحياته، وثانيا اتفاق الصيغة في روحها وأسلوبها مع العصر الحاضر، ثم وعد بتقديم مائة جنيه لمن يقدم أفضل صيغة للمولد النبوي.
وقد قوبل كتاب وزير الأوقاف بالترحيب من الهيئات العلمية والأدبية، ولكن الدكتور طه حسين كتب يناقشه في جريدة الوادي في العدد الذي صدر مساء الأربعاء أول أغسطس سنة 1934م، ومع أن الدكتور طه حسين كتب مقاله وهو متأثر بالمعارضة الحزبية لذلك الوزير، فإن مقاله على ما فيه من عنف يفسر حياة تلك الموالد في الجماهير الشعبية، وهو يراها تثير العاطفة وترضي الذوق، ويرى من الأصلح ألا يحرم الناس من خيال لا يخالف الدين، ولا يفسد على الناس أمرا من أمور الإيمان، ثم قال: وأي بأس على المسلمين في أن تتحدث إليهم قصص بهذه الأحاديث الحلوة العذاب فتنبئهم بأن أمم الطير والوحش كانت تختصم بعد مولد النبي، كلها يريد أن يكفله ولكنها ردت عن هذا؛ لأن القضاء سبق بأن رضاع النبي سيكون إلى حليمة السعدية؟ وأي بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن الجن والإنس والحيوان والنجوم تباشرت بمولد النبي، وأن الشجر أورق لمولده، وأن الروض ازدهى لمقدمه، وأن السماء دنت من الأرض حين مس الأرض جسمه الكريم؟ لم تصح الأحاديث بشيء من هذا ولكن الناس يحبون أن يسمعوا هذا، ويرون في التحدث به والاستماع إليه تمجيدا للنبي الكريم لا بأس به ولا جناح فيه، وأي بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن نفرا من الملائكة أقبلوا إلى النبي وهو طفل يلعب فأضجعوه، وشقوا عن قلبه وغسلوه حتى طهروه، ثم ردوه كما كان، وأقاموه كأن لم يصبه مكروه؟ لم يصح الحديث بهذا، ولكن المسلمين يتحدثون به، ويستمعون له منذ أكثر من اثني عشر قرنا لم يفسد لذلك ذوقهم ولم يضعف إيمانهم ... إن من فاحش الخطأ أن يضيق على الجماهير حتى في القصص البريء، إن من فساد الذوق ألا يباح للجماعات إلا الحق الذي لا حظ للخيال فيه، إن من سوء العناية بالدين أن يكف الخيال عن تأييد الدين.
ومعنى هذا الكلام أن مؤلفي الموالد خدموا الدين بما أذاعوا من الأساطير، وهذا حق من جانب، وخطأ من جانب.
هو حق لأن الخيال يزيد في أنس الناس بالدين، وأكثر الديانات تأصلا في أنفس الجماهير هي الديانات التي تفيض بالخرافات والأساطير، ولا تزال المذاهب المسيحية تقتسم أهواء الناس على هذا الأساس.
وهو خطأ لأنه ينشئ الناس إنشاء فاسدا، ويضيع على الإسلام عددا عظيما من أبنائه الذين يرضيهم أن يقوم دينهم على أساس العقل، ويسوءهم أن يروا في معتقداتهم صورا من وثنية الهنود والفرس واليونان. (8)
هذا وقد سمعنا أن وزارة الأوقاف تلقت عشرات من القصص الجديدة التي تصور حياة الرسول بما يوافق ذوق العصر الحديث، ولسنا ندري على أي نمط وضعت تلك القصص، ولكنا نرجو أن تكون الموالد القديمة نموذجا للمولد الجديد من الوجهة الفنية، فإن المولد لم يوضع في الأصل ليكون كتاب تاريخ، ولكنه في أصله لون من التمجيد لآثار الرسول، وهو كذلك من صور الاستغاثة والتوسل عند الصوفية، فمن الأنفع أن يراعى الوضع الغنائي في تأليفه ليصلح للغناء والترتيل، فإن العامة لا تفتنهم الحقائق المجردة، وإنما يستهويهم الحق المزخرف، وفي القرآن نفسه سور مسجوعة، والقنوت المأثور هو أيضا مسجوع، ودعوات السلف الصالح كانت مسجوعة، وفي هذا كله ما يشعر بأن أهل الرأي من قدماء المسلمين كانوا يراعون النظم الغنائي في الدعوات والصلوات.
Page inconnue