Machiavelli : une très brève introduction
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وأخيرا، كان يعتقد أن «الرجل» الحق يتميز بإقراره الراسخ بحقيقة أنه إذا كنا نرغب في بلوغ هدفي الشرف والمجد، فعلينا دائما أن نتأكد من أننا نتصرف بأقصى قدر مستطاع من الفضيلة. وهذا الرأي الجدلي - الذي مفاده أن من العقلانية دائما أن يكون المرء فاضلا - يكمن في صميم كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ فهو يشير في الكتاب الثاني إلى أن العديد من الرجال يعتقدون أن «أي شيء يمكن أن يكون صحيحا من الناحية الأخلاقية دون أن يكون ملائما للمصلحة الشخصية، ويمكن أن يكون ملائما للمصلحة الشخصية لكنه ليس صحيحا من الناحية الأخلاقية.» لكن هذا محض وهم؛ لأن الأساليب الأخلاقية وحدها هي التي تتيح لنا أن نأمل في تحقيق أهداف رغباتنا، وأي مظاهر تدل على عكس ذلك تكون خادعة تماما؛ لأن النفعية الشخصية لا يمكن أبدا أن تتعارض مع الاستقامة الأخلاقية (2 : 3، 9-10).
هذا التحليل اعتمد مرة أخرى في مجمله من جانب مؤلفي كتب إسداء النصح لأمراء «عصر النهضة»؛ فقد جعلوا افتراضهم الرئيسي يذهب إلى أن المفهوم العام لصفة «القوة» يشير بالضرورة إلى قائمة كاملة من الفضائل المرتبطة بالقادة والأمراء، وهي قائمة شرعوا في تطويلها وتقسيمها بقدر كبير من الاهتمام بالفروق الطفيفة، إلى حد أننا - في أطروحة مثل «تعليم الملك» لباتريتزي - نجد أن الفكرة الرئيسية عن «القوة» فصلت إلى سلسلة لا يقل قوامها عن أربعين فضيلة أخلاقية ينبغي اكتسابها. بعد ذلك، أقروا دون تردد الزعم بأن المسار الرشيد الذي ينبغي للأمير أن يسلكه هو دائما المسار الأخلاقي، ودافعوا عن هذه النقطة بقدر كبير من القوة، إلى حد أنهم جعلوا من مقولة «الأمانة أفضل سياسة» قولا مأثورا. وأخيرا، قدموا اعتراضا ذا خصوصية مسيحية على أي تفريق بين النفعية الشخصية وعالم الأخلاق، وأكدوا على أننا - حتى إذا نجحنا في إعلاء مصالحنا عن طريق اقتراف الظلم في هذه الحياة الدنيا - يمكن أن نتوقع رغم ذلك أن نشاهد هذه المصالح الظاهرة تتهاوى حالما نتلقى الجزاء الإلهي العادل في الحياة الآخرة.
وإذا فحصنا الأطروحات الأخلاقية التي كتبها معاصرو مكيافيللي، سنجد أن هذه الحجج تكرر وتعاد بلا كلل، لكن عندما ننتقل إلى كتاب «الأمير » نجد أن هذا المظهر من مظاهر الأخلاق الإنسانية قد انقلب فجأة وبعنف رأسا على عقب. يبدأ هذا الانقلاب في الفصل الخامس عشر، عندما يبدأ مكيافيللي في مناقشة فضائل الأمير ورذائله، ويحذرنا في هدوء بقوله: «أعلم جيدا أن الكثير من الأشخاص قد كتبوا عن هذا الموضوع»، لكن «ما سوف أقوله سيكون مختلفا عن الإرشادات التي قدمها الآخرون» (54). ويبدأ بالإشارة إلى الملاحظات الإنسانية المألوفة التي تفيد بأن هناك مجموعة خاصة من فضائل الأمراء، وأنها تشمل بالضرورة أن يكون الأمير متسامحا ورحيما وصادقا، وأن على جميع الحكام أن ينموا في أنفسهم هذه الصفات. ثم يسلم - وهو لا يزال على الطريقة الإنسانية القويمة - بأن الأمير الذي يستطيع أن يتحرى هذه الطرق في تصرفاته في جميع الأوقات «جدير بأعظم ثناء». لكنه بعد ذلك يرفض تماما افتراض الفلاسفة الإنسانيين الجوهري بأن هذه الفضائل هي تلك التي يحتاج الحاكم إلى اكتسابها إذا أراد تحقيق أسمى أهدافه. ويعتبر أن هذا الاعتقاد - الذي يشكل جوهر كتب إسداء النصح للأمراء - خاطئ على نحو واضح وكارثي. وهو يوافق بالطبع على طبيعة الغايات التي يجب على أي أمير أن يسعى إلى تحقيقها؛ فأي أمير يجب أن يسعى للحفاظ على دولته وتحقيق المجد لنفسه، لكنه يعترض بأنه إذا كان المفترض لهذه الأهداف أن تتحقق، فما من حاكم يمكن أن يتحلى بكل الصفات التي عادة ما «يعتقد أنها جيدة»، أو يمارسها ممارسة كاملة. فالموقف الذي يجد أي أمير نفسه فيه هو أنه يحاول أن يحمي مصالحه في عالم مظلم مليء بالرجال عديمي الأخلاق. وإذا حدث في ظل هذه الظروف أنه «لم يفعل ما يفعل في العموم، واستمر في فعل ما يجب فعله»، فإنه ببساطة سوف يعمل على «تقويض سلطته لا الحفاظ عليها» (54).
