من الناس من يذهب إلى أن الأمة العثمانية كانت تريد الدستور. وهذا وهم لا حقيقة له. من أين للأمة أن تدرك محاسن الشورى ولا عهد لها بها؟! لقد أقرها عبد الحميد في أوائل ولايته أياما ليخدع بها خصومه ويبث بها لهم حبائل الشر، ثم أخذ يرمي بهم واحدا بعد واحد حتى أباد جمعهم وأفنى أكثرهم، ومد بعد ذلك رواقا من الظلم احتبى تحته الراضي والساخط وقضى ألا يحاسب وألا يعاتب، فاشترى أقلاما بذهبه وكسر أقلاما بقوته، وحال بين الرعية وبين الحياة. فمن أين عرفت الشورى وكيف تاقت إليها نفوسها؟!
ما أريد غضا من جانب الأمة ولا تجاهلا لمناقبها، ولكن هو الحق الذي لا يتغلب عليه اللجاج . وليس في ادعاء غير الواقع فخر تناله الأمة، ولا في إبطاله عار يلحق بها.
إن الأمة اشتدت عليها الأوجاع، فتجلدت وكرمت في تجلدها، وما كان ذلك عجزا ولا ذلا بل وفاء وإعذارا، فكان منها من يحمل مصائبها على حكم القدر فيمتثل إيمانا، وكان منها من يتهم حاشية السلطان بإخفاء الأمور عنه ومنع شكاوى الرعية أن تصل إليه، وكان منهم من يقول إن مهب تلك الفادحات هو الغرب حيث عكف ساسته على الكيد لنا والانتقام لأسلافهم الذين وردت سيوفنا رقابهم وأذل سراتنا أعزتهم، ولم يتجاسر أحد من عامة الأمة أن يتهم عبد الحميد في نجواه، فما ظنك بإعلان عصيانه وإنكار سيئاته عليه، وإنما باح ببغضه له وجاهره بالعدوان قليل ممن تعلموا وعرفوا، فهؤلاء هم أعوان الحرية وأنصار الشورى.
إن العامة تحب الشيء إذا حببه إليها زعماؤها وتبغضه إذا بغضه إليها زعماؤها. وزعماء العامة عندنا رجال الدين، وهؤلاء لا يرغبهم في الشورى شيء مما هم منقطعون إليه؛ فهم يحبون أن يظلوا محتكمين على الرقاب، وأن يبقوا عيالا على الأمة، وأن يلثم الناس أيديهم ويملئوا أكياسهم، ثم إن عبد الحميد اتخذ منهم شيعته وذادته، فما أقر هيبته في القلوب ولا ابتاع له المودات إلا هذا الرهط. فصح إذن أن الأمة لم تكن من العلم بالشورى على شيء.
على أن فريقا - هو متوسط بين الخاصة والعامة - أخذ يبدي ضجرته بعدما طال إخفاؤها، فكان كلما اشتدت وطأة الجواسيس زاد بغضا لرجال الحكومة؛ ظنا بأن أولئك يخدعون السلطان ويخونون عهده لأمته، وكلما حاول فريق الأحرار حمل هذا الفريق على مؤاخذة السلطان أبوا وقالوا: «حاش لله، هو أعظم من أن يتهم في ذمته، أنتم خاطئون، الذنب ذنب من حملهم الأمانة فخانوها.»
قلت يوما لصديقي أمير باشا: ألا يقوم رجل من نجباء هذه البلاد فيجمع بعض الأمة في داره ويعلمها بما هي صائرة إليه من الهلاك؟ أرجو أن يكون ذلك باعثا لها على الانتباه. فقال: إن أهل الشرق لا ينبههم النصح وإنما ينبههم الجوع، فإذا هم جاعوا طلبوا حقهم .
قلت: هذا غلو منك.
قال: بل هو الحق الذي لا يختلف فيه، وما كلمتك إلا كلام مجرب.
وقد أيدت الأيام كلام صديقي، فحدث بسيواس غلاء قبل إعلان الدستور بأشهر قلائل، وأخذ التجار يغلون الحنطة ثم لا يبيعون ما في خزائنهم إلا بعد رجاء تيبس له الألسن في الأفواه، فتظلم الناس إلى الولاية، والوالي إذ ذاك في حوضة ينتظر ما قدر له من غدر عبد الحميد، فلم يتمكن من الإسراع إلى إغاثة الملهوفين، فأقبلوا ذات يوم في جموع يزاحم بعضها بعضا حتى وقفوا على باب الحكومة، فانتهرهم الجندرمة والبوليس، فهاج انتهارهم غضب المتجمعين، فحملوا على الأبواب وعلى الأجناد حملة تزحزح الجبال عن مواضعها، فغلقت الأبواب واعتصم حراسها بالقصر، وكان الدفتردار وكيلا عن الوالي، فأبرق إليه يخبره الخبر ولم يبين الأمر بيانا شافيا، فجاء أمر الوالي برد الناس إلى منازلهم وضربهم إذا أبوا. غير أن الجنود أبت الامتثال وتركت إخوانهم ينهبون المخازن ولا يتعرضون لهم بشر، وما انتهت الفتنة يومئذ إلا حين نفدت الحنطة من المخازن.
فأقبل علي أمير باشا باسما وأخذ بيدي وهو يقول: نحن لا نجادلكم فيما تعلمون، فما لكم تجادلوننا فيما نعلم؟ أرأيت يا ابن أختي كيف صدق يقيني وكذب ظنك؟ فأما وقد عرفت الأمة أنها قادرة على مغالبة الحكومة وأن صاحب الحق أقرب ما يكون من حقه إذا طلبه بساعده، فإن وراء ذلك لخيرا يرجى.
Page inconnue