ما زلت أنوي الخروج من الآستانة، وأنا أشد الناس شغفا بها، ولا يقدر لي ذلك. ورأيت الهرب تهلكة على أهل بيتي؛ فإني حين أدعهم بالآستانة لا أترك لهم ما يعيشون به على حد الكفاية، وما لي بالآستانة من يعولهم من آلي وعشيرتي، وإذا أرسلت لهم مالا لم آمن عليه الضياع، وإذا أردت أن أستصحبهم معي أحست بنا الحكومة، وإن تركتهم ليلحقوا بي بعد سفري مانعتهم الحكومة السفر. فعن لخاطري أن أستأذن في السفر إلى مصر لأقيم بها شهرا وأعود بعد انقضائه. فكتبت ورقة بذلك ورفعتها إلى ناظر المعارف، فلم يرض بقبولها وقال لي: اكتب إلى السلطان؛ فإن أذن لك فلا تقوى على مخالفته، فكتبت ورقة أخرى إلى السلطان وذهبت بها إلى دائرة الباشكاتب تحسين الكائنة بيلديز. فقرأ الورقة ثم قال لي: ولم تريد السفر إلى مصر؟ - لي بها حقوق أريد أن أحفظها. وقد أردت أن أجعل لي وكيلا، ولكن جاءني الجواب بأن لا غنية لي عن سفري. - سأرفع ما كتبت إلى أعتاب السلطان، فعد إلي بعد ثلاثة أيام. فشكرته سلفا وانصرفت، فلما انقضى الميعاد غدوت عليه وأقمت في انتظاره ساعات طويلة، ثم قيل لي إنه في «الحضور»، والحضور يريدون به هنالك أنه عند السلطان، وسألتهم: متى يكون رجوعه؟ فقالوا إنهم لا يعلمون، فخرجت على غير هدى من أمري. وفي الغد رجعت إليه ولبثت كذلك في انتظاره كما وقع لي بالأمس، ومكان الانتظار فيه أناس كثيرون لهم حوائج يريدون قضاءها، فدعاني الحاجب جانبا وأخبرني أن الباشكاتب يخصني بالسلام، وأنه لم ينس ما وعدني به. وسألني أن أعاوده بعد بضعة أيام، فوافيته، فضرب لي ميعادا آخر، ثم ضرب ميعادا آخر، ثم ضرب ميعادا آخر. وأنا في كل مرة أخسر دراهمي وأضيع وقتي حتى عيل صبري ونفدت حيلتي، ولم أدر ما أصنع. فوافيته يوما وهو يتهيأ للدخول إلى «الحضور»، فسلمت عليه وقلت: سيدي، إذا كانت حاجتي غير مقضية فلا تكلفني التعب عبثا، وإن كانت مقضية فتفضل علي بما أمر به السلطان وأرحني من هذا العناء وكثرة الترداد. فقال: وما يمنع قضاء حاجتك ولم تتطلب محالا؟ ولكن غير خاف عليك ما أنا فيه من وفرة العمل وتكاثر المشاغل. فاغد علي غدا مبكرا بكور الطير وإذا لم تجدني فانتظرني إلى أن أحضر. وآمل أن ترجع بعد ذلك وقد نلت الإذن وقضي الأمر. فشكرته ثم شكرته ثم شكرته، وخرجت وأنا أعلل النفس بقرب الخلاص وأقول: إذا خرجنا من الآستانة اخترت الإقامة في أوروبا؛ هنالك أجاهد في سبيل الوطن آمنا نكايات الأعداء، ولا أدخل مصر إلا زيارة كلما اشتقت إليها؛ فإن بمصر من يحارب الأحرار وقد ملك عليهم البر في فجاجه وسد عليهم مسالك الحياة. فبت بأهنأ ليلة، على أنني لم أذق غمضا ولم يستطب الرقاد لي جنب من فرط ما داخلني من الفرح. فلما تنفس الصبح بادرت إلى القصر وأنا أستحث سائق العرب وأقول له: ما أبطأ عربتك سيرا! حتى إذا وافينا إلى باب يلديز وثبت إلى الأرض وانطلقت عدوا إلى دائرة الباشكاتب. فرأيت بعض الخدم يجمعون قطع الشمع التي بقيت من الليل ويدخلونها في جيوبهم، وآخرين يعدون سيجارات وجدوها، كانت سقطت من الوافدين على القصر، وغير هؤلاء يكنسون المكان ويصلحون من شأنه. فاتخذت لي كرسيا بمكان خال وأردت أن أدخن سيجارة لي فلم أجد معي سجاير. قلت: وهذه إحدى العظائم؛ ألم يكفني أني خرجت من قبل أن أفطر حتى أجلس هنا بلا تبغ، إن هذا لخطب عظيم. وقد طال علي الوقت واشتد بي الضجر، فقال لي الخدم إنه لا يليق بي أن أجلس على كرسي بهذا المكان المعد للأصاغر! أدخلوني إلى حجرة الانتظار للأكابر! فلبثت بها ساعات، وأخذ يتوافد عليها أهل المصالح حتى غصت بهم.