وهكذا فإن انتقاد مكيافيللي للفلسفة الإنسانية الكلاسيكية والمعاصرة بسيط لكنه مدمر؛ فهو يذهب إلى أنه إذا رغب أي حاكم في بلوغ أسمى أهدافه، فإنه لن يرى دائما أنه من العقلانية التصرف على نحو أخلاقي، بل على العكس، سيتبين أن أي محاولة جادة لتعزيز فضائل الأمراء سياسة غير عقلانية ومدمرة (62). لكن ماذا عن الاعتراض المسيحي الذي يرى أن هذا النهج حماقة، فضلا عن كونه موقفا شريرا لا ينبغي تبنيه؛ نظرا لأنه يغفل يوم الدينونة الذي سيعاقب فيه أخيرا كل ظالم على ظلمه؟ لا يعلق مكيافيللي مطلقا على هذا، لكن صمته كان بليغا وبالغ التأثير؛ فقد أحدث دويا في أرجاء أوروبا المسيحية، فأثار في بادئ الأمر صمتا من الذهول، ثم عاصفة من اللعنات لم تهدأ قط.
لكن إذا لم يكن يتعين على الأمراء أن يتصرفوا وفقا لما تمليه عليهم الأخلاق التقليدية، فكيف يتعين عليهم أن يتصرفوا؟ يأتي رد مكيافيللي، الذي هو جوهر نصحه الإيجابي للحكام الجدد، في بداية الفصل الخامس عشر. فالأمير الحكيم ينبغي أن يتصرف وفق ما تقتضيه الضرورة لا أي شيء سواها؛ فإذا كان «يرغب في الحفاظ على سلطته»، فعليه دائما «أن يكون على استعداد لأن يتصرف على نحو غير أخلاقي متى يصبح ذلك ضروريا» (55). بعد ثلاثة فصول، يتكرر هذا المذهب الأساسي؛ فالأمير الحكيم يفعل الخير عندما يستطيع، لكن «إذا دعت الضرورة إلى الإحجام عن ذلك»، فعليه «أن يكون على استعداد لأن يتصرف على النحو المقابل ويكون قادرا على فعل ذلك.» يضاف إلى ذلك، أنه لا بد أن يتصالح مع الحقيقة التي تفيد بأنه «في سبيل الحفاظ على سلطته» ستضطره الضرورة في كثير من الأحيان لأن «يتصرف على نحو غادر وعديم الرحمة أو غير إنساني» (62).
كما رأينا، كانت الأهمية الحاسمة لهذه الرؤية الثاقبة قد تكشفت لمكيافيللي لأول مرة في مرحلة مبكرة من عمله الدبلوماسي. لقد شعر، بعد التحاور مع كاردينال فولتيرا عام 1503، ومع باندولفو بيتروتشي بعد ذلك بنحو سنتين، أنه لا بد أن يسجل ما أصبح فيما بعد معتقده السياسي الرئيسي، ومفاده أن مفتاح النجاح في إدارة شئون الدولة يكمن في إدراك قوة الظروف، وقبول ما تمليه عليه الضرورة، وتكييف سلوك المرء مع الزمن. فبعد عام من إعطاء باندولفو لمكيافيللي هذه الوصفة للنجاح في الإمارة، نجد الأخير يطرح لأول مرة مجموعة ملاحظات مماثلة على اعتبار أنها أفكاره الخاصة. وبينما كان معينا في بيروجيا في سبتمبر عام 1506، يراقب ما تحرزه حملة يوليوس الثاني من تقدم محموم، صرح بوحي تأملاته عن أسباب حدوث الانتصارات والملمات في الشئون المدنية والعسكرية، في رسالة إلى صديقه جوفاني سوديريني يقول فيها: «إن الطبيعة منحت كل إنسان موهبة وإلهاما خصوصيين» من شأنهما أن «يسيرا خطى كل واحد منا»، لكن «الزمن تغير، وهو عرضة لأن يتغير مرارا»، بحيث إن «أولئك الذين يفشلون في تغيير عاداتهم وسلوكياتهم»، لا بد أن يواجهوا «حسن الحظ في وقت ما، وسوء الحظ في وقت آخر.» والمغزى من هذا واضح؛ إذا رغب إنسان «في أن يتمتع بحسن الحظ دائما»، فعليه «أن يكون حكيما بما فيه الكفاية، بحيث يكيف نفسه مع تغير الزمن.» وإذا تمكن كل إنسان من «التحكم في طبيعته» بهذه الطريقة، و«وفق عاداته وسلوكه مع عصره»، «فسيتحقق صدقا القول بأن الرجل الحكيم هو المتحكم في النجوم والمصائر» (73).
