وصل كتاب الأميرة إلى يد عبد الحميد، وكم كتاب قبله لم يحرك له نخوة ولم يبعث له همة! لقد أسكن الله بين جنبيه روحا أعوذ بالله أن تكون من روح عبد المجيد؛ هي روح أجنبية عن المعالي، يزهقها الحق ويحرقها الحلم، هي وسواس يحرك جسدا لا يحلو على أديمه نعمة من نعم الله. فلما استقرأ الكتاب استشاط غضبا واربد وجهه وغلب عليه طبع أكلة البشر، فلو كانت الأميرة عنده ساعة رنت في آذانه كلماتها لنشب فيها أظفاره وأنيابه، ولكنه اكتفى من الانتقام بما خص الله به أهل العجز من المجبنين، وحقد حقدا لا تزيله من صدره تقلبات الأيام. وما زال يتلطف في استدعائها إلى الآستانة واعدا إياها الخير والمزيد حتى أجابت دعوته بعد سنة 1898 على وجه التقريب.
فتقدمت الأميرة إلى الآستانة ونزلت فيها بمنزل الجنرال أحمد جلال الدين، ثم دعاها إلى «يلديز» فأكرم وفادتها وأظهر لها ما لا يكنه فؤاده، فلما عادت إلى مصر ظن أن قد أصبحت في عداد أعوانه، وأنه إذا شاء حارب بها أعداءه دعاة الحرية، فخاب ظنه، وندم إذ أفلتها من يديه بعد أن حسبها وقعت في حبائله، فلم ينفع الندم. ولقد بلغ بغض عبد الحميد للأميرة الفاضلة أن خاف رجاله أن يذكروا لها اسما في القصر كلما أتى ذكرها في جريدة من جرائد أوروبا. ولقد كدت ألقى حتفي يوم كتبت للأميرة خطابا أنفذته إليها من الآستانة بعد سفرها، فلا أدري كيف علم بها الجواسيس وأخبروا به عبد الحميد، وأحمد الله إذ لم يكن بذلك الخطاب شيء من السياسيات. ومنتهى ما لقيت يومئذ أني سئلت عما يدعوني إلى مراسلة الأميرة، فقلت لمن سألوني إن بيتي ينمي إلى بيتها؛ فهي الأصل وأنا الفرع، وقد دام اتصالنا بوالدها المرحوم ما عاش أبي وما عاش أعمامي، ولم نبرح مخلصين لهذا البيت العالي ما شاء الله.
وأعجب ما في السياسة الحميدية أن أعوان عبد الحميد أنفسهم كانوا يسخرون منه ليستمطروا هباته، فكان أكثرهم يكذبه فيما يشي به إليه، فيزعم له أن عنده أنباء الأميرة وأنه بث عليها الأرصاد ليستطلعوا له أسرارها، وكان عبد الحميد يصدق ذلك.
ولولا أنفة وحكمة فطرت عليهما بنت الأمير الفاضل، وصدق ود من الجنرال أحمد جلال الدين؛ لتمكنت مخالب الظالم من ذلك الفؤاد الكريم، ولأصابه ما يصيب كل ذي رأي من الهفوات التي لا ينسيها توالي الأعصار، ولكنها نبذت كل وعد واستحقرت كل وعيد، وجاءت تاركة عبد الحميد يندب خيبته في سبيل التغلب عليها.
الجنرال أحمد جلال الدين
كان ينبغي علي أن أذكر هذا الفصل في طالعة الكلام على رجوعي إلى الآستانة؛ فإن الجنرال أحمد جلال الدين كان الوسيط بيني وبين عبد الحميد؛ وهو الذي نزلت على داره حين قدومي الآستانة؛ وهو أول رجل قابلته في تلك السفرة. غير أنني تجاوزت عن الإطالة وطويت ذكر أشياء لا فائدة تحتها، فليس لها شأن يستلفت نظرا أو يسترعي سمعا.
إني رجعت إلى الآستانة ثقة بوعد أحمد جلال الدين ألا يصيبني بها هوان، فقلت حسبي وعده. ولقد قال لي: إذا رأيتني لا أقدر أن أذود عنك مكروها تلطفت في خلاصك وإخراجك من الآستانة. وكلام أهل النجدة ينبعث من الفؤاد وعلى قدر جرأة المرء يكون صدقه، وأحمد جلال الدين جريء الجنان لا يروعه مخوف وإن جل ولا يملأ عينيه خطر وإن عظم.
رأيت هذا الرجل بموضع لا يرومه المتطاولون، منيع الحمى، مرهوب البطش، نافذ الكلمة، يقيم في بيت تزدحم على بابه الأفواج، فمن حله أمن غارات المطاردين وبات بموئل لا تطول إليه ولا يد عبد الحميد. هذا كلام ربما حسبه قوم مبالغا فيه. كل من أقام بفروق شهرا واحدا عرف ذلك، وإنما ثبت قدمي الرجل في موقفه احتقاره الموت وازدراؤه بما كان فيه من جاه رفيع. ولقد حلت به نكبة عبد الحميد قبل ذلك، فشد وثاقه وصاحت السلاسل على ساعديه وقدميه، ونفي إلى حلب وأقام بها ما شاء الله أن يقيم، فنصره حقه وخذل أعداءه باطلهم.
هذا رجل رباه السلطان المستبد، أخذه صغيرا لا يميز الخير من الشر، وأظله بظله وقيده بقيوده . فلو نشأ ظالما مثله سفاكا للدماء كذوبا حولا قلبه لمهد له العذر تعوده ذلك، ولكنه غلبت عليه البداوة الحرة، وللبداوة حرية لا تطاولها حرية التمدين، فغلبت نفسه على وساوس الغرور ونزق الشباب، وعاش صحيحا بين جرب، وللدهر من العجائب ما لا ترقى إليه العلل. غير أني آخذته على أمور وددت لو سلم منها؛ فقد رأيته مطواعا للمخادعين، آمنا عواقب الفتنة من قوم كان واسطة عقدهم وملتقى أهوائهم، ورأيت ذكاءه في التمييز بين الناس دون ذكائه الذي يقدم به على المخاوف. وهذه خلال تؤذي الأحرار وتحرم أكثر الرجال أن يجتنوا ثمرات مساعيهم. على أن أصلها عدم المبالاة والإهوان بالحوادث.
ثم إن أحمد جلال الدين لم يتخرج من مدرسة ولم يتعلم من العلوم ما إذا أضيف إلى ذكائه الفطري زاده رونقا وحباه كمالا، كل ما عرفه عرفه تجربة وممارسة. وقد تعود الأناة وروض نفسه على مجانبة الطيش. فإذا جرى في مجلسه كلام على أمر لا يعرفه أمسك عن الخوض فيه، ولم يتعسف الرأي كما يتعسفه أكثر الناس، وإذا تكلم في أمر سبق إليه علمه أعجب به سامعوه إعجابا.
Page inconnue