إن ما سماه الناقد الفرنسي تين «مرض العصر» يصح أن يطلق على عصر أبي العلاء؛ فمرض عصر المعري هو الجدل والشك، وعليهما بنت الدعوة الفاطمية أساسها، ووجدت في شخصية أبي العلاء تربة صالحة فألقت فيها نواتها، فانبثقت وانبسطت فروعها ، وامتصت جذورها كل ما في الماء والشمس والهواء من حياة؛ فأبو العلاء هو الفاطمي العظيم الذي لم يرتد ساعة، وإن رأى فاطميو اليوم في كتابه، بل في كتبه شيئا يستوقفهم لحظة فليذكروا أن شاعر الدعوة الأعظم كان قبل ما وصل إليهم من رسائل، وأن عقلا كعقل أبي العلاء يحق له أن يفسر ويؤول كما فسر وأول غيره من رجال الدعوات والديانات الذين جاءوا على آثار المؤسسين، وليذكروا أن في صلب الدعوة ما يبرر هذا النشوء والارتقاء الفكري ... وإلا فكيف يدأب «التالي» في أعماله حتى يلحق بمنزلة «الصامت»، وكذلك «الصامت» حتى يلحق بمنزلة «الناطق».
وليس كتاب «لزوم ما لا يلزم» غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالا، وليطمئنوا في خلواتهم؛ فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشك لحظة «بالمذهب»، وما ارتد قط.
لست أقول إن أبا العلاء درزي اسما؛ فقد سموهم هكذا بعده، ولكني أقول إن مذهبهم مذهبه، وإن ما نراه اليوم عند الطبقة «المتنزهة» من تقشف وزهد في الدنيا مأخوذ عن اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريه أبي العلاء المعري، وهذا ما ستثبته بحوثنا الآتية فليصبر علينا القارئ.
قلت إن أبا العلاء فاطمي المذهب، وقد ذهب إلى بغداد للكشف عن أحوال الدعوة هناك، واتصل بجماعة إخوان الصفاء، وجماعة الإخوان هؤلاء جمعية سرية كالفاطمية، ومبادئهما متفقة تقريبا؛ فاعتقاد إخوان الصفاء كمعتقد الفاطميين في الله والعقل، وهذا أيضا لا يعنيني بحثه، فأكثر من أكتب لهم يعرفونه، وإن كانوا نسوه فليراجعوه، فلست أعدهم هنا لفحص البكالوريا أو الليسانس في الفلسفة والآداب؛ فالذي يعنيني هو رسالة أبي العلاء التي كتبها إلى أهل المعرة؛ فقد دلتني - ولا يعنيني ما يزعم غيري - على فاطمية أبي العلاء، وأنه يعتنق عقيدة بعينها فناصرها علنا، واتقى السلطان بما بث بين أقواله مما يبعد عنه تهمة الإلحاد لتبقى له حياته.
وسننظر، أنا وأنت، يا قارئي العزيز، في هذه الرسالة، فإن وافقتني مقتنعا فلا بأس، وإلا فأنا لست براجع عن فكرتي هذه ما لم تطردها من رأسي فكرة أخرى أقرب منها إلى الصواب. فهلم بنا الآن إلى تلك الرسالة، وإليكها بنصها وفصها، كما عبر السلف الصالح:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان، خص به من «عرفه وداناه»، سلم الله «الجماعة» ولا أسلمها، ولم شعثها ولا آلمها.
إذا كانت الكلمة كائنا حيا كما أتصور وأعتقد فلي في بعض ألفاظ هذه الرسالة أدلة تنصر زعمي وتؤيده؛ فأبو العلاء لا يعني الصورة الظاهرة؛ ففي قوله «خص به من عرفه وداناه» معنى أبعد من المعنى الظاهر السطحي. ويزداد قصده وضوحا بقوله: سلم الله الجماعة ولا أسلمها؛ فلكلمة «الجماعة» معنى خاص تدلنا عليه دلالة صارخة العبارة التي تليها: «ولم شعثها ولا آلمها.» فلست أشك أن هناك جماعة بعينها يقصدها شيخنا إذ يقول: «أما الآن فهذه «مناجاتي» إياهم منصرفي عن العراق مجتمع أهل الجدل، وموطن بقية السلف.»
فمما لا أشك فيه هو أن كلمة مناجاة ذات علاقة وثيقة ب «النجوى»، وهي ما أطلقه الفاطميون اصطلاحا على ما يؤخذ من «المستجيب» كالرسم الذي تستوفيه الماسونية من المنخرطين في سلكها. وتدل العبارة كلها، كما سيدلنا غيرها، على أن أبا العلاء إنما رحل مصابا «بمرض العصر» يطلب دواء له في بغداد مجتمع أهل الجدل.
ثم يقول: «بعد أن قضيت الحداثة فانقضت، وودعت الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجربت خيره وشره.» وفي هذه الفقرة أيضا ما يؤيد زعمي أن أبا العلاء لم يطهر منذ حبل به في البطن، ولكنه رجل طهر هو نفسه كما سترى.
Page inconnue