وبينا أنا كذلك أكاد أقضي كمدا وقد أمضني الجوع وزاد بي من القلق ما رأيت من الزائرين الذين يدخنون السجاير ولها رائحة أزكى من المسك الأزفر، إذ جاء حاجب الباشكاتب فدعا أحد الجالسين ثم عاد فدعا ثانيا ثم دعا ثالثا، ولكن الحجرة لا يخلو بها مكان؛ فما مضى زائر إلا جاء زائرون. واستطال لبثي إلى العصر حتى كدت أن يغشى علي، فنهضت واقفا وجعلت أمشي رويدا رويدا إلى باب حجرة الباشكاتب، فأراد الحاجب أن يمانعني فدفعته في صدره وفتحت الباب وأسرعت بالدخول. فإذا هو جالس وحده يقرأ أوراقا له، فقلت: طال الثواء ولا سؤال من لدنك ولا جواب. عشر ساعات مرت علي وأنا مقيم هنا، فهل أردت يا مولاي أن تهزأ بي؟ - كلا، وإنما تعمدت تأخيرك لأجد سعة في الوقت فأكلمك فيما أنت قاصد له. - ولكن الذي أريده لا يحتاج مناظرة ولا تأملا طويلا؛ إن هو إلا استئذان بالسفر إلى بلد من البلاد لحاجة من الحاجات. - صدقت، ولكن كنت أريد أن أعلم ماذا تريد. - ألم أذكر بالعريضة ما أريد؟ - بلى، ولكنها ضاعت، ولا أدري إن كنت رميتها سهوا مني بين الأوراق الممزقة أم هي لا تزال بين الأوراق التي «تحت العرض». فخيل لي أن المكان سقط على رأسي. أظل شهرا كاملا أنفق المال وأضيع الوقت وأجد وأكد في طلب إذن السفر، ثم يقول لي هذا الرجل بعد ذلك كله: ماذا تريد! نظرت إليه نظرة ملؤها حنق ويأس، وقلت: لأسهدن والله جفونك ولأطيلن أوجاعك، ولأجعلن أيام الحياة حربا عليك، ولأسلكن المخاوف سبلك، ولتعلمن بأية داهية رميت. وخرجت من عند مخاطبي وأنا أكاد أتميز غيظا. فركبت عربة وجدتها في طريقي وقلت لسائقها أن يذهب بي إلى جهة بك أوغلي (وهي بيرا). وكان عبد الحميد جعل بالآستانة مراكز ترسل إليه الرسائل البرقية منها. وفي «بيرا» أحد تلك المراكز، يخاطب منها السلطان ومقربيه من يشاء؛ فإن كان خطابه جديرا بالعناية عرضوه على السلطان وإن لم يكن كذلك ألقوه جانبا. ومراكز التلغرافات تقبل كل رسالة هي تعرف صاحبها أو تعرف اسمه ولو ملئت من القول الغليظ وخوطب به السلطان نفسه.
فأخذت القلم بيدي وكتبت رسالة تركية هذا معناها:
إلى الباشكاتب الكاذب بالقصر السلطاني
سخرت مني وأضعت أوقاتي فيما لا يجدي، ولم تبال كذبا وبهتانا، فانتظر ما سينشر عنك في أوروبا وغيرها.
ولي الدين يكن
أحد أعضاء مجلس المعارف الأعلى
فأخذ الموظف الرسالة وجعل يتأملني، فقلت له: إن كنت لا تعرفني فانظر في تقويم الحكومة الرسمي تجد اسمي، فقال: ولكن الرسالة شديدة ولا بد من الاستئذان من المدير.
قلت: لك ذلك. فصعد وغاب عني بضع دقائق ثم عاد، وقال: أمرنا المدير بقبول الرسالة على أن تكتب في أسفلها أنك تتحمل تبعة ما فيها وتختمها مرة ثانية. ففعلت ما طلب ودفعت له الثمن، وخرجت بعد ذلك قاصدا إلى منزلي، فنمت ليلتي نومة يحسدني عليها المؤرقون، وانتبهت في الغد وبي من الانشراح ما لا أستطيع له وصفا، فقلت: من أين لي هذا الجذل وأنا قضيت بالأمس يوما لو سمع به أهل الجنايات لاقشعرت جلودهم. وقد سدت علي المسالك وليس بيدي من الدراهم ما يكفي لحاجتي ريثما أتقاضى راتبي؟ وبعد، فإن أمام باشكاتب السلطان رسالة برقية بها من الكلام ما لم يسبقني إليه غيري. فعلمت أن لا رجاء في فرجة، ومتى حق اليأس استقرت الراحة في الفؤاد.
وإذ لم يكن من مواصلة الجهاد بد عمدت إلى قلمي وكتبت رسالة فرنساوية نشرت إذ ذاك في إحدى الجرائد الفرنساوية التي بالقاهرة، وأظنها «لوجورنال دي جيبت»، ذكرت فيها كيف اتصل تحسين بخدمة السلطان ولم يكن معروفا بين الناس بالكاتب المجيد ولا الأمير النبيل ولا الموظف الكبير، ولم يكن إلا سكرتيرا بنظارة البحرية. فلما توفي الباشكاتب الذي قبله واسمه ثريا باشا أشار لطفي آغا قرين عبد الحميد باختيار تحسين هذا لما كان بينهما من الود منذ أيام أحد الصدور الخائنين المسمى محمود نديم. والأحرار العثمانيون يسمونه نديموف لسعيه في تأييد المنافع الروسية وإيثاره إياها على منافع دولته. ثم وصفت بعض ما صنع هذا الباشكاذب منذ اتصل بالسلطان، وذكرت أني مشتغل بتأليف رسالة في بيان أعماله وشرح مفاسده ليقف عليها من كان يجهلها. فوشى بهذه الرسالة بعض الجواسيس الأجانب، فقامت القيامة على القوم الخائنين، ثم قلوب أبت الرحمة أن تدخلها وأبى الإنصاف أن يأوي إليها، بها من الشر ما يفزع الأسد بآجامها، ولو صفر لها عصفور لطارت من صفيره شعاعا.
Page inconnue