كيف نفوني إلى سيواس؟
لو كنت آمل أن سأعيش إلى يوم أكتب هذه السطور لحرصت على ما كنت كتبت في أيام شقائي. ولكن غلب علي اليأس واشتدت الضجرة، وقلت: ربما وشى بي واش إلى الحاكم الظالم فأوخذ إلى السجن ويؤخذ ما أكون كتبته إلى النار، فلا أنا أستفيد ولا الوطن يستفيد.
لي عند بعض الناس ثارات أنا أهبها اليوم لهم غير مكره. عفا الله عما سلف. ولا آتي في سياق حديثي بذكر أشخاصهم ولا أعرض بشيء مما امتازت به صفاتهم تجاوزا وصفحا، فليعذرني قارئ كتابي؛ فليس المقام مقام انتقام بل هو مقام اعتبار واتعاظ.
لما كاثرتني جموع المستبدين وهي في إقبال دولتها وقوة سلطانها، واشتعال جذوتها وامتداد حكمها، وتخاذل عني قوم كنت أعددتهم للعظائم؛ رأيت في نفسي ضعفا عن الاستمرار على الكفاح. أما النكوص على عقبي فلم أرض بعيبه وعاره، وأما الانقياد فدونه الموت وأعذب منه أشد العذاب. فرأيت الراحة في الهدون حتى أجد عدة كافية ودرعا واقية وسلاحا ماضيا وأنصارا أولي حزم ووفاء. فأقمت الليالي والأيام لا أغشى لصديق مجلسا ولا أفشي لأحد سلاما، ولزمت بيتي وانقطعت عن نظارة المعارف، فكان يزورني من الأصدقاء من لا يسوءني محضرهم ومن آمن عواقب الثقة بموداتهم. وظللت على ما ذكرت بعيدا عن معترك المتناظرين منقطعا إلى أحزاني مكبا على مطالعة الكتب وكتابة الفصول ونظم الأشعار، فطاب لي الانفراد وآنست إلى وحشة هذا السجن الذي اخترته لنفسي، ولزم الجواسيس باب داري فجعلوا يتزاحمون جيئة وذهابا وهم لا يظفرون بطائل.
فخرجت ذات يوم في حاجة عرضت، فلما كنت في بعض الطريق التقيت بصديقي القديم الدكتور ن... وهو إنكليزي الأصل، كان جاء الآستانة في أيام الحرب التي هاجت بين دولتنا وبين روسيا في سنة 1877 وكتب في الجندية العثمانية، ولما وضعت الحرب أوزارها خرج من الجندية وطابت له الإقامة بالآستانة فلم يفارقها إلا مرات قلائل. وقد تعلم اللغة التركية وعرف قراءتها، وكان له في اللغة الفرنساوية باع طويل وله بها كتابات تدل على أخذه بنواصي البيان. فدنا مني هذا الصديق ومال بي إلى قهوة كانت قريبة منا فدعاني إلى الجلوس فجلسنا، ثم جعل يصعد في نظره ويصوبه وقد عرته دهشة مما رأى من نحولي، فأنكر ما شاهد في وجهي من التغير وأخذ يسألني عما أدى بي إليه، فقلت: لزمت البيت وانقطعت عن النزهة والاستشفاء بمعتلة النسائم، فأحدث في طول اللبث وفرط الانكباب على التفكير ما ترى. - وما الذي دعا بك إلى هذا الاعتزال؟ - مللت مغالبة الغاشمين وكل عن نضالهم ساعدي، فهادنتهم حتى أستعيد قوتي أو أجد نصيرا على الحرب.