وعندما كان مكيافيللي يؤلف كتاب «الأمير» بعد ذلك بسبع سنوات، نقل بدقة هذه «الأهواء»، كما أطلق عليها في استهجان، في فصله عن دور «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فيقول إن كل شخص يحب أن يتبع هواه الشخصي؛ فقد يتصرف رجل ما بحذر، ويتصرف آخر بتهور، وآخر بقوة، وغيره بدهاء، لكن في غضون ذلك، «يتغير الزمن والظروف»، بحيث إن أي حاكم «لا يغير من أساليبه» سوف «ينتهي به الحال إلى الفشل.» لكن «الحظ» قد لا يتغير إذا تعلم المرء «أن يغير شخصيته بحيث تناسب الزمن والظروف»، ومن ثم فإن الأمير الناجح سيكون دائما هو ذلك الذي يواكب الزمن (85-86).
الآن يتضح أن الثورة التي رسم مكيافيللي معالمها في هذا النوع من كتب إسداء النصح للأمراء، كانت قائمة في الحقيقة على إعادة تعريف مفهوم «القوة» المحوري. فهو يقر الافتراض التقليدي بأن «القوة» اسم لتلك المجموعة من الصفات التي تمكن أي أمير من محالفة الحظ وبلوغ الشرف والمجد والشهرة، لكنه يفصل معنى هذه الكلمة عن أي ارتباط لازم بفضائل القادة والأمراء، فيذهب إلى أن السمة المميزة للأمير «القوي» بحق هي الاستعداد لفعل كل ما تقتضيه الضرورة - سواء كان فعله هذا خيرا أو شريرا - في سبيل تحقيق منتهى غاياته؛ ومن ثم فإن «القوة» تشير تحديدا إلى الصفة الضرورية المتمثلة في المرونة الأخلاقية لدى الأمير؛ إذ «عليه أن يكون على استعداد لتغيير سلوكه حسبما تشتهي رياح الحظ، وحسبما تفرض عليه الظروف المتغيرة» (62).
يبذل مكيافيللي بعض العناء في توضيح أن هذا الاستنتاج يفتح هوة لا سبيل لسدها بينه وبين مجمل تراث الفكر السياسي الإنساني، وهو يفعل ذلك بأسلوب تهكمي بالغ القسوة. فالفضيلة الأخلاقية بالنسبة للفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين وأتباعهم الذين لا حصر لهم، كانت هي السمة المميزة للرجل «الحقيقي»؛ ومن ثم فإن البعد عن الفضيلة لم يكن يعد تصرفا غير عقلاني فحسب، بل كان يعد أيضا تخليا عن مكانة المرء كإنسان، وانحدارا إلى مستوى البهائم. وقد عبر عن ذلك شيشرون في الكتاب الأول من سلسلة «الواجبات»، حينما زعم أن هناك طريقتين لاقتراف الباطل، إما بالقوة وإما بالاحتيال، وأكد أن كلتا الطريقتين بهيمية و«لا تليقان على الإطلاق بالإنسان»؛ ذلك أن القوة رمز للأسد، والاحتيال «يبدو أنه صفة الثعلب الماكر» (1 : 13، 41).
في المقابل، بدا واضحا لمكيافيللي أن الرجولة ليست كافية. وهو يقر في مستهل الفصل الثامن عشر بأن هناك بالفعل طريقتين للتصرف، «الأولى تليق بالبشر، والثانية بالحيوانات»، لكن «نظرا لأن الأولى تكون غير فعالة في كثير من الأحيان، يتعين على المرء أن يلجأ للثانية» (61)؛ ومن ثم فإن أحد الأشياء التي ينبغي للأمير أن يعرفها، هو أن يعرف أي الحيوانات ينبغي له أن يقلده. كانت أكثر النصائح التي اهتم بها مكيافيللي أن الأمير سيبلي بلاء حسنا إذا تعلم أن يقلد «كلا من الثعلب والأسد»، فيتمم مثل الأخلاق الرجولية بمهارتي القوة والاحتيال الحيوانيتين (61). هذا المفهوم محل توكيد في الفصل التالي، الذي يتناول فيه مكيافيللي إحدى الشخصيات التاريخية المفضلة بالنسبة إليه، وهي شخصية الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس. فيؤكد أولا أن الإمبراطور كان رجلا ذا «قوة» عظيمة جدا (68)، بعد ذلك يشرع في تقديم بيان حكمه هذا، فيضيف أن صفتي سبتيموس العظيمتين كانتا تتمثلان في كونه «أسدا بالغ القوة وثعلبا بالغ المكر»؛ ونتيجة لذلك كان «مرهوب الجانب وموضع احترام من قبل الجميع» (69).
Page inconnue