لقد صدق الشاعر فيما قال، وكم جرى القريض على لسان بغرض ولم يرده الضمير، فوافق الواقع المقال؛ ثم مهجتان خفقتا معا، وسكنتا معا؛ فما استخف الشوق واحدتهما إلى ركوب البحر إلا أقلق الثانية حين أكرهها على الصبر، حتى إذا التقى البصر بالبصر أنشد لسان كل منهما قول ابن معمر العذري:
ولما تلاقينا عرفت الذي بها
كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وكأن فترة ما بين عهد أبي الفداء وعهد فتاه سنة من النوم، وكأن تلك الخلات تنوسيت على مر الأيام. فيا له من يوم أغر محجل جلس فيه السلطان الخامس والثلاثون لاستقبال الأمير السابع من البيت العلوي، وفتحت أبواب «يلديز» لمن ماشى ركاب الأمير من وفود المصريين، وقيل لهم: هذه جنة الدنيا أزلفت لكم، وتلك رياضها حصباؤها الدر وترابها المسك، وتلك حياضها مترعة بصافي النمير غير آجن، ومدت الموائد وطاف عليهم مقربون يتلون عليهم بشائر من عند السلطان، وانقلبوا بعد ذلك إلى أهلهم فكهين.
الدكتور عبد الله بك جودت.
ورأى بعد ذا جماعة من خلق الله أن يجعلوا بين التابع وبين المتبوع حرمة صهر، ويجددوا لحمة نسب ألهمها الله إلهامي باشا ابن المرحوم عباس باشا الأول وزوج «منيرة» سلطانة بنت السلطان الجليل عبد المجيد خان. وكاد يستدرجها الله بمدرجة النسيان، ولكن شتان ما بين الصهرين؛ فما كان إلهامي صاحب الأمر بمصر ولا من يرجى ليحكمها. وقد أقام بعاصمة الملك العثماني وبقي عضوا بالمجلس الأعلى «مجلس والا» حتى جاور ربه في سنة 1277 بالغا من العمر خمسا وعشرين سنة. أما غيره فليس كذلك؛ فهو صاحب بلد ووارث ملك ورب حكومة لا يودع سريرها ليبدل به سرير نوم، وأميرات البيت العثماني لا يزايلن عاصمة ملك هن كواكب سمائه. وإلى هذا نظر أبو الهدى وبه استمسك عند السلطان، ولو كان بينه وبين خاطب ذلك المجد ود ووحدة قصد لاحتال له في نيل أربه ولكفاه أن يعود من الغنيمة بعد الكد بالقفل.
فلما باتت آمال المعية غير ذات نتاج وكبر عليها أن ينازعها أحد الدراويش حظوة القرب من عرش الملك بعد استنجادها بمثل جمال الدين وعبد الله النديم والشيخ ظافر وغيرهم؛ وقفت النخوة العلوية بينها وبين «فروق»، ودب الجفاء بين الأب وابنه. وفي سنة 1894 قدم مراد الداغستاني إلى مصر وأصدر بها «ميزانه»، كما ذكرته في أحد الفصول المتقدمة. فنزل بالمعية على الرحب والسعة، وأكرمت هي مثواه وأنزلته منزل التكريم، وكانت استخدمت رشيد بك صاحب جريدة «بصير الشرق» معاونا بالخاصة الخديوية، فاتحد مراد ورشيد بك مع رجل بالمعية اسمه «ع» بك، وبلغت الثقة بهؤلاء الثلاثة أن باتوا أصحاب الكلمة في صرح الإمارة ودانت لهم الرقاب وعنت لهم الوجوه، وبذا تباشر الناس وظن أكثرهم خيرا وأيقن المجاهدون في سبيل الحرية أن سيرسل الله لهم ملائكة نصره.
وإذ ضاق عبد الحميد ذرعا باستمرار الأحرار على مطالبته بالدستور ومقاضاته إلى الرأي العام بما يكتبون من كتبهم وجرائدهم، ورأى قوميسرية الدولة بمصر لا تبرم أمرا ولا تنقض رأيا وأنها شغلت عن أمورها بالصيد والقنص واقتناء الخيول ومواصلة الأسفار بين القاهرة والإسكندرية، وأنها لا تتقدم صفوف المجاهدين فيتخذها عدوة له ولا تبدي له من دلائل الإخلاص ما يحمله على الثقة بها والركون إليها، وبينا يصيح الظلم من داخل الفؤاد الحميدي؛ من لهذه المعضلات يكشف غماءها ويجلو عن يقينها؟ إذا بعزت يناديه: أنا لها. والله لأنغمسن لك في نجيعها وأخوضن أهوالها، ولأنفذن إلى أعدائك نفوذ رمياتك إلى قلوب شهدائك، وأرسل ابن هولو إلى الإمارة المصرية أن انفضي ثيابك من غبار العار وأخلصي سرك وجهرك لسلطان البرين والبحرين، ودعي قوما ينشدون ضالة أفقدها سوء المصير. فما استهلت سنة 1897 إلا استشعرت المعية بضرورة الإذعان. رأت نفسها نائية جانبا عن رضاء عبد الحميد مستهدفة لغضب الإنكليز، وهي كلما عولت على ود امرئ خابت آمالها فيه حتى أصبحت كما قال الطغرائي:
فلا صديق إليه مشتكى حزني
ولا حبيب إليه منتهى جذلي
Page inconnue