فتأمل الرجل النطاسي وجهي مليا وتنهد تنهدا سمعت له زجلا في صدره ثم قال: ألم أقل لك يا ولي الدين إنك خاطئ في إغضابك أبا الهدى؟ وقد ظننت بي الظنون يومئذ وزعمت أني متشيع له؟ وما لي والتشيع لأبي الهدى وليس له علي من سلطان؟! أنا رجل إنكليزي، وقصارى ما ينالني من غضب عبد الحميد أن يأمر بإخراجي من بلاده، فأخرج مكرها ثم أعود مدعوا فيستقبلونني بالعطايا، ولو كنت أحاول ذلك لنلته منذ أمد بعيد. وإنما كان لومي خوفا عليك من كيد رجل لم يثبت على لقائه منازل، وعلما مني بأن كل هؤلاء الذين في قصر الملك يخافون أبا الهدى على أنفسهم، ولا يجاهر أحد من أعدائه بحماية عدو يكون أبو الهدى مطارده. ولم أقل لك في نصحي شارك الرجل في مفاسده وأعنه على الخيانة وتحبب إليه بالكذب والنفاق، بل قلت لك دعه وشأنه واحترس من غوايته واكف نفسك شر بطشه. والآن ماذا تريد أن تفعل؟ - سبق السيف العذل، ما أنت باخل بنصح ولا الجد ذاهب بمأمل ولا أنا نادم على ما فات. إني فعلت حين قدرت وأمسكت حين عجزت. وإذا عاودتني المقدرة عاودت العمل. - أنت أملك مني لنواصي الكلام، وأنا أبصر منك بمواضع الرأي، فلا تغالب حقائقي بزخارفك واسمع لما ألقي عليك: تقوم من ساعتك ماضيا في حاجتك التي خرجت لها من دارك، وسأكون واسطة لإصلاح ذات بينك مع أبي الهدى. ولكن إياك أن تنقاد لهواه وتستخدم قلمك في أغراضه فتقضي بذلك لباناته، حتى إذا حاق بك سوء وقف يضحك على عقلك ويسخر من رأيك. وسأزورك في دارك بعد يومين.
فمضى صاحبي لشأنه ومضيت لشأني، وتم الصلح بيني وبين أبي الهدى على يده، وزرت أبا الهدى في بيته وزارني بعد ذلك نجله حسن خالد بك الصيادي. وبعد أن مضت على الصلح أيام توجهت إلى منزل الصيادي لأنظر ما سيبدي لي من ود أو عتاب، وقد كنا تراضينا على ألا نعيد ذكر ما فات وألا يكلف أحدنا صاحبه عملا. فلما أدخل بي على الرجل تلقاني بصدر رحب وثغر باسم وأدنى منه مجلسي وأقبل علي بوجهه وطيب حديثه، وأنا لا يطمئن له فؤادي ولا تنبسط له نفسي. وكنت أعلم أن أبا الهدى لا يفلت فريسة أمكنه الدهر منها، وأنه أشد ما يكون فاتكا إذا ظفرت يداه بعدو له. فأضمرت الحذر وأظهرت الاستسلام فإذا هو يميل علي بكله، وجرى يومئذ بيننا حديث طويل، وأطلعني على كثير من أسراره وأقرأني من أوراقه ما لو عرض على عدو غيري لنال بها من الثراء ما يبقى لأعقاب أعقابه، وحلف لي بالأيمان المغلظة أنه لا علم لابنه حسن خالد بشيء مما في تلك الأوراق، فأعدتها له وعاهدته ألا يعلم مني أحد شيئا مما أسره إلي، وها أنا اليوم أوفي بعهدي وأحفظ له سره، ولو عاش في دولته إلى يومنا هذا لحاربته حرب المستميت ولكن غير مغالب له بأسراره. وقد أيقنت بعدها أن الرجل جرى معي على غير شيمته وأنه لا يضمر لي غدرا، فأمنت غوائله واسترحت من طول الحذر، ولو كان أبو الهدى غير خائن لدولتي لحرصت على وده ولأقمت على مناصرته ما بقيت لي في الحياة بقية.
على أنني ما صالحت أبا الهدى إذ صالحته إلا لأكفى طول مناضلته وأفرج عن وجهي ما كان يمنعني عن الفرار والخلاص مما كنت فيه. وأما وقد تهيأ لي ما أردت فلم يبق إلا تشمري وشد رحالي. وبينا أنا في نقض وإبرام إذ دخل علينا شهر رمضان، فحمدت قدوم الصيام ورأيت في شغله الشاغل للناس ما يعمي أبصارهم عما أتأهب له، وأقمت أستنجز الفرص. وإني لفي داري مشتغل بما ذكرت وإذا رسول أبي الهدى يتعجل مضيي إليه. قلت: ما أتى السيد حتى أنفذك إلي؟ قال: لا أدري، ولكنه أخبرني أنه سيكون على انتظارك بعد الإفطار. قلت: بلغه أني قادم عليه. ولما ولى الرسول أنجزت ما كان بيدي من أعمالي وما أزف الوقت إلا واكتريت عربة وبادرت إلى موعدي، فتلقاني حسن خالد في طرقة الدار وسألته عما دعيت لأجله، فأبدى تجاهلا حسن عنده سكوتي، ثم أدخلت عند أبي الهدى، فاستقبلني قائما ولم أر على وجهه بشاشته التي عودنيها ولا بدت على ثغره بسماته تلك التي خدعت الماكرين، ولكني رأيت في حاله من الوجل ما كاد يستخف بحلمي، فأمسك بيدي وجعل يتأمل وجهي وأنا مستمسك بنفسي موطد قدمي ولا أدري ما نهاية ذلك كله، فأخذ يسكن روعه قليلا قليلا وثابت إليه أناته وراجعه وقاره فأشار إلي أن اجلس وجلس هو بمكانه، ثم قال: إني لفي قلق عليك منذ البارحة. - وكيف ذلك؟ - سمعت أن الشرطة دخلت بيتك وأخذت كتبك وأوراقك، وأنك قضيت ليلتك في دار الضابطة، فبت لا أدري ما أصنع ولا كيف أستخبر صحة الخبر، فما أصبحت إلا وأنفذت رسولي إليك، ولما رجع وأخبرني أنه رآك بمنزلك خف عني بعض ما كان حل بي من الجزع، ثم خبرت أن القوم أخذوا ما وجدوا عندك من كتب وأوراق ولم يتعرضوا لك بسوء، فقص علي الآن كيف كان ذلك؟ ومن هذا الذي وشى بك ولم يعلم أن وراءك أبا لا يكلك إلى من يجهل عليك؟ - سيدي، لم يحدث شيء مما تذكره، إني لأحس بشر ولا أتبينه. وقد بثوا علي العيون وأذكوا الأرصاد، وما أدري ما رابهم من أمري. - إذا لم يصح ما ذكر لي فذلك فضل من الله، ولكنني أوصيك بنفسك خيرا، افتح عينيك يا ولي الدين ولا تدع لأعدائك سبيلا إليك، ومهما يكن عندك من كتاب أو ورقة مما يحج به الخصوم خصومهم فمزقه ولا تخف بعد ذلك واشيا ولا تبال رقيبا. وإذا مسك الضر من مكيدة عدو فبادر إلي لا متريثا ولا متغافلا. فهممت أن أخبره بما عزمت عليه من الهجرة، ولكنني أمسكت مخافة أن تكون الفتنة فتنته، ثم استأذنته في الانصراف فأذن لي وودعته وخرجت من عنده لا ألوي على شيء، فما أدركت منزلي إلا عمدت إلى كتبي وأوراقي، فأخذت أتفقدها وأستخرج منها ما لا يلائم هوى القوم، وكان عندي من كتب أحرارنا وجرائدهم شيء كثير، جاءني بعضه على يد بعض أصحابي من الأجانب وأحضرت بعضه والدتي حين قدمت علي من مصر، فجعلت أمزق هذه المذخورات الغوالي تفاديا بها من ليل لم أعلم أنه لا محالة مدركي، وملت بعد ذلك على أوراقي تفقدتها ورقة ورقة، وأنا كلما أجد شيئا يستراب منه أمزقه وألحقه بغيره، ولم أزل كذلك في نظر وتنقيب حتى آذن ليلي بالبلج، فأخذت تلك الممزقات وألقيت بها في النار، وما استقل بها اللهب إلا وأنا كالآيب من احتطاب في الجبل أو كالخارج من غمرات الوغى. وكان لي بحجرة والدتي صندوق فيه أوراق وجرائد وصور نسيتها كلها ولم أتعهدها منذ قدومي الآستانة، وقد فاتني أن بذلك الصندوق ما يستطير الشرر من عيني عبد الحميد، ولكم حاول أهل بيتي أن يحملوني على فتحه وإحراق ما يكون فيه من أشباهه ونظائره فلم ألق للنصح بالا.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر ديسمبر الكائن في سنة 1901 جاء امرأتي المخاض، وما قاربت الشمس الغروب إلا وقد وضعت بنتا سميتها فكتوريا، تلقيناها ببسمات وتلقتنا بصيحات ، وكأن المسكينة أحست بدنو النكبة من أبيها فأجهشت لرؤيته بالبكاء، فقلت إذ رأيتها في مهدها: ما كان أسعدني بك يا بنيتي لو كنت في مأمن من طوارق الحدثان، وما بي أن أغرق في اليم أو أن أظل في ظلمات السجن، ولكن من لأمك وأخيك وجدتك من بعدي، وقد أظلكم عبد الحميد بسلطان نقمته والناس يفرون من الحر وأهله كما يفرون من المجذوم.
ومما زادني حزنا وأوسعني خبلا قعود الحظ بي عن الفرار، وكيف كان يتهيأ لي ذلك وقد باتت عندي نفساء لا تقدر أن تخطو في حجرتها وطفلان كبيرهما لا يحبو وصغيرهما رضيع، ووالدة إن أتركها أتركها للفاقة والامتهان. هذا وحول داري من الجواسيس طائفة لا تهجع الليل ولا تغدو النهار، قائمة على بابي تحصي أنفاسي وتراقب كل حالاتي.
Page inconnue